الكاتب : أحمد سامي يوسف
إن كان لابد وأن نختار ناقدا سينمائيا عربيا للتعبير عن مسيرة مهنة النقد السينمائي، فبلا شك لا يوجد اسم أجدر من الناقد سمير فريد، فكل العلامات الفارقة التي مر بها النقد في مصر، وكل انعكاساته في العالم العربي بالتبعية بدأت من عند سمير فريد نفسه.
بدأت رحلة فريد مع النقد مبكرا جدا، منذ اللحظة التي قرر فيها دراسة النقد المسرحي. بعد تخرجه، تم تعيين فريد في جريدة الجمهورية، والتي كانت البداية الحقيقية لمسيرته.
كانت مهمة الناقد صعبة، فهي لم تكن قد اكتسبت خصوصيتها بعد أو حتى أرست لنفسها تعريفها الخاص؛ كان النقد السينمائي جزءا من مسار مهنتين أخريتين، الصحافة الفنية والنقد الفني، الأولى معنية بأخبار النجوم والأفلام وحجم نجاح الفيلم، والثانية تتعامل مع السينما بوصفها أمرا لا يختلف كثيرا عن أي من الفنون الأخرى، وبما أن الفن السابع يجمع الفنون الأخرى فيمكن للناقد المسرحي أو الأدبي أن يوسع مجال نشاطه ليضم السينما إليه، ويمكن له أن يكون جزءا من صناع الفيلم ونرى اسمه على التترات، ويمكنه أيضا أن يشارك في حملات الدعاية له. يخبره رئيس تحرير الجمهورية "إيه ناقد سينمائي دي؟ انت ناقد فني تشوف مسرحية تكتب عنها، تحضر حفلة لأم كلثوم تكتب عنها".
أصر فريد على التخصص وأصر على تعريفه لنفسه كناقد سينمائي لا فني أو صحفي، الأمر لم يقف عند حدود مشكلة اصطلاحية لتعريف ما هو النقد السينمائي، لكنه كان نابعا من إدراك سمير فريد المبكر بخصوصية السينما وأهمية شريط الصوت والصورة وموقعهما داخل العمل، ما يجعل من المادة التي يقدمها مختلفة وربما ثورية في تلك الفترة، اهتمام جعل فريد يصر على لقب "ناقد سينمائي" حتى في نعي جده، رغم معارضة أفراد الأسرة.
خصام ثم إدارة.. رحلة سمير فريد مع المهرجان
ارتبط سمير فريد بعلاقة ممتدة بمهرجان القاهرة السينمائي، بدأت بخلافات حادة وجوهرية بالنسبة له وقت تدشين المهرجان، قبل أن تتغير هذه العلاقة شيئا فشيئا، واختلفت الأدوار التي شارك من خلالها في دعم المهرجان، لكن أبرزها كان توليه مهمة المدير الفني في دورة عام ١٩٨٥ ثم رئاسة المهرجان في دورة عام ٢٠١٤، وفي كل مرة ترك فريد بصمة خاصة على المهرجان.
تأسس مهرجان القاهرة عام ١٩٧٦، وأقيمت الدورة الأولى في فندق شيراتون بالقاهرة، الأمر الذي اعترضت عليه جمعية نقاد السينما، بسبب دعم ملاك هذا الفندق للانقلاب العسكري في دولة تشيلي عام ١٩٧٣،
حينها أصدرت الجمعية التي كان فريد أحد مؤسسيها بيانات إدانة لملاك الفندق، فلم يمكن من المقبول بالنسبة لهم إقامة مهرجان ثقافي وسينمائي كبير في فندق يدعم ملاكه الانقلابات العسكرية. حينها قرر سمير مقاطعة المهرجان، وفي دورة عام ١٩٧٩ بعد معاهدة السلام، شاركت إسرائيل في المهرجان بشكل رسمي فاستمرت مقاطعته.
سمير فريد مديرا فنيا للمهرجان في دورة الاحياء
وقعت حادثة شهيرة للمهرجان في دورته الثالثة، حينها كان الناقد الفرنسي جان لوي بوري رئيسا للجنة التحكيم، وأثناء إعلان الجوائز فوجئ بمنح فيلم "قاهر الظلام" إحدى الجوائز، مع أن اللجنة التي ترأسها بنفسه لم تمنح الفيلم أي جوائز؛ عاد لوي بوري إلى فرنسا وعقد مؤتمرا صحفيا يندد بالواقعة، ضاعف من سوء المشهد أن فيلم "قاهر الظلام" كان مأخوذا عن رواية لكمال الملاخ، رئيس المهرجان في تلك الدورة.
قرر الاتحاد الدولي للمنتجين سحب الصفة الدولية من المهرجان، ومنعه من إقامة مسابقة رسمية بعد تلك الواقعة، بدأ المهرجان في التدهور تدريجيا منذ ذلك الحين، حتى وصل الأمر بوزير الثقافة منصور حسن أن علق على حفل افتتاح المهرجان في العام ١٩٨٤ قائلا: "لو كان فرح ابنتي لما حضرته".
عرض فريد على لجنة المهرجانات التي كان عضوا فيها ويرأسها سعد الدين وهبة، أن تتولى اللجنة تنظيم المهرجان تحت رعاية وزارة الثقافة، وذلك إنقاذا للمهرجان من التوقف، وبالفعل لقى اقتراحه قبولا، وأصبح سعد الدين وهبة رئيسا للمهرجان، وسمير فريد مديرا فنيا له.
حققت الدورة نجاحا ملحوظا، بدأ بإعادة الصفة الدولية للمهرجان مرة أخرى ولكن بدون مسابقة رسمية، إلا أنها كانت خطوة غاية في الأهمية في إعادة المهرجان للمسار الصحيح، ونجح المهرجان في تلك الدورة في تغطية تكاليفه وتحقيق أرباح قدرت ب ٥٠ ألف جنيها.
انسحب فريد من الدورة التالية مباشرة بسبب خلاف بينه وبين سعد الدين وهبة على نوعية الأفلام المشاركة في المهرجان، اعتذر فريد ورشح الناقد يوسف شريف رزق الله ليكمل مسيرته ويصبح أحد أهم الأسماء الفاعلة والمؤثرة في تاريخ المهرجان.
سمير فريد رئيسا للمهرجان.. بأمر السينمائيين
شهدت مصر في العام ٢٠١٣ اضطرابات سياسية أدت إلى إلغاء دورة مهرجان القاهرة في ذلك العام، في العام التالي قام مجموعة من السينمائيين بالاعتصام في نقابة المهن السينمائية مطالبين بتولية سمير فريد رئاسة مهرجان القاهرة، وهو الأمر الذي وافق عليه وزير الثقافة حينها صابر عرب، وعرض المنصب على سمير فريد الذي اشترط بدورة تغييرا مهما في لائحة المهرجان، وهو أن يسند تنظيمه بشكل واضح إلى وزارة الثقافة؛ كان النص القديم ملتبسا ولا يوضح بشكل محدد الجهة المنظمة للمهرجان.
وضع سمير فريد مجموعة من الأهداف صوب عينيه وسعى في تنفيذها من اللحظة الأولى، أحد أهم تلك الأهداف هو تحويل مهرجان القاهرة إلى مؤسسة يديرها فريق عمل، وأن يقضي على الصورة الذهنية التي ترتبط بفرد لا بمؤسسة وفريق، لذا رفض إجراء الكثير من الحوارات الصحفية في بداية عمله وهو ما كلفه هجوما كبيرا من الصحف القومية، قبل أن يعلن في المؤتمر الصحفي الخاص بالمهرجان أن رفضه لإجراء المقابلات ليس تعاليا على الصحافة أو عدم تقدير للدور الذي تلعبه، فهو صحفي ينتمي ويعتز بانتمائه لأسرة يعمل أغلب أفرادها في الصحافة، لكنه إصرار على تقديم إدارة المهرجان كمجموعة لا فرد.
"المهرجان مؤسسة وفريق عمل كبير لا يمكن اختصاره في شخص رئيسه"، كلمات طالما كررها فريد في أغلب حواراته الصحفية، مؤكدا أن نجاح الدورة لا يجب أن ينسب له وحده، وأن ثمة لجنة تدير المهرجان ضمت سبع سينمائيين من مختلف الأجيال، بداية من تهاني راشد مرورا بيسري نصرالله ووصولا لسعد هنداوي، بالإضافة لفريق عمل يزيد عن مئة شخص، يكرر ذلك باستمرار، يحرص على ذكر أسماء زملائه ولا يغريه مديح محاوره للإنجازات التي حققها.
