الكاتب : اية طنطاوي
يتأمل الكاتب والباحث السينمائي "روي آرمز" في واحد من فصول كتابه "لغة الصورة في السينما المعاصرة" السرد السينمائي في فترة الستينات من خلال عدد من المخرجين الذين قدموا تجارب سينمائية حداثية، لها أسلوبية ولغة خاصة تقترب إلى ذاتية الفنان ورؤيته للفن وتبتعد عن اللغة السينمائية التقليدية. يذكر آرمز أن المشترك بين هؤلاء المخرجين هو ميلهم للأدب، وهو يخص في حديثه: بيير باولو بازوليني، آلان روب جرييه، وكاتبات ومخرجات صنعوا أفلامًا على النهج الذي تكتب به الروايات أمثال مارجريت دوراس وسوزان سونتاج وآنييس فاردا. استوقفني وصف آرمز في وصفه للأديبات والمخرجات الثلاثة مما دفعني للبحث أكثر عن ملامح هذا النهج الأدبي في سرد أفلامهن السينمائية، هل هو متحقق بالفعل؟ وما هي أوجه تحققه؟
مارجريت دوراس: مفردات الصورة المكتوبة
تقول الشاعرة والكاتبة وصانعة الأفلام مارجريت دوراس "نحن لا نجد الوحدة وإنما نصنعها من أجل الكتابة". طالما ارتبط اسم مارجريت دوراس في ذاكرتي بالعزلة والصمت، ربما يكون ذلك سببًا في أن شخصياتها الروائية والسينمائية لا تملك سوى الكلام، يجلسون على الآرائك أو المقاعد ويتحدثون دون توقف وكأنهم خلقوا في عزلتهم الخاصة، وخلقوا لكسر الصمت.
في المشهد الافتتاحي لفيلمها "Détruire dit-elle" أو "تدمير، هكذا قالت" تتجول الكاميرا في فراغ حديقة بينما نسمع حديث بين سيدتين لا نراهما، الأولى تسأل عن المكان والزمان والطقس، لكن الثانية لا تجيبها بجزم، فالمكان كأنه أوتيل، والزمان غير محدد، والطقس أقرب لصيف رائق. إنها العتبة الأولى التي تمهد للجو العام الفيلم، تفاصيل بسيطة تغمس حواسنا وتؤهبنا قبل بداية الفيلم، هنا لا شيء محدد بل تكتشف الأشياء على مهل. يبدأ الفيلم وينتهي مع أربعة شخصيات رئيسية، يتحدثون عن أنفسهم وعلاقاتهم وكأنهم يرسمون خيالاتهم بالحوار المتبادل، لكننا نصل إلى لحظة لا نعرف فيها بالتحديد إن كانت هذه الشخصيات حقيقية في عالمها أم محض خيالات.
لم تترك مارجريت دوراس لغة السينما وقواعدها تتحكم في طبيعة الأفلام التي أخرجتها، بل فكرت وكتبت أفلامها بنفس الأسلوب الذي كتبت به أعمالها الأدبية. يمكننا الوقوف أمام روايتها "تدمير" وفيلم "Détruire dit-elle" الذي أخرجته اقتباسًا للرواية نفسها، لا تتبع دوراس الطريقة التقليدية في سرد حكاياتها، بل تتجرد من قيود الزمان والمكان والأحداث الكبرى، كأنها في مساحة خيالية غامضة، لا تلهث خلف حدث معين، لا تبني خطوط درامية واضحة، بل تقف عند مشاعر ما، مشاهد ما، وتغوص فيها بكل حواسها، وشخصيات بالكاد تكتشف الروابط بينهم، إنه أسلوب سردي أقرب للتفكيك لذلك اتبعت دوراس الطريقة ذاتها في أفلامها، بل وعمدت أن تعيد توظيف كل العناصر السينمائية "التمثيل، الكتابة، الصوت، الصورة" لتقدم أفلامًا غير تقليدية أقرب للتجريب.
لقطة من فيلم "Détruire dit-elle"
رغم التاريخ الطويل المشترك بين السينما والأدب إلا أن الاثنان يأتيان من مساحات مختلفة، فإذا كانت السينما تقدم لنا قصة تحاكي الواقع فإن الأدب يأخذ من الواقع خيطًا ويمده ليكمل به خيال الكاتب. ومن الخيال الأدبي تصنع دوراس أفلامًا كتبت ونفذت بلغة وأفكار الأدب، فهي لا تقدم للمشاهد إنعكاسًا للعالم الذي يعيشه لكنها تبعده عن صورة الواقع وتقربه عبر أفلامها إلى صورة الخيال، ولأن الخيال تحركه الحواس فإن دوراس وظفت الصوت والصورة معًا لتقدم لنا أفلامًا يمكنني اعتبارها "أفلام حسية". في كتابه "سينما مارغريت دوراس: تعدد الحواس والذاتية الأنثوية" يصف الكاتب "ميشيل روير" الصمت في أفلام دوراس وامتزاجه باللقطات المتشظية بأنها تجربة تلقّي على غرار قراءة القصائد الشعرية، ففي الشعر يمتزج كل شيء، الألوان والأصوات وصور الطبيعة في تضافر مع المشاعر والكلمات، كله في إيقاع منسجم، وهو نفس الإنطباع الذي تتركه لدى المتلقي عند مشاهدة أفلامها. حالة ما تسبح فوق غيمة لا تعرف متى حلت، وسرعان ما تتلاشى.
من هنا انشغلت دوراس بسؤال: كيف تشبع الصورة بالصوت لتصنع مشهدية خاصة؟ وليس المقصد هنا كيف تكتب شريط صوت مزدحم بالحوار والموسيقى التصويرية والمؤثرات، بل كيف تؤسس للصورة من جهة والصوت من جهة أخرى وكأنهما عنصران منفصلان تمامًا.
في مرحلة لاحقة كانت فيها دوراس أكثر نضجًا في صناعة الأفلام قدمت فيلم Baxter, Vera Baxter (1977) يحكي قصة الزوجة فيرا باكسير التي تكتشف استغلال زوجها، وتبحث عن وجودها من خلال حديثها مع امرأة غريبة داخل غرف فيلا/ اوتيل يكاد تخلو من الأثاث. يسرد الفيلم حكايتها بالصورة والصوت معًا. تجلس فيرا على سرير متواضع وتحكي ما يجول بخاطرها بينما الكاميرا تتنقل بين غرف الفيلا، وعبر المساحات الشاسعة بالخارج حيث الطبيعة على امتدادها والغابة مترامية الأطراف يخرج منها موسيقى تصاحبنا على مدار الفيلم دون توقف. تحكي فيرا عن مشاعرها التي لم تبوح بها من قبل، لكن الكاميرا لا تختار دائمًا أن تطالعنا بوجه فيرا بل يرصد المكان والمساحات المحيطة، هنا ينفصل الصوت عن الصورة وكأنهما عنصران يستعرضان مشاعر مختلفة ومتناقضة أحيانًا، الصوت يحكي شيء والصورة تحكي شيئًا أخر/ شعورًا آخر.
فيلم Baxter, Vera Baxter
يتكرر الأمر في فيلم Aurélia Steiner (1979) الذي يخلو من ظهور الممثلين، فقط أصواتهم تحكي مشاهد مختلفة وذكريات بعيدة. في إحدى المشاهد يحكي لنا صوت الراوي الذي لا نراه مشهد قتل عنيف بينما الصورة تستعرض نهر السين بهدوءه وصفاؤه تحت قرص الشمس، إنها حالة شعورية مركبة تعيدنا إلى لغة مارجريت دوراس السينمائية التي اختارت فصل الصوت والصورة وكأنها تستعير من الأدب النص الحواري، وتستعير من خيالها الشاعري الصور المتشظية وغير المترابطة مع ما تقوله الكلمات.
المتأمل لعالم مارجريت دوراس لا يمكنه فصل أدوات الفنان عن العمل الفني الذي يقدمه سواء كان فيلمًا أو رواية أو قصيدة شعر. يحلل الكاتب شاكر لعيبي السرد في رواية دوراس "العاشق" الذي يرى أنه يقترب في بعض المقاطع إلى قصيدة النثر، هذا المزج في ذاته يضعنا أمام حالة التفكيك والهدم الذي تصوغ بها دوراس منتجها الفني، فتتخلى عن التقليدي وتذوب الحدود بين المكتوب والمسموع والمرئي، وفي العمل الواحد تتعدد القوالب وتتداخل الأدوات، بإمكانها أن تكتب رواية بلغة الشعر، وتصنع فيلمًا بلغة الأدب، تحطم القواعد الكلاسيكية لتصنع لغتها الخاصة، وهنا تطغى لغة الفنان على لغة الفن وقواعده.
سوزان سونتاج: الذات في لحظة تعري
علاقة سوزان سونتاج بالسينما باعتبارها كاتبة وناقدة ومحللة للصورة الفوتوغرافية أكسبتها كمخرجة لغة سينمائية بدت ملامحها في فيلمها الأول (1969) Duet for Cannibals وهذه اللغة لم تسلهمها من الأدب بقدر ما استلهمتها من الزاوية التي ترى من خلالها الذات البشرية وتعبر عنها بالكتابة الأدبية والسينمائية.
تشير سوزان سونتاج في كتابها "ضد التأويل" إلى رؤيتها للأفلام الأدبية باعتبارها أفلام ذاتية الاحتواء أو "موغلة في الذاتية"، ذكرت هذا الوصف تحديدًا في معرض حديثها عن فيلم مايكل أنجلو أنطونيوني Le Amiche (1955) المقتبس عن رواية لتشيزاري بافيزي، وكان هذا مدخلاً لحديثها عن اليوميات أو المذكرات باعتبارها نوعًا أدبيًا وصفته بأنه سلسلة طويلة من التقييمات والتساؤلات الذاتية التي يغوص فيها الكاتب من جهة، بينما القارئ على الجهة المقابلة يطلب من الكاتب مزيدًا من التعري، مزيدّا من كشف الذات.
يمكننا تأمل ملامح الإيغال في الذات في فيلم سونتاج الأول Duet for Cannib ، إنه سلسلة من المشاهد التي تكشف لنا شخصيات الفيلم الأربعة المستترة خلف أقنعة تسقط بالتدريج، إنهما ثنائيان، الأول سياسي لاجئ يعيش مع زوجته ويعرض على شاب أن يعمل مساعدًا له، يكتب له مذكراته ويرافقه هو وزوجته في بيتهما، يتحول الأمر إلى ما يشبه الفخ الذي يجذب به الثنائي الأول الثنائي الثاني إلى عالمه. تنطوي قصة الفيلم على لعبة الذات بإعتبارها موضع رئيس للحكي، مراقبة اليومي، المشاعر المضطربة والعابرة، النبش في طبقات معتمة من الذات غير المرئية. تقول سونتاج "من السطحي فهم اليوميات كمجرّد وعاء لخصوصية المرء، لأفكاره السرية، مثل صديق حميم مؤتمن لكنّه أصم، أبكم، وأمّي. في اليوميات، أنا لا أعبّر فقط نفسي بصراحة أكثر مما يمكن أن أفعله مع أي شخص آخر؛ أنا أبدع نفسي". ربما للسبب ذاته اختارت أن تخلق شخصياتها بمراقبتها كما اليوميات، واختارت بطل يكشف بقية الأبطال من خلال يومياتهم.
يمكنني وصفها بأنها لعبة نفسية مراوغة ينكشف من خلالها ما تخبئه الشخصيات الأربعة عن ذواتها. إنه "الإيغال في الذاتية" الذي يحرك نظرة سونتاج للأفلام، فلا يكون الحدث الدرامي محورًا رئيسيًا بقدر الشخصيات واستنباط الذاتي فيها، فيتحول الفيلم إلى مواجهة أمام أربع بورتريهات شخصية تحاول أن تكشف ذاتها ودوافعها أمام الشخصيات الأخرى. ما يشغلها هو التتبع اليومي للشخصيات، تمامًا كما تتبع يومياتها. إنها المكاشفة ذاتها التي تحرك سونتاج عندما تكتب الروايات الخيالية والمذكرات اليومية.
