الكاتب : أحمد عزت
" على الرغم من غزارة ما قدمته السينما من أعمال نجيب محفوظ، تظل الأفلام التي أخرجها صلاح أبوسيف أفضل هذه الأعمال جميعا، سواء على مستوى فهم روح العمل الروائي وتوصيل مضمونه بأمانه غير منقوصة، ولا مشوهة أو مبتذلة، بل على العكس أضافت إليها لغة السينما الأكثر تعبيرا وتجسيدا للفهم الشعبي البسيط. ومن بين أفلام صلاح أبوسيف التي أخرجها عن أعمال نجيب محفوظ، بل من بين كل ما حولته السينما من رواياته على الإطلاق يبقي أفضلها في تقديرى وأكثرها اكتمالا فيلم "بداية ونهاية"
الناقد السينمائي " سامي السلاموني" (1)
لا تبدو هذه الكلمات مجرد رأي مفرط في حماسته من ناقد كبير تجاه عمل سينمائي، لأنه وفيما يبدو هناك ما يشبه الإجماع لدى العديد من النقاد السينمائيين أن هذا الفيلم هو أفضل عمل قدمته السينما عن روايات نجيب محفوظ، ففي الاستفتاء الذي شارك فيه العديد من النقاد المصريين عام 1996 ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي في دورته العشرين لاختيار أفضل 100 فيلم مصري خلال القرن العشرين، جاء " بداية ونهاية" في المرتبة السابعة لهذه القائمة، وقبل أي عمل آخر مقتبس عن روايات محفوظ.
تدور أحداث رواية محفوظ – وهي أول رواية لمحفوظ تجد طريقها للسينما- نهاية ثلاثينيات القرن العشرين. تنتمي الرواية إلى نوع من التراجيديا الخالصة، نحن أمام حكاية عن سقوط محتوم، حكاية عائلة مصرية تحاول الصعود من جديد من قاع الفقر الذي آلت إليه بعد موت عائلها الوحيد، لكن لأسباب اجتماعية ونفسية خارجة عن إرادة أفرادها ينتهي هذا المنحنى الصاعد إلى قاع أكثر غورا من سابقه. رواية كهذه بمعمارها الواقعي وطبيعة صراعاتها، كان لا بد أن تجذب مخرجا مثل صلاح أبو سيف، معروف بجنوحه نحو الواقعية وإلحاحه على التناقضات الاجتماعية ومشكلات الطبقات الفقيرة. يري الناقد هاشم النحاس أن أبوسيف هو واحد من أعمق المخرجين فهما لعالم نجيب محفوظ نتيجة تقارب واضح في المزاج الفني بينهما (على الأقل بالنسبة لمرحلة محفوظ الواقعية)، وأن "بداية ونهاية" هو أنضج ما أثمرته العلاقة الإبداعية بينهما، ان لم يكن أنضج أعمال ابوسيف علي الاطلاق(2).
هذا الإلحاح على نضج وتميز هذا الفيلم يدفعنا للبحث عن عناصر تميزه خاصة على صعيد اللغة السينمائية التي يبرع أبوسيف في استخدامها للتعبير عن مضمون رواية محفوظ على نحو شديد الإبداع والأصالة.
إمكانيات الصورة السينمائية عند صلاح أبوسيف
أهم ما يميز صلاح أبو سيف كمخرج هو قدرته على الحكي البصري، عبر ميزانسين شديد الثراء، ومفعم بالتفاصيل، إذ يكشف عبر تفاصيل الصورة بجلاء طبيعة المكان، وطبيعة الصراع، وطبيعة شخصياته. مع قدرة مدهشة (وغير مقدرة في الواقع) على إبراز الصراع الداخلي لأبطاله عبر صوره، فعند أبوسيف ما يجري داخل الشخصيات لا يقل أهمية عما يحدث خارجها.
سنحلل التتابع الافتتاحي للفيلم لنستعرض زخم التفاصيل التي قدمها المخرج في مشهد واحد والتي تبرز طبيعة شخصية الفيلم المحورية حسنين/عمر الشريف.
يفتتح أبوسيف فيلمة بلقطة من ورشة حدادة لعامل يدق بمطرقته قطعة من الحديد، هذه مجرد تفصيلة تصب لصالح واقعية المكان، ثم تتحرك الكاميرا ليدخل حسنين الكادر. يقوم أحد سكان المنطقة بتعزيته في وفاة والده، هنا تتجاوز هذه اللقطة معناها الواقعي لتأخذ بعدا تعبيريا عن الصراع داخل حسنين بين طموحه وواقعه. هذه أول ضربات الواقع لحلمه والتي ستتوالى فيما بعد وصولا لنهايته المأساوية. في هذا المشهد نرى أكثر من تفصيله تعبر عن ضيق حسنين وقرفه من واقعه، حين يسحب يده من يد الرجل الذي قام بتعزيته يقوم بمسح يده في بنطاله في تأفف، ثم يبعد أطفال الشارع عن طريقه بقرف، وحين يدخل إلى بيته، يصعد ناسيا إلى شقتهم القديمة، ثم يعود ليهبط الدرجات من جديد إلى مكان إقامتهم الجديد البائس وكأنه يرفض في أعماقه أن يصدق ما حدث. هذا الاهتمام بدواخل شخصياته وصراعها النفسي لا يجعل من أبوسيف واقعيا خالصا، فجماليات الواقعية الكلاسيكية تهمل دواخل الفرد لصالح المحيط الواقعي والعلاقة المتبادلة بين الفرد والمحيط. لكننا سنعود لذلك بعد قليل.
برع المخرج في استخدام ما يسمى بالموتيفات البصرية، وهي صورة محددة يستخدمها المخرج مرارا من أجل ربطها بفكرة أو معني ما.
موتيفة السلالم
يستخدم المخرج السلالم كموتيفة على عدة مستويات، أولا يربطها بديالكتيك الصعود والهبوط الطبقي، فهبوط العائلة على السلم الاجتماعي مرتبط بهبوطهم من السكن في أحد الأدوار العلوية إلى البدروم.
ثانيا يجعلها كشاهد على العديد من المفارقات النفسية لأبطاله، ففي المرة التي تعود فيها نفيسة بعد أن فقدت عذريتها قلقة وخائفة، يكون حسنين في غاية السعادة بعد أن وافق الجار على خطبته لابنته، لكن الأهم من ذلك هو الربط بين هبوطهما سويا لأكثر من مره وكأن سقوط نفيسة هو سقوطه أيضا.
موتيفة التحديق في المرآة
ترتبط هذه الموتيفة بشخصية نفيسة، والتي يكمن جرحها في مدى دمامتها. في المرة الأولي نراها تحدق في وجهها في مرآة حجرتها، بعد أن فقدت عذريتها مع سلمان، إنها تتأمل وجهها من جديد في شك ولكن الحقيقة واضحة أمامها فتخبئ وجهها وتبدأ في البكاء.
في المرة الثانية وبعد أن تعرف بزواج سلمان من أخرى وخديعته لها ورفضه التراجع عن ذلك، تتأمل وجهها في المرآة لمرة أخيرة قبل أن تكسرها في غضب يائس. لكنها تستمر في التحديق في مرايا أخري.
تتجه نفيسة إلى احتراف الدعارة سعيا وراء رغبتها الطبيعية كامرأة وبحثا عن وهم ترمم به حقيقة قبحها. في المرة الأولي التي تبيع فيها نفيسة جسدها، يمنحها الرجل نصف ريال (إيه مش عاجبك، دا كفاية أوي عليك) إنها تحدق في العملة المعدنية في يدها وكأنها مرآة، وها هي حقيقة قبحها ماثلة أمام عينيها من جديد. في النهاية تلجأ نفيسة للمرآة الأكثر إعتاما، الموت.
صلاح أبوسيف بين الواقعية والتعبيرية
"إن ما ينبغي الإلحاح عليه هو الواقع، وليس جمالية ما، حتى ولو كانت جمالية واقعية"
المسرحي الألماني برتولد بريخت(3)
يرتبط دوما اسم صلاح أبو سيف بالواقعية، لكن ما يتضح عبر متابعة أعماله وخاصة فيلمنا هذا، أنه لم يكن واقعيا خالصا، بمعني أنه لا يلتزم حرفيا بالأسلوب الواقعي للإخراج، فواقعيته محملة بلمسات تعبيرية واضحة، من أجل التعبير عن المشاعر المضطربة والحالات الذهنية العاصفة لشخصياته.
والتعبيرية تختلف تماما في جوهرها وأسلوبها عن الواقعية، لكن ما كان يهم أبو سيف هو الواقع سواء كان هذا الواقع هو واقع المجتمع وصراعاته، أو الواقع النفسي لشخصياته دون التزام دقيق بجماليات الواقعية. وبهذا الصدد يعد أبو سيف واحد من أفضل المخرجين المصريين في التعبير عن الواقع الداخلي لشخصياته وتجسيد صراعاتهم الداخلية في صورة ذهنية شديدة التعبير عما يعتري أرواحهم من قلق واضطرابات.
تتبدى ملامح الواقعية في فيلم صلاح أبوسيف في واقعية المكان والزمن (الاعتماد على لقطات طويلة زمنيا دون قطع)، وطبيعية الإضاءة والأداء التمثيلي. الميل إلى اللقطات العامة واللقطات المتوسطة التي تظهر الإنسان كجزء من محيطه، فالإنسان لا ينفصل عن المحيط والجموع وأحد قراءات الفيلم هي فشل الحل الفردي في تجاوز الفقر والظلم الاجتماعي. ويلجأ الي اللقطات القريبة فقط في لحظات الذروة الدرامية بحيث يسمح هذا الاقتراب من الشخصيات الكشف عن مشاعرهم بشكل واضح ومؤثر. لهذا تكثر اللقطات القريبة قرب النهاية وعقب انكشاف حقيقة نفيسة لحسنين.
رغم عمله لعشر سنوات في المونتاج قبل عمله كمخرج، إلا أن أبو سيف يفضل الميزانسين والتقطيع بحركة الكاميرا وحجم اللقطات عن القطع المونتاجي، وهو في هذا قريب من رؤية المنظر والناقد الفرنسي أندريه بازان الذي يرى أن أهم ما في السينما ليس المونتاج بل الميزانسين.
المتحمسون للمونتاج يرون أن القيمة الحقيقية للسينما تكمن في اختلافها عن الواقع، وأنصار اللقطة الواحدة مثل بازان يعتقدون أن أهمية السينما تكمن في تشابهها مع الواقع، فالتخلي الجزئي عن المونتاج واللجوء للقطات الطويلة يكون من أجل أسر الزمن الفعلي للقطة. هذا يمنح المشاهد إحساسا أكثر صدقا بالحياة وبواقع الأشياء، ويجعل المشاهد الفيلمية تتنفس بطبيعية.
يهتم أبوسيف كثيرا بتكوين الكادر ووضع الممثلين داخل الكادر ويبدع في استخدامهما للتعبير عما تشعر به الشخصيات داخل المشهد. في المشهد الذي يلي معرفة الأم بطلب حسنين خطبة بهية، نشاهد حسنين في عمق التكوين في وضع يشي بضعفه متكورا على نفسه خوفا من غضب الأم. نجده محاصرا بين الجميع. وفي لقطة قبل النهاية نشاهد نفيسة بين ساقي حسنين بعد خروجهما من قسم البوليس، للتعبير عن انسحاقها أمامه في هذه اللحظة.
كما تتبدى اللمسات التعبيرية لدى صلاح أبو سيف هنا في الكوادر المائلة والإضاءة المتقطعة التي تتأرجح بين الإظلام التام والإضاءة الخافتة في مشاهد مثل فقدان نفيسة لعذريتها. يبدأ التتابع من أمام منزل سلمان/ صلاح منصور حيث يوجد مصابيح كهربائية تابعة لمحل خردوات يمنح المشهد الإضاءة المتقطعة. ورغم واقعة مصدر الإضاءة إلا أن المخرج يستخدمها لغرض تعبيري محض للتعبير عن اضطراب نفيسه الداخلي. تدلف نفيسة إلى مدخل بيت سلمان المحاط بقضبان حديدية، تمر بين القضبان وظلالها على الحائط، وكأنها تدخل سجنا، في إرهاصة أنها ستظل لبقية حياتها أسيرة هذه الخطوات الخائفة.
تستمر الإضاءة على نفس المنوال داخل بيت سلمان، للتعبير عن قلقها المتنامي وترددها بين الإقبال والإحجام عن الفعل الجنسي مع سلمان، فهي مأخوذة برغبتها الجنسية وبرغبة أخرى أكثر إلحاحا هي إثبات أنها مرغوبة كامرأة، فهي التي يصفها محفوظ في روايته بأنها "عاطل عن الجمال"، ومأخوذة بالخوف من أن تفقد عذريتها ويتخلي عنها سلمان، كل هذا العصف الذهني يعبر عنه بالكادر المائل الذي يستمر طيلة المشهد والذي يشير إلى انقلاب عالمها عبر الإضاءة المتقطعة، وعبر ستارة النافذة التي يتلاعب بها الهواء.
تتكرر الإضاءة المتقطعة مرة أخرى في التتابع الذي يلي خروج حسنين/ عمر الشريف ونفيسة من قسم البوليس بعد ضبطها في بيت سئ السمعة. طيلة طريقهما عبرالتاكسي إلى كوبري الزمالك للتعبير عن الصراع الداخلي المحتدم داخل الشخصيتين بعد اتخاذ نفيسة قرارها بإنهاء حياتها. بينما كانت نفيسة مستسلمة تماما لقدرها، كان حسنين ممزقا من الداخل، لذلك خصه المخرج باللقطات القريبة لوجهه المنقسم بين الضوء والظلمة كانقسام روحه الآن. يقطع المخرج عدة مرات بين لقطات قريبة لوجه حسنين وبين الشارع خارج التاكسي بينما يتردد في رأسه تلك الاغنية التي رددتها النساء في الزنزانة، وهي في الحقيقية قطعات تشي بفهم حقيقي لطبيعة حسنين الذي يهتم أكثر ما يهتم بمظهره أمام الناس، فكل ما يدور في رأسه الآن هو كيف سيظهر أمام الناس بعد هذه الفضيحة ولذلك ينتقل المخرج بينه وبين الشارع والبشر العابرين فيه. وفي مقابل الإضاءة المتقطعة في الطريق يتم استعانة باضاءة ثابتة هنا وأكثر سطوعا فيما يخص وجه حسنين، قرينة باكتشاف حقيقته أمام نفسه وتغير مونولوجه الداخلي واكتشاف انحطاطه وأنانيته العمياء.
هناك مشهد قرب النهاية يجمع فيه المخرج بين ما هو واقعي وتعبيري معا، حيث يذهب حسنين إلى قسم البوليس ويكتشف خبر القبض على نفيسه في بيت مشبوه. يبدأ المشهد بميزانسين واقعي، لقطة ممتدة لدقيقة ونصف دون قطع مونتاجي، يجلس حسنين بينما يبدأ الضابط يتحرك من حوله في صمت، وهناك أيضا حركة الكاميرا التي تتحرك مع الضابط مما يخلق حالة قصوى من التوتر بالنسبة لحسنين والمشاهد، وبعد أن يخبره الضابط بما حدث يبدأ المخرج في التقطيع ويأخذ المشهد منحي تعبيريا يعكس حالة الصدمة التي أصابت حسنين. يشوه أبو سيف الصورة إذ نشاهد في لقطات قريبة وجه الضابط، إضاءة مضاعفة لمصباح السقف، لقطة قريبة لرماد سيجار الضابط. هنا يصحو حسنين علي سقوط وتداعي عالمه الهش.
نحو فيلم شعبي
يصبح المدي التعبيري للصورة السينمائية عند صلاح أبو سيف في حدوده الدنيا حين يلجأ إلى وسائل تعبير تقليدية مثل التقابل، أو مباشرة كالتشبيهات. كالمقابلة بين بدروم العائلة وقصر البيك، عبر القطع على لقطة لنجفة تملأ الشاشة. بعد أن يرفض سلمان أن يتراجع عن زواجه، والوفاء بوعده من نفيسه، تمر عربة روبابيكيا (روبابيكيا، جزمة قديمة للبيع)، يتكرر نفس التشبيه في فيلم لاحق (القاهرة 30) حين تدخل إحسان إلي عربة الباشا للمرة الأولى، تتحرك الكاميرا نحو عربة بيع البطاطا الموجودة في خلفية الكادر من البداية.
يبدو أبو سيف دائما مولع بالوضوح، إذ يلح علي مثل هذه التشبيهات المباشرة (قرني محجوب عبد الدايم في القاهرة 30، وبغل السرجة في شباب امرأة)، كنوع من الاقتراب من الحس الشعبي بتبني لغته وطريقة تفكيره. وفي هذا السياق يمكننا فهم إصرار أبو سيف استخدام الكتابة علي الحوائط الخارجية أو الحكم الشعبية المعلقة علي جدران البيوت من الداخل مثل (اتقي شر من أحسنت إليه) التي تخلص حكاية نفيسة وحسنين.
يشير أيضا الناقد أحمد يوسف إلى استخدام أبو سيف لما يسمى بعناصر الفرجة الشعبية في حكيه السينمائي مثل الرقص والأغاني، والخناقات التي تمزج العنف والكوميديا أو مشاهد الجنس (4).
يقترب أبو سيف في هذا السياق مما يسميه برتولت بريخت بالعمل الشعبي. يقول بريخت، الذي جاهد طيلة مسيرته الإبداعية للوصول إلى لغة وأسلوب وشكل فني في متناول الشعب بكل طبقاته: "أن يكون عملا ما شعبيا، معناه أنه عمل يمكن لجمهور الشعب الكبير أن يفهمه، معناه أن يستعير العمل أساليب تعبير الناس ويتبني وجهات نظرها ويقويها"(5).
ينجح صلاح أبو سيف في تحقيق ذلك إلى حد بعيد، فأفلامه قادرة على الوصول إلى أكبر قطاع ممكن من الجمهور بلغة تتراوح بين السرد الشعبي البسيط وحكي بصري شديد الفنية.
المصادر:
(1)بداية ونهاية مأساة كبيرة بكلمات قليلة سامي السلاموني مجلة فن.
(2) كتاب نجيب محفوظ على الشاشة - هاشم النحاس
(3) كتاب برتولد بريخت حياته واعماله وعصره- فريدريك أوين
(4) الواقعية وصور الوتقع في السينما المصرية- أحمد يوسف
(5) كتاب برتولد بريخت حياته واعماله وعصره- فريدريك أوين