الكاتب : أحمد شوقي
.. شهادة عن أربعة عهود وسبع دورات
ما الذي يعنيه العمل في مكان اسمه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي؟
سؤال ينتمي إلى نوعية الأسئلة التي رغم بديهيتها لا نطرحها على أنفسنا أبدًا، منشغلين بالانخراط في عمل تتسارع عجلته بلا توقف، ثم بالراحة منه بعد أن يستنزف آخر قطرات طاقتنا، لنحاول ممارسة حياتنا الطبيعية لشهرين أو ثلاثة، قبل أن تُعاد الكرّة ونجد أنفسنا من جديد نعمل دون فرصة للتوقف والتفكير. وضع غريب بالمقاييس المنطقية؟ ربما، لكنه ربما يكون الوسيلة الوحيدة التي ننجو بها من اكتشاف هو المسؤولية التي نتصدى لها ـ نحن فريق المهرجان ـ بصدر مفتوح وجرأة لا نحسد عليها!
أن تعمل في حدث سينمائي يعود تأسيسه للعام 1976 يعني أن ترث تلقائيًا عقودًا من تاريخ المهرجان، دورات وأحداث وأنشطة ومعارك وصراعات لم يكن أي من أعضاء الفريق الحالي جزءًا منها، لكن على كل منّا أن يحملها خلف ظهره، فتمنحه باليد اليمنى فخرًا وثقة وهو يتحدث عن المهرجان الأعرق والدورات الأكثر عددًا والبلد الذي ولدت سينما المنطقة وقضت صباها وشبابها وبداية كهولتها فيه حصريًا قبل الانتقال إلى الجيران. لكنها تعيقه باليد اليسرى في كل مرة يكتشف فيها أن عليه حل مشكلة تعود جذورها لأعوام مضت.
فعلى مدار تاريخه، كان القاهرة السينمائي الدولي بشكل أو بآخر صورة لمصر، بكل ما فيها من تناقضات ومزيج يستحيل فصل عناصره الجامعة بين الجودة والردائة، الحداثة والتخلف، الحرية والقمع. لذلك فلم يكن من الغريب أبدًا أن تتزامن النقائض، وأن تكون أكثر اللحظات رقة وتأثيرًا في تاريخ المهرجان، والتي لا يزال الجمهور يتداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويحن إلى "الزمن الجميل"، هي نفسها تنتمي لدوارت شابتها مشكلات تنظيمية وأزمات معقدة. وأنا على ثقة أن موضوعات هذا العدد الخاص ستكشف عن هذه الطبيعة الغريبة لمهرجان كُتب عليه منذ تأسيسه أن يحمل الحلاوة والمرارة جنبًا إلى جنب، والذي كان من حسن حظي أن عشت فصولًا من تاريخه المعاصر، سأحاول سردها في هذه الشهادة قدر ما تسمح به الذاكرة.
2012.. مؤسسة المهرجان واجتماع على الرصيف المقابل
مكالمة تليفونية أتت بي لمقر المهرجان للمرة الأولى خلال ربيع العام 2012، كان وزير الثقافة آنذاك د. عماد أبو غازي قد اتخذ قرارًا يخص المهرجانات الثقافية والفنية، تُسند بمقتضاه الإدارة إلى جمعيات ومؤسسات أهلية من منظمات المجتمع المدني، الأمر الذي دفع مجموعة من العاملين الرئيسيين في المهرجان على رأسهم الأساتذة ماجدة واصف ويوسف شريف رزق الله ورفيق الصبان بإطلاق مؤسسة تحمل اسم المهرجان بغرض تنظيمه، وبالفعل بدأت المؤسسة عملها عبر تشكيل لجنة مشاهدة ضمت وجوهًا شابة كنت من ضمنها مع المخرج الصديق يوسف هشام، بالإضافة لمجموعة من النقاد والصحفيين أذكر منهم محمود عبد الشكور وعصام زكريا وعلا الشافعي وخالد محمود وآخرين. وكم كانت سعادتي وأنا اجتمع ضمن أعضاء اللجنة بأشخاص مثل يوسف شريف رزق الله (المدير الفني) ورفيق الصبان (مدير لجنة المشاهدة) وهم من كنت أراهم على شاشات التلفزيون واستقي منهم حب السينما. عمل اللجنة استمر عدة أشهر وسط حماس كبير خاصة من قبل الأعضاء الجدد، حتى صحونا يومًا على خبر لم نفهم نتائجه إلا بعدها بأيام.
الخبر هو حصول ممدوح الليثي رئيس الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما على حكم قضائي ببطلان إسناد إدارة المهرجان للمؤسسة الوليدة، باعتبار جمعيته هي من أسست المهرجان في بدايته قبل أن تضمه وزارة الثقافة لأنشطتها، لذا فمن حق الجمعية استعادة حقها في الإدارة طالما عادت الكرة لملعب الجمعيات الأهلية. نظريًا يبدو للرأي وجاهته، لكن عمليًا الفارق كبير بين ظروف إنشاء المهرجان في منتصف السبيعينات وبين الحال مطلع العقد الحالي، وبين جمعية الكتاب والنقاد في زمن كمال الملاخ وداعمه يوسف السباعي، وبينها في عهد الليثي الذي صار متخصصًا في تنظيم نسخ سيئة السمعة من مهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط، كانت إحداها قيد التنفيذ وقتها برئاسة الناقد الدكتور وليد سيف الذي عانى كثيرًا بمثاليته ضد أسلوب عمل الليثي وفريقه.
الطريف ـ والمؤلم في آن ـ هو اكتفاء ممدوح الليثي بالحكم القضائي، فانشغاله بمهرجان الإسكندرية وبعدد من القضايا الأخرى جعله لا يأخذ خطوات جدية في نقل إدارة المهرجان إلى جمعيته، فقط وجد فريق المؤسسة عمل شهور في مهب الريح، ووجدنا أنفسنا ـ أعضاء اللجنة ـ مدعوين لاجتماع أقيم في مطعم جروبي المقابل لمقر المهرجان في ميدان طلعت حرب، لأن وجودنا لم يعد مرحبًا به في المقر الذي لا يزال الكثير من عامليه حتى يومنا هذا يعيشون بشعار "مات الملك.. عاش الملك". وفي الاجتماع لم يكن الأمر ـ على الأقل بالنسبة للشباب ـ يحتاج أي تفكير: إذا رحل الأساتذة الذين اختارونا رحلنا معهم، رغم أنهم مشكورين منحونا حرية الاختيار إذا رغبنا في الاستمرار مع الإدارة الجديدة التي لا يعرف عنها أحد شيئًا.
وضع اللا إدارة استمر عدة أسابيع ارتفعت فيها أصوات تطالب بإنقاذ المهرجان من الضياع، ليصدر قرار بإسناد الإدارة لفريق ما قبل 2011 (الفنان عزت أبو عوف رئيسًا والسيدة سهير عبد القادر مديرًا)، ليعلن كلًا منهما على صفحات الجرائد إنه قبل المهمة مرغمًا لإنقاد سمعة المهرجان وسمعة مصر، وكأن المهرجان لم تكنه له إدارة من أكفاء عملوا عدة أشهر واختاروا أفلام عديدة قام المهرجان بعرضها كلها ضمن برنامجه. وكانت من أوائل صدماتي ـ أو لنقل مصادر دهشتي ـ أن البعض ممن حضروا اجتماع جروبي ومنهم أصدقاء وشركاء عمر لجماعة مؤسسة المهرجان، قد عادوا وعملوا مع الإدارة التي أكدوا في الاجتماع استحالة تعاونهم معها، لتكون من المرات الأولى التي أتابع فيها صورة لما تدركه مع النضج المهني: أنه لا توجد صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، فقط مصالح دائمة.
لسوء حظ الإدارة الجديدة / القديمة اندلعت في القاهرة، وتحديدًا في شارع محمد محمود القريب من مقر المهرجان اشتباكات دامية تزامنًا مع وقت المهرجان، لتكون نسخة 2012 من أكثر دورات المهرجان تعثرًا، الأمر الذي وصل لإلغاء حفل الختام بعد دور شبه سرية، ليتم تسليم الجوائز عصرًا ويرحل الجميع مسرعين. يأتي نظام الإخوان المسلمين بوزير ثقافة يُعين الناقد أمير العمري رئيسًا للمهرجان فلا يمارس سلطاته سوى لفترة محدودة ملغمة بالمشكلات انتهت برحيله، ثم يُطرد الإخوان ويصدر قرار بتولي الناقد الكبير سمير فريد رئاسة المهرجان، ليستصدر هو قرارًا بإلغاء دورة 2013، ليكون التحضير ـ والميزانية ـ مضاعفة لدورة 2014، التي ستظل حتى يومنا هذا فريدة من نوعها ومثار الكثير من النقاشات والخلافات التي لم تتوقف حتى بعد رحيل رئيسها.
2014.. مهمة قصيرة ومواقف متناقضة
أراد سمير فريد أن يخلص المهرجان من تراث التخبط الإداري فوضع دليلًا رسم فيه هيكلًا إداريًا كاملًا وزعه على الجميع، وشكل مجلسًا للإدارة، وفكك المركزية بخلق البرامج الموازية التي تدار من قبل هيئات مختلفة مستقلة عن المهرجان، وكثير من التفاصيل الأخرى التي ستُرصد بالتأكيد ضمن مواد هذا العدد الخاص، لكن ما تجدر الإشارة إليه هو رغبته في أن يكون المهرجان هو مهرجان كل ناقد سينمائي، حتى أن الهيكل الإدارى للمهرجان كاد يضم كل العاملين بالنقد وقت انعقاده.
من البرمج الموازية التي خلقها فريد برنامج "سينما الغد"، والذي ضم نسخته الأولى مسابقتين للأفلام القصيرة وأفلام الطلبة، وكان الفريق الأول الذي تشكل لإدارتها مكوّنًا من الناقد الكبير علي أبو شادي رئيسًا للبرنامج، يشرف على شخصين هما المخرج شريف البنداري مدير مسابقة أفلام الطلبة وأحمد شوقي مدير مسابقة الأفلام القصيرة. بدأ عملنا بدعوة من رئيس المهرجان على حفلي عشاء خلال مهرجان برلين بدعوة من رئيس المهرجان للتعارف مع الجهات الدولية، الأول على شرف بينوا جينستي من الاتحاد الدولي للمنتجين (فياف) والثاني على شرف كلاوس إيدر السكرتير العام للاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى)، حضرتهما سعيدًا مع شريف البنداري والمتواجدين من فريق المهرجان في برلين 2014. ثم تلى ذلك عند العودة للقاهرة سلسلة من اللقاءات مع طلبة معهد السينما الذي كانوا من المفترض أن يكونوا هم لجنة المشاهدة واختيار أفلام المسابقة.
إلا أن المهمة لم تستمر طويلًا، فبعد أول اجتماع في القاهرة جمع الأستاذين سمير فريد وعلي أبو شادي، رأي الأخير أن الصلاحيات الممنوحة له من قبل رئيس المهرجان لا تكفي لإدارة المسابقة فقرر الاستقالة، لنرحل معه ـ شريف البنداري وأنا ـ بطبيعة الحال. وعندما أنظر حاليًا لموضوع الخلاف حول مسمى جوائز المسابقة وتوزيع قيمتها المادية، يبدو الخلاف أهون بكثير من التسبب في هذا الانفصال المبكر، والذي كان فيما يبدو نتيجة لعلاقة معقدة بين صديقي عمر، جعلت عملهما معًا في هذه المرحلة من عمرهما مشروعًا كان كلا منهما يعلم إنه لن يتم.
ورغم المغادرة المبكرة لفريق العمل ظل التواصل وديًا مع الأستاذ سمير وإدارته، وتبلور خلال أيام المهرجان بإدارة عدد كبير من ندوات الأفلام، مع إشرافي علي فريق تحريري من موقع "سينماتوغراف" الذي كان يطمح لأن يصير مجلة سينمائية مطبوعة. الفريق قام بتغطية موسعة ومتعمقة لأفلام وأنشطة المهرجان جعلتها الدورة الوحيدة التي تمكنت فيها حقًا من ممارسة عملي النقدي والصحفي في مهرجان القاهرة. وكان الفريق التحريري والموقع بشكل عام من أكثر داعمي تجربة سمير فريد الثقافية الجادة في المهرجان، في الوقت الذي كان المهرجان فيه يتعرض لهجوم صحفي كاسح منذ حفل افتتاحه الذي أقيم في القلعة. هجوم أقول إنه مبالغ فيه بصورة لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة، خاصة مع كونها دورة متميزة إجمالًا، ستصير لاحقًا مثالًا يضربه الجميع للتعبير عن النجاح، بمن فيهم نفس الأشخاص الذين كانوا يتهمون الدورة وقت انعقادها بالفشل!
2015-2017.. ومحاربة طواحين الهواء
كل ما سبق إرهاصات لا يمكن القول بأني كان لدي دور فيها في صناعة المهرجان، مجرد فرد آخر من عشرات الأفراد الذين يساهمون بجهودهم في دوراته المختلفة. الأمر الذي تغير بتغيير الإدارة، وبتكليف الدكتورة ماجدة واصف برئاسة المهرجان، ومعها رمز المهرجان التاريخي، يوسف شريف رزق الله، مديرًا فنيًا. وكان قد سبق لي التعاون مع الاثنين في دورتين من مهرجان صغير هو "الأقصر للسينما المصرية والأوروبية" الذي تغير هويته لاحقًا أكثر من مرة وانتهى به الحال في شرم الشيخ مهرجانًا للسينما الآسيوية، مع توقعات بتغيير جديد في الدورة المقبلة.
الفارق هائل بالطبع بين المهرجانين، وربما بين القاهرة ومهرجان معهد العالم العربي الذي شاركت د. ماجدة في تأسيسه وادارته وقت ذروته، فالعمل في باريس شيء، والعمل في مهرجان صغير بالأقصر شيء، والعمل في قلب القاهرة وفي مهرجانها التاريخي الذي يؤمن نصف العاملين بالوسط السينمائي على الأقل بأنه أكثر كفاءة وقدرة على إدارته من الرؤساء السابق والحالي والقادم. ماجدة واصف من النوع الذي يهب حياته كلها لعمله، عندما تتولى مشروعًا يصير هو كل ما تفعله، تصحو مبكرًا لتكون أول من يصل مقر المهرجان ولا تتركه قبل أن يغادر الجميع، وتمنح كل ذرة وقت وجهد وتفكير ممكنة سعيًا للنجاح. نفس الشيء يمكن قوله على يوسف شريف رزق الله، الذي كان وجوده دائمًا حائط صد يحمي المهرجان من بعض الهجمات، بما يتمتع به من محبة وتقدير في نفوس الجميع، وبالطبع من خبرة واسعة ومعرفة موسوعية بتاريخ السينما ظلت هي زاد المهرجان حتى في أكثر دوراته تعثرًا.
على مدار ثلاث سنوات عملت مع الكبيرين ماجدة ويوسف، في الدورة 37 كمسؤول عن برنامج ضيف الشرف (السينما اليابانية) وعن ندوات الأفلام، العمل الذي تفرع خلال الفترة السابقة للمهرجان فشمل القيام بالعديد من الأعمال التي لم يكن في وسع الأستاذ يوسف إنهائها بسبب ضغط الوقت وصعوبة الحالة الصحية، مما جعلهما ـ بقرار من قرارات الكبار الذي يمنحون كل ذي حق حقه ولا يقفون في وجه من يثقون في قدارته ـ يغيرا المسمى الوظيفي بدايًة من الدورة 38 لأصير نائبًا للمدير الفني، المنصب الذي سيصاحبني لأربعة دورات متتالية بظروف مختلفة في كل منها.
فريق المهرجان بذل كل ما في وسعه لتقديم نسخ متميزة خلال الأعوام الثلاثة، ولكن الآن وبعد امتلاك الوقت الكافي للمراجعة والمقارنة يمكن القول بأننا كنا أشبه بمن يحارب طواحين الهواء، وأن الوضع الحاكم للمهرجان خلال تلك السنوات كان لا يسمح بأكثر مما كان. الميزانية منخفضة بشكل كوميدي مقارنة بكافة مهرجانات المنطقة، فلم تكن ميزانية مهرجان القاهرة كاملة توازي ميزانية مسابقة واحدة من مسابقات مهرجان دبي الذي كان في أوج نشاطه. غياب الظهير الإعلامي وانعدام المزايا التي يمكن للمهرجان أن يوفرها للصحفيين جعله عرضه للهجوم القاسي لأي سبب مهما كان بسيطًا، لدرجة أن المقارنة التي صارت شائعة في أغلب المطبوعات هي المقارنة بالدورة 36 (دورة سمير فريد)، وأحيانًا كما قلت بأقلام من كانوا وقت الدورة المذكورة يهاجمون سمير فريد بل ويشككون في نزاهته.
اليوم أقول أنه لم يمكن بالإمكان أفضل مما كان، وأن ما قُدم في الدورات الثلاث كان أقصى ما يمكن أن تنتجه ظروفها التنظيمية، مع الاعتراف بوجود بعض الأخطاء التي صار منها المزمن الذي يصعب الخلاص منه بسهولة. ومع انتقال المنافسة من الحيز الإقليمي مع المهرجانات العربية المختلفة، إلى داخل القطر نفسه بظهور منافس بالغ القوة هو مهرجان الجونة، كان من الطبيعي أن تتغير بوصلة الدولة، وأن تأتي برئيس جديد للمهرجان يدخل به مرحلة جديدة عنوانها الطموح.
2018 لليوم.. طموح المعاصرة
من الأسباب التي تدفع للقول بأن ما جرى في الدورات الثلاث السابقة كان أفضل ما يمكن حدوثه هو أن فلسفة الإدارة الحاكمة للمهرجان كانت ملائمة أكثر لزمن سابق أكثر هدوءًا وأقل تعقدًا، زمن لم يكن تنظيم المهرجانات فيه هو هذا الخليط الغريب من فعل كل شيء في الوقت ذاته: التواصل مع صناع الأفلام وأهم المؤسسات الإنتاجية والدعمية وشركات التوزيع ووسائل الإعلام، عقد شراكات دائمة وأخرى مؤقتة والسعي لتوسعة الفريق وتقسيم العمل للحد الأقصى. لذلك فإن اختيار المنتج والسينارست محمد حفظي لتولي رئاسة المهرجان في دورته الأربعين كان القرار الذي ربما جاء في الوقت الملائم تمامًا ليحمي المهرجان من الانسحاق أمام منافسه المحلي ويعيد خلقه ككيان معاصر قادر على استعادة المكانة التي ينبغي أن يحتلها، على الأقل بحكم الموقع والتاريخ.
حفظي الذي شارك بشكل أو بآخر في أغلب الأفلام المصرية التي شقت طريقها خارج العالم العربي ووجدت مكانًا على خريطة السينما العالمية خلال السنوات الأخيرة أعاد المهرجان لمسار العصر، بدايةً من إطلاق أيام القاهرة لصناعة السينما بما تعنيه من انفتاح على أدوار أكبر يلعبها المهرجان، مرورًا بعشرات التفاصيل والأنشطة والبرامج المستحدثة التي جعلت دورته الأربعين تشهد اختلافًا نوعيًا عن كل ما سبقها، مع الاعتراف بوجود بعض الهنات الحتمية من أجل تحديد أكثر للمسار الذي ينبغي أن يستكمله المهرجان.
ثم جاء الرحيل المفاجئ للأستاذ يوسف شريف رزق الله خلال التحضير للدورة 41 ليكون بمثابة الضربة القاسية لكل العاملين في المهرجان ممن أصبح وجود رزق الله في حياتهم اليومية أمرًا بديهيًا. ضربة خفف من وقعها أن كان الأستاذ يوسف قد وافق على نظام جديد للعمل داخل فريق البرمجة يمنح المزيد من الصلاحيات لجيل جديد من المبرمجين، وكأنه صاغ بنفسه خارطة طريق سار المهرجان عليها بعد رحيله، وجاءت نتائجها سريعًا في صورة زيادة غير مسبوقة في عدد العروض العالمية والدولية الأولى التي نالها القاهرة السينمائي في دورته المقبلة. الدورة يفترض نظريًا أن تكون دورة النضج لمحمد حفظي وإدارته، والتي نأمل فيها أن يأخذ المهرجان المزيد من الخطوات نحو مكانة يستحقها.
*المكلف بأعمال المدير الفني