على مقعد مبصر في القاعةالمظلمة ..

أمل ممدوح 18 مايو 2022 مهرجان القاهرة السينمائي.. نظرة عن قرب

الكاتب : أمل ممدوح
في ظهر ذلك اليوم، وبينما كنت أهيئ نفسي لاستقبال يوم عادي جديد..أقلب بشرود في قنوات التليفزيون بشكل سريع، قبل إغلاقه استعدادًا لصمت سأسعى للحصول عليه للبدء في كتابة مؤجلة، فإذا بصوت رنين هاتفي المحمول ورقم غريب ينير شاشته، لأستمع حين رددت لصوت رصين واثق هادئ يخبرني باسمه؛ يوسف شريف رزق الله،لا أدري هل كانت ثوانيَ معدودة أم طويلة أم أنها دقائق تلك التي مرت عليّ كي أستوعب، لكنه لم يمهلني كثيرًا حتى أخبرني بخبر ترشيحي للانضمام للجنة مشاهدة مهرجان القاهرة السينمائي، مبديًا توقعًا بالاستفادة مني، لم يعد اليوم عاديًا، ولا هذه اللحظة التي خلدت بداخلي، والتي أضافت قيمته الشخصية لها كل البريق.


كان ذلك في شهر إبريل 2017، وما هي إلا أيامٌ وعقد اجتماع لأعضاء اللجنة في مقر إدارة المهرجان، للتعارف جميعًا ووضع قواعد العمل وأسلوبه، كنا نجلس جميعًا حول طاولة على رأسها الأستاذ يوسف شريف رزق الله المدير الفني للمهرجان، بابتسامته الهادئة المشوبة ببراءة لم تغادرها، تبعث على الاطمئنان، ليس لديّ بعد تاريخ حافل من الإنجازات لكني أيضًا لديّ ما أقول،إلا أنني عادةً لا أحسن كثيرًا تقديم نفسي، فقلت بضع كلمات محدودة قابلها بنظرة تقدير وابتسامة مطَمئنة، وتعرفنا على بقية الأعضاء وكان معظمنا من النقاد باستثناء المخرج يوسف هشام، كانت المجموعة تتكون منّي ومن الأساتذة: ماجدة خير الله وصفاء الليثي ومجدي الطيب وأسامة عبد الفتاح ورامي عبد الرازق ورامي المتولي وحنان أبو الضياء ورشا حسني وخالد محمود ومحمد عاطف ويوسف هشام ومنال بركات، لتبدأ مع بداية شهر مايو جلسات المشاهدة التي كانت في ذلك العام في مركز الثقافة السينمائية. نجلس في أماكن متفرقة من القاعة ذات المقاعد الثابتة نشاهد بهدوء، كان يملأني الشغف، شاهدت الكثير من أفلام بلاد مختلفة من أنحاء العالم من خلال حضوري لمهرجانات سابقة ولمهرجان القاهرة خاصة على مر سنوات حياتي، لكن فكرة مشاهدة أفلام قد لا تصلح للاختيار سواء لطبيعة الفكرة أو المستوى الفني للفيلم أو ملاحظات نراعيها، كان مثيرًا لبناء رؤية أشمل عن طبيعة سينما بعض البلاد وأفكارها السينمائية التي قد لا تمثل واجهتها، أو لفكرة أشمل عن طبيعة إنتاج هذا العام، شاهدت الكثير من حالات الشطط الفكري أو الأسلوبي بشكل جيد أو سيء، وكان لذلك مذاقه الخاص بالنسبة لي بغض النظر عن التقييم النهائي للفيلم، مرت علينا الكثير من الأفلام الجيدة والمميزة لكن بطبيعة الحال لا يخلو الأمر من العكس، نقابل