سعد الدين وهبة : ثلاثة عشر عامًا جدلية

وفاء السعيد 18 مايو 2022 مهرجان القاهرة السينمائي.. نظرة عن قرب

الكاتب : وفاء السعيد
من إدارة المهرجان بين المدح والنقد يعرف المصريون اسم سعد الدين وهبة على أنه الكاتب المسرحي الكبير، أحد رواد المسرح المصري الحديث في ستينيات القرن المنصرم، وقّع باسمه على أهم الأعمال المسرحية التي تنتمي للواقعية النقدية سواء لمجتمع الريف أو للطبقة المتوسطة الجديدة في المدينة، فاشتهر بأعمال مثل "السبنسة" و"كفر البطيخ" وعمله الأشهر "سكة السلامة" وغيرها ما يقرب من عشرين نصًا مسرحيًا. كما أنه عُرِف ككاتب للسيناريو وشارك في أعمال سينمائية خالدة كـ"الحرام" و"أرض النفاق" و"مراتي مدير عام" و"الزوجة الثانية" وغيرها ..


فالكاتب المسرحي الكبير الذي بدأ حياته الوظيفية كضابط شرطة، ثم درس الفلسفة، فاستقال من وزارة الداخلية ليتجه إلى الكتابة الصحفية، ثم الكتابة الأدبية، إلى أن عرف طريقه إلى سلك الوظائف الحكومية كموظف في وزارة الثقافة، وعمل تحت إدارة الأديب الكبير نجيب محفوظ في مؤسسة السينما، وتدرج في السلك الإداري حتى بلغ منصب وكيل وزارة الثقافة وينسب إليه تطوير قطاع الثقافة الجماهيرية في مصر، وأنه أحد أهم أعمدة ربط الريف والمناطق النائية بالحضر ثقافيًا، وأهّل كوادر إدارية لتنشيط الثقافة الجماهيرية وبلوغها إلى تلك المناطق المحرومة مما يتمتع به المركز في العاصمة. كما بزغ اسمه في المراحل التالية كأحد أهم الأسماء المناضلة ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد استغل زاويته الصحفية المتاحة له في جريدة الأهرام ليهاجم بشدة أي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل.
بيد أن لوهبة الذي امتاز بتعدد الأوجه كأديب وسيناريست وصحفي وإداري ورجل دولة؛ إذ كان نائبًا في مجلس الشعب، وجهًا آخرً هامًا كأحد أهم الأسماء التي أثارت جدلًا في تاريخ أهم مهرجان سينمائي عربي وإقليمي هو مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، والذي يعود وصف "الدوليّ" هذا لجهود وهبة نفسه. فكان من أكثر الأسماء التي تثير الحيرة واللبس في أذهان كل من يتعرض بالفحص والتحليل لتاريخ هذا المهرجان.
سعد الدين وهبة تولى رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي طيلة 13 عامًا (1985م -1997م) في فترة حرجة وشائكة، وهي أطول فترة في تاريخ الرؤساء الذين تناوبوا على هذا المنصب منذ تأسيسه عام 1976م. ويرى بعض النقاد والمعاصرون لتلك الفترة أن وهبة هو المؤسس الحقيقي لمهرجان القاهرة الذي أعاد ولادته من جديد وأكسبه صبغته الدولية وأعاد تأسيسه وبناءه وهيكلته ليكون كيانًا صلبًا قويًا بعدما كان جنينًا هشًّا تعرض لكثير من المخاطر والأزمات التي كادت أن تجهز عليه في سنواته الأولى قبل حتى أن يحبو، بينما في فترة وهبة شب المهرجان على عوده ليقف على قدمين ثابتتين وعرف الركض بعيدًا ليؤكد مكانته سريعًا بعدما أصابه الشلل التام بنزع شرعيته الدولية ثم تعرضه للتوقف تمامًا عام 1980.
لابد إذًا كي نروي حكاية وهبة والمهرجان أن نعود خطوة إلى الوراء قليلًا لنعرف ما الظروف التي أحاطت بتولي سعد الدين وهبة رئاسة المهرجان، التي لم يسعَ إليها مطلقًا، بل أتت له كمهمة من مهام وظائفه الإدارية، بينما كان القدر يدّخر لهذا المهرجان الحظ والنصيب الوافر لأن تتعهده أيادٍ ستنتشله من تخبطه وحيرته؛ لندرك الفارق الذي أحدثه وهبة والنقلة النوعية التي واكبت فترة رئاسته، فضلًا عن كم النقد والحروب والعواصف التي واجهها. فحتى الآن تقف حائرًا بين جدلية وازدواجية كبرى، بين مؤيدٍ له ومهاجم شرس لفترته ولشخصه.
**
ما قبل وهبة
لم تكن السياسة بمعزل عن خلفيات الكواليس الأولى لميلاد فكرة إنشاء المهرجان في رأس صاحبها الكاتب والأثري كمال الملاخ. بعد حروب خاضتها مصر مع الكيان الصهيوني، آخرها كان نصر أكتوبر العظيم، شعر الملاخ ومعه مجموعة من النقاد المصريين كانوا في العاصمة الألمانية يحضرون فاعليات واحد من أعرق المهرجانات السينمائية في أوروبا والعالم "مهرجان برلين" فإذا بخبر يهدد السلام والأمن النفسي لهؤلاء الغيورين على وطنهم مصر، فعندما تنامى إلى علمهم عزم إسرائيل على إقامة مهرجان القدس السينمائي، ولدت في نفس اللحظة فكرة أن تقوم مصر أعرق دولة في الشرق الأوسط وإفريقيا عرفت الفن السابع وصاحبة ثاني عرض لفيلم سينمائي بعد فرنسا ، فأخذوا على عاتقهم تلك المهمة الوطنية التي تنطوي على واجب قومي وعروبي في مواجهة عدو متربص يريد أن ينسب لنفسه أي إنجاز يدعم وجوده في المنطقة وحضوره ومن ثم قبوله في المجتمع الدولي.
فكانت الدورة الأولى للمهرجان عام 1976م والتي أشرفت على تأسيسها "الجمعية المصرية لكتّاب ونقاد السينما" التي تأسست بجهود الملاخ ورفاقه، وولد المهرجان مهددًا في مهده بعدد من الأزمات أولها التمويل الشحيح جدًا، والبنية التحتية المهترئة المتمثلة في عدم توافر دور جيدة للعرض ومجهزة بآلات وماكينات عرض حديثة أو حتى مقبولة تفي بشروط المعايير الدولية للمهرجانات الكبرى، خاصةً أن مصر كدولة خرجت لتوّها من حرب أتت على معظم مواردها فضلًا أن الاقتصاد المصري كان منهكًا طيلة سنوات الحرب والسنوات السابقة عليها التي شهدت حرب الاستنزاف والنكسة. فالظروف الاقتصادية والسياسية المحيطة بالمهرجان كانت عنيفة وقوية. وبالرغم من ذلك نجح المهرجان في إقامة الدورات الثلاث الأُوَل حتى نزعت عنه صفته الدولية عام 1979م والتي فقدها بسبب الارتباك التنظيمي وعدد من المخالفات الإدارية كما حدثت فضيحة سينمائية كبرى تخالف كل اللوائح والأعراف الدولية لعروض المهرجانات تمثلت في تعرض مقص الرقيب ببتر أجزاء من شرائط بعض الأفلام الأجنبية المشاركة، وخالفت شرطًا أساسيًّا وهو العرض في القاهرة لتقيم بعض العروض في مدينة الإسكندرية. فأثار ذلك الغضب الشديد بين وفود الدول أصحاب الأفلام المشاركة التي تعرضت للتشويه والمخالفات وتركوا المهرجان وعادوا إلى بلدانهم قبل انتهائه متوعدين بتقديم شكوى. والعام التالي لذلك عام 1980م توقف المهرجان، فما كان من كمال الملاخ إلا أن يصرخ في طلب النجدات لإنقاذ المهرجان الوليد، فتوجه بالخطابات لنقابة السينمائيين وغرفة صناعة السينما ووزارة الثقافة ممثلة في وزيرها منصور حسن وقتذاك ليساعدوه في استعادة المهرجان مرة أخرى. لكن في عام 1981م تولى محمد عبد الحميد رضوان وزارة الثقافة والذي لم يكن على وفاق مع كمال الملاخ ونشب بينهما خلافٌ كبيرٌ كان على أشده حتى وصلت إلى المحاكم عام 1984. كان أحد تبعات هذا الخلاف إصدار الوزير قرارًا بنقل الإشراف على إدارة المهرجان إلى وزارة الثقافة بدلًا من الجمعية التي يرأسها الملاخ والتي كانت صاحبة فكرة المهرجان ومؤسسته والمشرفة على إقامته. وذلك لأن المهرجان يحمل اسم مصر فضلًا عن أن إدارة الجمعية لم تنجح في قيادة سفينة الإدارة في بحر هاديء. في ذلك الوقت كان سعد الدين وهبة رئيسًا لاتحاد النقابات الفنية وعضوًا في لجنة الثقافة بمجلس الشعب، تحدث مع الوزير ليقام المهرجان في موعده على أن يشرف الاتحاد عليه برئاسة المخرج كمال الشيخ لهذه الدورة. وبالفعل تمت إقامة الدورة عام 1984م بعد تنحي كمال الملاخ وجمعيته عن المشهد، وكان ذلك أول محطة لظهور سعد الدين وهبة في تاريخ مهرجان القاهرة ليسطر بعد ذلك تاريخًا طويلًا سنتعرف على تفاصيله.
**
فترة رئاسة سعد الدين وهبة
عام 1985م أصدر وزير الثقافة عبد الحميد رضوان قرارًا بتعيين وهبة رئيسًا للجنة العليا للمهرجانات، وهذه اللجنة هي المنوطة باختيار الأفلام المصرية المشاركة في المهرجانات العالمية، غير أنه أسند إليها أيضًا مهمة إقامة مهرجان القاهرة، ومن ثم أصبح وهبة هو رئيس المهرجان عام 1985م وتولى المسئولية بشكل مباشر. وقد واجهته أولى الأزمات، تغيّر الوزير وجاء أحمد هيكل ليصدر قرارًا بمنع إقامة المهرجان، فيذهب وهبة بنفسه إلى الحزب الوطني ويجري اتصالات موسعة ليستصدر قرارًا من رئيس الجمهورية وقتها محمد حسني مبارك بالسماح له بإقامة المهرجان، ومن هنا جاءت الفكرة بأن سعد الدين وهبة هو المؤسس الحقيقي للمهرجان الذي دعم ولادته الجديدة وأنقذه من التوقف مرتين، وكفل له انطلاقة جديدة واستمرارًا حقيقيًا.
أبرز الأحداث والإنجازات في فترة رئاسته
كانت الدورة التاسعة هي الدورة الأولى تحت رئاسة وهبة إلا أنها اعتبرت الانطلاقة الحقيقية للمهرجان منذ تأسيسه فقد وضع وهبة نصب عينيه قضيتين جوهريتين شكلتا أهم العقبات في طريق المهرجان وهما الصفة الدولية باتباع الإدارة الحاسمة وإعادة الهيكلة المؤسساتية لإدارة المهرجان، وكذلك مشكلة الاستقلالية فلابد من أن يجد المهرجان طرقًا لتمويل نفسه ذاتيًا فلا يخضع لسيطرة أي جهة، وبذلك تلخصت أهداف وهبة في كلمتين أن يصبح المهرجان "مؤسسة مستقلة". اعتمد وهبة في البداية على موارد مالية شحيحة وواجهته أزمة التمويل، فاعتمد على النقابات الفنية ووزارة الثقافة في البداية.
مع الدورة العاشرة للمهرجان بدأ الفارق الذي أحدثه وهبة في رئاسته يظهر؛ إذ حدث أهم إنجاز في تاريخ المهرجان وهو اعتراف الاتحاد الدولي للمنتجين في باريس بالصفة الدولية للمهرجان، ولكن بدون مسابقة رسمية، بعد انتزاعها سابقًا، وهذا يدل على مدى الجهد المبذول في إعادة تأسيس إدارة المهرجان وأخذ خطوة نحو استقلاله بإقامته تحت إشراف اتحاد النقابات الفنية وترك وزارة الثقافة له، وأصبح كيانًا محددًا لكل من فيه وظيفة مسبقة في هيكل إداري وفني ثابت خاضعة لرئاسة وهبة، ولعل هذا من أوائل الانتقادات التي رغم أنها حملت في طيها خيرًا للمهرجان جاءت على صاحبها بالسلب؛ لأنه وصف بالديكتاتورية ومركزية القرارات وهيمنته على الإدارة بالكامل، وربما ذلك أثار حفيظة البعض وقتها.
أما الدورة الحادية عشرة 1987 فقد نال المهرجان استقلاله التام من خضوعه لهيئات أو مؤسسات تشرف على إقامته أو المساهمة في تمويله، فوقف وهبة ليلة الافتتاح معلنًا "باسم إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الحادي عشر أرحب بضيوف المهرجان من مصر والوطن العربي والعالم." وإن نصت اللائحة على استمرار تولي اللجنة العليا للمهرجانات مهمة اختيار الأفلام المشاركة. وقد شهدت هذه الدورة ملمحًا جديدًا ضمّ سينما الأطفال، والتي سيتشكل لها فيما بعد مهرجانٌ مستقلٌ انبثق عن "القاهرة". تزامن في نفس العام من انعقاد المهرجان للاحتفال بمرور ستين عامًا على قيام السينما في مصر، فاحتفى المهرجان بهذه المناسبة. لكن في المقابل واجه وهبة أزمة كبرى تمثلت في مقاطعة الفنانين المصريين لحضور هذه الدورة اعتراضًا على شخصه كرئيس للمهرجان، لأنه في نظرهم كان أحد المشاركين في تمرير قانون 103 لسنة 87 الذي يحدّ من اختصاص النقابات الفنية، واعتصم الفنانون اعتصامهم الشهير في نقابة السينمائيين احتجاجًا على هذا القانون، وعلى عدم ديموقراطيته لأنه اتخذ بطريقة تعسفية دون مناقشة وموافقة الفنانين المتعلق بهم القانون، وظهرت حادثة الاعتصام تلك في فيلم يوسف شاهين الشهير "اسكندرية كمان وكمان" الذي أعاد تجسيد الاعتصام الذي كان أحد المشاركين فيه وإضراب الفنانة تحية كاريوكا عن الطعام في تحية منه لنضال الفنانين، ومن ثم قاطع الفنانون المهرجان بسبب اعتراضهم على وهبة وعلى دوره في تمرير القانون.
مع الدورة الثانية عشر 1988 ازداد تمرس الجهاز الإداري الخاص بالمهرجان وأصبح له كوادره الإدارية والفنية القادرة على التعامل مع الجهات الخارجية. في هذه الدورة قدَّم وهبة إنجازًا جديدًا سيشكل نقلة حقيقية ونوعية للمهرجان، خطوة هامة في وضعه داخل الصورة الحقيقية والوظيفة الأساسية لما تفعله المهرجانات الدولية من تواصل وتبادل ثقافي وفني وحضاري، فضلًا عن إتاحة الفرصة للتبادل التجاري، لأن السينما لها طبيعة خاصة عن غيرها من الفنون الستة، وهي أنها صناعة بجانب كونها فنًا، وتخضع لقوانين السوق التجاري، من العرض والطلب. فأنشأ وهبة لأول مرة سوقًا للأفلام السينمائية والتليفزيونية والمصنفات الفنية المتنوعة لمدة سبعة أيام. فالمهرجانات فرصة أمام المنتجين وصناع السينما والموزعين للتعرف على أهم الأفلام في دول العالم المختلفة لينتقوا من بينها ما يهتم به المتفرجون في بلدانهم ليعرضوه عليهم. ومن ثم يهدف السوق إلى إتاحة الفرصة لعمليات بيع وشراء وتبادل الأعمال الفنية، وقد اشترك في أول سوق ينشأ في مهرجان القاهرة 24 دولة منها 13عربية و11 أجنبية، وكان عدد الشركات المساهمة 32 شركة، وسوف يتنامى هذا العدد عامًا بعد عام، ويعد هذا السوق من أهم الإنجازات التي أحدثها وهبة في رئاسته. وقد حرص المهرجان في هذه الدورة على إلقاء الضوء على نوع من السينما غير معروف للمتفرج المصري لإثراء ثقافته السينمائية وتعرفه على سينما دول العالم الثالث وأوروبا الشرقية وأوروبا بوجه عام كبديل لهيمنة السينما الأمريكية الهوليودية. كما حظيت زيارة النجم الهندي المحبوب أميتا باتشان باحتفاء كبير من المتفرجين المصريين الذين امتلأت بالكثير منهم الندوة التي أدارها معه الفنان المصري سمير صبري.
أما الدورة الثالثة عشرة فقد اهتمت بتكريم الأديب العالمي نجيب محفوظ الذي حصل على جائزة نوبل في الآداب العام السابق عليها بعرض فيلمٍ تسجيليٍّ في الافتتاح، وتسليمه درع المهرجان. كما نجح المهرجان في اجتذاب عدد أكبر من الدول نظرًا للتنظيم الجيد. ومن الأحداث الهامة في هذه الدورة عرض فيلم "الناس والنيل" في نسخته الكاملة لأول مرة بعد منعه من العرض منذ عشرين عامًا. وأصبحت الندوات ملمحًا هامًا في المهرجان كانت تهتم بمناقشة الأفلام أو القضايا المرتبطة بالسينما بوجه عام، أو ببلد معينة، فقد شهدت هذه الدورة مناقشة أثر التغيرات في الاتحاد السوفيتي متمثلة في سياسة البيروستريكا على السينما الروسية، وذلك قبيل تفكيك جورباتشوف للاتحاد فعليًا. كما شهدت الدورة حضورًا متزايدًا ومميزًا للسينما العربية. كما شهدت هذه المرة ولأول مرة إلغاء فاعليات "بانوراما السينما المصرية" وذلك لضعف مستوى إنتاج السينما المصرية، منها أفلام المقاولات والأفلام الهابطة التي لا ترقي لتمثيل مصر أمام ضيوف المهرجان. كما شهدت هذه الدورة انخفاض مشاركة الأفلام المصرية في البرنامج الرسمي لفيلمين فقط. وفاجأ وهبة الصحفيين بإنجاز جديد؛ إذ أعلن عن موافقة الاتحاد الدولي للمنتجين على أن يمنح المهرجان "جوائز" من خلال مسابقة دولية، لها شروط ولجنة تحكيم دولية. وهو بالطبع إنجاز عظيم.
في الدورة الرابعة عشرة 1990 تزامنت مع حرب الخليج بين دولتي العراق والكويت، فبالطبع تأثرت هذه الدورة من المهرجان بالأحداث السياسية الجارية في الوطن العربي. لكن اعتبر وهبة أن إقامة الدورة هو بمثابة صرخة في وجه الحرب، وأقيمت الدورة رغم كل ما يجري. وشارك وفد كويتي بثلاثة أفلام. في هذه الدورة أيضًا تم تكريم الفنان المصري العالمي عمر الشريف. واستحدث في هذه الدورة برنامج أو قسم "مهرجان المهرجانات" يعرض فيه أهم الأفلام الفائزة في مهرجانات سابقة وشكَّل هذا ملمحًا جديدا.
أما الدورة الخامسة عشرة فقد كانت دورة هامة في حياة المهرجان، فقد شهدت الانطلاقة العالمية الرسمية للمهرجان؛ إذ اعتمد اتحاد المنتجين الدولي للمهرجان، كمهرجان له الحق في إقامة مسابقة رسمية. فأصبح مهرجان القاهرة واحدًا من ثمانية مهرجانات على مستوى العالم يعترف بها الاتحاد الدولي للمنتجين. وهو ما يعني بلوغ مهرجان القاهرة مرحلة النضج إداريًا وفنيًا. بالطبع كان ذلك يستدعي إعادة بناء وتحديث البنية التحتية المتمثلة في دور العرض وآلاتها. كان المركز الدولي للمؤتمرات في مدينة نصر قد شُيِّد فأقيم به حفل الافتتاح والختام والندوات بدلًا من دار العرض المتواضعة التي كان يقام بها الافتتاح. وفي حديث تليفزيوني مع رئيس المهرجان سعد الدين وهبة لبرنامج تاكسي السهرة مع المذيعة نهلة عبد العزيز بمناسبة الدورة 15 للمهرجان تحدث عن صعوبة عقد المهرجان في ديسمبر في نهاية العام وبالتالي سيكون كل الإنتاج الحديث والجيد سبق له العرض في المهرجانات الدولية الأخرى، فسيكون حيز اختيار الأفلام المشاركة في المسابقة التي ستمنح جوائز لأول مرة ضيقًا جدًا. تحدث أيضًا في نفس اللقاء عن العقبات التي كانت تواجه المهرجان في السابق ولابد من تخطيها أو إصلاحها للحفاظ على صفة الدولية التي منحت للمهرجان. أولى هذه العقبات مستوى دور العرض في مصر، قال إن مستواها سيء جدًا وآلات العرض قديمة مما يؤثر على خبرة المشاهدة للمتفرج، فضلًا عن تكلفة المهرجان دفع غرامة قدرها ستون ألف دولار تدفعها شركة التأمين نظرًا للتلف الذي يتعرض له شريط الفيلم، وذلك كان أحد أهم أسباب تأخر الموافقة لأن يمنح المهرجان جوائز بسبب شكوى بعض الدول لسوء حالة الأفلام بعد عودتها؛ وذلك بسبب سوء حالة ماكينات العرض التي تؤدي إلى تلف النسخ. إعادة تحديث الصالات وآلات العرض يعد من أهم الإنجازات التي حققها وهبة في فترته، وتذكر له حتى اليوم. تحدث أيضًا في نفس اللقاء عن عائق اللغة أمام المشاهد المصري وصعوبة ترجمة الفيلم إلى اللغة العربية على نفس الشريط، ففي هذه الدورة وفرت قاعة المؤتمرات ترجمة فورية لكل أفلام البرنامج الرسمي، وكان ذلك سابقة لم يعهدها المهرجان في ذلك الوقت. وبالنسبة للجنة التحكيم شاركت من مصر الفنانة المصرية الكبيرة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وكانت فرصة لتكريمها أيضًا.
الدورة السادسة عشرة كان العام الذي حدث فيه الكارثة الطبيعية المروعة زلزال 92، كان تحديًا كبيرًا أن يقام المهرجان في هذه الدورة ولكن إقامته كانت تعبيرًا عن الأمن الداخلي لمصر في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد من ضرب الزلزال لمدينة القاهرة وبعض المدن الأخرى، فإقامة المهرجان كان تأكيدًا للعالم الخارجي عن استقرار الوضع في مصر. وهناك زوبعة أخرى سياسية أثيرت عندما أعلن المهرجان عن برنامج لبانوراما السينما الإيرانية، وألغيت لأسباب سياسية نظرًا لتوتر العلاقات بين مصر وإيران.
الدورات التالية حتى الدورة العشرين شهدت حقبة التسعينيات التي تنامى فيها نشاط الجماعات الإرهابية واستهدافهم للسائحين والأجانب. فبدأت تعقد ندوات وحلقات بحث على هامش المهرجان عن علاقة السينما بالعنف والإرهاب ودورها الاجتماعي والثقافي كسلاح في مواجهة الأفكار المتطرفة. وفي الدورة الثامنة عشرة استحدثت مسابقة خاصة تمنح لها جائزة لأفضل فيلم يدعو للقيم الإنسانية باسم الأديب العالمي نجيب محفوظ بعد حادث الاعتداء الإرهابي عليه وطعنه بسكين عام 1994م ورأس لجنة تحكيم هذه المسابقة المخرج يوسف شاهين
أما أهم ملامح الدورة العشرين والأخيرة تحت رئاسة سعد الدين وهبة عام 1996 واكب الاحتفال بمائة عام من السينما المصرية، واستكتب النقاد لإعداد موسوعة ضخمة سينمائية بعنوان "مصر مائة سنة سينما" وتقديم دليل ضخم يضم توثيقًا للأفلام المصرية يفيد الباحثين والدارسين في مجال الأرشفة للسينما المصرية.
وكان ذلك خير ختام لمسيرة حافلة من الإنجازات العظيمة التي حدثت ولا يمكن إنكارها في فترة تولي سعد الدين وهبة رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي، بالرغم من كل ما أثير ضده من انتقادات بوصفه مسئولًا في الدولة تورط في تمرير قانون ضد رغبة الفنانين أو حكم إدارة المهرجان بقبضة حديدية بروح الشرطي التي كانت بداخله وورثها من بداية حياته الوظيفية، فكان له ما له وعليه ما عليه، غير أن تاريخه يذكر له أن مهرجان القاهرة تطور كثيرًا وأصبح مهرجانًا دوليًا وله مكانة عالمية بفضل الإدارة الجيدة وتخطي العقبات التي صاحبت بداية تأسيسه وإعادة تحديث البنية التحتية لدور العرض وآلاتها وكذلك تطور المطبوعات والكتب ونشرات المهرجان وإجراء اتصالات جيدة بالعالم الخارجي وجلب أفلام من ثقافات متعددة تكسر هيمنة السينما الأمريكية، ومرّ بسفينة هذا المهرجان في بحر متلاطمة أمواجه، فعبر به إلى بر الأمان واستقر حتى يصل اليوم لدورته الرابعة والأربعين، فمما لا شك فيه أن وهبة قد وضع أساسًا قويًا يكمل عليه من سيأتي بعده ويضع لمساته وملامحه الخاصة لكن على أسس قوية كان لوهبة الفضل الكبير في وضعها.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات