الكاتب : باكينام قطامش
.. و"القاهرة السينمائي" أهم محطات رحلتي في الصحافة الفنية
كان حلمًا كبيرًا لأيّ صحفيّ فنيّ فى بداية حياته أن يفتح أبواب مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ليدخل إلى هذا العالم الساحر من الخيال والجمال والفن، و أعني به عالم السينما، و لكن مجرد الدخول في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي لم يكن سهلًا، فالمهرجان كان حريصًا على انتقاء كل اسم يسجل في قوائمه، و كنت آنذاك عام ١٩٨٦ فى عامي الأول بمجال الصحافة الفنية، أي مجرد صحفية صغيرة تحت التمرين، أبحث عن مكان وسط قامات صحفية كبيرة أنظر نحوها فى إكبار وأفتخر أننى أصبحت في منظومتهم المهنية وأجلس بينهم فى نفس المكان، أستمع إليهم وأتعلم منهم وأحاول تأكيد موهبتي البسيطة .
بعد عام التقيت فى عمل صحفي مشترك مع زميلتي وصديقة عمري الأستاذة أمينة الشريف والتي كانت تغطي فعاليات المهرجان، و طلبت مني أن أشاركها العمل فيه عام ١٩٨٧، و كأنها كانت تقرأ أفكاري وتعلم بالحلم الذى طالما تمنيته، وبدون تردد ناشدتها أن تأخذ بيدي إلى ما وراء جدران مقر المهرجان الصماء لأقترب من عالمي المنشود، و داخل هذا المقر الكائن منذ ذلك الحين وحتى اليوم في رقم ١٧ شارع قصر النيل بمنطقة وسط القاهرة خطوت أولى خطواتي نحو سحر السينما وثقافة الفن القادم إلينا من كل بلاد العالم، كدت أن أتعثر فى أول يوم وأنا أصطدم بخلية النحل التي كانت تتحرك بسرعة ورشاقة وحرفية من يدرك أهمية و قيمة ما يفعله. و اصطحبتني أمينة إلى الأستاذ سيد عواد الذي كان مسئولًا عن المركز الصحفي لتسجل اسمى إلى جوار اسمها، ووافق لتدق ساعة العمل.
السينما كما يجب أن تكون: فى الثمانينيات كان للسينما تأثيرها في المتلقي، وكانت الساحة مليئة بأسماء عظماء فى مجالات الكتابة والإخراج والتصوير والتمثيل وكافة الفنون السينمائية، ولكن حال دور العرض كان متدهورًا إلى أقصى حد، مما جعل الجمهور يعزف عن ارتيادها إلا خلال أيام مهرجان القاهرة والتي شهدت عشرات المرات لافتة كامل العدد، وهي الظاهرة التي كانت قد توقفت تمامًا، وواكب مشكلة دور العرض ظهور موجة جديدة في السينما المصرية تحمل اسم الواقعية الجديدة على يد روادها من المخرجين المتميزين أمثال عاطف الطيب وداود عبد السيد ومحمد خان وخيرى بشارة، ومن بعدهم رضوان الكاشف و سعيد حامد وكان إلى جوارهم منتج يعشق الأعمال الجيدة الجادة المختلفة وهو حسين القلا، ووجد هؤلاء الرواد فى مهرجان القاهرة ملاذًا يحميهم من مشكلة عزوف الجمهور عن دور العرض لسوء حالتها وانصراف الدولة عن دعم السينما، و بالفعل حصدت أفلامهم العديد من الجوائز ووقفت أمام أفلامٍ كبيرة وافدة من مختلف دول العالم التي لها باع طويل في مجال السينما.
فى تلك الفترة كنتُ حريصةً على مشاهدة كل الافلام والمشاركة في ندواتها ورأيت نجومًا ونجمات على مدى سنوات طويلة لم أكن أحلم أن التقي بهم يومًا أمثال صوفيا لورين، جينا لولو بريجيدا، كلوديا كاردينالي، أورنيلا موتي، إنستاسيا كينيسكي، ليف أولمان، آلان ديلون، نيكولاس كيدج، جون مالكوفيتش، مورجان فريمان، ومخرجين عالميين أمثال كيروساوا، أنطونيوني، كارلوس ساورا، فيليني أوليفر ستون، مصطفى العقاد، وغيرهم من عمالقة فن السينما. و أول ما لفت انتباهي كان النشرة اليومية للمهرجان التى أشرف عليها لسنوات الناقد الكبير الراحل أحمد رأفت بهجت، و كنت التهم كلماتها وسطورها بشغف شديد لأتعلم منها كل ما يمت لعالم السينما بصلة، ووجدت بداخلها مقالات لنجوم النقد فى مصر والعالم العربي إلى جانب ترجمات دقيقة لمقالات هامة عن سينما العالم، وتشاء الظروف أن يشرف على تغطية ندوات المهرجان فى النشرة زميل وصديق عزيز هو الكاتب الصحفي عادل سعد فطلب مني معاونته فى تسجيل بعض هذه الندوات، وقتها تخوفت كثيرًا من الكتابة وسط أسماء أكبر وأكثر حرفيةً مني بكثير، و بدأت أفكر كيف سأكتب؟ شعرت آنذاك أن الندوات يتم تسجيلها بشكل تقليدي مختصر وأنا لم أكن أميل إلى هذا النوع من الكتابة، فقررت أن أجرب أسلوبي الخاص فوصفت أدقق التفاصيل داخل كل ندوة فكان من يقرأها يشعر بأنه حضرها بالفعل، و نال هذا الأسلوب إعجاب الأستاذ أحمد رأفت بهجت وشجعني على الاستمرار فيه، وساندني مساندة رائعة فكان يمنحني مساحات الكتابة لا يمنحها لأحد غيره، ولم أكن قد رأيته إلا مرة واحدة فقط، لأنه لم يكن يغادر المطبعة إلا فى آخر يوم من المهرجان وهكذا كان الأساتذة فى الصحافة المصرية لا تحكمهم الأهواء أو العلاقات الشخصية بل ينظرون إلى الموهبة و الأسلوب، ويمنحون أصحابَهم فرصتَهم كاملة. واستمر عملي في النشرة اليومية منذ نهاية الثمانينيات و حتى آخر دورة شاركت فيها عام ٢٠١٢، و تدرجت حتى منصب نائب رئيس تحرير النشرة التى رأس تحريرها فى عامي الأخير الأستاذة الكبيرة خيرية البشلاوي، والتي تعلمت منها الجرأة فى العمل والتعبير الصادق حتى وإن كان صادمًا. وشاهدت على مدى سنوات عملي بالمهرجان مجموعة منتقاة من النقاد والناقدات فى مجال السينما، تمنيت أن أكون ذات يوم في نفس تألقهم وموهبتهم شديدة التميز أمثال: د. رفيق الصبان، سمير فريد، علي أبو شادي، كمال رمزي، هاشم النحاس، سناء البيسي نعمة الله حسين، ماجدة موريس، صفاء الليثي، ماجدة خير الله، وغيرهم كثير، فالساحة النقدية فى ذلك الوقت كانت حافلة بالكبار أصحاب الرأي الحقيقي الذي لا يكذب ولا يتجمل، سعد الدين وهبة، المعروف أن الكاتب والناقد الكبير الراحل كمال الملاخ هو مؤسس مهرجان القاهرة السينمائي و رئيسه على مدى سبع سنوات، و لكنه انتقل عام ١٩٨٥ إلى رئاسة الراحل العظيم سعد الدين وهبة، ولا يمكن أن أكتب شهادتي عن المهرجان بدون ذكر هذا العملاق الذى استطاع مع بداية عمله فيه أن ينقله من مهرجان مصري محليّ إلى مهرجان يحمل الشرعية الدولية، وهذه الشرعية فى ذلك الوقت كانت تعني أنه يتبع اتحاد المنتجين الدولي الذى وضعه فى الفئة أ، وهذه الفئة لا تضم إلا ١١ مهرجانًا فقط على مستوى العالم لها مسابقة دولية و تمنح جوائز معترف بها عالميًا.
و برغم صرامة شروط هذا الاتحاد ومراقبته الدائمة للمهرجانات التابعة له استطاع الأستاذ المحنّك صاحب السطوة الثقافية، أن يعبر به كل العقبات و يجعله راسخًا على خريطة المهرجانات الدولية. عندما شاهدت سعد وهبة لأول مرة تسمرت أقدامي في الأرض ونظرت نحوه وكأنني أنظر إلى نجم ساطع فى السماء بعيد كل البعد عن عالمنا الأرضي، و سألت نفسى: هل أقف حقًا أمام الكاتب المبدع الذى كنت أقرأ مؤلفاته و مسرحياته الرائعة وأنا في مرحلة دراستي الثانوية والجامعية؟!، و لم أجرؤ على التحدث معه فى المرة الأولى، وفي نفس الوقت كنت ما زلت أعطي فعاليات المهرجان مع زميلتي أمينة الشريف في مجلة الكواكب وكنا أحيانًا ننتقد المهرجان نقدًا لاذعًا، ونتصور أننا سنتعرض للاضطهاد من رئيس المهرجان، فنفاجأ به في اليوم التالي ينادينا ويناقشنا فيما كتبناه، ويشرح لنا أدق التفاصيل ردًا حتى على أقل نقد وجهناه، و كم احترمت هذا الرجل لإيمانه بأهمية ما تكتبه الصحافة، وبمرور السنوات اقتربت منه أكثر، وكلما زاد اقترابي منه، زاد حبي و احترامي له. وانتقل سعد وهبة بالمهرجان من فنادق الخمس نجوم إلى قاعة المؤتمرات بمدينة نصر، وكانت تلك الفترة عصرًا ذهبيًا للمهرجان، حيث كنا نتجمع الساعة الثامنة والنصف صباحًا أمام المتحف المصري لينقلنا أتوبيس خاص إلى القاعة لنبدأ مشاهدة الأفلام من التاسعة حتى نغادر المكان فى السادسة مساءً، و يتخلل العروض ندوات يحضرها الوفود والضيوف، وكنت أندهش عندما أرى سعد الدين وهبة في حجرته بالقاعة قبل وصولنا، ولا يغادرها إلا بعد خروج آخر صحفي منها، وأذكر أنه ذات يوم تعرض أحد الصحفيين الشباب لتجاوز من قبل الأمن على بوابة الدخول الخارجية، و تقدم بالشكوى لرئيس المهرجان فما كان منه إلا أنه وقف بنفسه على البوابة الخارجية إلى جوار رجال الأمن وأشرف على دخول الصحفيين حتى اطمأن على حسن معاملتهم جميعًا، ثم دخل مكتبه فى هدوء وانصرف إلى عمله. و لا يسعني فى هذا الصدد إلا أن أقول يا لضيعةِ الصحافةِ الفنيةِ بعد رحيل كل هؤلاء العمالقة الذين كانوا يشعروننا بأننا نقوم بعمل كبير وعظيم من أجل مصر أولًا و من أجل صناعة السينما التى كانت مصدرًا ثانيا للدخل القومي بعد القطن عندما كانت صناعة حقيقية لا تختفي وراء أسماء النجوم وتجار الإنتاج الجدد وأصحاب المصالح الشخصية. فى قاعة المؤتمرات كانت بداية مشاركتي بالعمل فى المركز الصحفي الذي كان يرأسه دائمًا أحد الكتاب أو الإعلاميون الكبار أمثال الراحلَين حمدي قنديل ولويس جريس إلى جوار الزميل والصديق الراحل حامد حماد، وهو أول من طلبني للعمل معه، وخضت التجربة لعدة سنوات واستمتعت بها كثيرًا لأنها زادت من مساحة علاقاتي بالكثير من الزملاء فى كل الجرائد والمجلات والإصدرات الخاصة بالسينما، كما أننى تعلمت كيفية تنظيم العلاقة بين المهرجان وروّاده من الإعلاميين والصحفيين، وكذلك تعلمت صياغة الأخبار بشكل جيد، خاصة وأنني كنت قادمة من مجلة أسبوعية لا تهتم بالأخبار كثيرًا، و كان سعد الدين وهبة من أشد المهتمين بالمركز وبكل ما يدور فيه، ويذكره فى كل لقاءاته ومؤتمراته الصحفية.
وانتقل المهرجان إلى دار الأوبرا المصرية ليدخل مرحلة جديدة من مراحل تاريخه و تطوره، ولكن هذه المرة بعد رحيل الأستاذ الذى منحه أزهى عصوره.
المرأة الحديدية: من منا لا يتذكر المرأة الحديدية سهير عبد القادر التى بدأ نجمها فى البزوغ محدثًا جلبة شديدة فى وجه كل من كانوا يحاولون إطفاء شعلة المهرجان المتّقدة، و قد تدرجت سهير عبد القادر في مناصب عديدة بعد أن تحول المهرجان إلى هيئة مستقلة حتى وصلت إلى منصب رئيس الأمانة العامة ثم نائب رئيس المهرجان، والحقيقة أن هذه السيدة كانت دينامو يتحرك في كل الاتجاهات للنهوض بالمهرجان و تطويره بمعاونة كتيبة من الفدائيين على رأسهم الناقد الكبير الراحل يوسف شريف رزق الله الذى استمر لسنوات طويلة مديرًا فنيًا للمهرجان، واتسعت رقعة المهرجان مع تطوير دور العرض السينمائي وظهور الشاشات أو القاعات الصغيرة الملحقة بالمحلات التجارية، والتي بدأت تنتشر في مصر واستغلت المرأة الحديدية هذه المعطيات الجديدة كما استغلت عودة الجمهور لتعيد المهرجان إلى دور العرض السينمائي من جديد، كما كانت تشرف بنفسها على الجناح المصري فى سوق مهرجان كان بفرنسا، وتسافر لاختيار أفضل الأفلام المعروضة فيه، و خلال تلك الفترة استمر عملي بالنشرة اليومية والمركز الصحفي أحيانًا، ولم أفكر يومًا فى أن أطالب برئاسة أي مكان داخل منظومة العمل لأنني كنت أستمتع أكثر بالعمل بيدي، والتنقل بين أشكال الكتابة المختلفة سواءً من خلال التغطية اليومية بالنشرة أو صياغة الأخبار بالمركز أو نقل الصورة الكاملة عن المهرجان على صفحات مجلتي الكواكب، ووصلنا إلى الدورة الأخيرة التى شاركت فيها سهير عبد القادر عام ٢٠١٢، فوسط سواد فوضى ما حدث في ٢٥ يناير، أو ما تلاها من أحداث جسام أهمها وصول الجماعة الإرهابية إلى الحكم ظن الجميع أن المهرجان سيتوقف، و لكن إدارته تحت قيادة رئيسه آنذاك د.عزت أبو عوف رحمه الله ونائبته سهير عبد القادر أصرت على إقامة الدورة الجديدة فى موعدها، ولم يعبأ أحد منهم بأية عقبات يمكن أن تعترض طريقهم وأذكر أننى شاهدت فى مقر المهرجان أحد أعضاء الجماعة الإرهابية، وكانوا يطلقون عليه لقب الناقد السينمائي، وقد جاء للقاء سهير مصطحبًا معه أحد أعضاء حزب النور ودخل وحده إلى مكتبها بينما صديقه ينتظره بالخارج، وحاول هذا الناقم السينمائي وليس الناقد اقتحام الصرح الفني الكبير، ولكنها واجهته بكل جرأة وشجاعة رافضةً تواجده هو أو أي شخص آخر ينتمي لنفس فكره الضال داخل المكان ورأيته يخرج غاضبًا بعد برهة صغيرة، ويجذب صديقه إلى خارج المقر وهو يقول له بثقة وتبجح "مش مهم ح ناخده كله السنة الجاية"، والحمد لله أنهم لم يستمروا لسنة أخرى، وإلا ما كنا نعلم مصير المهرجان بين أيديهم القذرة.
وغادرت سهير عبد القادر عملها بعد حرب عنيفة خاضتها أمام مجموعة من المثقفين السينمائيين الذين أرادوا التغيير أسوة بما كان يحدث في كثير من المواقع، و كان هذا العام هو نهاية عملي أنا الأخرى ليس تضامنًا مع أحد ضد أحد ولكن لأنني أدركت أن الظروف لن تكون كالسابق فوجدت أن هذا هو الوقت المناسب للانسحاب بعد أن شاركت لسنوات طويلة فى سيمفونية نجاح مع شخصيات كبرى لا أعتقد أنهم سيتكررون مرة أخرى.