ذلك باحترام لكل التجارب وتفهم وصبر مستحق، لكني أراقب أيضًا بشكل جانبي تأثير الفيلم السيء، ولو لبعض الوقت، ولا أقصد المتوسط بل واضح السوء، إنه يجذبك من أعلى بينما كنت تحلق، حيث هذا ما تقوم به السينما، حتى لو قدمت واقعًا قاسيًا قاتمًا، لكنها ستجعلك تنتقل لمكان آخر ذهنيًا أو نفسيًا، الأمر الذي يذكرني بعبارة تاركوفسكي"دافعي لعمل الأفلام هو لمساعدة الناس على الحياة، حتى لو أصبحوا في منتهى البؤس والتعاسة في بعض الأوقات".
مع مضي الوقت كانت تزداد أيام وفترات المشاهدة، نرى في اليوم عدة أفلام بحسب ما تستغرقه، تدور أحيانًا بعض المحادثات مع الزملاء حول الفيلم والنقاش حول بعض زواياه، حوارات جادة شغوفة وتعليقات طريفة أحيانًا، ليعود دائمًا ببالي التساؤل الأزليّ يفرض نفسه؛ هل يعرف الفيلم السيء بالفعل من الدقائق الأولى بالضرورة؟ أم هناك أفلام ينكشف كنه بنائها السابق بعد مضيّ وقت منها، وأحيانا قرب نهايتها ليفسر ما كان يبدو ضعيفا؟ في الحقيقة كلا الرأيين له وجاهته وله أمثلته، لكن في رأيي الرأي الأول قد ينطبق إذا لاح الضعف الأسلوبي والدرامي والأدائي بشدة سريعًا واستمر دون ما يوحي بأسلوبية معينة أو عمق خلفي، فالركاكة والحالة الساذجة قد لا نختلف عليها كثيرًا، وليس ما بدا من طبيعة الموضوع وزاويته أو بطء السرد، الذي قد يكون مبرَّرا ولو مرحليًا في الفيلم، وهناك أحيانا أفلام يأتي نصفها الثاني مبررًا لكل ما بدا كسلبيات في نصفها الأول أو أجزائها الأولى ومفسرًا تمامًا لما التبس، الأمر يصعب حسمه إلا بالخبرة والممارسة الطويلة، فالمشاهدة المحترفة ستدفعنا لمزيد من الصبر والتأني بموقع مغاير للمشاهد العادي وانطباعاته، التي من حقه أن تكون سريعة ومن حقه أن لا يكون صبورًا، وإن كان ذلك لا يتيح له تلقّ أفضل، وهنا يُطرح سؤال آخر ضمن خواطري، هل علينا تبني رأي المشاهد في تلقيه؟ أم علينا التقييم الفني البحت بغض النظر عن رأي المشاهد؟ خاصة وأن هناك أفلامًا ذات طبيعة فنية خاصة، ربما حققت أرضية لها في بلاد أخرى بينما ما زالت شديدة البعد عن ذائقة حتى المتيمين بالسينما لدينا، الأمر يحتاج موازنةً، حيث الفيلم لجمهوره في النهاية، علينا وضع الأمر نسبيًا في الاعتبار لا الاختيار انطلاقًا منه، ففي النهاية وظيفة المهرجانات إتاحة فرصة الاطلاع على أفضل التجارب السينمائية وأكثرها حداثةً على مستوى العالم، وإطلاع المشاهد على ما يجري حوله فنيًا، بما قد تتضمنه من اتجاهات طليعية قد تبدو مستغربة أو غير مألوفة بعد.
كانت لحظة كتابة تقارير الأفلام بالنسبة لي من اللحظات الممتعة ذات الرهبة الضمنية معًا، فأنت أمام مسؤولية وقرار آني، وفترة وجيزة للتعبير عنه بشكل موضوعي يعبر عن أسبابك في الرفض أو القبول، كان يستغرقني الأمر وأستمتع بالكتابة فأسترسل أحيانا، وفي إحدى المرات أشار أستاذ يوسف لتقاريري بشكل إيجابي فاجأني وأسعدني وكنت أظنني أثقله، هذه الملاحظات المتناثرة من آن لآخر كانت تقدم إحساسًا كبيرًا بالدّعم وأن عينًا مُلمّة تحيط بك وتدعمك، وأن أي هناتإن وجدت يمكن تداركها بهذه العين اليقظة وخبرتها الثقيلة، وبرغم قامته وتاريخه كان يحترم حرية آرائنا لتكون توجيهاته في نطاق ضيق،تلميحية استفسارية راقية. لا شك أن المشاهدة المستمرة شبه اليومية ولفترات طويلة من اليوم ولعدة شهور تمتد ما بين الخمسة إلى السبعة أشهر أحيانًا، والتي تتخطى فيها المشاهدات عادة عدة مئات من الأفلام؛ أمر مرهق قد لا يبقي مكانًا كافيًا لشيء آخر بجواره، لكنه يظل له متعته الخاصة مع شعور كبير بمسؤولية نابعة من تقدير حجم وقيمة هذا الكيان الكبير.
في 2018 العام الثاني من تواجدي في اللجنة، كان أعضاؤها كل من الأساتذة: ماجدة خير الله وصفاء الليثي وأسامة عبد الفتاح وخالد عبد العزيز ورامي المتولي وأمجد جمال ومروة أبو عيش وكريم فرغلي ورشا حسني ومنال بركات ومجدي الطيب وحنان أبو الضياء، وكانت الجلسات في مقر المهرجان، وهنا كانت طبيعة المقاعد المتنقلة تسمح بنوع من الحميمية في المشاهدة، والمشاركة الجماعية في بعض الملاحظات أو التعليقات حول الفيلم المشاهد، وتطرق سريع لبعض الثغرات أو تبادل بعض المعلومات حول مخرجي الأفلام أو أفلامهم السابقة وما شابه ذلك، لتتنوع المناقشات الخاطفة بين الجادة الحماسية أو الطريفة، حتى سريعًا ما يعود صمت المشاهدة المستغرق، ولشد ما تكون فرحتنا بالعثور على فيلم متميز فنيًا يكون للمهرجان السبق في عرضه، لننبه من تصادف أن غاب منا في اليوم التالي بضرورة مشاهدته، ليكون بعد ذلك يوم افتتاح المهرجان عيدًا حقيقيًا للفريق وتتويج لعمل وعناء شهور طويلة، خاصة إذا ما وصلت أسماعنا عبارات استحسان للأفلام المختارة، وهي بالمناسبة عملية محفوفة بحسابات كثيرة لا تتوقف بشكل كامل على قرار اختيار اللجنة فقط، بل تتحكم بها ظروف عرض هذه الأفلام قبل ذلك وأين، وما ورد إلينا منها وما أمكن الحصول عليه، خاصة وأن المهرجان يتطلب طبقًا لتصنيفه الدوليّ أن تكون الأفلام في عرضها الأول، ومن أفلام الدورتين الماضيتين 39 و 40 اللتين شاركت فيهما، منحّيةالعام الحالي 2019 وتجربته، حيث إنها تجربة لم تكتمل بعد؛ أنتقي في قراءة سريعة ثلاثة من كل منهما عرضوا في المسابقة الرسمية للمهرجان، أراهم متميزين فنيًا وكانوا ضمن اختياراتي الشخصية، وبالطبع ضمن اختيارات زملاء آخرين:

ـ من أفلام الدورة 39 عام 2017

أنت بداخل رأسيYou go to my head... صوفية بصرية لميلاد وتيه

هذا فيلم فني أخاذ بصريًا، له حالة أسلوبية وتشكيلية خاصة، بارع في تعبير صورته وجمالياتها دون خروج أو شطط عن النسق الدرامي، بل تضيف لعالمه ومضامينه سواء المباشرة أو غير المباشرة، من خلال خيارات مفرداتها وكل تفاصيلها، من مكونات وألوان وزوايا تصوير، في نسق مبسط ميليماني بمذاق صوفي صاغته حالة الفيلم في كافة عناصره، فحواره شحيح مقتصد، مع تخلّ عن التفاصيل والزوائد الدرامية مفرطة التفسير، ولا موسيقى تصويرية غالبًا، فقط مؤثرات صوتية طبيعية أو مؤثرات موسيقية خافتة شحيحة، فهو يأخذك لفكرته وحالته التي يريدها لتشغل بالك وتعيشها كناسك متجرد، ينفض عنك المفترض والمسلمات المنطقية، يعيد ميلادك الروحي والذهني مع بطلي هذا الفيلم الفرنسي البلجيكي الألماني، للمخرج ديميتري دي كليرك، وقد نافس الفيلم على العديد من الجوائز بالمهرجان، يبدأ بحادثة سيارة في صحراء المغرب تصاب فيها امرأة بينما يفقد صديقها حياته، تسود الصحراء والحالة الجافة المقحلة مع عطشها الشديد وسيرها منهكة، لتبدو ملابسها الحمراء وسط الصحراء مع سعيها الحثيث للنجاة، مشيران لجذوة حياة قوية تملكها، يتماسّ الفيلم بقدر ما مع قصة الفيلم المصري الليلة الأخيرة لكاتبة قصته مرجريت واين، لكن بزاوية شديدة الاختلاف، فبطلة الفيلم يجدها مهندس معماري هادىء وحيد يكسوه الشجن، فيسعى لإنقاذها بمداواتها في منزله،حيث نكتشف أنها فقدت ذاكرتها، ليستغل هذا الرجل ذلك ويوهمها بأنها زوجته، كلّ منهما وحيد في أريحتى تطيب مصدقةً ذلك راضية، أرض متسعة فارغة إلى حد كبير إلا منهما كما آدم وحواء، كلاهما منتزع الجذور، فقط ينتمي للآخر ليصبح جذره، تتعمق العلاقة بينهما بهدوء كما حالة الفيلم وسرده المتمهل، يظهر الداخل من خلال الخارج، فالصورة تروي كل شيء، حالة من التخلص والتخلي يجسدها اللون الأبيض المتكرر في عدة مفردات، الرمال الناعمة وبراحها المتسع، تخلي البطلة عن ملابسها عادة، واجتماعهما متخليان عنها أيضًا في مشاهد تعكس حالة روحية وإن بدت حسية، فالطبيعة تسود كل شيء، ترتبط البطلة القادمة من أرض جافة بحمام السباحة وبالمياه كعودة للحياة تمثلها المياه، تتوازى مع تغيرات حياة البطل الذي ردت إليه الحياة أيضًا بدخولها، تقطع طريقًا يبدأ من التساؤل المطمئن حتى الشك ثم إلى الحقيقة الواضحة، نتتبع هذه المراحل بصريًا بامتلاء حمام السباحة بالمياه في البداية، ثم ظهور الشقوق فيه ثم جفافه للتصليحات، كما نرى في البداية انعكاس صورتها في الزجاج مشوهًا ضمن حالة يغلب عليها الاصفرار كذاكرتها، ثم أزرق كمرحلة الشك والقلق ثم صافيًا بلا لون، لتبدو صورتها المنعكسة واضحة تمامًا أخيرًا حين تعرف كل شيء، لكنها تختار في النهاية التخلي عن ماضيها لأجل حاضرها وحبها الجديد، فكما بنى الفيلم حالة متجردة، اتفق ذلك مع الحالة الدرامية الساعية لميلاد جديد بالتخلي عن التفاصيل المربكة وانتماءات الواقع والماضي، والتخلي أيضًا عن الأحكام المعتادة بتسامحها مع حبيبها واختيارها له، كل ذلك ضمن بناء بصريّ جماليّ حالم غامض، وحالة فنية عذبة صوفية يصعب أن تنسى.

