الكاتب : أمل ممدوح
وطموح الملائكة
بعينين مصغيتى البريق..منتبهتين كمن تكشفان العالم باتساعه، ينظر إليك كما لو كان ما يراه يتعدى حدود مكانكما، كل ما يراه سيكون جزءا مما يرى، وإن كان موجها له كل الانتباه، فهاتان عينان بلا نطاق تماما كذهنه، ترى ماذا شاهد الطفل الصغير حتى تولدت الأفق فى عينيه؟ تمد فيهما مساحات الحلم وتسكن مخيلته.. ببساطة، شاهد السينما، هذه الساحرة التى جعلت العالم فى عينيه مفتوح الحدود، والسماء قريبة يجلب منها ويعرض للجميع، يسحرهم بما سُحر، كبيجاسوس.. ذلك الحصان المجنح فى الميثولوجيا الإغريقية، الذى كان يحمل الشعراء على ظهره لآفاق بعيدة، وبضربة قدمه للأرض، فجر نافورة «هيبوكرين» مأوى ربات الإلهام التسعة: الشعر والموسيقى والفنون والعلوم وغيرها، لتصبح مصدرا لإلهام كل من يشرب بعده من مياهها التى صارت متاحة للجميع.
حلم من الحياة.. وواقع من الحلم
كان عمره 14 عاما، ابن وحيد، يعيش مع والديه فى حى غمرة، حين كان يقرأ بشغف مجلة Radio mond التى كانت تصدر بالفرنسية، متابعا ناقده المفضل سمير نصرى فى بابه الأسبوعى، الذى يقدم فيه أبرز الأفلام المعروضة، حيث كانت ثقافته الأولى الفرنسية فى مدرسته الجيزويت بجانب الإنجليزية والإيطالية، حتى فاز فى إحدى مسابقاتها، بإجابته عن سؤال عن اسم مخرج أحد الأفلام، فقد بدأ اهتمامه بالسينما هنا يأخذ مسارا واعيا غير الطفل الصغير المتفرج ببهجة غير واعية، ليبدأ فى سن السابعة عشرة والثامنة عشرة، تقريبا فى أواخر خمسينيات أو أوائل ستينيات القرن الماضى، فى اقتناء مجلات سينيمائية متخصصة اشترك فيها، مثل كراسات السينما الفرنسية الشهيرة، ومجلات أخرى مثل Ecran وFilms and Filming فى زمن كانت تكثر فيه السينمات بشكل كبير وتحيطه أينما اتجه سواء سينمات شتوية أو صيفية؛ سينما بارك فى ميدان السكاكينى، فيكتوريا فى شارع الجيش وهوليوود وسهير فى الظاهر وغيرها، خاصة فى محيط مصر الجديدة، حيث زيارته مع الأسرة لجدتيه هناك، كثيرا ما كانت ترتبط بالذهاب عائليا إلى السينما، ليذهب مع العائلة أو قد يذهب بمفرده ثم يعود لوالديه، حين يفضلان أحيانا البقاء فى أحد مطاعم شارع الألفى، يستكشف فى بداية كل أسبوع فى جولة طقسية محببة، ما جدّ فى عالمه الأثير مما يوشك عرضه من أفلام فى هذه السينمات، التى ظل يحفظ أسماءها السابقة والجديدة وأماكنها القديمة، ومسارها تفصيليا حتى سنواته الأخيرة.
فى ذلك الصباح الذى فاجأه باسمه منشورا فى الجرائد كاملا بلا لبس: يوسف شريف رزق الله، معلنا حصوله على المركز الخامس فى الثانوية العامة على مستوى الجمهورية.. لم يكن يدرى أن القدر رتب له بطريقته شيئا ما، قد يطيل تأمله لعمر قادم، وإن خالف ما كان يتمنى أو ما كان يبدو الأفضل له، فقاده القدر بترتيبه، وكثيرا ما يحسن الترتيب، للمهمة الأنسب لها والأكثر تميزا، فبينما كان يرغب فى الالتحاق بالمعهد العالى للسينما الذى كان حديث التأسيس وقتها، أدى مجموعه الكبير لأن تقنعه أسرته بالالتحاق بكلية كبرى مضمونة المستقبل والتعيين، فالتحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التى كانت فى بدايتها شديدة البريق فى ذلك الوقت، ليوصله ذلك بعد تخرجه عام 1966 لتعيينه فى الهيئة العامة للاستعلامات عام 1967، ومنها ينتقل لماسبيرو كمعد للنشرات الإخبارية، محررا ثم سكرتير تحرير ثم رئيسا للتحرير، ثم مقدما لأهم البرامج السينمائية، شيء بعيد عما جال فى باله مسبقا، صارإعلاميا وناقدا سينمائيا، كطريق مختلف لربطه بالسينما المعشوقة دون ترتيب منه، لكن وفق الدور الذى تخيره له القدر، فربما لو كان التحق وتخرج فى المعهد العالى للسينما لما شغل هذا الحيز والدور الخاص الذى شغله فى عالم السينما، وكان على وعد لملئه كما لم يملئه أحد، حين شق أبواب سموات كانت ما زالت مغلقة فى ذلك العصر، لم يصنع الخبز لكنه قدمه شهيا مشبعا خلف الشاشة ووراء الميكروفون، بإعلام نقدى شهى جذاب، كان سببا لنظرة جماهيرية جادة للسينما كفن حقيقى لا مجرد حالة ترفيهية مسلية، وسببا لتعلق الكثيرين بها بل ودراستهم الجادة لها، الأمر الذى يجيب عن السؤال الذى ظل يراوده ويوجه إليه بقية حياته؛ لماذا لم تدرس السينما؟ ولماذا التحقت بدراسة بعيدة عنها رغم كل هذا العشق؟
فى علم النفس تعرف الرغبات بأنها تحرك العقل، وبحسب قوتها تكون الطاقة النفسية والشغف، هذا الشغف الذى يحقق معنى قويا للوجود، مارسه باهتمام مبكرا تجاه السينما، فالتحق فى بداياته بنادى لوميير فى سينما مترو، والذى لا يذكره الكثيرون ــ كما يقول، وقام بالكثير من المهام السينمائية ومارسها بشغف جاد على مر حياته، فقام فى المدرسة بتحقيقات فنية عن السينما نشرت فى مجلة المدرسة، ثم كتب مقالا نقديا بالفرنسية نشر فى مجلة «راديو العالم» كان عن الفيلم المصري «الزوجة العذراء»، وحين التحق بالجامعة كتب عدة مقالات فى نشرة مجلة الفيلم، منها عن فيلم «هيروشيما حبيبتى»، فهو يرى «الكتابة فعل طبيعى لمتابع جيد للأفلام»، يحضر الندوات ويناقش، ويريد أن يعبر عن وجهة نظره فيما يشاهد بشكل مكتوب ووفقا لمنهج محدد، ليستمر نشاطه حتى تخرجه والتحاقه بميدان العمل، كمراسل ومقدم ومعد برامج ومترجم وناقد، وكان قد التحق بجمعية الفيلم وصار يكتب فى نشرتها ويدير الندوات والحوارات مبكرا، وانضم لنادى سينما القاهرة بنشاطه الضخم التابع لوزارة الثقافة وأصبح سكرتيرا له، حتى أصبح بعد ذلك رئيسا لجمعية الفيلم، مع تقديمه أو إعداده لبرامج كان آخرها «سينما رزق الله»، الذى كان تقديرا له بعد سنوات من العمل الجاد، بطلب من المهندس أسامة الشيخ رئيس قنوات النيل المتخصصة، وربما كان أول من سمى برنامج باسمه، إلا أنه توقف وكان آخر برامجه، بقيام ثورة يناير، ليتفرغ تقريبا لمهرجان القاهرة السينمائى، الذى تولى منصب سكرتيره الفنى منذ عام 1987، ثم مديره الفنى منذ عام 2000 وحتى بقية حياته.
موسيقى وأفلام برائحة الحياة
لست أدرى تحديدا من وراء اختيار الموسيقى الشهيرة الأخاذة لتتر برنامجه الشهير «نادى السينما»، الذى كان البرنامج الأول من نوعه حين بدأ عام 1975، والذى كان معدا له، وقام بتقديمه فى البداية مع د. درية شرف الدين، ليعرض فى سهرة كل سبت، مقدما روائع السينما فى نسخة نقدية كاشفة، بموسيقى فواحة بروح الفن وتدفقه وجموحه، خاطفة للحواس تسحرها بلا هوادة، تناديها بعيدا، توقظنا أجنة مندهشين ببهجة جنونية إلى حيث لم نذهب من قبل، هذه الموسيقى الشهيرة Supernova للفرقة الموسيقية Moon birds المقطوعة الأخيرة فى ألبوم بعنوان EnergyــMC1ــAstro 9، التى ما زالت تسحرنا حتى اليوم، ويفتش الكثيرون عن اسمها، وعن الفيلم الذى تعبر عنه اللقطة الأخيرة من تتر البرنامج، والتى تظهر فيها طفلة ذات ثوب أبيض تخرج من أحد المنازل، هذا الارتباط الحميمى الباقى لسنوات طويلة ليس بأمر بسيط، فقد قدم البرنامج السينما فى صورتها الشهية المثيرة جامحة الحياة، مع لقطات مدهشة ومشهية منتقاة بعناية من روائع الأفلام بأنواعها المختلفة، ثم يأتى برنامج «أوسكار» الذى قدمته الإعلامية سناء منصور شهيا كذلك بموسيقى تتر فيلم ستانلى كوبريك 2001: A Space Odyssey المأخوذة عن مقطوعة لشتراوس، بانتقاء أنيق أخاذ، ثم تتوالى برامجه الناجحة محدثة بجوار بهجتها ثورة فى الذائقة والثقافة الفنية والأسلوب أيضا، فعبر برنامج «ستار» كان يحاور يوسف شريف رزق الله مع فنانين مصريين، فنانين أجانب من دول العالم، فاتحا بذهن مبتكر بوابات العالم أمامنا، عبر تبادل أشرطة فيديو ترسل لهؤلاء الفنانين الأجانب بأسئلة، ليستقبل على مثلها إجاباتهم، فيقوم بعمل مونتاج للحلقات لتبدو كما لو كان التفاعل الآن وهنا، تلا ذلك برامج أخرى مميزة تحظى دائما بمشاهدة كبيرة مثل «تليسينما» و«سينما x سينما»، الذى اختار بنفسه مقطوعة تتره للموسيقار يحيى غنام، و«نجوم وأفلام»، فأحدثت هذه البرامج التى كانت تحمل سمة المجلة السينمائية حالة من الحراك والتفاعل الجماهيرى، حيث كان من المعتاد أن يقابله الناس فى الشارع فيعلقون على فيلم السهرة الماضية ويطلبون نوعا معينا من الأفلام أو فيلما معينا، أخبار حديثة مواكبة للحركة السينمائية الآنية، أو تغطيات من الخارج كثيرا ما كان يتكلفها بنفسه، لتكون برامجه موسوعة سينمائية كذهنه الموسوعى، ما دعا البعض لتسميته «يوتيوب جيلهم»، فقد كان يقول بمهمة اليوتيوب الآن، بل وربما جوجل للسينما بذاكرته القوية الأرشيفية. وسط هذا العشق للسينما كان مستمعا جيدا لأنواع متعددة من الأغانى والموسيقى وإن كانت بحكم لغاته الأجنبية تميل للغربية، فكان يحب الاستماع لداليدا وفرقة «آبا» وإيديث بياف وموسيقى الجاز بشكل خاص، ليصاحبوه أحيانا فى كتابة اسكريبتات بعض الحلقات.
خارج الكادر لصورة أصدق..
عكست هذه البرامج وطبيعتها حالة طامحة ذات رؤية ابتكارية تروض المعوقات، وتؤمن باستمتاع بغاية حقيقية لا تغرب عنها العينان، تبتعد كل البعد عن الحالة السطحية الاستعراضية التى نراها فى حالات كثيرة كسولة، تزهو بالمعتاد والمألوف، وبتبديلات بسيطة على أمر مستهلك كإبراز ألوانه أو نثر بعض وريقات الزهور عليه، ليبدو براقا جديدا، هذا الفرق بين الحقيقى والزائف الذى نطلق عليه مسمى الأصالة، ومن هنا لم يكن يوسف شرف رزق الله ساعيا أبدا لأن يكون مركز الضوء على مر حياته، بل ساعيا دوما لتسليط الأضواء على العمل الذى أحبه وعلى إنجاز هذا الحب، كحلم من الحياة وواقع من الحلم، كما تقول الكاتبة الأمريكية باربارا جولدسميث: فقد ظل مديرا فنيا لمهرجان القاهرة لسنوات طويلة كان فيها عموده الفقرى، رافضا دائما أن يصبح رئيسا له، وهو موقف يستحق التأمل، لكنه منسجم تماما مع طبيعته ومواقف حياته، هو فقط يعنيه أن يمارس ما يحب، تحت أى مسمى.. لا يهم، مقدما أو معدا.. مديرا أو رئيسا، فالاستمتاع بالعمل هو ما يضفى عليه المثالية كما يقول أرسطو، وهو يحب هذا الجانب الفنى من المهرجان المتصل مباشرة بالأفلام وانتقائها ومشاهدتها، لا يعنيه الظهور وإن رحب به إن جاء كنتيجة طبيعية، لكنه ليس مبتغاه ولا محل سعيه، فهو صادق فيما يفعل مستمتع به دوما كمرة أولى، ما يفسر عدم مغادرة القلق له، كنت أنظر إليه وأتأمل قلقه رغم كل هذه السنوات من الثقة الراسخة فى حسن الأداء والإنجاز، قلق حقيقى، وعينان لم يُمِت روحهما الزمن أو الاعتياد، كثير من العيون ذات المناصب أراها فى السن المتقدمة بل من قبله كثيرا راكدة فاترة، تدرك كيف ستُسيّر الأمور شكليا، وكيف ستوارى النقص وتبرز القليل ككثير.. كما طمأنينة الموتى، لكن هذا الكيان الصادق القلق، ساقية ما تفرغ حتى تغترف، وما تفيض حتى تمتلئ، تحركه سفينة من الشغف الدائم ما إن ترسو حتى تبدأ رحلة جديدة.
عادة ما يتسم حضوره بالسمت الهادئ، خطوات خافتة بإيقاع نشط، مشية بها بساطة وتواضع.. صوت وقور هادئ النبرة، إيقاع متزن للكلمات، كل شيء فيه منسجم اللحن كقطعة واحدة صادقة، فما داخله يمكنك استشعاره، من جسده وصوته وأسلوبه رغم اعتدال تعبيراته، مع لغة جسد متزنة أرستقراطية كطبيعته عامة، وروح قريبة بسيطة فى نفس الوقت، وإدارة مهنية راقية للأمور والعلاقات، قوى التركيز يجيد الإصغاء، لا يبارز حضوره حضور الآخرين، يعطى الآخرين وإن كانوا أصغر منه مساحات قد تفوقه، فلا وجود لأنا زاعق أو هيمنة، بل حرص على الاحترام المتبادل، محب للحياة يملك طاقتها، ملابسه كلاسيكية أنيقة بذوق يقبل كل الألوان بشكل يظل هادئا وإن كانت مشرقة، شديد الجدية إذا ما تحدث عمليا، ينهمك بحثا عن دقة المعلومة فى ذاكرته.. أيا كانت، مهتم بشدة بالتفاصيل ويكره الاستسهال مهما كان العمل، وإذا ما سمع عبارات إطراء تعتبر حقيقة مستحقة ومتوقعة له، استقبلها ببسمة فرحة خجولة كمن لم يتوقع إطراء، لا يسعى لسماع عبارات التقدير لكنك تستطيع أن تلمح نظرة رضا تتذوق أخيرا نتاج جهد، فقد كان مشغولا بالإنجاز عن تذوقه، كل شيء يستقبله كمرة أولى مهما تكرر.. بصدق ورهافة، فى أحد لقاءاته التليفزيونية الأخيرة لمحت بريق دمع تسرب تدريجيا لعينيه بنشوة هادئة وانفعال داخلى بدا فى احمرار وجهه وبسمة مستغرقة التأمل بفطرية بريئة، حين سماعه لكلمات ثناء حقيقية مؤثرة من مقدم البرنامج، يضم أصابعه الأربعة على جبينه مع إصبع عند الصدغ، منصتا متأملا بشرود من يتأمل الرحلة الطويلة بعين أخرى، بينما كان منهمكا فى صنعها، كمن فوجئ بظهوره فى صورة كان حريصا أن يكون فيها خارج الكادر، كمن سمح لنفسه أخيرا بعد طول الطريق أن يتلذذ برشفات من رحيق أنهكه انتقاؤه وجمعه.
شغف وأحلام وأثر..
فى بدايات شغفه بالسينما أحب أفلام الويسترن والكاوبوى، حيث مساحات البرارى الواسعة وقطعان البقر والخيول الجامحة، وبطل يقودهم ملتحفا بقبعته فقط من الشمس الممتدة.. ينطلق على حصانه لا يوقفه شيء، يحمل مسدسه الجاهز للانطلاق.. متقبلا للصعاب والمفاجآت والظروف القاسية، كحالة من الاكتفاء المثير، وحرية التخلى والثقة اللا مبالية والمترفعة، حالة من الفردية الحرة المجترئة على المجهول، وكم يثير المجهول ذوى الخيال، مع الثراء الحركى والمواقف البطولية كواقع بمذاق الخيال السحرى، حالة زاخرة الإثارة والدراما، لابد أن يُسحر بها كل حالم لا يرتبط بموطئ قدميه، كان مغرما بفيلم «ريو برافو»، وأحب هوارد هوكس وكلينت إيستوود وغيرهما من أبطال الويسترن، كما أحب كثيرا فى بدايته أيضا أفلام هتشكوك، مثل «الدوامة» و«خلف النافذة» و«سايكو» وغيرها، وأفلام ستانلى كوبريك، والسينما الإيطالية وأفلام الموجة الفرنسية الجديدة والواقعية المصرية الجديدة، فأحب أفلام محمد خان صديقه القريب وعاطف الطيب وخيرى بشارة وغيرهم، وكان يحب الأفلام الرومانسية والإنسانية ويتأثر حتى تدمع عيناه فى بعض المواقف، وبينما تورط فى حب هذا العالم وتقديمه، لم يحاول الولوج لصناعته، أحيانا يكون منتهى التقديس للشيء يؤدى لخوف المساس به، فلم يقدم على الاقتراب سوى مرة لم تكتمل، فقد شارك بدعوة من الناقد رفيق الصبان لكتابة سيناريو فيلم من إخراج ممدوح شكرى، كتابة ثلاثية يشترك فيها ثلاثتهم، ورغم اكتمال الكتابة توقف المشروع بوفاة المخرج، رغم وجود هذا السيناريو حتى الآن، وبشكل شخصى أتمنى أن يتم تنفيذ وإخراج هذا السيناريو الذى أتوقع أن يكون مهما قيما.
ظلت الصداقة على مر طريقه لها قيمتها وحضورها، يرتبط بأصدقائه ويخلص لهم، ذكرى أو حضورا، فنلحظ فى حديثه ميلا لذكرهم إذا ما سمحت الفرصة، ذكر يضيء الوجه دون كلمات مبالغة، لكن يشعرك بقيمة هذه الأسماء فى نفسه، لمحات ولفتات صادقة هادئة تظهر تقديرا ووفاء حقيقيين دون صخب، كان أقرب أصدقائه فى الماضى الناقدان سمير فريد وسامى السلامونى، ثم الناقد رفيق الصبان والمخرج محمد خان، والناقدان على أبو شادى وكمال رمزى وغيرهم، ومن أصدقائه المقربين الذين ظل على اتصال بهم الناقد رءوف توفيق بصحبة طريق طويل وعلاقات عائلية قوية، وأيضا د. ماجدة واصف والمخرج خيرى بشارة ومدير التصوير سعيد شيمى، أما أصدقائه فى ماسبيرو فظل متواصلا معهم فى لقاءات منتظمة كل فترة، فمع كثرة أعبائه يظل حريصا على صلته المستمرة بأصدقائه، ومع طول مشواره وبالرغم من قامته المهنية لم يكن صداميا، ولم نسمع يوما عن تراشقه مع أحد، سيدافع بقوة عن حقه لكنه سيظل دفاعا لائقا راقيا، ربما عانى بعض الغيرة المهنية أو الإجحاف وعدم التقدير المستحق، وذاق مرارات، كتوقف بعض برامجه لأسباب غير مقنعة وهى فى أوجها، فكان يبتلع إحباطه ويطوى صفحات مرارته ليبدأ شيئا جديدا أقوى من سابقه، وبينما يغذى الناس بأخبار العالم وأحدث أفلامه، لم يكن يقدم ذاته كجزء من حالة العرض، ليبدو دوما خلف عمله لا أمامه، ليقدمه هذا العمل نفسه للواجهة، لذا كان يسعد برأى الناس وتقديرهم، فهو يرى النجاح فى الأثر كما قال فى أحد لقاءاته: «النجاح أن تترك أثرا يتذكرك به الناس»، وبرغم ما تركه من أثر باق لأجيال حيث كل جيل أثر فى من بعده؛ بقيت هناك غصة فى نفسه لتكاسله فى إصدار كتاب يجمع كتاباته ومقالاته القديمة، فقال فى أحد لقاءاته الأخيرة: «الشيء الوحيد الذى يحزننى حاليا، أننى تكاسلت على مدى السنوات الماضية فى أن أصدر كتابا، لأن طبعا البرامج زائلة والكتب باقية، وأتمنى لو أستطيع على الأقل جمع بعض المقالات تحت عنوان معين وإصدرها فى كتاب».. وكم نتمنى ذلك أيضا.
داخل الكادر.. لسماء جديدة
هذا الكيان المتوارى خلف عمله لم يكن حافلا سوى بما يقدم، لم يكن يصدّر عالمه الخاص للضوء، نعرف عن حياته الخاصة عناوين بلا تفاصيل يطيل أو يكثر التحدث عنها، الأمر ليس تحفظا فهو يتطرق لأسرته وأسماء أفرادها ببساطة إن لزم الأمر، لكنه يركز على ما يقدمه ويرى أنه ما يهم الناس، فلم يقدم نفسه مادة عرض أو نجما، ولم يجد يوما الترويج لذاته، ولم يشغله ذلك، فهو أكثر بساطة وصدقا، بسؤاله فى أحد اللقاءات الحديثة عن أكثر اللحظات سعادة فى حياته الخاصة، أجاب فى إشارات دون استغراق، بأنها لحظة ميلاد ابنه الأكبر كريم وأن أتعس لحظاته كانت فقد والدته، أما نقطة ضعفه فأشار عندها لحفيدتيه من ابنه كريم، متطرقا لابنه الأصغر أحمد وتمنيه السعادة له فى حياته الجديدة، مشيرا بشكل يشوبه الخجل لزوجته السيدة ميرفت أبو السعود حين طلب منه الحديث عنها وعن لقائهما الأول، أما مرضه ومعاناته مع الفشل الكلوى، فلم يكن يعرف عنه إلا دائرته المحيطة تقريبا، قد تسمع خبر تعبه من البعض بينما لا يبدى ذلك ولا يتطرق له إلا للضرورة القصوى، فهو ينجرف فى عمله ناسيا كيانه المادى، بكيانه الروحى، العمل الذى أحبه حتى الثمالة، بل أحب حتى أشخاصه، فلن ننسى كلماته فى تكريمه فى حفل افتتاح الدورة الماضية من المهرجان، حين ذكر العاملين معه وموظفى المهرجان بأسمائهم موجها لهم الشكر، فى وداع مبطن مستشعر، لم يذكر أهمهم فقط، بل ذكر الكثيرين متذكرا أسماءهم بدقة، لتأتى شهوره الأخيرة ونراه متوترا متعجلا بشدة لسرعة إنجاز عمل ما زال أمام إتمامه مزيدا من الوقت، ربما كان يرى شيئا فى الأفق، فيأتى دخوله للمستشفى بعد آخر مرات غسيله الكلوى، بشكل مفاجئ سريع، يضطره لإغماض عينيه اليقظتين، لرحلة شغف جديد.. لا أظنه ينطفئ، تاركا محبة وتقديرا صادقين كصدقه، بعد أن حلق بنا بطموح شفيف فى سموات السينما السبع، حين كانت مغلقة، تاركا جناحيه للباقين والآتين، ليذهب إلى باب جديد ــ كما يقول نجيب محفوظ: «يُفتح تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة».
مصادر: كتاب الناقد محمود عبدالشكور «يوسف شريف رزق الله عاشق الأطياف»، وعدد من اللقاءات التليفزيونية.