الأفلام المصرية في مهرجان القاهرة: أين كنا وإلى ماذا انتهينا

حسام فهمي 17 مايو 2022 مهرجان القاهرة السينمائي.. نظرة عن قرب

الكاتب : حسام فهمي
مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، اسم كبير يبدو كأحد التماثيل المصرية العتيقة الراقدة في المتحف المصري بميدان التحرير، الكثير من التاريخ والكثير من المعاناة في الحاضر، لكن رغم كل هذه المعاناة، تبقى القيمة في انتظار من يأتي لينفض عنها الغبار.


ومن أجل هذه القيمة يبدو البحث عن تاريخ مشاركات الأفلام المصرية في المهرجان القاهري كاشفًا للغاية، عن حقيقة واضحة كالشمس، في أن قيمة المهرجان تأتي بالأساس كنتيجة لقيمة السينما المصرية، كلما انتعشت، أصبح المهرجان مركزًا حقيقياً لسينما المنطقة، وكلما أصابها الفقر المادي والفني، تحوّل المهرجان شيئًا فشيئًا إلى سرادق احتفالات، لا أكثر ولا أقل.

هل بالفعل يمكننا ملاحظة فارق كبير بين المشاركات المصرية في المهرجان خلال الثلاثين عامًا الأخيرة؟، وهل يمكننا تتبع تغيّر الأجيال السينمائية المصرية وتغيّر أسلوبها ومزاجها العام عبر تتبع تاريخ المهرجان؟، هذا ما نحاول معكم رصده اليوم، عبر رحلة بين المشاركات المصرية في المهرجان منذ بداية التسعينيات وحتى دورة عام 2019.

التسعينيات.. جيل الواقعية الجديدة

في النصف الأول من التسعينيات نلحظ بوضوح التواجد القوي لجيل الواقعية المصرية الجديدة، بحيث يبدو المهرجان كما لو كان بيتهم ومركز انطلاقتهم، فنجد مثلًا أن العرض الأول لفيلم "البحث عن سيد مرزوق" قد تم في دورة المهرجان في عام 1991، وهو الفيلم الذي مثّل خطوة مهمة للغاية في مسيرة "داوود عبد السيد" حيث انتقل به إلى عالمه الروائي الذي استمر في نسج خيوطه حتى اليوم، العالم الذي يتميز بتواجد أشخاص حالمين، يمرون بمواقف تحمل العديد من التأويلات، كما أنها تحمل في طياتها نقدًا اجتماعيًا لا يمكن تجاهله.

نتابع بطل "البحث عن سيد مرزوق" في أحد مشاهد الفيلم وهو مكبّل بكلبش متصل بكرسي في قسم شرطة، ويستمر هذا البطل في جرّ الكرسيّ والكلبش لفترة طويلة خلال أحداث الفيلم، حتى يكتشف البطل أخيرًا أن بإمكانه أن يخلص يده من الكلبش، وأنه لو حاول منذ البداية لاكتشف أن الأمر سهل للغاية، كما لو أن داوود عبد السيد يخبرنا بأن التخلص من القمع والقيد ليس بالصعوبة التي نتخيلها.

في دورة عام 1992 يظهر موهوب آخر من هذا الجيل، وهو المخرج الراحل "رضوان الكاشف" من خلال فيلمه البديع "ليه يا بنفسج"، والذي انتزع الجائزة الفضية للمهرجان في هذا العام. تدور أحداثه في اطار فكاهي لحياة مجموعة من المهمشين والفقراء في حيّ مهدّم، هنا ينتزع الكاشف الابتسامة من قلب الأحزان، وهي الصفة التي ستميز عالمه الروائي أيضًا حتى أخر أفلامه "الساحر"، يبدو النقد الإجتماعي للسلطة حاضرًا أيضا، لكن الأهم أن الكاشف يركز على قدرة المصريين على المقاومة من خلال السخرية والضحك.

العضو البارز الآخر من أفراد جيل الواقعية المصرية الجديدة في هذه المرحلة هو المخرج المصري "خيري بشارة" الذي استمر في مرحلة التوهج خلال النصف الأول من التسعينيات، فصنع بصمته الخاصة في فيلم "حرب الفراولة" الذي تم عرضه في دورة عام 1993، الفيلم الذي يبحث عن معنى السعادة في زمن ما بعد الانفتاح حيث يُشترى كل شئ بالمال، ثم يكمل بشارة المسيرة المتميزة في دورة عام 1995 من خلال فيلم "إشارة مرور" والذي فاز من خلاله بجائزة لجنة التحكيم الخاصة "الهرم الفضي"، وهو الفيلم الذي صنع بشارة من خلاله مزيجًا خاصًّا من النقد الإجتماعي والسخرية السياسية بالإضافة للعنصر الخاص في كافة أفلامه تقريبًا وهو استمرار أبطاله في رحلة البحث عن السعادة، هنا تدور أحداث الفيلم في اشارة مرور يحتجز من خلالها مجموعة مواطنين من فئات مختلفة لساعات وساعات نتيجة مرور موكب رئاسي.

على ذكر اشارات المرور نتذكر أيضًا المشاركة المتميزة لأحد أبرز مخرجي جيل الواقعية المصرية الجديدة، صانع حكايات وبطولات المهمشين، المخرج المصري "عاطف الطيب"، الذي شارك في دورة عام 1994، وحصد جائزتي أفضل ممثل للراحل "نور الشريف" حيث سلّمه له الراحل "فريد شوقي"، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة "الهرم الفضي" والتي تسلمها "عاطف الطيب" من رئيس المهرجان "سعد الدين وهبة".

"ليلة ساخنة" هو أخر عاطف الطيب التي شاهدها وحظى بالتقدير اللازم عنها، فقد رحل الرجل قبل أن يصل فيلمه التالي "جبر الخواطر" إلى دور العرض، في ليلة ساخنة نتابع أيضًا رحلة ليلية لسائق تاكسي في ليلة رأس السنة، حيث تجمعه الأقدار بعاهرة تائبة، يبحث كل منهما عن وسيلة لتحصيل 200 جنيه، مبلغ بسيط ولكنه يمثل طوق النجاة لكلٍ منهما ولأسباب مختلفة، لكن في العمق من كل هذا يكمل الطيب رحلته في انتقاد السلطة التي وصلت بمواطنيها لهذا الحدّ من الفقر والعوز.

السخرية الاجتماعية.. بين عواد والميهي والقليوبي

على ذكر السخرية الاجتماعية لا يفوتنا ذكر أفلام المؤلف "ماهر عواد" والتي شاركت في المهرجان في دورتي 91 و 92 أيضًا، حيث شارك عواد في الأولي من خلال فيلم "يا مهلبية يا" مع شريف عرفة، وفي الثانية من خلال "الحب في التلاجة" مع سعيد حامد، هنا يقدم عواد رؤية مغرقة في السخرية، لا تبدو أنها تعترف بأي خطوط حمراء، ففي الفيلم الأول يسخر عواد وبشكل مستمر من أساطير الوطنية المصرية، كما لا يفوته من أن يسخر من المجتمع السينمائي المصري نفسه، أما في الفيلم الثاني فيقدم عواد رؤية متشائمة للغاية من حاضر المجتمع المصري، ولكنه يغلفه بكاية غرائبية ساخرة عن رجل يؤمن بأن التقدم العلمي سيحفظ أجزاء جسده داخل ثلاجة حتى يأتي زمن أفضل يعيش فيه.

على ذكر السخرية يحضر بالتأكيد اسم المخرج والمؤلف المصري الكبير "رأفت الميهي" أحد مؤسسي جماعة "السينما الجديدة"، جماعة الفنانين المصريين الشباب التي تشكلت في 68 وأصدرت بيانًا غاضبًا، انتقدت فيه سيطرة مجموعة من «الأسطوات» على المجال الفني المصري واهتمامهم فقط بتلميع النجوم وابتعادهم عن واقع المصريين، معاناتهم وأحلامهم.

الميهى كان حاضرًا وبقوة أيضا في المهرجان في بداية التسعينيات، ونذكر بالتحديد فيلمه "قليل من الحب كثير من العنف" والذي حصدت من خلاله "ليلى علوي" جائزة أفضل ممثلة في دورة عام 1994، وهو الفيلم الذي يكمل به الميهي عالمه الخاص من الجمع بين اللامعقولية والنقد السياسي، فيصنع فيلمين بسيناريوهين مختلفين داخل فيلم واحد، كما يغلف نقده السياسي والاجتماعي في المسارين بسخرية لاذعة تتمحور في الأساس حول الحريات الشخصية وبؤس المجتمع الذي يحكمه تحالف المال والسلطة. يستمر تعاون ليلى علوي أيضا مع "رأفت الميهي" في عالمه الخاص، وذلك من خلال فيلم "تفاحة" الذي فاز بالجائزة الذهبية "جائزة أفضل فيلم" في دورة عام 1996.

نذكر أيضًا المخرج المصري "محمد كامل القليوبي" كاسم صنع تواجده بصمة واضحة في سينما السخرية الاجتماعية السياسية في التسعينيات، وذلك بشكل خاص من خلال فيلمه "البحر بيضحك ليه" في دورة عام 1994 ، والذي حصد القليوبي عنه جائزة خاصة من لجنة التحكيم الدولية، في شكل شهادة تقديرسلمها له المخرج المصري الكبير "يوسف شاهين"، وطبقًا لما أوردته اللجنة في سجلات المهرجان فقد كان التقدير بشكل خاص لشجاعة الفيلم ودعوته للحرية على المستوى الإنساني، الحرية التي يتذكرها كل من شاهد الفيلم بالطبع من خلال مشهد يكيل فيه بطل الفيلم والذي قام بدوره الفنان "محمود عبد العزيز" الصفعات واحدة تلو الأخرى لكل من أفسد عليه حياته، بدءًا من رؤساء العمل ومرورًا بكل الأفاقين والمنتفعين في حياته.

سينما المرأة

في التسعينيات أيضًا وبالتحديد في نصفها الثاني شهد المهرجان تحولًا ملحوظًا في مشاركة المرأة، سواء في الأفلام ذات البطولة النسائية، أو زيادة عدد الأفلام التي يقوم بإخراجها مخرجات مصريات.

ففي دورة عام 1995 شاركت المخرجة المصرية "أماني بهنسي" بفيلم "التحويلة "، وهو فيلم يبدو متأثرًا في الكثير من عناصره بجيل الواقعية المصرية الجديدة، وبالأخص في ما يخص السيناريو الذي يدور عن قصة مأساوية لرجل قبطي يتعرض للسجن ظلمًا نتيجة رغبة أحد الضباط الفاسدين في تعويض هروب أحد المعتقلين منه، هنا نشاهد بريئًا جديدًا ولكن بعيون أماني بهنسي.

أما في دورة عام 1996 فحضرت المرأة من الخلال البطولة والموضوع في فيلم المخرج الكبير "سعيد مرزوق" والذي حمل اسم "المرأة والساطور" والذي تدور أحداثه عن قصة حقيقية لانتقام امرأة من زوجها. هنا ينقل مرزوق جريمة قتل مكتملة، مغرقة في الوحشية والدموية، لكنه يقدم قبل ذلك كل الدوافع والمقدمات التي تبرر لهذه المرأة انتقامها، فيلم أثار الكثير من الجدل على المستوى الاجتماعي والسياسي، تمامًا كما اعتاد مرزوق الذي فعلها من قبل في "أريد حلًا" في منتصف السبعينات. الجدير الذكر أن الفنان المصري "أبو بكر عزت" قد حصد جائزة أفضل ممثل في هذ الدورة من المهرجان عن دوره في هذا الفيلم.

بالعودة لدورة عام 1995 نكمل هذا السياق بفيلم المخرج "مجدي أحمد علي" الذي حمل اسم "يا دنيا يا غرامي"، الفيلم الذي يقوم ببطولته ثلاث نساء يحلمن بحياة أفضل، يبحثن عن الحب، ويأملن في الزواج، لكن قصص الحب مبتورة والزواج يبدو صعب المنال في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية تطحن نساء مصر وأحلامهن.

الحب كوسيلة للمقاومة ظهر أيضًا كموضوع لفيلمين من الأفلام المصرية في دورة عام 1997، الأول هو "هارمونيكا" للمخرج "فخر الدين نجيدة" والثاني هو "هيستريا" للمخرج "عادل أديب"، في الحالتين نشاهد قصص حب تولد في قلب مجتمع يعاني فيه الرجال والنساء من قلة فرص العمل وضيق ذات اليد، كما نشاهد أيضًا أبطالًا حالمين محبين للفن تتحطم أحلامهم على صخرة واقع المصريين في نهاية التسعينيات. يبدو فيلم "هيستريا" اليوم شهيرًا، خصوصًا بالأداء المميز للثنائي أحمد زكي وعبلة كامل، لكن الغريب أن فيلم "هارمونيكا" هو من حصد جائزة أفضل فيلم عربي في هذه الدورة من المهرجان.