فيلم (1969) Duet for Cannibals
يمكنني الآن الوقوف أمام سؤال آخر يخص الفنان نفسه، ما الذي يحرك الفنان تجاه عمله الإبداعي أيًا كان نوعه؟ بالنسبة لسونتاج ترى أن الكاتب هو الشخص الأكثر قدرة على التعبير عن عذابه، يتعذب إنسانيًا ويحول عذابه إلى كلمات، وهو ما نقرأه بين السطور في الكتب وما نسمعه في حوارات الشخصيات السينمائية، لكن ماذا عن الصورة؟
بعكس دوراس التي لم تهتم كثيرًا بأن يكون أبطال أفلامها ممثلين محترفين، فإن سونتاج كانت تضع أولوية كبيرة على أداء الممثلين، بل إنها تعمدت أن يكون السياسي وزوجته في الفيلم ممثلين محترفين لأنهما شخصيتان مراوغتان ومستغلتان. يبدو لي أنها كانت تفتش في انفعالاتهما وتعبيرات وجهيهما على مشاعر ما وانطباعات بعينها لن تكشفها إلا لغة الوجه لا لغة الحوار فحسب. فإذا كانت شخصياتها تتعرى بالحوار فهي تتعرى بالتركيز على وجوههم أمام الكاميرا.
ما يحرك سونتاج هو الكشف عن الذاتي والإنساني بداخلنا، وتختلف أدوات الكشف بين الكلمة والصورة الثابتة والمتحركة. يمكننا بعد مشاهدة فيلم Duet for Cannibals أن نتذكر كادرات ولقطات مقربة تجمع الشخصيات في إطارات تبدو كأنها رسمت بعناية، وتصل بنا إلى زاوية الإيغال في الذات، وكأن الكاميرا تمنحهم إطارًا للتجلي يليق بالكشف عن ذواتهم.
في كتابها "حول الفوتوغراف" تقول سونتاج: "تصوير الناس هو الاعتداء عليهم، هو أن نراهم كما لم يروا أنفسهم أبدًا، أن نمتلك معرفة عنهم لا يمكنهم أن يمتلكوها أبدًا؛ إنه يحول الناس إلى أشياء يمكن الاستحواذ عليها" تستخدم سونتاج هنا كلمات تبدو قاسية مثل "اعتداء" و "استحواذ" لتعبر عن تأثير الصورة عند كشف الآخر، في مقابل استخدامها في كتاب "ضد التأويل" للفظ "التعري" الذي يكشف به الأديب عن ذاته في مذكراته. هنا تتجلى المساحة المشتركة بين أفلام سونتاج وكتاباها، عندما تخلع أقنعة الأنا عن شخصياتها تبدأ الكلمة وتنطق الصورة.
آنييس فاردا: كاميرا السيرة الذاتية
لا تختلف كثيرًا المرايا التي تكشف بها سونتاج ذاتها في الأدب عن المرايا التي تكشف بها المخرجة الفرنسية آنييس فاردا عن نفسها في أفلامها. في فيلمها التسجيلي الذاتي The Beaches of Agnès تضع عدد من المرايا على شاطئ فسيح، هذه المرايا تمهد لنا الفيلم الذي يكشف لنا حياة فاردا في مراحل عمرية مختلفة، وأشخاص وأماكن أثروا في حياتها، والشواطئ التي عاشت بالقرب منها، فكان الفيلم أشبه بمرايا متفرقة وتجولات عبر الزمن تكتبها بالكاميرا. تقول فاردا في الفيلم: "السينما بيتي، أظن أنني عشت فيها دائمًا" لتثبت لنا حضورًا خاصًا ومتكررًا داخل الأفلام، وتصنع من ذاتها موضوعًا.
تنقلت فاردا بين أنواع سينمائية مختلفة، الروائية والتسجيلية، الذاتية وغير الذاتية. يقول أندريه بازان أن الفيلم في ذاته كلمة منطوقة، وهو ما يعيدنا إلى رؤية الفنان للكاميرا التي يحملها باعتبارها أداة توثيق لما يريد قوله من مشاعر، لحظات، مكاشفات، مواقف يجمعها في النهاية إطار ما، والعدسة هي قلم الفنان المنجرف خلف مشاهد متفرقة تصنع في النهاية فيلمًا. عندما تضع فاردا في فيلمها مرايا فهي تخلق كلمة، واستعارة، وتكشف عن ذاتها بأكثر الطرق الفنية.
لا تفصل فاردا ذاتها عندما تصنع فيلمًا، إنها حاضرة وموجودة، وهذا الوجود له سياقاته حتى لو استعانت بممثلين يؤدون دورها في مراحل عمرية مختلفة. في بداية فيلم شواطئ آنييس تبدأ قائلة "أنا أمثل دور سيدة عجوز قصيرة ثرثارة وممتلئة قليلًا، تتحدث عن قصة حياتها" هنا تضع فاردا نفسها في مواجهة أمامنا، صانعة الفيلم تتحدث عن دورها في الفيلم، تكشف وجودها وتعرفنا بذواتها المختلفة، ثم تهيئنا للفيلم الذي تحكي فيه حكايتها، إنها حالة تمثّل واضحة وظهور جلي للجسد والأنا في حالين مختلفين، فاردا مخرجة الفيلم وراويته، وفاردا موضوع الفيلم.
في الأدب تقترن السيرة الذاتية بحالة نقل الحقيقية وكشفها؛ يروق لي وصف الكاتبة إليزابيث بروس للسيرة الذاتية "تكلمي أيتها الذكريات" للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف باعتبارها حالة خلق يمزج فيها بين الحقيقة والهزل، ولا يقف على مسافة منها بل يسخر ويعلق على مواقف من سيرته الشخصية. نابكوف هنا طرفًا فاعلاً في سيرته المكتوبة، يتجلى فيها صوته الخاص، وهو ما لم يكن موجودًا في كتابات السيرة الذاتية الكلاسيكية في القرون السابقة. صوت الكاتب في سيرته الذاتية هو تأكيد لحضور الذات في رصد نفسها، استدعائها من الماضي وتحريرها في إطار وسياق زمني مختلفان، وهو ما يقودنا إلى ما تعرف به إليزابيث بروس السيرة الذاتية الأدبية بأنها تتطلب حضور الذات بوضوح لضرورتها الميتافيزيقية، والسيرة أو الخطاب الصادر عن الأنا/ الذات تعطي لها اكتمال وتمنحها صوتًا ووجودًا.
فيلم The Beaches of Agnes
في لحظة كتابة السيرة الذاتية يتجلى الكاتب في نصه بإعتباره "المؤلف والسارد والبطل" وهي حالة امتزاج بين الأدوار الثلاثة والقرار يعود للكاتب قبل البدء في مشروعه، إما أن يتخفى خلف النص أو يكشف نفسه دون مواربة. بالعودة إلى آنييس فاردا يمكنني القول إنها اختارت أن تتبع هذا النهج وألا تكون ظلاً مصاحبًا لذاتها التي تعرضها لنا على الشاشة، بل بطلاً فاعلاً، تحتل كل أدوار البطولة، وتستحوذ على كل الأدوار خلف الكاميرا وأمامها وفي شريط الصوت، لا تأخذ مسافة من ذاتها التي تسردها في أفلامها بل تمثلها وتؤكد حضورها كما يؤكد الكاتب حضور ذاته في ممارساته اللغوية داخل النص بتوظيف ضمير المتكلم.
يمكننا قراءة الأدوات التي تستعيرها السينما الذاتية من الأدب، حضور الذات واختفاؤها خلف الأحداث، بالصوت والصورة، بالمراقبة والمحاكمة، منحنا وثائق خاصة وإعادة تمثيل الماضي كما كان.
أما فاردا فتسير على الدرب ذاته، تضعنا أمام حالة اشتباك مع الذات من جهة ومع الوسيط من جهة أخرى -سواء كان نصًا أدبيًا أو فيلمًا تسجيليًا- هذا الاشتباك ينتج عنه أسلوب ولغة تخص الفنان في الكشف عن ذاته.