الكاتب : فاطمة نبيل
1989 : 2019 ..
30 عاما من الجري في المكان
المتابع المخضرم لمهرجان القاهرة السينمائي يستطيع أن يحصي عددا من العناوين الصحفية الثابتة، تزيد أو تقل تبعا لإدارة هذا العام.
في العام 1989 لم يكن العالم كما نعرفه الآن .. كان مبارك رئيسا، ووزيره المفضل فاروق حسني وزيرا للثقافة، وسعد الدين وهبة رئيسا لمهرجان القاهرة السينمائي.
في العام 1989 كان تحرير طابا، وإنقلاب عسكري في السودان قاده عمر البشير، وسقوط الحكم الشيوعي في رومانيا وهروب الرئيس نيكولاي تشاوتشيسكو وزوجته. في العام 1989 كان الدولار يساوي 83 قرشا.
لكن عناوين الصحف عن الدورة الثالثة عشر في المهرجان والتي كانت في الفترة بين 4 و 17 ديسمبر 1989 يمكن أن تجدها بعد ذلك في أي دورة لاحقة.
في جريدة الوفد كتب "صلاح سعد" بضع ملاحظات عن الدورة المذكورة فقال:
- معظم الأفلام المشتركة وصلت بعد الختام مما ترتب عليه تغيير البرامج الخاصة بعرض الأفلام أكثر من مرة والضحية زوار المهرجان.
- احتشد المهرجان بعدد كبير من الأفلام التي لا ترقى إلى مستوى المهرجانات الدولية لدرجة تجعلنا نعتقد أن المهرجان لم تكن به لجنة مشاهدة لاختيار الأعمال المعروضة.
- لجأ معظم أصحاب دور العرض إلى وضع لافتة للكبار فقط لضمان زيادة الإيرادات.
- عدم التزام دور العرض ببرنامج العروض.
- قصر عرض الفيلم على موعد واحد.
- سوء المواعيد التي حددها المهرجان لعرض الأفلام للنقاد والصحفيين دون مراعاة طبيعة مواعيد عملهم
في جريدة الشرق الأوسط كتب "قصي صالح الدرويش" :"سبق وقلت بأن أمام مهرجان القاهرة فرصة كبيرة في أن يتحول إلى مهرجان عظيم ومفيد ودولي، بأن يكون مهرجانا لسينما العالم الثالث بالدرجة الأولى. فمصر قاعدة سينمائية تستطيع أن تنهض بسينما الدول العربية والأفريقية والأسيوية أيضا بما تملكه مصر من خبرات فنية وقاعدة صناعية ضخمة ومقتدرة." وأضاف الدرويش في نفس السياق " كما أن مستقبل السينما المصرية يكمن في توزيع أفضل لأفلامها في هذه الأسواق، والأمر لا يتعلق بالامكانيات المتوفرة حاليا وغير المستغلة، بل وعلى الخصوص بالامكانيات المحتملة والتي يجب استغلالها إلى النهاية. وأن الدور القيادي لمصر في سينما العالم الثالث هو الذي يجذب المنتجين والموزعين الغربيين .. وهو الذي يجذب نجومهم أيضا."
أما "سعدون الفشني" فكتب في المساء الأسبوعي
- غاب عن المهرجان جمهوره الحقيقي من المثقفين وعشاق السينما من محدودي الدخل بسبب ارتفاع أسعار الدخول.
- اختفاء نجوم السينما المصرية ومخرجيها في كل أعمال المهرجان له مبرراته فإدارة المهرجان لم تفكر في برامج تستوعبهم وتدفعهم للاحتكاك بضيوف المهرجان.
- الندوات جاءت باردة ونسبة الحضور فيها قليلة.
- وصل عدد الأفلام في المهرجان إلى 230 فيلما .. المهم نوعية الأفلام المعروضة ومدى جودتها على المستوى الفكري والفني فهناك مهرجانات عالمية لا يتعدى أفلامها 20 فيلما.
في جريدة الأنباء كتب "عبد النور خليل": "بعض الأفلام التي عرضت داخل المسابقة كان يكفي أن يعرض فصل أو فصلين لكي ينظر أعضاء اللجنة كلا إلى الآخر نظرة معناها أن مستوى الفيلم ردئ لكي يوقف العرض .. وقد حدث هذا لأكثر من ثلاثة من الأفلام المعروضة .. ومن الغريب أن بعضها يحمل أسماء مخرجين لهم سمعتهم على ساحة السينما المصرية."
الفنان الراحل عمر الشريف في تصريح لمجلة السينما والناس قال "المهرجان اتصف هذا العام بالانضباط والدقة والعالمية وأن شلة المنتفعين بالمهرجان انفضوا من حول سعد الدين وهبة، وما أن سار المهرجان على هذا النحو في أيامه الأولى، حتى ظهر المرتزقة من جديد الذين يبيعون حفلاته عن طريق تصوير النجوم بالفيديو، في عملية تجارية رخيصة، فمن غير المعقول أن يسيطر شخص واحد على حفلات المهرجان لحسابه الخاص؟! كل ما أرجوه أن يتخلص رئيس المهرجان – في مهرجانه القادم – من هؤلاء المرتزقة."
أما الفنان الراحل كمال الشناوي فقال "حفلات الاستقبال يجب أن يقلل منها وأن تكون في إطار بسيط وأن يكون التركيز على الندوات والأفلام."
وبمناسبة الحديث عن الأفلام، كانت هذه بعض من عناوين الصحف عن المهرجان في تلك الأيام:
1- "فوجئ ضيوف المهرجان والجمهور الذي ذهب لحضور عرض الفيلم الفلسطيني "ليالي الغربة" بالقنابل المسيلة للدموع تقابلهم على باب سينما كريم بحجة تفريق الجمهرة.
أثار هذا الموقف غضب عدد كبير من الجمهور مما دعاهم للدخول في مناقشات حامية مع المسؤولين عن الأمن بالدار.
ظل تأثير قنابل الدخان مستمرا داخل دار العرض فتحولت القاعة إلى خليط من العطس والدموع، وعبثا راحت محاولات مخرج الفيلم في السيطرة على جمهور "ليالي الغربة" التي تحولت "ليالي الدموع".
2- لاحظ المتتبعون غياب الأشرطة والضيوف الجزائريين وقد كان من المفروض أن تشترك الجزائر بثلاثة أفلام هي "صرخة الحجر"، و"معسكر تراوري"، و"حسان النية". وقد فسر البعض هذا الغياب بمخلفات مبارة كرة القدم التي جمعت منتخبي البلدين يوم 17 نوفمبر السابق على المهرجان.
أما جريدة المساء فنشرت تقريرا تحت عنوان "5 آلاف جنيه أفسدت المهرجان" نفى فيه عبد المجيد أبو زيد رئيس شركة مصر للتوزيع ودور العرض السينمائي السينمائي ما أثير أثناء انعقاد مهرجان القاهرة السينمائي حول دور العرض المستهلكة والتي أسأت إلى الأفلام المشاركة في المهرجان .. وقال أبوز زيد أن جميع دور سينما القطاع العام تم تجديدها بآلات عرض حديثة تبلغ قيمة الواحدة ربع مليون دولار، ولكن النقص الحاد في قطع الغيار وعدم توافرها في السوق المحلي كانت وراء الصورة السيئة التي ظهرت بها بعض دور العرض وأوضح أن قطع الغيار المطلوبة عبارة عن لمبات ألف واط ومرايات لا يتعدى ثمنها 5 آلاف جنيه، ولكنها وصلت في اليوم الأخير.
وكان رئيس اتحاد المنتجين العالميين قد وصف جميع دور العرض بأنها غير صالحة لاستقبال أفلام المهرجان واستثنى خمسة دور عرض، ثلاثة من القطاع العام هي ديانا وروكسي وميامي، واثنتان من القطاع الخاص هم التحرير وقصر النيل.
أزمة أخرى أثارها الفنان محمود الحديني الذي ندد بفيلم "يسوع مونتيريال" إخراج دينيس أركان متهما إياه بالصهيونية، وأكد الحديني لـ"صوت العرب" أن مهرجان القاهرة يجب أن يوقف فورا الأعمال التي تشيد باليهودية لأنها تهدف بالأساس لمساعدة إسرائيل ودعمها ماديا لاجهاض الثورة العربية في فلسطين المحتلة. ورحب محمود الحديني بفيلم "أصوات من غزة" اخراج البريطانية "أنطونيا كاسيا" التي تناولت هموم المواطنين العرب داخل الأرض المحتلة.
لكن هذه الأزمة لا توازي الأزمة الكبرى التي أثارها فيلم "سباق مع الزمن" للمخرج السوري "أنور القوادري"، فنجد في عمود الكاتب هشام لاشين ماجاء نصه " لست أدري ما الذي جعل بعض نجومنا المصريين يتورطون في الاشتراك بهذا الفيلم المتواضع الذي يسمى "سباق مع الزمن" بينما نراهم يؤدون أدوارا صغيرة جدا وكأنهم كومبارس. مع إن الفيلم صور بأكمله في مصر ومن هؤلاء الممثلين نجوما متميزين أمثال جميل راتب وحسين الشربيني وسماح أنور وياليت الأمر توقف على أن الفيلم متواضع لكنه يحمل في طياته نوايا مشبوهة، فهو يجعل الأثار المصرية نهبا مستباحا للصوص. كما تزداد مشاهد القتل والدماء في بقاع مصر الأثرية وغير الأثرية. ولا ينسى الفيلم أن يرمز للتخلف المصري بحفلة "زار" تقترن بصوت الأذان، بينما تمسك امرأة من سيوة دجاجة لتذبحها وتلطخ بالدماء وجه البطلة الأجنبية. أما البوليس المصري فيظهر في هذا الفيلم ساذجا من خلال النموذج الذي يقدمه حسين الشربيني في ثلاثة أو أربعة مشاهد على الأكثر ولا تعليق!"
أما الناقد "الأمير أباظة" فهاجم الفيلم أيضا قائلا "وأخيرا جاء فيلم سباق مع الزمن إلى القاهرة ليعرض في مهرجانها الدولي، ويحمل معه اساءة بالغة إلى جهاز الشرطة الذي نعتز جميعا به وبنشاطاته في مكافحة الإرهاب والمخدرات، وحماية أمن الوطن والمواطن.
ولا أدري أين كانت الرقابة على المصنفات الفنية عندما سمحت بتصوير هذا الفيلم في مصر، وتترك مجموعة من المغامرين يعبثون بأثار مصر، والتعرض لجهاز الشرطة الذي نعتز به جميعا.
إن هذا الفيلم يضع أمام أعيننا نقطة يجب دراستها قبل الموافقة على أي انتاج مشترك مع الدول الغربية، حتى لا تتكرر مهزلة سباق مع الزمن مرة أخرى بما حمل من اساءات للفن المصري وللأثار المصرية."
من جانبه جاء رد المخرج أنور القوادري في تصريحات لجريدة السياسي "أن الفيلم لا يحمل أية اساءة لأحد وإنه لم يقصد أن يقدم النجوم المصريين "كومبارس" في هذا الفيلم وأن هدفه من تقديمهم هو تعريف الغرب بهم خاصة بعد أن شاهدهم في عدة أعمال."
وحول موقف الرقابة على المصنفات قال "لم نواجه أية معوقات فنية أثناء تصوير الفيلم بل أن الشريك المصري في الانتاج قدم كل التسهيلات المطلوبة كما أن جهاز الرقابة كان متفاهما إلى أقصى حد ممكن وأن الرقباء الذين صاحبونا أثناء التصوير على قدر كبير من الوعي."
ولم تكن هذه هي الأزمة الوحيدة لفيلم اتهمته الصحافة بتشويه مصر، ففي نفس السياق جاء فيلم "فرعون" للمخرج البولندي كافينازفتش الذي طالته اتهامات جاء نصها "الفيلم يشوه التاريخ المصري والحضارة الفرعونية حيث يصور اليهود على إنهم أفضل من الفراعنة وأكثر تحضرا وهم الذين أمدوا العالم بالحضارة." بالإضافة إلى اتهام أن "اليهود يظهرون في الفيلم كأفضل من المصريين .. فيما يبدو إنه ترديد لاعتقاد إنهم شعب الله المختار."
وقتها لم يكن أمام كافينازفتش غير الدفاع قائلا "هذا الفيلم أخرجته بعد قراءات ودراسات عديدة .. وكان لي مستشار مصري خاص أستعين برأيه في كل شئ وهو الذي أعطاني خلفية تاريخية عن الحياة والعادات والتقاليد المصرية القديمة والحديثة هو المخرج الراحل شادي عبد السلام، كما إنه بعد بعد تصوير الفيلم استعنت برأي الدكتور أحمد قدري رئيس هيئة الآثار والذي كتب في تقريره أن الفيلم لا يسئ للمصريين بأي شئ من قريب أو بعيد فهو فيلما روائيا وليس وثائقيا، ويواصل كافينازفتش دفاعه فيقول لقد استوحى "بروس" الكاتب الروسي الشهير أحداث فيلم "فرعون" من خلال قراءاته في تاريخ مصر القديم وخاصة عهد الملك رمسيس ولكنه لم يقم بزيارة مصر وهذا يعني أن قصة الفيلم مجرد رواية وليست تسجيلا لتاريخ وحقائق."
وحول نقطة انحيازه لليهود على حساب المصريين يقول كافينازفتش "لم أقصد شيئا من هذا على الإطلاق .. وكنت أتعامل مع الأمور بنظرة درامية أكثر من تاريخية ولم أقصد أي بُعد سياسي أو ديني."
والرقابة بالرقابة تُذكر، فهذه الدورة شهدت عرض فيلم "الناس والنيل" للمخرج يوسف شاهين الذي منعته الرقابة في مصر عشرين عاما، وقد بكى يوسف شاهين مخرج الفيلم عندما بدأ عرضه.
وقتها أكدت الصحف على أن فيلم "الناس والنيل" قاربت نسخته المصرية الوحيدة على التلف لسوء الحفظ ويمكن مشاهدتها مرة أو اثنين على الأكثر.
ووصفه شاهين بعد العرض بإنه "كان نظرة تصحيحية للاشتراكية في ذلك الوقت".
وكانت الرقابة برئاسة اعتدال ممتاز قد منعت الفيلم من العرض بعد إنتاجه، وأعادت الصحف نشر تقريرا لها بتاريخ 14 أكتوبر 1968 عن الفيلم قالت فيه "لا أوافق على عرض الفيلم، لإنه يسئ إلى الشعب المصري العريق إساءة بالغة، فهو يصوره جاهلا أحمق متخلفا أشد التخلف بعيدا عن الحضارة والتقدم بل ويعاديهما، مغلوبا على أمره تحكمه البيروقراطية والهمجية والتعصب والدعارة والفوضى والعادات المتخلفة، ولو أن المستعمر أراد أن يسئ للبلاد بفيلم ما لما جاء بأسوء من هذا في رأيي"
وحلا للأزمة شُكلت لجنة وقتها للتحقيق في تقرير الرقيبة السابقة ضمت كلا من أحمد كامل مرسي ويوسف جوهر وأحمد لطفي للتحقيق في إنتاج الفيلم، ثم رفعت تقريرها لإدارة الإنتاج العالمي للسينما التي بدورها قررت استبدال بعض المشاهد بأخرى على أن يعرض الفيلم بعد هذا التعديل الطفيف.
إلا أن هذا لم يمنح الفيلم حق العرض إلا بعدها عشرين عاما، وبالتحديد في مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الثالثة عشر عام 1989.