أسامة فوزي والواقعية السحرية


لا يمكن وضع تحفة المخرج الراحل "أسامة فوزي" تحت أي من العناوين السابقة، ونقصد هنا بالتحديد فيلمه الأول "عفاريت الأسفلت" والذى عُرض للمرة الأولي في دورة عام 1995، ففي هذا الفيلم يقدم فوزي تجربة ناضجة وخاصة للغاية، يعالج من خلالها دراسة شخصية لأسرة من سائقي الميكروباص، كما يمزج بين عالم واقعي تمامًا لحارة مصرية ولمحات سحرية تنبع بالأساس من قدرة مبهرة لحلاق الحارة على الحكي.

في هذا الفيلم يمكن تتبع خصائص عالم أسامة فوزي الذي اكتمل عقب ذلك في فيلميه "جنة الشياطين" و"بحب السيما"، وهي السخرية من الموت، والاندفاع وراء الغريزة الإنسانية وشهواتها للهرب من حياة بلا معني، بالإضافة للقدرة الفائقة على نسج مواقف يختلط فيها الضحك بالدموع.

ختام التسعينيات وعصر النجوم

يمكن التأريخ بدورة عام 1999 كختام لهذا العقد المضيء من سينما التسعينيات، وهو العقد الذي شهد آخر فترات توهج جيل الواقعية المصرية الجديدة. في هذه الدورة بالتحديد حصد فيلم "أرض الخوف" للمخرج "داوود عبد السيد" 3 جوائز، هم "جائزة أفضل فيلم عربي"، و"جائزة أفضل سيناريو"، والهرم الفضي "الجائزة الخاصة للجنة التحكيم". على جانب آخر فقد حصد "محمود عبد العزيز" جائزة "أفضل ممثل" عن دوره في فيلم "سوق المتعة" للمخرج "سمير سيف" والكاتب "وحيد حامد".

في أرض الخوف يصنع داوود عبد السيد أحد أجمل أفلامه على مستوى رسم الشخصيات وخيوط الحكاية، يضع داوود بطله في اختيار صعب، وحيرة مستمرة، حيرة جعلت الفيلم مثارًا للتأويل والتفسير حتى اليوم، فحكاية رجل صالح تخفّى لسنين في زي المجرمين حتى نسي ذاته، تحولت لرمزية لبني آدم كافة في عالم لم نعد نتذكر لم أتيناه.

الملاحظة الأبرز هنا في ختام التسعينيات، وبالإضافة للتواجد الكبير لأفلام مجموعة من أبرز المؤلفين والمخرجين المصريين، أن هذه الأفلام قد جمعت في بطولتها وبشكل شبه مستمر مجموعةً كبيرة أيضًا من أبرز نجوم الصف الأول في سينما هذا الجيل، وعلى سبيل الذكر يمكننا تتبع تواجد شبه سنوي لمحمود عبد العزيز ونور الشريف وليلى علوي ويسرا بالإضافة لأحمد زكي وحتى النجمة التي يصنفها كثيرون في فئة الأفلام الشعبوية "نبيلة عبيد".

بانتهاء هذا العصر لم يغب فقط جيل مثقفى السبعينيات والستينيات عن صناعة السينما، لكن غاب النجوم أيضًا، ظهر المضحكون الجدد وقادوا عصر السينما النظيفة في أول الألفية الثانية، تصدروا الإيردات لسنوات لكنهم لم يطأوا أرض المهرجان بأفلامهم إلى اليوم.

الألفية الثانية

جيل الصوت الزاعق بين الدغيدي ويوسف
مع بداية الألفية الثانية بدأ جيل آخر في تصدر عناوين المهرجان، تراجع جيل الطيب وبشارة وداوود وتراجع معه أسلوبهم السينمائي، وظهر جيل جديد بأسلوب آخر، يفضل طرح قضاياه بشكل أكثر مباشرة، بحيث أصبحت الأفلام لهذا الجيل حيزًا لإثبات المواقف السياسية والاجتماعية، أكثر من كونها مساحة فنية لخلق عالم يحرض مشاهديه على التفكير والتساؤل.

تبلورت هذه الرؤية الجديدة في اسمين لمعا في هذه الفترة بشكل خاص، ونقصد هنا المخرج المصري "خالد يوسف" والمخرجة المصرية "إيناس الدغيدي".

ففي دورة عام 200 نجح يوسف في اقتناص جائزة أفضل فيلم عربي، بالإضافة لجائزة لجنة التحكيم الخاصة "الهرم الفضي"، وذلك عن فيلمه "العاصفة"، الذي تدور أحداثه في أجواء ملحمية عن أم مصرية تسير المقادير بأبنائها للقتال وجهًا لوجه في حرب الخليج، الحرب التي تورطت فيها القوات المصرية في محاولة لإرغام القوات العراقية على الانسحاب بعد غزو الكويت. هنا يريد "يوسف" أن يعبر عن رفضه لمشاركة القوات المصرية في قتال الإخوة العرب، فيقرر يوسف أن يصنع فيلمًا يدور حرفيًا عن قتال الإخوة.

مشاركة خالد يوسف الأخرى كانت من خلال فيلم "أنت عمري" في دورة عام 2004، وهي مشاركة تبدو أهدأ كثيرًا من العاصفة، لكنها لا تخلو من خلطة يوسف التي تتضمن أحداثًا شديدة الميلودرامية عادة، هنا نجد حكاية حب لأب مصاب بالسرطان براقصة بالية مصابة بنفس المرض، في نفس التوقيت الذي يترك فيه زوجته التي يحبها للغاية، الفيلم جمع في بطولته بين منى شلبى وهاني سلامة بالإضافة لنيللي كريم التي فازت بجائزة أفضل ممثلة في هذه الدورة.

على جانب آخر ظهرت إيناس الدغيدي بمحتوى اعتبره كثيرون نسويًّا وصادمًا في هذه الفترة، أفلام الدغيدي دائمًا ما تقوم ببطولتها نساء مغامرات وغير مكترثات بقيود المجتمع، ولكننا على جانب آخر لا يمكننا تجاهل أن هذه الأفلام أيضًا تدور في مركزها عن الرجل، وكأن الحب هو التيمة الوحيدة التي تبحث من خلالها النساء عن الحرية.
نذكر هنا مشاركة الدغيدي بفيلم "مذكرات مراهقة" في دورة عام 2001 والذي نجح في اقتناص جائزة أفضل فيلم عربي، وهو الفيلم الذي تدور أحداثه بشكل مباشر للغاية عن مذكرات فتاة مراهقة تستسلم للحب فتتعرض للتهديد من خلال تسجيل جنسي بحوزة الفتاة التي تنافسها على حبيبها، هذا الفيلم ورغم مباشرته الشديدة فقد تم اعتباره حينها دعوة للحرية.

كررت الدغيدي التجربة بالطبع في دورة عام 2004، وذلك من خلال فيلم حمل حرفيًا اسم "الباحثات عن الحرية"، هنا نحن نتابع مذكرات لثلاث نساء باحثات عن الحب وهاربات من جحيم الشرق الأوسط، نفس السردية التي شاهدناها من قبل تقريبًا مع اختلاف مواقع التصوير، ولكن الدغيدي حاولت هنا أن تحسن من سرديتها بعض الشيء فاستعانت بسيناريو عن رواية للكاتبة هدى الزين، وهي الرواية التي تجمع في أحداثها صراعات نسوية تحدث لنساء من ثلاث بلدان عربية، وعلى إثر ذلك وبحكم الأجواء التي شهدتها تلك الفترة أيضًا استطاعت الدغيدي أن تحصد جائزة أفضل فيلم عربي في هذه الدورة.
السينما السياسية تصارع

كان انتعاش السينما السياسية بشكلها الأكثر مباشرةً أيضًا أحد سمات هذه الفترة، فبينما نجح المضحكون الجدد وفي مقدمتهم هنيدي ومحمد سعد في غزو شباك التذاكر، تفرغ عدد من صناع السينما للتعبير عن مواقفهم السياسية عبر أفلام تبدو بعضها مخصصةً للعرض داخل أروقة المهرجانات، فيما نجح بعضها الآخر في البقاء قابلًا للعرض والمشاهدة حتى اليوم.

أحد هذه الأفلام هو فيلم "خريف آدم" للمخرج محمد كامل القليوبي، والذي نجح في حصد جائزة أفضل فيلم عربي في دورة عام 2002، وهو الفيلم الذي ابتعد به القليوبي تمامًا عن أسلوبه في مشاركته السابقة "البحر بيضحك ليه"، فهنا وعلى العكس تمامًا يتورط القليوبي في نص ملحمي لعائلة صعيدية تطارد ثأرًا قديمًا في نفس التوقيت الذي تقدم فيه مصر شهداءها على الحدود الشرقية، من زمن النكبة وحتى زمن النكسة.

على جانب نذكر تجربة "سمير سيف" و"وحيد حامد" المثيرة للتأمل في فيلم "معالي الوزير، والذي نجح من خلاله الفنان الراحل "أحمد زكي في حصد جائزة أفضل ممثل في دورة عام 2002، وهو الفيلم الذي ربما لم يحصد إيرادات كبيرة في شباك التذاكر، لكنه يبقى حتى اليوم واحداً من أفضل أداءات زكي وأفضل سيناريوهات حامد السياسية.

هذا السياق السياسي استمر في الفوران ولكنه اختلط شيئًا فشيئًا بالمزيد من الكوميديا السوداء، ليتماشى مع العصر الذي سيطرت فيه الكوميديا بشكل مكتمل على الشاشة الكبيرة، نذكر هنا فيلم "ليلة سقوط بغداد" والذي تم عرضه في دورة عام 2005، وهو أحد أفلام المخرج المتميز "محمد أمين" الذي صنع شهرته من خلال "فيلم ثقافي" والذي انتقل عبره إلى عالم السينما السياسية الساخرة.

نذكر هنا أيضا فيلم "بلطية العايمة" من تأليف "بلال فضل" وإخراج "علي رجب" والذي شارك في دورة عام 2008، هنا يظهر أسلوب جديد في السخرية السياسية، خلطة بلال فضل التي تجمع بين النقد الاجتماعي وتجميل كافة مشكلات الطبقات الفقيرة في مصر لتحالف السلطة والمال، هذا التحالف الذي يقرر أن يستولي على بيوت وأراضي فقراء الإسكندرية في هذا الفيلم.
دراما وضحكات ودموع
منذ بدأ الألفية الثانية أيضًا وهناك ظاهرة لا يمكن تجاهلها في المهرجان، ألا وهي ظهور عدد من الأفلام التي لا يمكن التفريق بين محتواها ومحتوى الدراما التليفزيونية المصرية بشكل حقيقي، وهي في غالبيتها أفلام تعتمد على الحوار أكثر من اعتمادها على الصورة، وهو ما لا يمنع أن بعضها يقدم وجبة جيدة من الدراما والضحكات والدموع للمشاهدين.

نذكر هنا بين هذه الأفلام فيلم "حب البنات" للمخرج خالد الحجر، والذي حظى بتنويهٍ خاص من لجنة تحكيم المهرجان في دورة عام 2003 نتيجة لما اعتبرته اللجنة كوميديا إنسانية راقية تم تقديمها من خلال الفيلم، لم يلق الفيلم نجاحًا جماهيريًا في السينما لكنه اليوم أحد أنجح الأفلام التليفزيونية.

نذكر هنا أيضا فيلم "خالي من الكوليسترول" للمخرج محمد صلاح أبو سيف، والذي شارك في دورة 2004، وأراد من خلاله أبو سيف أن يقدم خلطة كوميدية ذات معنى يساري ينتقد سيطرة شركات الإعلانات على حياة المصريين في الألفية الثانية، إلا أن الفيلم في النهاية لم ينجح في تحقيق مبتغاه، كما اتجه مشوار أبو سيف عقب ذلك إلى مجموعة من الأفلام الغرائبية، آخرها "المشخصاتي 2".

في نفس السياق نذكر أيضًا فيلم "خلطة فوزية" والذي تم عرضه في دورة عام 2008، حيث أراد من خلاله المخرج مجدي أحمد علي أن يكمل ما بدأ في "يا دنيا يا غرامي" إلا أن الزمن قد تغيّر فمرّ الفيلم مرور الكرام دون أن يصنع نقاشًا أو يحصد جائزة. استمرت محاولات "مجدي أحمد علي" في دورة عام 2009، وهذه المرة من خلال فيلم "عصافير النيل" المأخوذ عن رواية الأديب "إبراهيم أصلان"، خرج أحمد علي قليلًا عن مساحة البطولة النسوية، ونجح عبد الوهاب في إثبات نفسه كمجسد موهوب، وفاز في النهاية بجائزة أفضل فيلم في المهرجان.

لكننا إذا اردنا أن نعدد أفضل أفلام هذه الفئة فنذكر دون شك فيلم "قص ولزق", والذي حصدت مخرجته "هالة خليل" جائزة أفضل عمل ثانٍ بالإضافة لجائزة أفضل فيلم عربي في دورة عام 2006، وهو فيلم يبدو طازجًا في محتواه، أقرب إلى جيل جديد من الشباب، جيل مختلف وغير متماهٍ مع القاهرة بصخبها وقسوتها. نختتم هذه الفئة بذكر فيلم المخرج "سعد هنداوي" "ألوان السما السبعة" الذي شارك في دورة عام 2007، والذي رغم اعتماده على قصة حب بين بطلين من زمن قد ولّي إلا أنه نجح بشكل كبير في خلق أجواء روحية صوفية جديرة بالمتابعة.
يناير - ما قبلها وما بعدها.

كانت السنين الأخيرة في حكم مبارك تشي بأن شيئًا ما سيحدث، وبالتأكيد لم تكن السينما بعيدة عن ذلك، يمكننا اليوم وبأثر رجعي تتبع التغير الحادث في نوعية الأفلام المصرية المشاركة في المهرجان وظهور جيل مختلف من صنّاع السينما.

نذكر هنا في البداية فيلم "بصرة" للمخرج أحمد رشوان، والذي استطاع حصد جائزة "أفضل فيلم عربي" في دورة عام 2008، هنا بالمناسبة نشاهد الظهور الأول في المهرجان لإياد نصار ومحمد رمضان، لكن الغريب أن مخرج هذه العمل قد ابتعد تمامًا عقبه عن السينما الروائية واتجه بشكل مكتمل إلى السينما التسجيليلة. في هذه الفيلم نتابع جلسات شباب وسط البلد المهتم بالسياسة، أحاديث سياسية متصلة، وأحداث سياسية كبري تؤثر في مصير الأبطال وحياتهم.

في دورة العام التالي "2009" ظهر أحمد عبد الله بفيلمه الأول "هليوبوليس"، وهنا نرى بوضوح سينما جيل مختلف، سينما لا تتردد في استخدام الكاميرا المحمولة على الكتف، كما أنها لا تملأ كادراتها بالحوار دون سبب مقنع، يقدم عبد الله مجموعة حكايات تحدث لمجموعة شباب في مصر الجديدة، بين صانع سينما يكافح لصنع فيلمه، وعسكري أمن مركزي يقضي نوباتجيته، وشاب يفكر في الهجرة. هنا يظهر غضب دفين من الحال في مصر، كما يظهر أيضًا شغف لا يمكن إخفاؤه بالحديث عن السينما داخل الأفلام.

يكرر عبد الله في العام التالي تجربته ولكن بشكل أكثر شجاعةً وتحررًا وذلك من خلال فيلمه "ميكروفون" الذي نجح في حصد جائزة أفضل فيلم عربي في دورة عام 2010، يبدو الشباب في ميكروفون مقبلين على تنفيذ ما خطّطوه، كما يبدو كل من يمثل النظام داخل الفيلم كبشر فاتهم القطار، وهكذا، وبين التمرد والحيل ينجح جيل ميكروفون في انتزاع ما أراد.

في نفس الدورة نجح "خالد الحجر" في انتزاع جائزة أفضل فيلم "الهرم الذهبي" وذلك عن فيلمه "الشوق"، هنا يبتعد الحجر تمامًا عن المعالجات الكوميدية اللطيفة وينغمس بشكل ميلودرامي في مأساة أسرة مصرية فقيرة، يطاردها الفقر والمرض، ولا سبيل أمامها لكسب قوت يومها سوى التسول، هنا نجحت أيضا "سوسن بدر" في حصد جائزة أفضل ممثلة، كما قدمت "روبي" نفسها كممثلة جيدة.

تأتي يناير وتزيح نظام حكم مصر لمدة زادت على الثلاثين عامًا، واستبشر معها محبو السينما في مصر خيرًا في أن الزمن القادم سيشهد حرية تعبير تنقل السينما المصرية للمكانة التي تستحقها، هذا على الرغم من أن العديد من أفراد المجتمع السينمائي المصري نفسه كانوا ضد هذه الثورة. من أيدوا الثورة وشاركوا في إرهاصاتها أيضًا كانوا حاضرين، ولكنهم قلة، فبعد أن توقف المهرجان في عام 2011، عاد المهرجان في العام التالي بعد أن تظاهر الجميع بانتمائهم لها.

نذكر هنا فيلم "الشتا اللي فات" للمخرج "إبراهيم البطوط" كأحد أهم افلام دورة 2012، وهو الفيلم الذي حظي بشهادة تقدير من لجنة تحكيم المهرجان، وهي بالطبع جائزة متأثرة بأن الفيلم تدور أحداثه عن إرهاصات ثورة يناير. المهم بشكل خاص حول فيلم البطوط أننا يمكننا أن نؤرخ به لهذه الفترة التي تبدو اليوم كما لو أنها لم تحدث قط، فترة غابت فيها الرقابة والسلطة بشكل مكتمل، ومعها شاهدنا فيلمًا تتحدث شخصياته باللغة الحقيقية للشارع المصري، دون حذف للشتائم أو الإشارات.

في عام 2014 يعود إبراهيم البطوط مرة أخرى ولكن من خلال حكاية مغايرة في فيلم "القط" الذي قام ببطولته أيضا "عمرو واكد" لكنه هنا ليس ناشطًا سياسيًا كما شاهدناه في الشتا اللي فات، هنا يتحول واكد لفتوة على الشكل الحديث، "عشري" آخر، لكنه هنا يحقق العدالة في دولة بلا نظام.

في نفس الدورة أيضًا عاد أحمد عبد الله من خلال واحد من أكثر أفلامه جمالية، وهو فيلم "ديكور" الذي تعود فيه أجواء صناعة السينما والحديث عنها للظهور داخل عالم عبد الله السينمائي، مرة أخرى أيضًا يعود المكان في دور البطولة، وذلك في حكاية عن شابة تختبر حياتيين في حياة واحدة، بين الحب والنوستالجيا وصعوبات الحياة يصحبنا عبد الله في فيلم بالأبيض والأسود حتى مشهد النهاية.

على جانب آخر ظهر فيلم "باب الوداع" للمخرج "كريم حنفي، في دورة عام 2014 كمحاولة لمحاكاة أسلوب المخرج الروسي تاركوفيسكي، من خلال الاعتماد على السرد من خلال الصورة دون حوار قدر الإمكان، وهي محاولة وإن كانت غير مكتملة إلا أنها قد حظت بتقدير لجنة التحكيم التي قد منحت جائزة الإبداع الفني لمدير تصوير الفيلم "زكي عارف".
أفلام بلا جمهمور
في العامين التاليين أصبحت المشاركات المصرية محدودة بل وتمر دون أن يتذكرها أحد تقريبًا، وباستطلاع رأي بسيط يمكن أن تستنج أن الأفلام المصرية التي شاركت في دورتي 2015 و2016 لم تحظَ بأي شهرة عقب انتهاء المهرجان.

ففي عام 2015 شارك المخرج "كريم السبكي" بفيلمه "من ضهر راجل" والذي جمع في بطولته محمود حميدة وآسر يس، عن قصة ملاكم شاب يعيش في كنف والدة الملاكم السابق ويكافح من أجل الوصول لحلمه في التفوق الرياضي بالإضافة للارتباط بالفتاة التي يحبها، وهو فيلم يبدو عن رحلة صعود في زمن لم يعد يهتم فيه الجمهور برحلات الصعود. على جانب آخر شارك "سامح عبد العزيز" بفيلمه "الليلة الكبيرة" وهو تكرار لخلطته في صنع أفلام تدور في مكان واحد وليوم واحد، ولكن لسبب غير معلوم يبدو أن هذا الفيلم بالتحديد أقل أفلامه شهرة ونجاحًا.

في العام التالي 2016، شاركت مصر بفيلمين هما يوم للستات إخراج "كاملة أبو ذكري" و"البر التاني" إخراج "علي إدريس، وهما فيلمان يجمعهما أمر واحد فقط أن المنتج هو من قام بالبطولة، ونقصد هنا إلهام شاهين في الفيلم الأول، و"محمد علي" في الفيلم الثاني. هنا نتابع أفلامًا اجتماعيةً مرة تهتم بخلق حالة خاصة لمجموعة من الناس في حارة مصرية، ومرة أخرى عن رحلة مجموعة من الرجال الفقراء عبر مأساة الهجرة غير النظامية. لكن المحصلة أفلام تحاول دون أن تصل.
مهرجان بلا فيلم مصري

في دورة 2017 أعلن المدير الفني للمهرجان والسينمائي الراحل "يوسف شريف رزق الله" أن المهرجان لن يعرض في مسابقته الرسمية أي فيلم مصري للمرة الأولى عبر تاريخه، وهو الحدث الذي يمكننا اليوم أن نرى أنه كان نتيجة طبيعية للسياق الذي تتبعناه في هذه المقال.

في دورة 2018 تحت رئاسة "محمد حفظي" عاد أحمد عبد الله ليشارك بفيلمه "ليل داخلي" بنفس التركيبة التي اعتدناها من عبد الله عن الميتاسينما "أفلام عن الأفلام" بالإضافة للحضور الطاغي لمدينة القاهرة في زمن يبدو أكثر قسوةً من كل ما مرت به المدينة وشعبها من قبل.

لكن محاولة عبد الله الفردية لا تمنعنا من التخوف، لأن المنحنى لايزال مستمرًا في الهبوط، والحقيقة الواضحة هي أن السينما المصرية في أحد أسوأ فتراتها.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات