الكاتب : ضحي الورداني
قررت إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، منح المخرج والممثل وكاتب السيناريو البريطاني تيري جيليام، جائزة فاتن حمامة التقديرية عن مجمل أعماله، تقديراً لمسيرته المهنية الممتدة لأكثر من أربعة عقود، وإسهاماته البارزة في صناعة السينما، التي تجعل منه واحداً من أهم مخرجي السينما.
قال رئيس المهرجان محمد حفظي في بيان صحافي عن تكريمه إن «تيري جيليام مخرج عبقري وساحر، يتمتع بقدرة فائقة على رواية القصص في أفلامه بخيال مدهش يغمر الجمهور في عوالم الديستوبيا والحكايات الخيالية»، مؤكداً على أنه «بلا شك أحد عظماء السينما الحقيقيين».
وكشف حفظي أن المهرجان سيتيح للجمهور وصناع السينما فرصة نادرة للاستماع لتيري جيليام، في جلسة نقاشية تقام في دار الأوبرا المصرية، يتحدث خلالها عن حياته ومسيرته وإنجازاته الفنية، ويجيب فيها على أسئلة الحضور.
تيري جيليام والصعود إلى القمة
هاجر جيليام إلى إنجلترا عام 1966، وهناك بدأ مشواره الفني كعضو مؤسس في فرقة مونتي بايتون Monty Python الكوميدية، وعمل كمصمم للرسوم المتحركة في عدد من المسلسلات التلفزيونية أبرزها «سيرك مونتي بايتون الطائر Monty Python's Flying Circus» الذي بدأ بثه في التلفزيون البريطاني عام 1969، وظهر كذلك كممثل في بعض البرامج التلفزيونية والأفلام الكوميدية.
برزت فرقة مونتي بايتون سريعا على شاشات التلفزيون البريطاني، ولم يقتصر حضورها على الجانب الفني، بل امتد تأثيرها للحياة الثقافية في بريطانيا حيث اعتبرت رمزًا أساسيًا للثورة الاجتماعية والثقافية في أواخر الستينيات. قدمت فرقة مونتي بايثون برنامج كوميدي هزلي أذيع عبر شبكة بي بي سي، وتطور المشروع لينتج عنه أفلام وكتب وعروض مسرحية وموسيقية، واتسمت أعمالها بالجرأة الفنية واتخذت طابعًا سوريالي في بعض الأحيان، وقدمت العديد من العروض التي لم تكن مألوفة للجمهور في ذلك الوقت، ولم تلتزم الفرقة بأي من الأشكال التقليدية في مواضيعها أو طريقة تقديمها، فمثلًا قد يتأخر ظهور العنوان الافتتاحي الممهد للعمل المقدم حتى منتصف العرض بدلًا من بدايته على سبيل المثال، وفي أحيانا أخرى لا يقدموا عنوانا افتتاحيا من الأساس.
بعد نجاحها اللافت انتقلت الفرقة من العمل التلفزيوني إلى السينما، وكان ذلك الانتقال نقطة فارقة في مسيرة جيليام، حيث انتقل لمقعد المخرج للمرة الأولى، وشارك في إخراج فيلمين من علامات السينما الكوميدية الحديثة، هما: «مونتي بايتون والكأس المقدس» Monty Python and the Holy Grail» عام 1975، و«مونتي بايتون ومعنى الحياة» Monty Python's The Meaning of Life» عام 1983.
أبرز النجاحات السينمائية لجيليام
عام 1989، قدم جيليام، فيلم الفانتازيا "مغامرات البارون مونشاوسن - The Adventures of Baron Munchausen"، يقدم الفيلم مجموعة من حكاية المغامرات الساحرة للبارون فون مونشاوسن في رحلته لإنقاذ بلاده من الهزيمة. تضمن تلك المغامرات رحلات غرائبية التي إلى وحش البحر العملاق ورحلة إلى القمر والرقص مع كوكب الزهرة، تلك الغرابة غير المألوفة ستطبع عدد من أعمال جيليام بعد ذلك، كجزءا أصيلًا من لغته السينمائية.
ثم قدم عام 1991 فيلم "الملك الصياد- The Fisher King" الذي تدور قصته حول مقدم برامج يدعى جاك لوكاس(جيف بريدجز)يتورط في استفزاز أحد المجرمين، الأمر الذي أدى لارتكاب ذلك المجرم جريمة بشعة، يشعر جاك بالذنب ويصاب بالاكتئاب، حتى يلتقي برجل مشرد يدعى باري (روبن ويليامز) والذي قتلت زوجته في ذلك الحادث، يحاول باري العثور على الكأس المقدسة، يشعر لوكاس بالذنب تجاه باري فيقرر مساعدته.
ترشح الفيلم لخمس جوائز أوسكار ومثلها من الجولدن جلوب، ليفوز الفيلم بجائزة أوسكار وجائزتي جولدن جلوب.
وفي عام 1996 قدم تيري جيليام واحدًا من أشهر أفلام الخيال العلمي المعاصرة "12 قردًا- 12 Monkeys " يتم اختيار جيمس كول (بروس ويلس) في مهمة للسفر إلى الماضي، لمحاولة اكتشاف سر مرض الطاعون الذي تسبب في القضاء على الغالبية العظمى من سكان العالم. ترشح الفيلم لجائزتي أوسكار، فاز بإحداها.
قدم جيليام بعد ذلك فيلم «خوف واشمئزاز فى لاس فيجاس Fear and Loathing in Las Vegas»، عام 1998، وهو معالجة سينمائية لكتاب هانتر إس طومسون، يقود رول ديوك (جوني ديب) ومحاميه الدكتور جونزو (بينيشيو ديل تورو) سيارتهم عبر صحراء موهافي إلى لاس فيجاس لتغطية سباق للدرجات النارية، لكن في صحبتهم حقيبة مليئة بالمخدرات، الأمر الذي يقودهم للكثير من المتاعب. نجح الفيلم في ترسيخ نجاحات جيليام السابقة، على المستويين الجماهيري والنقدي.
استكمالًا لمسيرة جيليام الناجحة سيما في أفلام الخيال العلمي قدم فيلم «النظرية الصفرية The Zero Theorem» عام ٢٠١٣، تقوم الإدارة بتكليف مشغل كمبيوتر موهوب للغاية ولكنه منعزل اجتماعيًا بإثبات نظرية الصفر: أن الكون ينتهي إلى اللا شيء ، مما يجعل الحياة بلا معنى. لكن تنقلب حياته رأسًا على عقب بمجرد دخول فتاة فاتنة إلى حياته، وتصبح لحياته معنى مما يضعه في تناقض مع النظرية التي يحاول إثباتها.
أما عام 2018 فشهد انتهاء مشروعه الذي لم يفقد الأمل في خروجه للنور على مدى ثلاثة عقود، «الرجل الذى قتل دون كيشوت The Man Who Killed Don Quixote»، وهو فيلم مغامرات كوميدى، شارك طوني جريسونى في كتابته، ولعب بطولته آدم درايف وجوناثان برايس.
الهروب إلى الجنون ولا منطقية الزمن
برازيل وديستوبيا الواقع
فيلم Brazil هو نقطة فاصلة في تاريخ جيليام الإخراجي، تدور أحداث الفيلم حول مجموعة من الموظفين في مكان بيروقراطي لا يهتموا إلا بالأعمال الكتابية، وبسبب أمر عبثيّ وهو قتل ذبابة، حدث خطأ كتابيّ بتبديل حرف مكان آخر، وعليه تم إلقاء القبض على أحد الأبرياء نتيجة لذلك الخطأ، يكتشف بطل الفيلم ذلك الخطأ ويحاول تصحيحه، إلا أن الأمور تخرج عن السيطرة ويتم اتهامه هو بالإرهاب ويزج به إلى السجن.
يتميز هذا الفيلم بالبيئة المكانية التي صنعها جيليام بعناية والمتمثلة في المبنى الإداري البيوقراطي الذي تدور فيه أغلب أحداث الفيلم، هذا المبنى يحتوي على العديد من الطوابق وكل طابق به مئات من الغرف، ولكن السخرية هنا تكمن في أن الغرف شديدة الضيق تحتوي على أنابيب الصرف الصحي التي بدلًا من استخدامها في نقل الفضلات العضوية المكونة من السوائل وبقايا الطعام، رأي جيليام أن المخلفات العضوية الحقيقية التي يخرجها البشر ما هي إلا مخلفات فكرية فلجأ إلى توظيف هذه الأنابيب حتى يتم من خلالها نقل الأفكار والأوامر بين موظفي الشركة البيروقراطية بعضهم ببعض.
تمتاز المدينة الموجودة داخل الفيلم والتي وصفت قبل بداية الفيلم بأنها "مكان ما" دون تحديد لها بالديستوبيا، الديستوبيا هو العالم الذي تعمه الفوضى وليس للخير مكانٌ فيه، مجتمع يجرّد فيه الإنسان من إنسانيته ويتحول فيه الأشخاص إلى مجموعة من المسوخ، وهذا بالفعل هو العالم الذي نقله جيليام في فيلمه.
ففي اللحظة الأولى التي نشاهد فيها والده البطل نجدها تبدأ في إجراءات تنفيذ عملية تجميلية في وجهها بصورة مثيرة للرعب الحقيقي، لكنه رعب يثير الضحك، وكذلك صديقة والدته التي تشوهت إلى الحد الذي جعلها تموت. وعندما يتم القبض على البطل ويتم التحقيق معه، نجد الشرطي واضعًا قناعًا يشبه المسخ على وجهه أملًا في التخفي وعدم كشف هويته، كان الحلم مساحة الأمل الوحيدة التي يستطيع البطل من خلالها الهروب من هذا العالم الكئيب، ولكن حتى هروبه من بين أيدي الشرطة لم يستطيع المُشاهد معرفة إن كان أمر حقيقيًّا أم متخيلًا.
12 قردا والسفر عبر الزمن
يعتبر فيلم ١٢ قردًا واحد من أكثر أفلام جيليام امتاعا، يدور الفيلم حول "جيمز كول" سجين يعيش في أسفل الأرض، يعتقد المسئولين أنه ارتكب جريمة ما يستحق بسببها أن يبقى في غرفة منفصلة كنوع من العقاب، حتى يتضح لنا أن الأمر مماثل مع الجميع. وجميع السجناء ليسوا سوى 1% من سكان كوكب الأرض الذين قد نجوا من فيروس مميت تسبب في إبادة الجنس البشري وعليه يتم اختيار السجين جيمز في صورة عشوائية لكي يسافر عبر الزمن من 2035 إلى 1996 حتى يكتشف سر ذلك المرض ويحاول ايقافه.
في أول الأمر إرساله إلى عام 1990 حينها يظن الآخرون أنه شخص مريضٌ عقليٌّ فيتم وضعه داخل مصحة عقلية ويتقابل مع مريض وطبيبة وفي المرة الثانية يتم إرساله إلى الحرب العالمية الأولى عن طريق الخطأ أيضا، أما المرة الثالثة فيفلح الأمر ويصل إلى عام 1996، التنقل الدائم بين الماضي والحاضر والمستقبل يتسبب في حالة من اللامنطقية والتشوش وبسبب ذلك يبدأ جيمز في الشك في الأمر والظن أنه مريض عقلي يتوهم الأمور، إلى أن تثق فيه الطبيبة وتحاول معه حل الأمر وإنقاذ الكوكب لكن دون جدوى.
يتعامل جيليام مع الزمن في جميع أفلامه بأريحية شديدة وكأنه مزحة بالنسبة إليه ولم لا والواقع في حالة من الجنون، لهذا كان جيليام يلجأ إلى الكوميديا بشتى صورها في أفلامه القديمة أثناء اعتماده على الأساطير القديمة كبنية أساسية لأفلامه، ولكن مع التطور الحالي وتمكنه من التنقل عبر الماضي والمستقبل بدأ في وضع مِسحة من الشفقة والرثاء بدلًا من الهجاء حيث الانتقال الدائم لهذا الكوكب من سيء إلى أسوأ، يبدو أن هذا التاريخ الطويل الذي مر به جيليام في السينما والتليفزيون والرسوم المتحركة هو السبب الرئيسي في تكريمه خاصة.
ثمة فرصة لجمهور مهرجان القاهرة السينمائي رؤية فيلمين من أبرز أفلام جيليام، هما فيلم الخيال العلمي الأيقوني «برازيل» الذي نال إعجاب النقاد وترشح للأوسكار عام 1985، وفيلم «الرجل الذي قتل دون كيشوت» The Man Who Killed Don Quixote» الذي استغرق ثلاثة عقود في تنفيذه انتهت عام ٢٠١٨.