في السياق نفسه حرص فريد على ضخ دماء جديدة وأفكار طازجة وشابة لفريق العمل، فقام بإضافة خمسين شابا بمتوسط عمر ثلاثين عاما لم يسبق لهم العمل في المهرجان، بالإضافة للخبرات المتوفرة في الفريق القديم، وهي خطوة ليست غريبة على الرجل الذي استقال من رئاسة المهرجان لإفساح المجال لعناصر أكثر شبابا لتولي إدارته، "راهنت على الشباب وكسبت الرهان".
التغيير الأكثر جوهرية الذي أضافه فريد للمهرجان هو محاولة إقامته على غرار المهرجانات الثلاث الكبرى، من خلال إضافة البرامج الموازية التي تعتبر إلى الآن مجموعة من أهم فعاليات المهرجان.
البرامج الهامة التي أضافها وأسند إدارتها إلى ثلاثة كيانات كبيرة هي مسابقة آفاق السينما العربية وتديرها نقابة المهن السينمائية، سينما الغد الدولية التي تحتوي على مسابقة أفلام الطلبة والأفلام القصيرة ويديرها اتحاد طلبة المعهد العالي للسينما، وأسبوع النقاد وتديره جمعية النقاد.
عرض المهرجان تحت إدارة فريد ١٥٥ فيلما في تلك الدورة، ٧٥ فيلما روائيا طويلا جديدا، منهم ٤٨ عرضوا لأول مرة في العالم العربي وأفريقيا، و٥ أفلام عرض دولي أول (أول عرض خارج بلد الإنتاج)، و٤ أفلام عرض عالمي أول؛ حرص سمير على أن تعرض جميع الأفلام في النطاق الجغرافي ذاته حتى لا يكلف الجمهور مشقة الانتقال بين القاعات.
كذلك حرص على تقديم أفضل جودة ممكنة لعروض الأفلام، فقام بتطوير كل أجهزة العرض، والاعتماد على تقنية DCB لأول مرة في مهرجان القاهرة، ليقضي على أهم عاملين يشكل الخلل فيهما إزعاجا لأي محب للسينما، جودة الصورة ومواعيد دقيقة لبداية العروض.
آفاق جديدة للمهرجان.. من السينما إلى الفنون
الهدف الرئيسي لأي مهرجان سينمائي حول العالم هو دعم صناعة السينما والاحتفاء بمبدعيها، وهو الأمر الذي لا يتم دون تواجد الجمهور، إذن يمكن اعتبار الحضور الجماهيري والأفلام الجيدة مقياس نجاح أي مهرجان في العالم.
في السنوات القليلة الماضية ومع كل تطور تقني تظهر نظريات عن موت السينما والمهرجانات بالتبعية؛ أحد أهداف المهرجانات هو إتاحة أفلام من مختلف الثقافات حول العالم، الافلام التي ليس من السهل الحصول عليها بالنسبة للجمهور المحلي.
لكن اليوم بحكم التقنية، أصبحت الأفلام متاحة من كل الدول على الشبكة العنكبوتية، يمكن لأي محب للسينما رؤية أي فيلم من أي مكان في العالم بعد ستة أشهر من عرضه الرسمي، أيضا ظهرت شبكات البث مثل نتفيلكس والتي تتيح أعمالها للمشاهدة على أريكة في المنزل دون الحاجة إلى الذهاب إلى قاعة السينما فضلا عن حضور فعاليات مهرجان سينمائي.
لذا لم يكن غريبا أن ينظم مهرجان برلين أحد أعرق مهرجانات العالم، وأكثرها حضورا جماهيريا بأعداد تصل إلى ثلاثمائة ألف تذكرة سنويا، حلقة بحثية حول مستقبل المهرجانات في ظل المتغيرات الجديدة، ومحاولة خلق دوافع جديدة لضمان أهمية المهرجان واستمراريته، فظهرت أفكار كسوق السينما، بقدرته على توزيع الأفلام في أنحاء متفرقة من ألمانيا؛ الفكرة نفسها كان من الصعب تطبيقها مع مهرجان كالقاهرة بسبب طبيعة السوق المصري الفقير والمغلق على حد تعبير سمير فريد، وهو ما تؤكده الأرقام أيضا، ففي مقابل ٤٠٠٠ دار عرض في ألمانيا يوجد ١١٥ دار عرض فقط في مصر.
ينطلق سمير فريد في رؤيته لمهرجان القاهرة السينمائي في الدورة التي ترأسها في العام ٢٠١٤ من هذه المعضلة، يحكي فريد عن واقعة مر بها في سبعينيات القرن الماضي ولم تفارق ذهنه من لحظتها، عندما نظم مسرح سيد درويش عرضا مسرحيا ضخما من بطولة نور الشريف، ذهب فريد رفقة الشاعر الفلسطيني محمود درويش إلى العرض وتفاجأ بانعدام الحضور الجماهيري لفاعلية بمثل تلك الأهمية.
بعد العرض أبدى فريد أسفه لما حدث أمام درويش، الذي فاجئه برد يحكي فريد أنه لم يبارح مخيلته: "هل تريد أن تقنعني أن مدينة كالقاهرة تعداد سكانها يزيد عن ١٠ مليون مواطن تخلو من ٢٠٠ ألف شخص مهتم بعرض مثل ذلك؟ غياب هؤلاء هو نتيجة فشل منظمي الفاعلية في إقناعهم بالخروج من منازلهم."
آمن فريد من لحظتها أن كل الفعاليات الثقافية الخاوية على عروشها هي نتيجة غياب القدرة على الوصول إلى الجمهور المستهدف، وإقناعه بأن ثمة عرضا يستحق حضورهم، وهو الأمر الذي أولى له اهتماما بالغا وقت رئاسته للمهرجان ووجد له حلا مناسبا.
اقتبس سمير فريد شعار مهرجان روما في العام ٢٠٠٦ "الأفلام أولا، لكنها ليست كل شيء"، قرر أن يحول دفة المهرجان، من مهرجان متخصص بالسينما إلى مهرجان يعطي الأولوية للسينما، لكنه أيضا لا يهمل علاقتها بالفنون الأخرى، فدشن لأول مرة في تاريخ المهرجان مجموعة من الفعاليات الفنية التي ترتبط بالسينما.
قدمت تلك الدورة معرضا للفن التشكيلي وعروضا للموسيقى التصويرية للأفلام، وندوات عن الأدب وعلاقته بالسينما، ومعرضا للكتب السينمائية وملصقات الأفلام تجاوز حجم مبيعاته في أسبوع المهرجان حاجز المئة ألف جنيه، ما يمكن اعتباره نجاحا ضخما، هذا بالإضافة للعديد من الندوات وحلقات البحث اليومية طوال أيام المهرجان.
الإضافات النوعية التي قدمها سمير فريد أثمرت نجاحا من الصعب إنكاره، لقد ربطت السينما بفنون أقدم، -إلا أن علاقتها بالسينما وثيقة منذ لحظة ظهورها- ربط تلك الفنون بالسينما شكل دافعا لجمهور كبير من غير المتخصصين للتعرف عليها عن قرب، أي أنه نجح في إرضاء توقعات جمهور تلك الفنون وضمه لجمهور السينما، وقدم كذلك لجمهور السينما مجموعة متنوعة من الفنون.
كانت نتيجة الدورة حضورا جماهيريا ضخما بلغ عشرين ألف متفرج لأغلب فاعليات المهرجان، ومؤتمرا فريدا من نوعه أعلن خلاله فريد عن ميزانية المهرجان وفيما أنفقت وماذا بقي منها، وأعلن عن رواتب جميع العاملين في المهرجان، بداية من موقعه كرئيس للمهرجان وصولا لأصغر العاملين فيه بشفافية غير معهودة في أي نظام عمل مصري، ثم قرر في سابقة أولى من نوعها أن يترك موقع المسئولية لأجيال جديدة تمنى أن تكون أكثر حيوية وبكارة.
مصادر:
سمير فريد بعيدا عن الصفوف الأولى. -الناقد أندرو محسن
سمير فريد إن حكى: مغامرة النقد – الكاتب وائل عبدالفتاح