قلبي المخدوع My see through heart.. أسلوبية رفيعة لرحلة الشك واليقين

فيلم فني حقيقي، من أحب الأفلام إليّ ومن أكثر الأفلام التي أمتعتني وقدرتها فنيًا، للمخرجين الأخوين فيتال دوران بنزعتهما البصرية الشعرية، الفيلم عن رواية "وقلبي شفاف" للروائية الفرنسية فيرونيك أوفالدي، تسوده أجواء دراما نفسية بصرية، تجمع بين ظلال الواقعية السحرية وأجواء اللغز والجريمة في الفيلم "نوار"، بحالة بصرية تشكيلية ثرية الدلالات، وسيناريو ماهرمتراكب، يحوي أكثر من نقلة درامية كلها تتولد من بعضها بسلاسة مقنعة، بمستويات ومراحل سردية وأزمنة متعددة متداخلة يتم التنقل بينها دون إرباك، يوازيها سرد بصري يعبر تمامًا عن محتوى وطبيعة هذه المراحل، عن رحلة بطل الفيلم "لانسلوت" من التسليم الخامل مرورًا بالشك حتى اليقين اليقظ أو المستنير، هذه الشخصية المسالمة التقليدية آلية النمط وحياتها الراكدة، الذي يلتقي بنقيضه الأنثوي"إيرينا" فيحبها وتتجدد معها حياته، لتموت إثر حادث سيارة مريب يفتح أقواس شكّه فيها، بشكل يدخله في اهتزازة نفسية حادة تفقده الثقة في كل شيء، وفي قلبه وبصيرته اللتين رأيا أعماقها فأحباها، لكن المفاجأة أنه بتقصيه عبر الشك يصل لكون ما رآه فيها بقلبه كان الحقيقة، وأن حبيبته الراحلة بريئة وقد أحبته وأخلصت له بالفعل، فالرحلةفي الحقيقة كانت نحو ذات لانسلوت التي اكتشفها بالحب والشك حتى اليقين، الفيلم غنيّ بمستويات الوعي وطبقات التأويل، والتفاصيل الرمزية والغموض المتعمد، بسرد غير خطي يتنقل بين الحاضر والماضي القريب والماضي الأبعد، بإفشاء تقطيري، يدفع المشاهد لخوض رحلته أيضًا من الشك حتى اليقين.

طريق المحطةThe way station.. شاعرية عالم حبيس قيد الانتظار

فيلم فيتنامي شاعري بمذاق الحكاية الملحمية، أول أفلام المخرجة "هونج آن"، عن سيرة ذاتية للكاتب الفيتنامي"دوفوك تيان"، الذي يمثله الشاب" فوك" بطل وراوي الفيلم، الذي يقدم إلى حيّ قديم في بلدة فيتنامية، في جزيرة تعتبر محطة ونقطة التقاء شعوبي، يطرق باب مطعم تراثي للحم الماعز يعتبر بيت عائلة كبير، لتبقى الشخصيات التي تدخله محصورة فيه بلا فكاك طوال الفيلم، يضم ست شخصيات متنوعة الطباع والثقافات، ليدور الفيلم بطابع سردي هادىء حالم، يفوح بالشجن كما الذكرى، شحيح البوح يشوبه الغموض بشكل يضفي طابع الحكاية الأسطورية، فهو عبارة عن حكاية مروية ومتذكرة من البطل، بحيث يشغل "الفلاش باك" معظم زمن الفيلم، سيد المطعم والأسرة رجل صارم واجم دومًا بروح بطريركية مستبدة، كإله يبسط يده على سكان المكان وكحاكم مستبد، يشرب الخمر دائمًا منفسًا عن كبت فرضه بدوره على الجميع مغلقًا عنهم كل نوافذ التنفيس، يقهر الجميع ويشكل العائق الأساسي أمام بهجتهم وجريان حياتهم، بما في ذلك زوجته التي تعلق في رقبتها سلسلة مفاتيح غرفة حبيسته،ابنته الأثيرة المقعدة،"تشو"، التي تمثل أكثر الأرواح حريةً في المكان متمسكة بالخيال، العنصر المتحرك الذي لا يقهره السكون، هي وفوك وصديقه المندفع المناقض لشخصيته، وحدهم الثلاثة الباحثون عن الخلاص من خلال الفرار بفرديتهم وأحلامهم الجامحة إلى كينونتهم، يتنافس الصديقان عليها، لتنشئ مع كليهما علاقة جسدية ترى فيها تحريرًا لها ويراها لهما كذلك كل منهما، لكن فوك يرى ذلك عبر قلبها فقد أحبها وتسامح مع هذا الضعف، بعكس صديقه الحسيّ، يفور الفيلم بمعترك الدوافع الساعية لفض الحصار بأي طرق متاحة، بينما يدفع الجميع ثمن ذلك حين يتخلص الأب من ابنته في لقطات تبدو كالحلم يكسوها الصمت التام، فالفيلم رغم مأساته تمسك بسرد هادئ شاعري مثير للتأمل فائض بالشجن، مع صورة ثرية التفاصيل والدلالات، كاستخدام الماعز برمزيته الشهوانية وتكبيله واقتياده وذبحه، ليبقى صوته وحده يشق صمت المكان الدائم، وسط زوايا متلصصة وحركة كاميرا بطيئة متسللة حذرة، وكثرة القضبان أمام الأبواب والنوافذ، وازرقاق شاحب حالم يسود الصورة.

ـ من أفلام الدورة 40 عام 2018:

ليلة الاثني عشرA twelve- year night.. عذوبة ملحمية لسنوات الألم والأمل
هو الفيلم الفائز بجائزة الهرم الذهبي لأفضل فيلم في هذه الدورة وكذلك جائزة الفيبريسي، إنتاج كل من أسبانيا وأوروجواي وألمانيا وفرنسا والأرجنتين، ومن إخراج وتأليف ألفارو بريشنر،هذا الفيلم من أجمل وأهم أفلام المهرجان في الأعوام القليلة الماضية، وقد لقي استقبالًا جماهيريًا مدهشًا فاق التوقع ليلتقي تمامًا فيه الرأي النقدي مع الجماهيري، والصياغة الفنية الرفيعة مع الذوق الجماهيري بتوازٍ تام، مما يجعلنا نقول أن الجمع بين الطبيعة الفنية والجماهيرية للفيلم، أمر ممكن دون تضادّ حتميّ، هذا الفيلم لم يكن قد حصل على جوائز دولية كبرى في وقته، إلا أنه رشح بعد ذلك لجائزة أوسكار أفضل عمل أجنبي لعام 2018، لكنني أظن أن أحدًا ممن شاهدوه ليستطيع نسيانه، أضف إلى ذلك أن الفيلم قاتمٌموجع، سياسيّ في إطاره المبدئي، لكنه إنساني في إطاره الكلي الأكثر اتساعًا، مبنيّ على سيرة ذاتية لكنه قادر على إثرائها دراميًا وإنسانيًا بشكل يخرجها من التخصيص، أذكر كم كان انبهارنا به أثناء المشاهدة ليكون اختيارنا له في المسابقة الرسمية اختيارًا جماعيًا، وبشكل شخصي كنت أترقب فوزه بالجائزة الأولى، وأذكر أني حضرت عرضه الأخير وتأملت ردود فعل الجمهور ووقوفه للتصفيق في نهاية الفيلم، وهي لحظة كم كانت مبهجة الوقع،ومستحقة لهذا الفيلم القوي المميز فنيًا وإنسانيًا،تبدأ أحداث الفيلم في إحدى لياليعام 1973 في الأوروجواي، بعد مجيء الحكم العسكري الديكتاتوريوإعلان الأحكام العرفية، وفي هذه الليلة يتم اعتقال ثلاثة أصدقاء من المعارضين اليساريين، هم "خوسيه" الناشط السياسي و"موريسيو" الشاعر والكاتب المسرحي والصحفي "إليوتريو"، لنتتبع حالة كابوسية من التعذيب النفسي والجسدي لثلاثتهم كمحنة نفسية ووجودية تستهلك اثنتي عشرة عامًا من حياتهم، بدأت ليلة الاعتقال، لتبدو كل السنين امتدادًا لقتامة هذه الليلة التي توقف بعدها الزمن في أعين شخصياتها، لتصبح عمرًا متصلًا مظلمًا بلا معالم، نتتبع أثناءهاتدهور نفسياتهم وتغير شخصياتهم، واقترابهم من حافة الجنون والهذيان، من خلال ثلاثة أزمنة سردية؛ زمن الواقع الحاضر وهو جامد نوعًا وقاتم بطبيعة الحالة السجينة الذابلة، وزمنان آخران يعوضان الكثير من جمود زمن الحاضر ويغذيان الإيقاع العام،هما الزمن الماضي بحالته المتضادة مع الوضع الحالي والمثيرة كذلك بهذا التضاد، وزمن متخيل ينفس عن أرواح الأبطال وتوقهم للحياة، كل ذلك ضمن صورة قوية التعبير والدلالات، يشوب معظمها الظلام والألوان القاتمة البنية غالبًا واللون الأصفر كحالة توازي الشحوب والجنون المتسرب لعقولهم،مع لقطات بارعة التكوين الدلالي، منها اللقطات ذات العمق الدهليزيّالتي تصورهم من أعلى كمن سقط في بئر سحيق، معبرةًعن الضآلة واليأس وحالة المتاهة،نشعر بنفيهم خارج الحياة بينما نتتبع تأثير الوقت عليهم، على هيئاتهم ونفسياتهم، نشعر بحالة من الحبس حين تحجب الصورة الحدث وتبقي الأصوات القوية، ككل ما يصل إليهم، أصوات إغلاق أبواب الزنازين وأصوات المفاتيح والأقفال وأقدام الجنود والأصوات الخلفية،حالة تصور أعينًا معصوبةًخائفةًوحالةًمأزومةً،يحبسون في زنازين انفرادية فيحرمون التواصل مع بعضهم ومع العالم، مجردين من كل الحقوق الإنسانية إلى وقت غير معلوم، نشعر بخفوت الحياة فيهم واللا آدمية، ليبتدع كل منهم طريقته للبقاء، حتى تمر اثنتا عشرة عامًا تتغير بعدها الأوضاع السياسية ويخرج السجناء الثلاثة ليصبحوا أعضاء منتخبين في الحكومة الجديدة، فيصبح خوسيه رئيسًا للبلاد وموريسيو وزيرًا للثقافة وإليوتيريو وزيرًا للدفاع، لتعوض هذه النهاية المفعمة بالأمل والحرية ما مضى من قسوة ويأس شديدين.

مامانجMamang..ذهان أمومة متألمة

فيلم نفسي فانتازي به الكثير من العمق، يمكن أن لا يحسن البعض استقباله، لما قد يبدو في قشرته الأولى من حالة مختزلة تبدو سطحية مع بعض الغموض في تتابع سرده، فهو ذو سيناريو غير تقليديّ، حيث يعمل في عالم الذكرى بشكل غير خطيّ، قد تبدو من الشخصيات في بعض أجزائه ما يبين عمقها الهش بشكل يجعلها تبدو مصطنعة غير مصدقة ما لم نفهم بعد ما وراءها، فالسيناريو مبني على عوالم هاجسية، بذي تفاصيل تسلم بعضها ليتسع فهمه، يبدو في بدايته مستغربًا لكنه متسقٌ تمامًا مع عالم نفسي ذهانيّ لبطلته، يتضح بمهل حتى ينكشف تمامًا بمفاجأة في النهاية، "مامانج" هي بطلة هذا الفيلم الفليبيني، للمخرجة والمؤلفة دينيزأوهارا، هي أم تعيش مع ابنها الوحيد فيردي، في حالة من التعلق ببعضهما، لتبدو كما لو كانت طفلته المدللة لا أمه، يقضيان أوقاتًا سعيدة تبدو فيها معه مقبلةً على الحياة جميلة مشرقة رغم عمرها، يسافر ابنها للعمل في إحدى المدن إثر ظروف طارئة، ليبدأ تدهورها حتى يعود فجأة، نفهم أنها عودة ابتكرها عقلها ليصمد، معه تعود إشراقتها من جديد مع ظهور وميضيّ لشخصيات غريبة بلمحة ميتافيزيقية، ما يسبب إرباكًا مقصودًا للمشاهد الذي لا يقدم له الفيلم تفسيرًا مباشرًا، بل تراكميًا ليكون ذلك الإلغاز مشوقًا بذاته، فسيناريو الفيلم سار بنا كمسارات عقل مامانجالذهانيّ إثر صدمة كالزلزال، تتوالى فيها ترديداته وتوابعه، بحيث يتداخل زمنان؛ ماضٍ متذكر وحاضر لكنه نفسيّ ذهانيّ، كنوع من المقاومة الانفصالية التي تستدعي مكبوتاتها عبر السنين، من خلال زائرين وهميين تراهم في منزلها كانوا أشخاصًا في حياتها، مثل كل منهم ألمًا ما، تساعد في قراءة ذلك إضاءة ذكية تناسب ألوانهاموقع كل منهم في نفسها، وتؤكد أنهم ليسوا أحياء، لتكتمل جوانب القصة ببلوغ النهاية ومواجهتها لموت ابنها الذي يظهر لها يراقصها ويحتضنها حين تواجه هذه اللحظة القاسية.

وقفةPause.. ثورة شاحبة كاليأس

من أكثر أفلام هذه الدورة التي تحمست لها وأحبها الزملاء، فيلم تشيكي يوناني أول أفلام مخرجته تونيا ميشيالي،"إلبيدا"امرأة في منتصف العمر، تكسو ملامحها الشحوب والإحباط وخوف حذر كمن اعتاد العقاب، نقترب من عالم إلبيدا بمواقف وأفعال تبدو ظاهريًا عادية تخلو من حدث كبير، لكن الحدث فيما يفور داخلها من ضجر وتآكل في حياة ندرك بتتبعها مدى امتصاصها لروحها، قد تبدو قصةً مكررةً لكن تناولها جاء بزاوية مختلفة، تغوص في أعماق نفسية المرأة التي تحمل القصة الحقيقية، تعيش إلبيداواسمها يعني باليونانية "أمل" مع زوجها "كوستاس"ويعني باليونانية المستقر أو الثابت، في تناقض يعكس أزمة علاقتيهما، يعيشان بمفردهما بعد زواج ابنتهما، زوجة حالمة وزوج ذكوري فظ، لا نراهما يجتمعان معًا إلا للطعام بأماكن ثابتة متباعدة مع فواصل وجدران غالبًا تفصل بينهما، بقطع حادّ وثبات لكادرات خاوية، فالصورة بذاتها تقدم الكثير عن عالمهما الجاف الخاوي، بصمت يؤكده الفيلم الخالي من الموسيقى التصويرية، تعوض جوع حياتها بالخيالات وأحلام اليقظة التي تتداخل مع واقعها،في ثورتها تفتح باب القفص للببغاء الأزرق الأثير لزوجها، ذاك الأسير المدجّن المعادل لها بصريًا؛ تحثه صارخة أن يخرج ويتحرر فلا يخرج، لنراها تكرر ما فعله تمامًا حين هربت أخيرًا، فتعود بإرادتها مهزومة، نجدها عادةً في لقطات مؤطّرة داخل أطر كالقضبان من واقع مكونات حياتها، أو نراها في لقطات من الخلف تسير في تشكيل دهليزيّ متداخل تكون في آخر منظوره، أما ألوان ملابسها فدائمًا رماديات باهتة تتماهى مع ألوان جدران منزلها التي تشبه بدورها ألوان جدران المستشفى الباردة،فكل شيء في هذا الفيلم هادئ السرد يخبر قصتها وقصة المكان بهدوء وشجن مرهف.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات