الكاتب : إيمان علي
:
تصريح سينمائي من مكتب الآداب!
هذا العام، يعرض مهرجان القاهرة السينمائي الدولي فعاليات نسخته الـ42، وقد منعتْ الرقابة ــ كما علمنا من إدارة المهرجان ــ فيلمين فقط ضمن عروضه، والفيلمان يحويان مشاهد جنسية جريئة وصادمة بحسب ما فهمنا. ما هو تاريخ مهرجان القاهرة السينمائي مع الرقابة والأحداث السياسية التي واكبت انطلاقاته الأولى؟ وما هي آلية عمل جهاز الرقابة على المصنّفات الفنيّة عموما، وهل تختلف وقت إقامة المهرجان؟
هنا أجزاء من حكايات منثورة، حاولنا الربط بينها وتكوين قطع البازل منها في صورة واحدة كبيرة مفهومة وواضحة. نستعيد تاريخ مهرجاننا الدوليّ للسينما، وصراعات رجالاته من الرؤساء والإداريين والفنيّين والفنانين وحتى الإعلاميين والنقّاد قطعا، مع أطراف ظاهرة وكثيرا خفيّة في معارك التنوير والإرهاب الفكري والفني.
بعض جوانب الحكايات هزلية ومن المضحكات المبكيات.. في زاوية كُتبت بأسلوب ساخر ولا تحمل إمضاءً، نقرأ في أرشيف الصحافة المصرية هذا العنوان "الأوراق الخفية للرقابة على المصنّفات الفنيّة"، لنجد السطور المكتوبة هجوما لاذعا على نعيمة حمدي مدير الرقابة في السبعينيات والثمانينيات.
كتب المُحرّر: "زعلانة الستّ هانم أن إبليس اللعين بيردّ على ربنا في فيلم Bore of Fire الإنجليزي، وأن بلال ظهر في السينما في فيلم فيه امرأة عارية لا تتستّر بورقة توت. أنا مش عارف لماذا يتركوها في هذا المنصب الحسّاس؟".
تنحصر مسئولية الرقابة في تصنيف الأفلام بما يتفق مع قانون رقابة المصنّفات والقواعد المتّبعة في المهرجانات العالمية، "دون المساس بالنظام العام والأخلاقيات والدين والآداب العامة"، وهذه الجملة الأخيرة هي اللافتة العريضة التي لجأ عبرها القريب طويلا إلى تشويه بعض الأفلام وحذف مشاهد منها، أو رفضها ومنعها كليّةً.
الفيلم في مكتب الآداب!
في شهادة (لم تخل من كلام مرسل وبلاغي) عن الرقابة؛ كتب سعد الدين وهبة مقالة بعنوان "بين القانون والمتطرّفين.. الفنّ في المحكمة" ــ نُشرت في مجلة روز اليوسف في يناير 1996. كتب وهبة: "أتيح لي شخصيا أن أُشرف على جهاز الرقابة على المصنّفات الفنيّة عندما كنتُ وكيلا أوّل لوزارة الثقافة، وتابعتُ رُقباء ورقيبات وشاهدتُ منهم العجب. رأيتُ رقيبة تَشعر بلذّة غريبة إذا صادرت فيلما أو مسرحيّة، وتشعرُ بغضب شديد إذا استجابتْ لجنة التظلّمات لشكاوى المنتج أو الفنان فسمحت بعرض العمل الفني المرفوض.
وعرفتُ رقيبة تَظهر بين الناس مصطنِعة الثقافة بينما هي أستاذة في الانتهازية، واستعْدتْ على وزير الثقافة واسع الأفق أجهزة أخرى في الدولة مُدّعية أن الوزير "هيودّي البلد في داهية" لأنه مُتساهل.
ورأيتُ رقيبة تمدّ أعضاء مجلس الشعب بتقارير كتبها الرقباء ورفعوها إليها لتتّخذ قرارها على الرغم من سريّة هذه التقارير، من أجل أن يستخدم عضو مجلس الشعب هذا تلك التقارير ضدّ الوزير كسلاح في استجواب يُقدّمه ضدّه.
وعرفتُ رقيبة كانت تعمل مرشدة في مكتب الآداب!".
لا تنتهي مقالة وهبة إلى هنا، فعن قضايا فصلتْ فيها المحكمة في أفلام كانت محلّ التقاضي، كتب: "القضاء وجهٌ آخر من وجوه الرقابة، أو مُكمّلٌ لها".
القانون القديم للرقابة والجديد معا يضعان الخطوة التالية بعد إدارة الرقابة إلى لجنة التظلّمات ثم إلى القضاء في جميع الأحوال.
والتقاضي حق دستوري حتى لو أُسيء استخدامه. والفن دخل وتسكّع في ميادين كثيرة، ودخل أيضا إلى ساحة القضاء شاكيا أو مشكوّا في حقّه، مُتّهما أو صاحب حق".
قضية "درب الهوى" و"خمسة باب"
يُكمل سعد الدين وهبة شهادته قائلا: "فوجئنا يوم 24 أغسطس سنة 1983 بقرار من وزير الثقافة يإيقاف عرض الفيلمين الذين سبق أن وافقت الرقابة على عرضهما ويُعرضان بالفعل في دارين للعرض السينمائي. وقيل في أسباب المنع، أن الفيلمين بهما إساءة إلى مصر. وأن فيلم "درب الهوى" لحسام الدين مصطفى يتعرّض لتاريخ حياة أحد الباشاوات السابقين، ويُقصد به النحّاس باشا.
كنتُ في ذلك الوقت نقيبا للسينمائيين ورئيسا لاتحاد النقابات الفنية، وكان لابد أن أجد نفسي في قلب المعركة. نصحتُ حسام الدين مصطفى ونادية الجندي بسرعة اللجوء إلى لجنة التظلّمات التي نصّ عليها القانون رقم 430 لسنة 1955، وكنتُ واحدا من أعضاء اللجنة، وانتهينا إلى إجازة الفيلمين مع بعض الحذف، إلا أن وزير الثقافة ركب رأسه وأصرّ على الاستمرار في المنع. فلجأ المنتجان إلى القضاء الإداري، فقُبلت الدعوى في الإدارية العليا، وأُلغي قرار المنع.
صدر الحكم سنة 1991، وأُسدل الستار على القضية التي كان سببها المرض المُصاب به 90% من المسئولين واسمه القانوني "التعسّف في استعمال السلطة".
وحكايات أخرى عن أفلام ذهبت إلى المحكمة، منها "الأفوكاتو" و"المُهاجر"، والفيلم الأخير يعتبر المرة الأولى التي تظهر فيها دعاوى الحسبة، التي تعطي الحق لأي مواطن عابر أن يلجأ إلى القضاء في أي من الأمور وإن لم يمسسه الضرر مباشرة.
وفي عودة إلى ترخيص الأفلام من شرطة الآداب، يذكر وهبة في مقالهِ المطوّل واقعة مشهد في فيلم "للحب قصة أخيرة". كتب سعد الدين وهبة: "المسألة ببساطة أن مشهدا في فيلم "للحب قصة أخيرة" بين مُمثل ومُمثلة ليست زوجته وأمام المُصوّر والمُخرج ومُساعديه قبّل فيه الممثل الممثلة واعتبر الضابط ذلك فعلا فاضحا ورفع الأمر إلى رئيس نيابة الآداب.
قُيّد مشهد عاطفي في فيلم يصوّر في الخلاء، على أنه جنحة فعل علني فاضح!
مثل هذه القضايا لن تتوقف، نحن أمام تيّار يحمل مياها عفنة ملوّنة تريد أن تفسد تربة خصبة معطاءة هي الفن المصري". ينتهي كلام وهبة.
قبل هذه الوقائع بسنوات، وخلال النسخة الـ11 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ديسمبر 1987، وكانت لا تزال رئاسة سعد الدين وهبة له في بداياتها، شهدت الدورة هجوم النقّاد المصريين على فيلم فرنسي عن الحرب الأهلية اللبنانية، كان أن عُرض في الأيام الأولى من المهرجان، بحجة أنه معادٍ للإسلام. "حتى إن الرقابة قالت بالنصّ إن الفيلم يتعارض مع مصالح الدولة العليا".
الفيلم بعنوان "الرجل الملثّم" أو "الرجل المحجّب" للمخرج اللبناني مارون بغدادي، وقد حُظر تقريبا عرضه خلال المهرجان، بعد أن قالت الرقابة وصحفيّون أنه متحيّز للمسيحيين ضد المسلمين. وكان القرار أن يُعرض في حفلات ضيّقة وخاصة في فنادق!
يحكي الفيلم عن لبناني ( أدّى دوره الممثل الفرنسي ميشيل بيكولي) يستخدم طبيبا فرنسيا للانتقام لمصرع عائلته في مذبحة ارتكبها مسلمون. ودافع مُخرِجهُ الشاب وقتها - 37 عاما - عن الفيلم وقال إنه ليس سياسيا، وإن النقّاد رأوا أشياء في فيلمه لا وجود لها.
أما بيكولي نفسه، فذكر في حوار على خلفية الهجو على فيلمه: "الشخصية التي أمثّلها في الفيلم، مُقاتل حطّمته الحرب ولكنه محكوم عليه بالاستمرار فيها على الرغم من أنه لاجئ، ولم أفكّر إطلاقا في مذهب هذه الشخصية الديني أو العرقي". وأضاف: "الفيلم يحمل وجهة نظر في الحرب اللبنانية وهذا حقه، لا يستحق الفيلم هذا الهجوم، لقد افترى النقّاد على فيلم يحكي وجهة نظر حرّة عن حرب طال أمرها في لبنان".
الدورة نفسها، الحادية عشرة، شهدت منع عرض فيلمين آخرين هما "مارد النار" و"الأراضي المنخفضة"، بحجة أنها "تتنافى مع النظام العام".
السينما تحت القبّة
قبل أربعة أشهر من ديسمبر عام 1996 اجتمع كمال الجنزوري بصفته رئيس الوزراء مع عدد من السينمائيين ورجال الأعمال والبنوك، إضافة إلى منيب شافعي رئيس غرفة صناعة السينما، لبحث "أزمة السينما" واستعداد الدولة لتقديم تسهيلات لـ"عودة الحياة إلى السينما المريضة". وانتهى هذا اللقاء وقتها إلى التوصية بمساهمة السينمائيين أنفسهم مع رجال الأعمال في إنشاء وتكوين شركات إنتاج وتوزيع سينمائي كبرى.
وبالفعل تداولت الصحف أخبار تأسيس شركات عديدة للإنتاج والتوزيع السينمائي لا يَقل رأس مالها عن 50 مليون جنيه للشركة الواحدة. وهو رقم لا يُستهان به بحسابات الأرقام في ذلك الوقت من منتصف تسعينيات القرن الماضي.
دخلت وزارة الثقافة السوق كمساهمة هي الأخرى، فشهدت هذه الجدالات إعلان الوزارة تكوين شركة مساهمة للسينما تمتلك الدولة 51% من أسهمها، عبر توفير الاستوديوهات والمعامل.
لكن كل هذه النوايا الإيجابية الحماسيّة العديدة أسفرت عن تأسيس شركة واحدة فقط، اتخذت اسم "شركة نهضة مصر للتوزيع ودور العرض" شارك فيها رجال الأعمال: فاروق عبد المنعم ونجيب ساويرس وخالد أبو إسماعيل مع بنك مصر.
هذه الشركة لم تدخل كطرف في الإنتاج، واقتصر نشاطها الرئيسي على التسويق وإدارة دور العرض، ولم تظهر وقتها أية مساهمات للسينمائيين أنفسهم والنجوم في الإنتاج.
علّق الفنان فريد شوقي في "صباح الخير" ضمن تحقيق نشرته المجلة بالتزامن مع الدورة العشرين لمهرجان القاهرة السينمائي تحت عنوان "الحل تحت القبّة"، عندما سألته مُحرّرة المجلة ماجدة رشدي: متى تنتهي أزمة السينما؟ بأن "السينمائيين ساعة الجدّ بيخلعوا".
في ذلك الوقت، كان يبلغ عدد دور العرض السينمائي 382 دار عرض على مستوى الجمهورية، لم يكن يعمل منها سوى 170، فيما ظلّت 212 دار عرض مُغلقة تماما! وكان من الرائج وقتها، أن يقبع فيلمٌ حبيسَ العُلب لمدة قد تتجاوز ثلاث سنوات، إلى أن يجد دور عرض كافية.
حدث ذلك مع المنتج واصف فايز مع فيلمه "ليلة ساخنة" الذي تكبّد من ورائه خسارة فادحة بعد تجميده ثلاث سنوات.
وهكذا إذن؛ فإنّ نُدرة شركات الإنتاج السينمائي الكبرى صاحبة رأس المال الكبير أدّت إلى ما سُمّي وقتها بـ"ضيق المنافذ الداخلية والخارجية أمام السينما".
مع حلول منتصف التسعينيات، بدأت المحطّات الفضائية في الانتشار، وكان السوق لا يزال مُشبّعا بأشرطة الفيديو المُهرّبة، من هنا ضاقت منافذ توزيع الفيلم المصري في السوق العربية، مع عدم وجود حماية للفيلم المصري في الخارج.
تراجع الطلب على أفلامنا. وأصبح الفيلم المصري لا يُغطي في الداخل تكاليف إنتاجه. ووفق دراسة أعدّها مركز المعلومات بمجلس الوزراء؛ نعرف أن وقتها لم تكن مصر تحصّل سوى مليونيّ جنيه فقط سنويا من حقوق أفلامها في الخارج.
في حين يضيع علينا نحو مليارين في أمريكا وكندا ومليارين أخرى في الدول العربية، وما يقرب من نفس المبلغ في إفريقيا وأوروبا.
كان من اقتراحات "يوسف عثمان" نقيب السينمائيين وقتها، أن يتدخّل مجلس الشعب بالموافقة على إصدار قوانين جديدة تُخفّف الأعباء عن منافذ توزيع الأفلام. من ذلك الإعفاء الضريبي لمدة خمس سنوات لدور العرض القديمة، وعشر سنوات للدور الجديدة. وإلغاء ضريبة الملاهي على تذكرة السينما، وكانت هذه الضريبة تستقطع وحدها 22% من دخل الشبّاك.
من بين الإجراءات والمطالب التي كانت السينما في حاجة إليها كذلك؛ إعفاء الأفلام الخام ومعدّات السينما من الجمارك، والأفلام من ضرائب التصدير، واستصدار "قانون الفيديو".
كان التليفزيون في ذلك الوقت، يشتري الفيلم المصري بسعر لا يتعدّى في أحسن الأحوال 12 ألف جنيه. في حين يبلغ أجر الدقيقة الواحدة للإعلان عن الفيلم أربعة آلاف جنيه!
تقدّمت وزارة الثقافة من جانبها بمشروع فتح منافذ توزيع جديدة أمام الأفلام عبر إنشاء 200 دار عرض جديدة، ولم يُنفّذ المشروع.
أفلام مع وقف التنفيذ
"من يُصدر الأوامر بالمنع في عالم الأدب والفن؟!" حقّق عاطف كامل في مجلة صباح الخير بعد واقعة وقف عرض فيلم المهاجر بأمر قضائي، ومنع مسلسل "أبو العلا 90" لأسامة أنور عكاشة من العرض التليفزيوني بحجة أنه تعرّض لسلبيات المجتمع المصري.
أشار المخرج رأفت الميهي في هذا التحقيق الصحفي إلى نقطة مهمة وخطيرة وهي سماح الدولة لقوى التيّار السلفي أن تتقلّد أماكن حسّاسة بأجهزتها، ومنها التليفزيون ودور النشر بل وأجهزة الرقابة نفسها.
كان علي أبو شادي وقتها على رأس الرقابة. وكان على عهدة الميهي، أن الرقابة على المصنفات الفنية تُعاني من تدخّل بعض المؤسسات الأخرى. فالرقابة لم تمنع الأفلام التي كانت ستشارك في مهرجان القاهرة الدولي في الدورة السابقة على دورة عام 1996، وأن الذي منع هو بوليس الآداب!
كان من رأي على أبو شادي على هذه "النكسة الفكرية" وهذا التردّي أن تضاربا وإرهابا فكريا اخترق العقول على مدار الربع قرن الأخيرة، حتى إن الفنانين أنفسهم يصرّون على عرض أفلامهم على الأزهر خوفا من تدخّله بعد عرضها.
نعرف من أبو شادي أن الأزهر جهة استشارية فقط وتدخّلاتها في حدود. ومن ذلك طلب أمن الدولة، مُشاهدة فيلم "عِشّ الغُراب" لوجود مشهد اغتيال السادات ضمن أحداثه.
اشتهر عمل أبو شادي وقتها بمنهجه في تنفيذ "روح القانون".. القانون لكن بشكل مختلف فيه تفهّم. وأنه يتعامل مع الرقابة من خلال الخبرة النقدية التي يمتلكها.
بينما أخذ نور الشريف على الدولة أنها تركت تقييم العمل الفني والأدبي لأكثر من جهة. وطالب بقوانين تنظّم الرقابة على الإبداع.
فيما كتب المُحرّر على لسان وحيد حامد: ما دخل الأزهر في تدخّله في بعض الأعمال الفنية؟ هذا استسهال من الرقابة. وأكمل حامد: الأزهر لا يُريد أن يكون مؤسّسة دينية فقط بل يُريد أن يكون مؤسّسة حاكمة. فضلا عن رقابة السوق الخارجية.
سعد الدين وهبة.. الجاني والمجني عليه
ساعدت التحوّلات الاجتماعية والسياسية التي أعقبت ثورة يوليو 1952 على ظهور نهضة فنيّة استطاعت التعبير عن صورة مصر الحقيقية.
كان ذلك منذ نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات. في تلك الفترة برز سعد الدين وهبة (فبراير 1925 ــ نوفمبر 1997).
كان معروفا كمسئول عن إحدى شركات القطاع العام السينمائي وهي "الشركة العامة للإنتاج السينمائي العربي (فيلمنتاج)". أنتج خلالها 18 فيلما في مدّة 18 شهرا قضاها في الشركة: سيد درويش، السمّان والخريف، صغيرة على الحب، غرام في الكرنك، مراتي مدير عام، البوسطجي وغيرها.
أربعة من هذه الأفلام؛ تم اختيارها ضمن أهم مائة فيلم في تاريخ السينما العربية في الاستفتاء الذي نظمه مهرجان القاهرة السينمائي في دورته العشرين.
نشرت مجلة الكواكب نقدا طويلا لهذا الفيلم في سبتمبر من عام 1963، تقول في بدايته "لا شكّ في أن سعد الدين وهبة كسبٌ طيّبٌ جدا للسينما المصرية".
واكبت هذه الفترة الدفعات الأولى من المعهد العالي للسينما. اُنتخب سعد وهبة نقيبا للسينمائيين عام 1979 إلى 1988. ثم رئيسا لاتحاد النقابات الفنية في نفس العام واستقال بعدها بفترة وجيزة.
ثم أُعيد انتخابه مرة ثانية في مارس عام 1990 بديلا للمخرج كمال الشيخ وظلّ في منصبه حتى عام 1993.
ظلّ اسم سعد الدين وهبة، مؤلفا وسيناريستا وكاتبا مسرحيا، لامعا في سماء السينما المصرية، خاصة وأن اسمه اقترن بمهرجانها القوميّ والدوليّ الذي ترأّسه منذ عام 1985 حتى رحيله في عام 1997.
كان سعد وهبة، الذي أطلق على نفسه لقب "هاوي المسرح ومحترف السينما"، قد داعب الوسط السينمائي عام 1955، عندما كتب سيناريو فيلم "البرنس" الذي تدور قصّته حول الدور الذي لعبه الإقطاع والأسرة المالكة في مصر قبل الثورة، ووقتها تحمّس الفنان فريد شوقي لإنتاج الفيلم إلا أنه لم يستطع بسبب رفض الموزّعين شراءه.
استعاد وهبة الصفة الدولية للمهرجان التي فقدها عام 1979، عبر استعادة اعتراف الاتحاد الدولي لمنتجي الأفلام في الدورة العاشرة للمهرجان عام 1986، أي بعد أوّل دورة يترأّسها.
لسنوات؛ ظلّ اسم سعد الدين وهبة في الأخبار والتقارير الصحافية مقرونا بقائمة طويلة من المناصب الشرفية والرسمية، هي: رئيس اللجنة الدائمة لمهرجان القاهرة السينمائي بوزارة الثقافة، ورئيس اتحاد النقابات الفنية، ورئيس نقابة السينمائيين، ورئيس اللجنة الثقافية للحزب الوطني، ووكيل لجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشعب.
لكن لنحكي الحكاية منذ البداية
في سبتمبر عام 1964، صدر قرار من رئيس مجلس الوزراء في ذلك الوقت وكان علي صبري، بنقل 37 كاتبا من كتّاب جريدة الجمهورية إلى إدارة العلاقات العامة بعدد من المؤسسات والهيئات والشركات العامة. كانت قائمة الكتّاب بدأت بطه حسين، وكان سعد الدين وهبة واحدا من هؤلاء.
نُقل وهبة من جريدة الجمهورية إلى مؤسسة السينما والهندسة الإذاعية، وكان مقرّها مبنى التليفزيون، وكان يرأس هذه المؤسسة المهندس صلاح عامر. وعيّن سعد وهبة رئيسا لإدارة التخطيط السينمائي، وكان يُزامله بالمؤسسة نجيب محفوظ وكان رئيسا لمكتب القصة، وعبدالرحمن الشرقاوي وكان رئيسا لمكتب السيناريو.
وبعد أن قضى وهبة في هذه الوظيفة تسعة أشهر تقريبا، صدر في مايو عام 1965 قرار بتعيينه مديرا فنيا للشركة العامة للإنتاج السينمائي العربي، وبعد شهرين تم تعيينه رئيسا لمجلس إدارة الشركة حتى ديسمبر 1966، حين اندمجت شركة الإنتاج في شركة واحدة هي شركة القاهرة وعيّن رئيسا لها عبد الرازق حسن، أحد رجال البنوك، بينما عُيّن سعد الدين وهبة مديرا فنيّا في الشركة.
وبعد خلافات طويلة، أعلنت الدكتورة سهير القلماوي رئيس المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر رغبتها في أن يُنقل وهبة إلى المؤسسة وأن يعمل معها، وفعلا صدر قرار الوزير ونُشر في الصفحة الأولى في الجمهورية "إعفاء سعد الدين وهبة من العمل في شركة القاهرة للسينما".
وهبة صبيحة أكتوبر 1973
كان سعد الدين وهبة في ذلك الوقت، وكيلا لوزارة الثقافة للثقافة الجماهيرية، وأمينا مساعدا للاتحاد الاشتراكي بمحافظة القاهرة، كان ممدوح سالم نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية وكان يوسف السباعي وزيرا للثقافة والدكتور حافظ غانم أمينا عاما للاتحاد الاشتراكي.
كتب وهبة عن ذكريات هذه الأيام في مقال طويل بجريدة الأهرام في الذكرى الـ15 لحرب أكتوبر، أي في سنة 1992، يسأل لماذا لم يظهر فليم عن حرب أكتوبر حتى الآن؟ وذكر فيه أنه في عام 1980 حضرت مجموعة سينمائية من إسرائيل قابلوا السادات ومعه رشاد رشدي واقترحوا عليهما أن ينتجوا فيلما مشتركا مع مصر عن حرب 73، ووافق الرئيس مبدئيا. لكن الصحف الإسرائيلية نشرت الخبر بأن الطرفين اتفقا على ترك النهاية مفتوحة، فأرسل السادات ردّا قويّ اللهجة وقاسيا على محاولاتهم سرقة نصر أكتوبر.
أقيم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بطلب وفكرة وجهود كمال الملّاخ، لكنه ظلّ لفترة طويلة يُنسب إلى سعد الدين وهبة.
في كتاب أصدره صندوق التنمية الثقافية بالتزامن مع المهرجان القومي السابع للسينما المصرية، وضمن منشوراته، نتتبّع مسيرة سعد الدين وهبة والسينما، وهناك تعمّد واضح إلى إقران اسمه (منفردا) بكل الخطوات التطلعيّة بخصوص إنشاء وتأسيس مهرجان سينمائي دولي لمصر.
سبق لوهبة، بحسب ما نقرأ في الكتاب الذي أعدّه الأمير أباظة، أن أقام عدّة مهرجانات محليّة أثناء رئاسته لجهاز الثقافة الجماهيرية.
ففي عام 1971، اقترح إقامة أسبوع لأفلام نجم من نجوم السينما ومخرجيها، وأقيمت أسابيع لأفلام كمال الشيخ في الفيوم، وفاتن حمامة في الدقهلية ونادية لطفي في الشرقية. ثم توّج الفكرة بإقامة مهرجان قومي للأفلام المصرية في كفر الشيخ.
توقّف المهرجان القومي على إثر فوز فيلم يوسف شاهين "الأرض" واعتباره فيلما شيوعيا، ففي هذه الفترة كان التحوّل من الناصرية إلى الساداتية. لم ينعقد المهرجان في عامه الثاني في 1972. وفي العام 1973 عقدت الدورة الثانية والأخيرة من المهرجان القومي للسينما في جمصة بلا نتائج، حيث اندلعت في اليوم التالي 6 أكتوبر حرب الكرامة، ولم ينعقد المهرجان مرة أخرى إلا في عهد فاروق حسني عام 1991.
في عام 1976، كان وهبة وكيلا أولا لوزارة الثقافة، زاره كمال الملاخ، وكان رئيسا لجمعية كتّاب ونقّاد السينما، وقدّم إليه مذكّرة مرفوعة إلى الوزير جمال العطيفي يقترح إقامة مهرجان دولي للسينما، فوافق سعد وهبة. وبالفعل افتتحت الدورة الأولى من المهرجان في أغسطس من عام 1976 في سينما قصر النيل.
كانت وزارة الثقافة ترعى المهرجان فقط، بينما تتكلّف جمعية نقّاد السينما بإقامته. في عام من الأعوام، نشرت الصحف خبرا عن رفض إدارة المهرجان قبول الدعم المادي من وزارة الثقافة، أيام إدارة د. أحمد هيكل، الذي كان أن أعلن عن صرف مبلغ عشرة آلاف جنيه من صندوق دعم السينما. لكن إدارة المهرجان فضّلت عدم التخلّي عن اعتمادها على الجهود الذاتية، على أن يظل المهرجان تحت إشراف وزارة الثقافة.
في السطور التالية؛ نستعرض تقاطعات المهرجان مع السياسة، والأخبار المحلية والعالمية، الفنيّة والسياسية، التي أثّرت في مسيرته، وعن دور الرقابة في المهرجان، استفدنا بها من أرشيف الصحافة المصرية والعربية التي غطّت فعاليات المهرجان طوال تاريخه، وجولات عبر مقالات وكتب وإصدارات تذكارية مختلفة:
رئيسة الرقابة في السجن!
افتتح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي دورته الأولى في 17 أغسطس 1976، بجهود معنوية ومادية من الجمعية المصرية لكتّاب ونقّاد السينما بدون تمويل من جهة معينة، سوى إعانة من وزارة الشئون الاجتماعية للجمعيّات. ولم ترصد وزارة الثقافة أية ميزانية لتمويل المهرجان، خاصة مع ترك يوسف السباعي لمنصبه.
تشكّلت لجنة اختيار الأفلام من حسن عبد المنعم رئيسا رئيسا وعضوية السيّدة اعتدال ممتاز رئيس الرقابة. تكتب إيريس نظمي أنه يشهد في عهد هذه السيّدة برقابة متنوّرة. وكان المهرجان فرصة للتعرّف على سينما لم يشاهدها الجمهور من قبل، من المكسيك ويوغسلافيا، منها فيلم "البذرة السوداء" عن قصة عذاب تعرّض له ثلاثة جنود بعد الحرب الأهلية.
ومن السينما الإنجليزية فيلم "سلوك شائن"، ويناقش المفهوم الإنجليزي للشرف، من خلال كتيبة عسكرية كانت تعيش في الهند خلال القرن الـ13، وتقوم سوزان يورك بالبطولة وهي الفتاة التي اغتصبت في الفيلم من أحد الضباط الكبار.
أما الفيلم الذي شاركت به في مصر في مهرجانها السينمائي الدولي الأوّل فكان "المذنبون" قصّة نجيب محفوظ وسيناريو ممدوح الليثي وإخراج سعيد مرزوق. وهو فيلم سياسي كما تكتب إيريس نظمي، أثار الكثير من المتاعب مع صاحبه ومع الرقيبة المتنوّرة، التي حكم عليها بالسجن وقتها واستأنفت الحكم.
فاتن حمامة تُحرج لجنة التحكيم!
في 26 سبتمبر 1977 افتتح المهرجان الدولي للسينما دورته الثانية، فاتحا نافذة جديدة على سينمات لم نرها وقتها، خاصة السينما الآسيوية. فمن بنجلاديش؛ عرض فيلم "المطر"، وهو معالجة جديدة لقصة بيجماليون. ومن ألبانيا فيلم "شجرة الحريّة"، يُصوّر كفاح الشعوب للقضاء على الاحتلال في بلادها. ومن يوغسلافيا فيلم "عودة المغضوب عليهم" وتدور أحداثه في نهاية خريف 1944 مع تصاعد صراع تيتو ضد النازية. وأخيرا من الصين، عُرض الفيلم الوطنيّ "استطلاع وراء النهر اليانجستي"، وهو الفيلم الذي تسير فكرته في خطى شعار ماو "فلنمضي بالثورة حتى النهاية".
ومن الاتحاد السوفيتي، عُرض فيلم "اختيار هدف" ويصوّر جهود الاتحاد السوفيتي في صنع قنبلة ذرية يردّ بعا على قنبلة الولايات المتحدة في هيروشيما وناجازاكي. بينما قدّم المخرج النمساوي جودس هاجمولر فيلم "رحلة حج للإمبراطور كانجا موسى من مالي إلى مكة". ويصوّر ملحمة رحلة إمبراطور مالي إلى مكة في القرن الـ14 عن طريق نيجيريا والسنغال ومصر. وهو الفيلم الذي ظهر فيه نجومنا المصريين الكبار أمثال محمود مرسي وعبدالوارث عسر.
شهد المهرجان في دورته الثانية عرض أفلام أمريكية وألمانية تتناول علاقات الشذوذ الجنسي. فمن ألمانيا الغربية قدّمت المخرجة هيلما سندر قصة حياة الشاعر الرومانسي "كلايست" في فيلم يحمل عنوانه اسمه، ويصوّر حياة كلايست وعلاقته الحميمة بأخته وصديق له، وحبّه لفتاة صغيرة.
أمّا المشهد المثير في هذه الدورة، هو ليلة أن نادت المنصّة على الفنانة فاتن حمامة لتحيّتها، وهي التي يّعرض لها فيلم "أفواه وأرانب" في المسابقة الرسمية، وطل التصفيق لكن الفنانة لم تصعد، ليفاجئ الجميع بأنها لم تحضر! ولم تكن المرة الأولى، فعندما منحتها جمعية كتّاب ونقّاد السينما جائزة عن فيلم "أريد حلا" لم تحضر لاستلامها وأرسلت ابنتها. وهو ما اعتبرته إيريس نظمي "شيئا مؤسفا".
الفيلم الإيراني لأوّل مرّة
في 25 سبتمبر 1978 افتتحت الدورة الثالثة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. من أجوائها: استشهاد يوسف السباعي وزير الثقافة والرئيس الفخري للمهرجان في قبرص يوم 18 فبراير. حضور الكاتب الإيطالي الكبير ألبرتو مورافيا وزوجته ضيفا على المهرجان. واشتراك إيران لأوّل مرة بفيلم "رحلة الحجر" ويتناول اضطهاد الإقطاعيين للغلابة وتحكّمهم. ثم اشتراك لبنان بفيلم "لبنان لماذا؟" عن الحرب الأهلية في لبنان عام 1975.
إليزابيث تايلور ممنوعة في مصر!
في 17 سبتمبر 1979، واجهت الدورة الرابعة من المهرجان العواصف. من ناحية؛ واكبت معاهدة السلام. ومن ناحية أخرى؛ شهدت هذه الدورة تدخلات لجنة اختيار الأفلام ودعوة النجوم وعلى رأسهم الناقدة ماري غضبان سكرتير عام المهرجان في ذلك الوقت، من أجل التفاوض مع الرقابة برفع أسماء بعض النجوم العالميين من "القائمة السوداء"؛ وهو الإجراء الذي درجت الرقابة على المصنفات الفنية على اتباعه، وكان علي رأس القائمة النجمة العالمية إليزابيث تايلور، التي منع فيلمها "كليوباترا" من العرض في مصر مع كل أفلامها، بحجة أن واحدا من أزواجها السابقين يهوديا دفعها إلى التبرع لإسرائيل!
ولكي نرفع اسمها من القائمة السوداء - الكلام للناقدة غضبان – اضطر كمال الملاخ للاتصال بالرئاسة؛ لأن مكتب المقاطعة كان في دمشق وليس القاهرة؛ وبالفعل تدخل الرئيس السادات.
لم تكن هذه الواقعة، هي الوحيدة التي وسمت المهرجان في نسخته الرابعة بصبغة سياسية نتيجة لتدخّلات الرقابة؛ فقد شهدت هذه الدورة كذلك انسحاب يوغوسلافيا احتجاجا على الرقابة بعد أن شوه مقص الرقيب فيلمها "الاحتلال في 26 صورة"، وانسحاب سويسرا بفيلمها "خياطة تطريز" لنفس السبب. وكانت هذه المرة الأولي التي تتدخل فيها الرقابة في أفلام المهرجان بهذه الصورة الفجة، وهو ما هدد شرعية المهرجان الدولية.
تكتب إيريس نظمي مراجعتها لعشر سنوات شهدتها بصورة حية من عمر المهرجان، في كتالوج وفير بمناسبة ربع قرن على مهرجان القاهرة السينمائي الدولى، تكتب عن "الخزي" الذي تسببت فيه الرقابة: "ولعبت الرقابة دورا مؤسفا، بل إن ما فعلته يعتبر نقطة سوداء وضد لوائح المهرجانات.
جار مقص الرقيب بالحذف على 12 فيلما من اليونان وتركيا وأمريكا والمجر وروسيا وهولندا وألمانيا الشرقية ويوغوسلافيا وسويسرا وفرنسا، على إثر ذلك انسحبت وفود هذه الدول مطالبة بتعويض. بينما صاح المخرج اليوغوسلافي في المؤتمر الصحفي الذي تلا عرض فيلمه "ما شاهدتموه ليس فيلمي وإنما هو عمل مشوه.. إنني أحتجّ".
تحدّي الظرف السياسي
توقّف المهرجان لمدة عام في دورته الخامسة. كان من المفترض إقامته في نوفمبر 1980، ليقام في نوفمبر 1981، وهو العام الذي شهد اغتيال السادات. فتأجّل افتتاح المهرجان إلى ديسمبر. أقيمت دورة باهتة، بلا مسابقة ولا جوائز ولا نجوم عالميين. لكن إقامته مع هذه الظروف العصيبة كان في حدّ ذاته إنجازا. فضلا عن إشادة النقّاد بمستوى عروض الأفلام التي أتاحها المهرجان، ومنها بانوراما السينما الهندية وموضوعاتها الواقعية بعيدا عن الأفلام التجارية.
التواجد العربي والقضية الفلسطينية
في 22 ديسمبر 1982، حضر الفنان المصري العالمي ضيفا على الدورة السادسة من مهرجان القاهرة السينائي الدولي، التي شهدت حضورا لافتا للسينما التركية، ونجمتها توركان سوراي.
لكن أقوى ما يمكن تذكّره عن هذه الدورة، ما تقوله أوراق الأرشيف، بأن المهرجان في نسخته السادسة تحيّز للسينما العربية، واحتلّت القضية الفلسطينية جانبا مهمّا من أنشطة وعروض المهرجان.
كانت العروض بمثابة "مظاهرة وطنية ضد الاحتلال الصهيوني". فيلمان من إنجلترا، الأوّل اسمه "الفلسطيني" عن تل الزعتر، والفيلم الثاني "فلسطين المحتلة"، الذي قدّم في شكل تحقيق تسجيلي بدايات الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية.
الفيلم السوري في المهرجان
في دورة 1986، وهي المرّة الثانية التي يقام فيها المهرجان بعد إسناده إلى اتحاد النقابات الفنية الثلاث (السينمائية والتمثيلية والموسيقية) والمرّة الأولى التي يُقام فيها بعد استعادته شرعيته الدولية وانضمامه إلى عضوية الاتحاد الدولي للمهرجانات بعد غياب ست سنوات، عُرض فيلم "أحلام المدينة". عن فترة المدّ الثوري والعزّة القوية، عن الوطن والشعب، عن الطموح العربي في كل مكان، عن ثورة 23 يوليو، عن جمال عبد الناصر، عن الطموح الدائم نحو الوحدة، عن كل ذلك وغيره قدّم المخرج محمد ملص فيلمه الذي اعتبره النقّاد "وثيقة درامية بالغة الصدق ومعزوفة هيام بالوطن".
و"أحلام المدينة" هي أحلام أسرة صغيرة نازحة إلى حي شعبي في دمشق (المدينة) أثناء احتفالات عيد استقلال سوريا الأوّل، عام 1953. ينتهي الفيلم وحلم المدينة قد أجهضته الطقوس الحكومية والشعارات واللافتات الزاعقة، بعد أن آل أمر الوحدة الشعبية إلى تجمّعات حكومية مغلقة، لكن يبقى الأمل للمدينة.
فلسطين مرة أخرى ولا نهائية
تحت عنوان "القضية الفلسطينية بعيون دنماركية.. "عرس الجليل" فيلم بلجيكي لمخرج فلسطيني، لماذا أثار ضجة في مهرجان القاهرة السينمائي"، اطّلع قرّاء الصحف على أخبار الدورة الـ11 من المهرجان سنة 1987.
يحكي الفيلم تطوّرات القضية الفلسطينية عبر حكاية تبدأ ن حفل زفاف ابن المختار أو عمدة قرية الجليل بالأراضي المحتلة. والفيلم مخرجه الشاب ميشيل خليفي، فلسطيني، واجه اتهامات من خلال فيلمه بالدعوة إلى التطبيع مع الإسرائيليين، حيث إن الفيلم لم يوضّح بصورة قاطعة إجابات حول الدعوة إلى الثورة أم السلام مع العدوّ، وتركها صورا رمزية للمُشاهد.
بعد عشرين عاما من المصادرة
في نسخة عام 1989، خرجت ثلاثة أفلام إلى النور في دورة المهرجان الثالثة عشرة، بعد أن ظلّت حبيسة العلب لمدة 20 عاما بعد أن منعت الرقابة عرضها لأسباب سياسية. وهي أفلام: "فرعون" الذي وجّهت إليه انتقادات كثيرة بسبب مغالطات تاريخية وقع فيها المخرج البولندي. وفيلم "رهينة في المنفى" ويحكي عن نابليون وحياته بعد نفيه خارج فرنسا، وهو إنتاج بولندي. والفيلم الثالث "الناس والنيل" الذي أنتج أثناء بناء السدّ العالي، وهو إنتاج مصري سوفيتي، ومخرجه هو يوسف شاهين. ولم يعرض هذا الفيلم سوى في سينما واحدة هي التحرير، لأنها الدار الوحيدة المجهّزة بآلات عرض تستوعب الفيلم 70 ميللي.
وكانت النسخة التي عرضت للفيلم، فريدة وأخيرة ووحيدة، لدى السينماتيك الفرنسي، التي استطاع شاهين الحصول عليها قبيل افتتاح المهرجان.