الأرشيف الفوتوغرافي للأدباء والفنانين (4)

إيمان علي 24 مايو 2022 خمس سنوات في ثقافة السينما

الكاتب : إيمان علي
تحكي كتابات نعيم صبري السردية عن جيل بدأ وعيه مع "صافيني مَرّة"، أولى أغنيات عبد الحليم حافظ. جيل بدأ يتفتح على الحياة مع ثورة يوليو. عاش أزهى عصورها وانتصاراتها. وغنّى لها مع عبد الحليم. ثم بدأ يعاني مع انكساراتها. حتى كانت الضربة القاسمة بالهزيمة في نكسة 1967. "جيل فقد المستقبل وهو حزين لما آلت إليه آماله وأحلام صباه وشبابه


هكذا كتب نعيم صبري روايته التي أصدرتها دار الشروق العام الفائت، "صافيني مرّة". وهكذا كُتب في تقديمها "رواية تحكي عن جيل الثورة والهزيمة".
لكن الجانب الاجتماعي فيما أصدره نعيم صبري، وهو كمّ هائل من الكتابات التي تراوحت في بداياته بين الشعرية، ثم النثرية؛ يسجّل سيرة الكاتب بالمعنى الحرفيّ، ثم سيرة بلد وعالم بأكمله. وأخيرًا سيرة أو رحلة الطبقة المتوسطة المصرية.
حكاية مصر وطبقتها المتوسطة، التي يسير معها الكاتب في سيرورة التاريخ راصدًا تطوّرها ومسجّلًا لحكاية صعودها. قدّم صبري في أعماله صورًا حيّة نابضة لكل هذا.
أيام الفرح والحزن، طموح صبية بريئة أرادوا "احتواء العالم بين أيديهم بلا سقف". كتب عن ماهية السعادة بالقليل، عن "ذكرياتنا التي هي حياتنا". ثم بنهاية الستينيات "كان جيلنا قد شاب من هول الأحداث وتتابعها الطاغي العنيف". يكتب في "صافيني مرّة".
وفي أرشيف عائلته وأسرته الفوتوغرافي، الذي قلّبناه معه في منزل مصر الجديدة حيث يعيش فيه منذ التسعينيات مع زوجته، "نجوى" رفيقة دربه الطويل. حكايات ما زالت طازجة، عن أسرة قبطية غير متدينة، ميسورة الحال، ثم صعدت بصعود الطبقة المتوسطة. يرسم تاريخها تاريخ حيّ شبرا العريق، فلا نعد نفرّق بين العام والخاص، والتاريخي والحاضر.
نعيم صبري، هو روائي وشاعر مصري. تخرّج في كلية الهندسة بجامعة القاهرة عام 1968. عمل في المجال الهندسي قبل أن يتفرغ للأدب منذ عام 1995. بدأ كتاباته النثرية بكتاب عن سيرة طفولته بعنوان "يوميات طفل قديم"، وهو ما نقتبس منه كثيرًا هنا. ثم واصل كتاباته حتى أصدر 12 رواية إلى الآن. أبرزها عمله السيريّ أيضا "شبرا".
يقول نعيم صبري إن فترة المراهقة كانت فترة صراع بين الموروث والفكر المكتسب بالمعرفة والاطلاع. وفي الشعر، حاول الكتابة عن الفقر. وفي السياسة اتجه إلى الفكر الاشتراكي "في محاولة للبحث عن معنًى لكل هذا".

صور الطفولة
تحتفظ الذاكرة بصور حيّة لشارع جزيرة بدران بأوّل شبرا، مكان المنشأ والسكن مع العائلة الكبيرة، وجيران الحتّة، سينما بلازا، العسل والطحينة، القهوة باللبن، روضة أطفال الجزيرة المشتركة بشبرا. شبرا "جنّة الله على الأرض" كما يكرّر دائما في صفحات كتبه. روض الفرج ومدرسة الدومبسكو. سينما نصر. سينما دوللي. الحرنكش، سوق روض الفرج للخضار.
الأخت "ناهد هانم" التي سُمّيت على اسم حرم حسين سرّي باشا. المربّية حميدة. تيته مريم أو "الست أم حنّا"، ثم جدّ نعيم صبري لأمّه الذي درس الهندسة الميكانيكية بالمراسلة، وعمل مهندسًا على بواخر تجوب أعالي النيل في حكومة السودان، كان اسمها بواخر البوسطة الخديوية. كان مهندسًا في الجيش الإنجليزي زمن الحرب العالمية الثانية.
في حكايات العائلة قصص جميلة عن السودان والخرطوم، وصور لنساء بسواد داكن عاريات إلا من قطعة قماش تستر عورتهن. في الحكايات لقطات مضحكة ودالّة عن الدروس السخيفة في كتب المُطالعة.
يكتب نعيم صبري في روايته الأحدث "صافيني مرّة" عن الحكايات الصغيرة التي تحدث بين السطور ولا ينتبه إليها التاريخ، هي هذه الحكايات التي يفضّل الكتابة عنها. حكايات الناس البسيطة، حكايات زمان التي لا تذكرها كتب التاريخ.
عن الوعي الوطني الذي ظهر عند جيله مع حرب السويس عام 1956. "تفتحت عيوننا على وطن يتعرّض للخطر، على مقاومة ونوع من الزهو، على أناشيدَ وطنيةٍ ترتجف لها أجسادنا".
وفي الصور تظهر الأم "بلانشا عزيز" التي عملت أخصائية اجتماعية بوزارة الشئون الاجتماعية القابعة في شارع قصر العيني، ومتطوّعة في الهلال الأحمر بعد الظهر. كانت من أوائل دفعات معهد الخدمة الاجتماعية. والأبّ "عزيز صبري" موظّف في مصلحة التليفونات. مواليد سنة 1912 كزوجته، حصل على البكالوريا بتفوّق. كان ترتيبه الـ18 على القطر. قرّر ألا يكمل دراسته الجامعية لأن والده مات ولديه من الإخوة خمسة، كان لابد للابن الأكبر أن يجد قوت العائلة.
أم عبده المسئولة عن الغسيل كلّ سبت، بملاءتها اللفّ السوداء. وزوج الخالة زكي أفندي غبريال الموظف بمصلحة الإحصاء. وغبريال هذا قصة كفاح للطبقة أيضًا؛ فقد بُترت ساقه في سنّ الـ12، إثر حادث على القطار. يحكي السّيد نعيم: "تقدّم إلى خالتي، وقبلته الأسرة، وعاشوا حياةً من أجمل ما يكون، كان لديهم من الأولاد عشرة، مات من مات وتبقى سبعة".
في صور العائلة، تظهر الأم مرّة، والخالة مرّة، في مشهد عاديّ معتاد، على رأسيهما "المنديل أبو أوية" أمام موقد الجاز البريموس. وفي كتابات نعيم صبري حكايات عن حمّام يوم الخميس. مصّ القصب فوق السطح. وغيرها من الطقوس الحميمة للعائلة.
ثم شمّ النسيم. مولد العريان أو عيد النيروز. كريمة بنت الجيران. رحلات حلوان ورحلات القناطر الخيرية. ومن قبلهما مصيف "أبو قير". يكتب عن كل ذلك في "يوميات طفل قديم": "البلاد لها روائحها الخاصة، أبو قير لها رائحة مميزة. رائحة الطعمية، أعشاب البحر، "اللديدة" وحلويات دمياط ورشيد، جوز الهند، البسبوسة، بيّارات الصرف، حلقة السمك".
الجدّة أنيسة في الصور. جدّته لأمّه. بينما تتداعى في الذاكرة الأمثال الشعبية التي كانت تُردّدها، ولها ذِكر مُتكرّر في روايات نعيم صبري التي تسرد حكاياته الشخصية، وحكايات أسرته وعائلته.
"الكاريتّه". الترام. "نداءات الباعة في أبي قير تصلح فصلًا في قصّة الحضارة". وتقلّبات الزمن: "أيام.. أناس.. حيوات نضرة.. ذهبتُ إلى أبي قير حديثًا، وجدت مياه المجاري طافحة في شوارعها. المباني القديمة خاوية، عمارات ارتفعت على شاطئ البحر".
"كل الناس في مصر لها عيد صغير وعيد كبير مهما اختلفت دياناتهم". حيّ الناصرية قرب ميدان لاظوغلي. ثم ذكريات الحرب. الغارة، صفّارات الإنذار، و"الله أكبر فوق كيد المعتدي"، و"والله زمان يا سلاحي".
للدين والأسئلة الوجودية التي ملأت صدر وعقل المراهق الصغير، نعيم صبري في شبابه، مكان بارز في ألبوم الذكريات. يتذكّر الـ"مهاويس".. هؤلاء "الرهبان ذو الياقات البيضاء" كما يكتب. "لا أحب مقولة إن الدنيا فانية". أسئلة من قبيل: "من خلق الله". "يا ربّي، أنا أريد أن أتعرّف عليك شخصيًّا. أنا لا أريد مقولات مسبقة". أما في السياسة: "تتضارب الأقوال في بلدنا ولا تستطيع أن تفهم الحقيقة".
يكتب نعيم صبري في "يوميات طفل قديم: "كنا نشعر أن العالم يموج بالنشاط والتفاؤل. زوّار كثيرون يفدون إلينا من جميع أنحاء العالم. الجميع يتحدث عن الثورة، محاربة الاستعمار، وجوه سوداء تعلوها الطيبة والبشاشة، نكروما، لومومبا، يختارون بلدنا ليرسلوا زوجاتهم وأبناءهم إليها. أيّ شيء أدعى إلى السعادة والزهو من أن نساعد كل من يكافح في سبيل استقلال بلاده. من العجب أن هذه المعاني، تهمّ الأطفال إلى جانب اللعب والمرح والرحلات وحديقة الحيوانات".
بين الصور القديمة للعائلة في شبرا، تفوح رائحة الخبز البلدي الطريّ، الجبنة الصفراء، قطعة الحلاوة الطحينية.. أكل المعونة في المدرسة الأشهى من أكل البيت: "الحمد لله أنه لا توجد كوسة معونة ولا خرشوف معونة". ثم الآيس كريم "عالم فريد من النشوة". وقَبله الثلّاجة السربنتينا، والقُلل، الرقص بالهولاهوب، والسكّر النبات.
أم كلثوم ليلة الخميس الأوّل من الشهر، وسهرة شواء اللحم.. تلك الطقوس الثابتة. بابا شارو ومجلة سندباد. ليالي الصيف في سينما الجندول الصيفي. التين الشوكي. سينما الأمير بخلوصي. والكرة الشراب مع "بلبل" ابن الخالة. ومحمود شكوكو.
قصص أرسين لوبين، اللّص الظريف، الذي أحبّه أكثر من شرلوك هولمز. ثم بعد ذلك، تظهر في ألبوم العائلة صور من البلاد التي زارها وتنقل فيها رب الأسرة للعمل بعدما تزوّج بزميلته في الجامعة.. ألمانيا، قبرص، اليونان، وليبيا التي أقام فيها الكاتب سنوات من 1970 إلى 1977.
ثم في الجامعة. ستينيات القرن العشرين، حيث النهضة المسرحية الهائلة، في المسرح القومي، ومسرح الحكيم، ومسرح الجيب.
رأس البر، في صيف 1968، كان قد تخرّج نعيم من الجامعة. في رحلة مع والدته ووالده وأخته ناهد، ضمن فوج وزارة الشئون الاجتماعية، نستعرض صورة لا تقل حميميةً ودفئًا.
ننتقل بين الحديث إلى الأسماء الفرعونية والأجنبية التي تعلَّق الجد للأم بتسمية أبنائه بها. رمسيس، أوجوني، وبلانشا.. خال الكاتب وخالته ثم أمه. رمسيس عزيز جدّ أمير رمسيس لأبيه، هو خال نعيم صبري، الذي عمل منتجًا في السينما. عادل رمسيس، ابن خال الكاتب، "بلبل" الذي يرد ذكره كثيرًا في السيرة/المذكرات التي يكتبها نعيم على هيئة روايات. كان ابن الخال هو بوابة الكاتب للمعرفة، يكبره بسبع سنوات، وكان بمثابة الموجّه، هو الذي علّمه سماع الموسيقى الكلاسيكية، وعرّفه على السينما والمسرح. كانا يلعبان فوق السطوح بتمثيل المسرحيات.
في كثير من الصور تظهر الأجيال الثلاثة، الجدّة بلانشا ونجوى زوجة الابن والحفيدة سارة، ابنة الكاتب الوحيدة. ثم تيتة كوكب، جدته لأبيه. صور سارة الأحدث ليست كثيرة ولا يُفضَّل نشرُها. سارة تفرض نظامًا صارمًا على ظهورها هي وابنتيها اليوم على فيسبوك في صور العائلة. يحترم الأبوان رغبتها تلك، تقول الأم: "سارة مختلفة". وفي عالم التربية الحديثة أصبح تصرّف الابنة الأم مفهومًا في حق الأبناء في التمتّع بالخصوصية اللازمة كونهم أطفالًا. نحترم رغبة سارة ولا نختار من بين صورها وهي في سنّ أكبر من صور الطفولة إلا صورة واقفة إلى جانب والدها، يقول نعيم: "هذه صور عادية، لا تفضح خصوصيةً ما".
في الصور الفوتوغرافية ينضح التاريخ الشخصي والمجتمعي الذي يهتم نعيم صبري بتسجيله منذ النصف الثاني من القرن العشرين. من هنا تأتي أهمية رواية مثل "شبرا" التي أصدرها الكاتب في التسعينيات، وأعاد طبعها في مكتبة مدبولي في 2007، وهذا العام صدرت في طبعة ثالثة أنيقة عبر دار الشروق.
نقرأ في رواية شبرا: "حيّ محدود في مدينة تاريخية عريقة، لكنه يمتلك رحابة متميزة من نوع خاص. يتحدثون عن الآخر وقبول الآخر، وكأنه طلب عزيز، لكن ذلك حدث ببساطة فيما مضى، وكان يحدث كل يوم بتلقائية وسلاسة.
كلما شعرت بالحنين؛ ذهبت إلى حيّ شبرا. كلما شعرت بالأسى؛ ذهبت إلى حيّ شبرا. كلما شعرت بالمرارة؛ ذهبت إلى حيّ شبرا".
كانت هناك حياة.. تاريخٌ كان هنا
في كل مشهد وصورة كانت هناك حياة، وخلف الحكايات الشخصية يقبع التاريخ. الكلب بندق، الذي فقدته الأسرة بالموت في التسعينيات. كان نعيم صبري وقتها يكتب روايته "أوبرا الأستاذ تحتمس". وجعل من أبطال القصة الكلبة لوليتا، التي ماتت وكتب في الرواية نعيًا لها، كان في حقيقة الأمر نعيًا إلى بندق.
كان السيد نعيم صبري يتردد على جلسات المثقفين الكبار في تلك الفترة. جلسات الأفتريون كل جمعة. ثم سهرات في بيته، مع الوشاحي وعاصم حنفي ورؤوف عيّاد. ولا شكّ سهرات مجموعة صباح الخير، مجدي الهواري، محمد الرفاعي وعيّاد، السبت والثلاثاء والخميس من كل أسبوع في الجريون. ومن قبله كانت في الأديون.
فرح بوت، بالطبع، يوم الثلاثاء من كل أسبوع. ولقاء كل خميس في أوتيل كارولين بشارع سوريا في المهندسين مع مجموعة تضم علي سالم، وأحيانا على مركب كرستين أمام شيراتون.
لصور نجيب محفوظ ويظهر فيها نعيم صبري، حكاية أخرى. في كازينو قصر النيل أوّلًا. ثم ماريوت. وسوفيتيل المعادي. ونوفوتيل المطار مع الدكتور يحيى الرّخاوي، نهاد صليحة، وأحيانًا أحمد زكي.
كان صبري يقرأ للأستاذ مقاطع من الكتب. كان دوره قسمًا بين مجموعة أصدقاء وأعضاء الشلّة، مهمتها مرافقة الأديب من منزله وإيصاله إلى مكان اللقاء وقراءة الصحف والكتب له، ثم يعيده إلى منزله. كان من نصيب نعيم صبري في مرافقة الأستاذ يومي الأحد والأربعاء. بين شيبرد وسوفيتيل المعادي. وسار هذا النظام حتى وفاة محفوظ في 2006.
في إحدى الصور يظهر محفوظ واقفًا ويحوطه فرد حراسة شخصية، كان أن لازمه في تنقلاته وتجمعاته مع الأصدقاء بعد حادثة طعن نجيب محفوظ الغادرة. في فندق سوفيتيل أحيانًا تلجأ إدارة الفندق إلى استقبال تجمّع نجيب محفوظ في إحدى غرف الفندق، عندما تكون قاعات الصالة الرئيسية مزدحمة.
ستحتفظ اللقطة الفوتوغرافية بصورة للسيّد نعيم داخل بيت نجيب محفوظ يحتفلون بحصوله على وسام فارس. وابنته هدى تظهر أيضًا. سلماوي وتوفيق صالح. وقبل الطعنة، كان التجمع في كازينو قصر النيل يوم الجمعة الساعة الخامسة.
من أكثر المشاهد عفوية، هي التي سجّلتها اللقطة عصر يوم جمعة، التالي لإعلان حصول نجيب محفوظ على نوبل في الأدب. قرّر صاحب "أولاد حارتنا" النزول إلى الشارع، والجلوس في قلب الطريق على كرسي يستقبل تهاني أهل الحارة والجيران، وأسئلتهم. كان هناك نعيم صبري إلى جوار الأديب الكبير، ولمس عن قرب حبّ وإجلال أهل حيّه له، مثلما تلمس الصورة تواضع نجيب وقربه من البسطاء.
كان ذلك بمثابة مؤتمر صحفيّ شعبيّ، ولأوّل مرّة تتجه عدسات الكاميرات من محطّات العالم نحو الجمالية وأزقّة مصر القديمة.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات