مهرجان القاهرة السينمائى.. وذكريات عن قرب

خالد عبد العزيز 17 مايو 2022 مهرجان القاهرة السينمائي.. نظرة عن قرب

الكاتب : خالد عبد العزيز
شتاءٌ قديم لا أذكر في أي عام بالتحديد، أذهب مع أحد أصدقائي لمقر مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، أقف في طابور طويل لاستخراج بطاقة حضور الأفلام، حالة من النشاط والزخم تتنافى مع مشاهداتي لحفلات افتتاح الكرنفالية المبهجة، جو مملوء بالحماس خاصة مع اقتراب موعد انطلاق الدورة، تتلقى عيني ما يجري أمامي وتلتقطه بشغف ورغبة في معرفة المزيد عن الكواليس التي تختلف بالتأكيد عن ما يجري على شاشات التليفزيون، ليتكرر بعدها بسنوات نفس المشهد لكن مع اختلاف جوهري، زاوية الرؤية تبدلت، أصبحت أرى الأمور بمنظور الداخل وليس انعكاسًا الخارج .. سنوات تمر ولا أدري أن القدر كان يرتب منحًى آخر، ويجعل من المتفرج لاعباً، بعد لقاء يجمعني مصادفة بالناقد الراحل سمير فريد إثر توليه رئاسة الدورة 36 من المهرجان، يتغير على إثرها موقعي وأصبح بعدها عضواً في الفريق وشاهداً على العديد من المواقف والذكريات التي لا تُمثل تاريخ المهرجان فقط بل تأريخًا لفترةٍ ما من الحياة الفنية قد لا يدري عنها الكثيرون شيئاً، تبطن أكثر مما يظهر على السطح.


سمير فريد .. الحالم بالأفق البعيدة
تقلد سمير فريد منصب رئيس المهرجان في ظروف حرجة على المستويين السياسي والفني، فالحالة العامة يغلب عليها الطابع الثوري والرغبة في التغيير، حتى وإن كانت هذه الرغبة مُتحققة أصلاً، لكن حالة المد الثوري طالت الجميع، قَبل سمير فريد المنصب بعد رحيل زميله ورفيقه الناقد السينمائي أمير العمري بشكل قسري والذي لم يستمر في المنصب لأكثر من شهر وتم إهالة التراب على تجربته كأن لم تكن وبشكل يدعو للتعجب والغضب في آن، فقد تبدل بعدها الوضع السياسي مما تحتم تغيير قيادة المهرجان رغم جدراتها بالإدارة، يومها كنت أمارس عملي ووصلت مكتبي في إدارة المهرجان ليفاجئني أحد الضباط يمنعني من الدخول ويتحول المكتب فجأة إلى ما يشبه الثكنة العسكرية، أسأل الجميع عن ما يجري ولا أحد يُجيب، الوجوم على الوجوه هو المسيطر وحالة عامة من التخبط تُصيب الجميع، دون رغبة حقيقية في فهم مجريات الأمور.
في ظل هذه الأجواء التي يحكمها الضباب والتشوش أتى سمير فريد، ليكون اللقاء الأول بيننا، بادرة وفاتحة لعلاقة ممتدة بدأت مهنية وتحولت تدريجياً إلى شخصية، علاقة فريدة بين الأستاذ والتلميذ، لم أكن قابلت الأستاذ سمير وجهاً لوجه من قبل، مثقف حقيقي مهموم بالكمال، وبالتالي أثرت شخصيته على المهرجان، واتسمت إدارته بالتنوع لا البهرجة، وجبة سينمائية وثقافية شهية لم تتكرر، وإن كان في هذه التجربة منحنيات وصعوبات تستحق أن تروى.
نادراً أن تجد رئيسًا يعتمد على ذاته في أداء العمل، فالغالبية تعتمد على المساعدين ويترك لنفسه اللمسات الأخيرة التي تجعل العمل يُنسب له، لكن العمل مع فريد مختلف، ليس رئيساً فقط بل مديراً فنياً وإدارياً أيضاً، لا شاردة أو واردة تمر من تحت يده دون أن يكون مُلمًّا بكافة تفاصيلها، فأثناء التحضيرات النهائية للدورة 36 كان العمل يستمر حتى الساعات الأولى من الصباح دون أدنى كلل أو ملل، لا يعتد بأي ظروف تتعلق بالعمر أو الطاقة، ففي أحد الأيام دخلت غرفة مكتبه دون استئذان كعادتي معه، ووجدته مُنكبًّا على إعداد برنامج العروض، ورق مقوىّ كبير الحجم وأوراق متناثرة على المكتب وأقلام ملونة، يخرج مني سؤالي المعتاد عن الصحة والعمل ليخبرني بهدوء أنه مشغول بالعمل على البرنامج، يرفض أن يترك المهمة لأي من مساعديه أو حتى المدير الفني الذي من المفترض أن يقع هذا العمل ضمن مهامه الوظيفية، يجلس أمام مكتبه يُخطط ويكتب أسماء الأفلام وأوقات عرضها، ومن يعمل في المهرجانات وبالأخص مهرجان بحجم مهرجان القاهرة يدرك حجم مجهود إعداد جدول العروض.
حجم التغيير الذي أحدثته إدارة سمير فريد أشبه بالعلاج بالصدمات، رؤية مغايرة تختلف عن ما سبقوه، لا يعنيه جلب نجوم جذباً وإرضاءً للصحافة، الأفلام وحدها هي عامل الجذب الرئيسي، وحينما فكر مثل أي مهرجان سينمائي في تكريم شخصية فنية عالمية، لم يُفكر في تكريم نجم هوليودي قائلاً " بالفعل تم تكريم نجوم، لكنهم نجوم في بلادهم مثل المخرج الألماني فولكر شولندورف "، العناية باختيار الأفلام هو الهمّ الأساسي بالنسية له، عدا ذلك يأتي في مرتبة ثانية، ففي أثناء تحضيرات حفلات الافتتاح والختام، أراد نقل تجربة افتتاح مهرجانات السينما الكبرى مثل كان وبرلين وفينيسيا إلى القاهرة، مقطوعة موسيقية ثم فيلم الافتتاح أو فاكهة الحفل حسب قوله، وفي إحدى الجلسات أثناء هذه التحضيرات طالبه مخرج الحفل أن يرتدي رابطة عنق بلون ما حتى لا تنعكس عليها الأضواء، ليُقابل اقتراحه بالرفض المشوب بالضحك قائلاً "حتى في لحظات تكريمي لا أرتدي مثل هذه الألوان "فالاهتمام بالمظاهر والأجواء الاحتفالية لا يعتدّ بها في مقابل العناية بالقيمة الفنية أو المهنية.
عودة اسم مهرجان القاهرة وإيقاظه من كبوته كانت من أولويات العمل لدى سمير فريد، السعي الحثيث وراء الأفلام الهامة ومحاولة جلبها وإقناع صناعها بقبول دعوة المهرجان في ظل ظروف صعبة في ذلك الوقت، والأهم هو العمل على عودة الجمهور مرة أخرى للمهرجان بعد سنوات من تباعد الجمهور إلى حد ما عن التواجد، فقد تم تقديم وجبة سينمائية دسمة تحوي كافة الأنواع السينمائية، دون انحياز لنوع على حساب آخر، أذكر أنه وقتها عُرض الفيلم الأخير للمخرج الفرنسي "جان لوك جودار" "وداعاً لللغة " والفيلم الأحدث للمخرج الألماني "فولكر شولندورف " "سياسة "، بالإضافة للعديد من الأفلام المصرية الجديدة مثل "باب الوداع" و"ديكور"، والأهم فيلم الافتتاح "القطع" للمخرج الألماني من أصل تركي "فاتح أكين" الذي أثار ضجة وقتها نظراً لجرأة موضوعه الذي يتناول مذابح الأتراك بحق الأرمن أثناء الحرب العالمية الأولى، وقد لا يعرف الكثيرون أن قداسة البابا تواضروس الثاني طلب نسخة من الفيلم لكي يُشاهدها، أما عن ظروف اختيار هذا الفيلم، فقد كان العرض الأول له في مهرجان برلين ذلك العام، يومها حضر فريد العرض، وبحسب قول أكين "تقدم مني رجل يُجيد الإنجليزية بطلاقة يُخبرني بأنه رئيس مهرجان القاهرة السينمائي ويرغب في عرض الفيلم في افتتاح المهرجان"، ليقبل أكين الدعوة مُرحباً ببساطة وتلقائية.
حظيت علاقتي بالأستاذ سمير فريد بثقة شديدة في شخصي من جانبه، جعلتني أتوقف أمامها كثيراً وأتاملها، فلا عمري ولا خبرتي يؤهلاني لهذا القدر من الثقة، التي ساهمت في تحويل العلاقة المهنية إلى علاقة إنسانية وطيدة، ولكن يبدو أن رأيه ورؤيته كان لهما شأن آخر، فمناقشاتنا الثرية حول الكتب والأفلام والثقافة والوضع العام بصفة عامة قربت بيننا بشكل خاص، وفي أحد المرات تلقيت منه اتصالاً هاتفياً يطلب رأيي في الاستعانة بأحد الكوادر الإدارية وهل يصلح لهذا المنصب أم لا، لأجده يُنصت باهتمام ويتناقش بهدوء في أسبابي للقبول أو الرفض، لكن يظل الموقف الأهم أثناء انعقاد إحدى الاجتماعات لتحضيرات دورة المهرجان وتطرق الحديث إلى العلاقة بينه وبين الناقد الكبير أمير العمري وبخصوص مستحقاته المالية عن عمله كرئيس للمهرجان، وقد كان هناك اتجاهٌ متعسفٌ من بعض الإداريين على عدم الإيفاء بحقوقه أو تأخيرها، وقد لاحظت في نبرته بعض الأسى، فأخبرته بأن الأستاذ أمير يكن له الإحترام والمحبة، والأهم أن بينهما صداقة ممتدة وعميقة، لأتلقى منه بعدها رسالة نصية في الثانية صباحاً يُخبرني فيها بألا ألقي بالاً لما قيل، ويطلب مني إنهاء ذلك الملف المعلق وإغلاقه تماماً والتأكد من إعطاء الأستاذ أمير حقه وبالشكل الذي يليق به.
صباحاً بعد ختام المهرجان، قابلت الأستاذ لأجد عينيه موشيتين بالتعب والإجهاد، يُخبرني أنه قد أتم عمله على الوجه الأكمل، أتركه ليرتاح على أمل بلقاء قريب، لكن هذا اللقاء شابه التوتر الشديد، إذ صدر قرار وزير الثقافة حينها الدكتور جابر عصفور بتشكيل لجنة تقصي حقائق عن الدورة 36، ويتحول اللقاء المرتقب بيننا إلى شحنة غضب وتوتر ضاعفها قرار الأستاذ بالاستقالة وتسليمي إياها مكتوبة بخط اليد، لازلت أذكر ذلك اليوم كأن وقائعه جرت بالأمس، يدخل حجرة مكتبي ومعالم وجهه يكسوها الغضب، يطلب مني إنجاز الأعمال المعلقة في أسرع وقت لأن اليوم هو الأخير له، حاولت إثناءه عن قراره، قائلاً له إنها زوبعة في فنجان وسرعان ما سيتلاشى كل ذلك مثلما بدأ، لكنه أصر على موقفه ورفض التشكيك في ذمته وله كل الحق، قائلاً لي "لا أريد أن أعرف جابر عصفور مرة أخرى .. سأحذف رقمه من هاتفي "، تسارعت وتيرة الأحداث حتى كادت أن تصل إلى درجة الاشتعال، لجنة تنبثق عن لجنة دون أن تعثر على أي شائبة، سهر ليالي طويلة حتى ساعات متأخرة من الليل، أوراق هنا وهناك، عيون متلصصة ساعية لالتقاط أي هفوة تستحق الإمساك بها، وكلما كانت الإجراءات سليمة من الناحية القانونية ازداد التنكيل أكثر، رغبة محمومة في القضاء على تجربة ناجحة لم أجد لها مثيلًا.
وقتها ترك الأستاذ سمير المكتب وانقطع عن المجيء، تحملت مع فريقي عناء مواجهة سيل الاتهامات المغرضة، كل اتهام يُقابل بما يثبت عكسه، حتى فقدوا الأمل تماماً، في تلك الأثناء كانت الاستعدادات على قدم وساق لمهرجان القاهرة لسينما الأطفال، وفوجئت يوم الخميس الحادي عشر من ديسمبر بدخول فريق مهرجان سينما الأطفال مقر المهرجان لاستكمال إدارته العمل من مكتب مهرجان القاهرة، يومها هاتفت فريد بانفعال وجرأة لا أدري من أين أتيت بهما قائلًا له "أين أنت .. لماذا تترك مكانك؟ " ليقابل انفعالي بهدوء ولطف شديدين قائلاً "إتفرج وإضحك".
تطور الأمور والأحداث كان سريعاً بدرجة مذهلة، محاولات شتى من أفراد لهم ثِقلهم في الوسط الفني ومن جهات عديدة لإقناع فريد بالعدول عن قرار الاستقالة حفاظاً على طزاجة التجربة وتقديراً للناقد الكبير، تهاتفنا وتقابلنا كثيراً وفي كل مرة أحاول إقناعه بالاستمرار لكن نفسه أبت، إذ كان يشعر بالإهانة بعد كل ما جرى، لكن في قرارة نفسه كان يحتاج للدعم والمساندة من فريق العمل، لأفاجأ مساء السبت الثالث من يناير عام 2015 برنين هاتفي المحمول، لأجد صوت فريد يهاتفني في معنويات مرتفعة إلى حد ما مهنئاً بالعام الجديد، ويُخبرني بالأهم، قراره بزيارة المكتب صباح اليوم التالي وعقد اجتماع عاجل مع العاملين، في موعده المتفق عليه وصل إلى مكتبه بعد فترة غياب، طلبني فور وصوله كعادته، جلسنا سوياً نتناقش في مجريات الأمور والاحتمالات المتوقعة، بعدها بدقائق بدأ الإجتماع بحضور العاملين، جاءت جلستي في مواجهته، ربما مصادفة وربما ترتيبات القدر بما يسمح لي بمتابعة تعبيرات وجهه وانفعالات ردود أفعاله، سأل العاملين إن كانوا يرغبون في استمراره رئيساً للمهرجان؟ وجاءت الإجابات كالدفعات المتتالية بأصوات عالية يشوبها الحماس يجمعها التأكيد والقبول على الاستمرار في المنصب، لكنه كان لا يزال يحتاج للمزيد من الدعم، شاهدت تعبيرات وجهه فِرحة بالدعم الذي يحتاجه في وقت صعب، أخبرته أثناءها أن عليه الاستمرار والحفاظ على الإنجاز الذي تحقق، وعلينا أن نتكاتف جميعاً للعبور والخروج من هذه الأزمة بدون خسائر، نظر إليّ طويلاً وسألني "هل ترى ذلك؟" رددت عليه بحماس "بكل تأكيد"، ليخرج علينا بعدها بقراره النهائي "سأهاتف الوزير وأخبره بقبولي الاستمرار".
أيام تمر ولا جديد يلوح في الأفق، وقرار تجديد الثقة لم يصدر بعد، ولا أحد يفهم شيئاً، شكوك عدة تنتابني ولا أجد لها ما يُسكنها، قررت أن أتعامل مع الموقف بشكل مباشر وحاسم، هاتفت فريد وسألته عن سبب تأخر صدور القرار، لأجده يرد بانفعال شديد لم أره عليه من قبل، بأنه رفض صدور القرار حتى يصدر قرار من لجنة تقصي الحقائق يقضي ببراءته من إهدار المال العام، كيف يرجع إلى عمله ويتغاضى عن قرار اللجنة التي شككت في ذمته وتاريخه؟، لأجد نفسي أرد بانفعال مؤيداً رأيه قائلاً "إذا كانت الأمور هكذا، فلا تقبل قرار دون آخر، إما الاثنان معاً أو لا" ليسألني بعدما هدأ تماماً "هل توافقني؟" وأرد عليه وفي القلب غصة "نعم، بلا شك".
تجربة سمير فريد في إدارة المهرجان قوبلت بالهجوم مثلما قوبلت بالاحتفاء، معوقات لا حصر لها تواجهه، ومع ذلك يُقابل ذلك بهدوء وحنكة شديدين، فقد سعى خلال فترة رئاسته إلى استعادة قوة ومكانة المهرجان خاصة بعد سنة من الإلغاء وسنوات الثورة التي تأثرت على إثرها سمعة المهرجان عالمياً، رفضه لمركزية الإدارة وتمرده على القواعد الروتينية يستحق التحية، لذا بدأ الاستعانة بكوادر جديدة نتفق أو نختلف على جدارتها واستحقاقها للعمل، حالفني الحظ أن أكون واحداً منهم، لكنها تجربة أثرت المهرجان وساهمت في تطويره نحو الأفضل، رغم بعض الهفوات التي يمكن التغاضي عنها حتى وإن كانت آثارها السلبية ممتدة، لكنها في النهاية تجربة لها مذاقها المتفرد الذي لم يتكرر.
ماجدة واصف .. العبور بين الأشواك
لكل إنسان كيانه وكذلك حضوره الخاص الذي يُطعم الجو العام بمذاقه الشخصي، والعمل مع د. ماجدة واصف يحكمه أيضاً إطاره الموسوم بأسلوبها وطبيعتها الخاصة، فالهدوء الشديد هي السمة الأساسية لطبيعة العمل مع واصف، حتى في ظل الظروف الصعبة التي لا يحكمها سوى الضبابية تظل محتفظة بهدوء أعصاب نادر، أثناء التحضيرات النهائية التي تسبق كل دورة، تتصاعد وتيرة العمل بدرجة مفرطة قد تصل إلى حد العمل لأيام كاملة دون انقطاع أو راحة بما يرتفع معه معدل التعب المشوب بالغضب على أقل الأسباب، في خضم هذه الظروف تجدها تقابلك بابتسامة هادئة لا يعكر صفوها شيء، ثلاث سنوات هي عمر علاقتي العملية مع د. ماجدة واصف اقتربت خلالها، منها رأيت وتأملت منها ما يُمكنني سرده ومنها لا أقدر على البوح به لطبيعة وظروف العمل، سأحاول هنا أن أدوّن بعضًا مما رأيت عن فترة ما من عمر المهرجان لها خصوصيتها ونجاحاتها.
تولت واصف منصب رئيس المهرجان بعد استقالة الأستاذ سمير فريد، جاءت في ظل ظروف قد تبدو صعبة ويحكمها العمل الروتيني أكثر وأكثر، إذ تزايدت قبضة وزارة الثقافة على مقاليد العمل بشكل قد يبدو خانقاً أكثر منه إبداعياً خلّاقاً، ميزانية محدودة وتاريخ عريق، هنا تكمن المعضلة، كيف يمكن الجمع بين الجودة والميزانية الضئيلة؟، نجحت واصف في تسيير الأمور بشكل لائق بأقل الموارد المتاحة، الاعتماد على العنصر البشري المتاح، حيث عدد محدود من العاملين يقوم بمهام عديدة تفوق قدرته وطاقته ومع ذلك يخرج العمل وكأن وراءه جيش من العاملين، فالعلاقة بين د. ماجدة والعاملين متينة يحكمها سنوات من المعرفة والزمالة، إذ عملت لسنوات طويلة مندوبة للمهرجان في باريس، تقود دفة العمل ببصيرة أم، لا أنسى قبل أيام من انعقاد الدورة 37 عام 2015 أجلستنا جميعا أغلب أعضاء المكتب الفني على الأرض وبجوارنا د. ماجدة نعمل معاً على ترتيب دعوات الافتتاح والختام، ما يقرب من الألف وخمسمائة دعوة في انتظار التوزيع لمستحقيها، رغم طول السهرة الممتدة حتى الساعات الأولى من الصباح إلا أن بهجة العمل والجو العام الذي تُغلفه الألفة بين الجميع ساهمت في تخفيف حدة التعب والتوتر إلى حد كبير.
تُعد الدورة الثامنة والثلاثون التي انعقدت عام 2016 من أقوى الدورات التي أدراتها د. ماجدة وتحديداً على المستوى الفني، جرعة دسمة وشهية من أقوى أفلام العام، قاعات ممتلئة حتى آخرها بالجمهور، إلا أنني كان لي رأي مختلف حينها يتعلق بالنواحي الإدارية والفنية وبعض الاختيارات، وللحق إنها تقبلت نقدي، وطالبتني بكتابة رأيي دون أي حسابات، قائلة "اكتب براحتك قل كل ما تريده .. هذا حقك"، وبالفعل كتبت مقالاً حينها بشكل حيادي وبحرية مطلقة، ومع ذلك تقبلت وتعاملت بمهنية مع الموقف. فقد اتسمت إدارتها بتقبل الرأي والرأي الآخر ومحاولة احتواء الرأي المعارض قبل المؤيد.
يوسف شريف رزق الله .. الأب الروحي
لا يُذكر اسم مهرجان القاهرة إلا ويطفو على الذهن اسم الأستاذ يوسف شريف رزق الله، لسنوات طويلة ارتبط اسم الأستاذ يوسف بالمهرجان ومن قبل ومن بعد بذاكرة الجمهور، حيث إعداده وتقديمه للعديد من البرامج التليفزيونية، اللقاء الأول بيننا كان منذ سنوات، وتوطدت العلاقة مع عودته للعمل مع د. ماجدة واصف كمدير فني للمهرجان واستمراره في منصبه حتى بعد تركها لرئاسة المهرجان وتولي المنتج والسيناريست محمد حفظي الرئاسة خلفاً لها، سنوات لم تنقطع خلالها العلاقة بيننا حتى الأيام الأخيرة.
يقع العبء الأكبر من العمل الفني واختيارات الأفلام وإعداد البرنامج وغيرها من الأمور الفنية على الأستاذ يوسف، مجهود قد يبدو للبعيدين عن طبيعة عمل المهرجانات السينمائية بسيطاً أو هيناً لكنه كبير وثقيل، خطأ واحد فيه قد يجلب وراءه أخطاء أخرى وسقطات لا حصر لها، تابعت عمله عن قرب وعاينت كم الجهد المبذول من جانبه، لازالت أذكر ليالي السهر الطويلة لإعداد برنامج العروض إذ كان يغلق باب حجرة المكتب مع وضع لافتة ممنوع الدخول، وإذا أنهى العمل بالبرنامج عادت البسمة إلى وجهه مرة أخرى وعادت وتيرة العمل إلى طبيعتها بعد رفع حالة الطوارئ إلى الدرجة القصوى.
بخطوات هادئة لا نكاد نسمع لها صوتاً، يخطو الأستاذ يوسف مكتبي، يُقابلني بوجهه البشوش، لا أدري لم تذكرت فجأة أحد الأفلام التي عرضها قديماً في برنامج أوسكار، أساله عن اسم الفيلم بعد روايتي لأحداثه من ذاكرتي، يجلس بجواري ويشحذ ذاكرته ويبدأ سلسال الذكريات في التدفق على مهل حتى يصل للذروة ويمدني باسم الفيلم الذي طال بحثي عن اسمه لسنوات طويلة، نظرت له طويلاً مندهشاً من قوة ذاكرته ومعلوماته الحاضرة دوماً، فالعلاقة ممتدة بيني وبين الأستاذ يوسف، وساهمت نقاشتنا حول السينما والأفلام وتعليقاته على مقالاتي في إثرائها وتعمقها، لا أنسى تعليقاته على كتاباتي واتصالاتنا الهاتفية الدائمة، وقد ازدادت العلاقة قُرباً وتوطداً بعد اختياري عضواً في لجنة المشاهدة، إذ كانت لقاءاتنا الصباحية اليومية وتعليقاتنا على أفلام اليوم السابق طقسًا أساسيًّا لليوم.
لا شك أن فقدان الأستاذ يوسف مؤلم، حضوره لا يزال طاغيًا حتى بعد الرحيل، أثره ممتد عميق لا يُنسى، والأهم لمساته على المهرجان مُطعمة بثقافة سينمائية رفيعة، لكن الرغبة في تحقيق الأفضل والحفاظ على سمعة هذا المكان تدفع للعمل بمزيد من القوة والحماس بشكل أكبر حتى بعد الغياب حفاظاً على اسم المهرجان الذي ارتبط لسنوات عديدة باسم الأستاذ يوسف الأب الروحي له.
محمد حفظي .. سعي نحو العالمية
جاءت استقالة الدكتورة ماجدة واصف بعد ثلاث سنوات تولت خلالها رئاسة المهرجان، لتترك فراغاً ليس بالهين، ويظل المنصب شاغراً لفترة في انتظار مُستحقه الجديد، في خضم هذه الفترة كالعادة تكثر الأقاويل والتكهنات عن الرئيس القادم، لكنها كلها تكهنات دون نفي أو إثبات، حينها تلقيت اتصالاً هاتفياً من أحد أعضاء لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة تناقشنا حول المرشح المحتمل القادم، وسألني عن رأيي بحكم عملي في الداخل، فأجبته أن الأستاذ يوسف شريف رزق الله يُمكنه مواصلة المسيرة، فطلب مني المتصل أن أهاتف الأستاذ يوسف لأحاول إقناعه، وبالفعل تواصلت معه وأخبرته برأيي بقبول المنصب، لكنه رفض بشدة قائلاً لي "أفضل العمل في المهنة التي أحبها وأجيدها منذ سنوات .. أفضل العمل كمدير فني ". بعدها بأيام كنتُ أحضر فعاليات مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية كعضو لجنة تحكيم النقاد، أثناءها تلقيت اتصالاً من الأستاذ يوسف يطلب رأيي في ترشيح بضعة أسماء لوزير الثقافة من بينهم المنتج والسيناريست محمد حفظي، لنتفق سوياً أن حفظي هو الأنسب والأجدر لهذه المرحلة التي تحتاج لدماء جديدة ورؤية مختلفة.
بالتأكيد لا يُمكننا تقييم تجربة المنتج محمد حفظي في رئاسة المهرجان لأسباب عدة أهمها أنه لا يزال في المنصب ولا يسعنا الحكم إلا بعد تمام الاكتمال، لكن المثير للتأمل والجدير بالاحترام هو تطلعه الحثيث نحو العالمية وطموحه الفني واتساع علاقاته بالخارج بحكم عمله، لا شك أن كل ما سبق يُمثل إضافة للمهرجان سواء على مستوى اختيارات الأفلام المعروضة أو الاهتمام المكثف بالفعاليات الأخرى مثل الورش ودروس السينما وملتقيات الصناعة ومنصات دعم الإنتاج وكل ذلك جزء أساسي من عمل المهرجانات السينمائية الكبيرة التي تُعد القاهرة من أقدمها وأعرقها، ويظل مهرجان القاهرة هو الثابت والراسخ يتعاقب عليه رؤساء وعاملون فيما بينهم كاتب هذه السطور، ويبقى التاريخ هو الحكم على التجارب بكافة جوانبها وبما لها وما عليها.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات