الكاتب : إسلام انور
"مطبوعات القاهرة"
ذاكرة مهددة بالزوال
_أكثر من 500 عمل فني بمشاركة 150 فنانا من أجيال مختلفة
كتب: إسلام أنور
"عندما ننظر حولنا في شوارع القاهرة، يمكننا أن نرى بوضوح أن أحد أبرز ملامح المدينة هي تضافر المطبوعات مع ثقافتنا البصرية وحياتنا اليومية. لطالما عرف سكان القاهرة كيفية الاستمتاع بالملصقات المصممة للأفلام والمعارض الفنية وألبومات الموسيقى أو حتى واجهات المحلات واللوحات الإعلانية".
انطلاقًا من هذه الرؤية افتتح جاليري كايروبوليتان النسخة الثانية من معرض "مطبوعات القاهرة" في الفترة من 31 مايو إلى 16 يونيو 2021 بمشاركة مجموعة كبيرة من الفنانين الراسخين والناشئين، إذ يجمع المعرض أعمالاً من تصميم وتنفيذ 4 أجيال مختلفة لفنانين ومصممين جرافيك ينتمون إلى خلفيات متنوعة.
طابور طويل، وزحام شديد، ومجموعات كبيرة من الشباب والفتيات تتوافد على جاليري كايروبوليتان، والمركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة،. هكذا بدا المشهد في افتتاح المعرض في صورة أقرب ما تكون إلى تظاهرة فنية تضم أكثر من 500 عمل فني بمشاركة 150 من مصممي الجرافيك والفنانين البصريين المصريين والعرب.
المعرض المتخصص في فن الملصقات والبوسترات تزامنت دورته الثانية مع ظروف استثنائية يعيشها العالم مع استمرار تفشي جائحة كورونا، وظروف خاصة تعيشها مدينة القاهرة مع بناء عاصمة إدارية جديدة، وتسارع مراحل "تطوير" المدينة القديمة وخاصة منطقة وسط القاهرة والأحياء المحيطة.
جغرافيا المدينة
تعكس الأعمال المعروضة واقع القاهرة الحالي وما يعيشه سكانها ومحبيها من قلق، وترقب، وتساؤلات وجودية عن حياتهم، وذاكرتهم، ومستقبلهم المرتبط بالمدينة وتكوينها الجغرافي، والاجتماعي، والطبقي. لحظة استثنائية نودع فيها القاهرة القديمة؛ لنستقبل قاهرة أخرى لا نعرفها قد تكون أجمل، وأهدى، وأكثر نظافة ونظام لكنها في النهاية ستصبح مدينة أخرى غير التي نعرفها، مدينة غريبة نتحسس فيها مواضع أقدامنا بعد محو معظم مساحتنا وذاكرتنا القديمة المرتبطة بشوارعها، ومقاهيها، وملصقاتها، وإيقاع حياتها الصاخب.
لذلك منح قرار المنظمين بتوزيع المعروضات على ثلاثة أماكن مختلفة بين حي المنيرة حيث مكتبة المركز الثقافي الفرنسي وحديقة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، وحي جاردن سيتي مقر جاليري كايروبوليتان - حفاظًا على التباعد الاجتماعي - فرصة للجمهور لخوض تجربة حية وتفاعلية بين عالم المعرض وجغرافيا المدينة المهددة بالزوال؛ فرغم اقتراب المسافات بين قاعات العرض إلا أن التباين الطبقي بين حي المنيرة المعبر عن الطبقة المتوسطة، وحي جاردن سيتي معقل الارستقراطية المصرية والجاليات الأجنبية يتيح مساحات أوسع للتساؤل والتفكير في تخطيط المدينة وماضيها وحاضرها ومستقبلها.
هذه التساؤلات المطروحة دون إجابات محددة أو فرض رؤية أحادية لصورة المدينة تعكس مدى التنوع والاختلاف والتناقضات أيضًا بين أحياء القاهرة المتجاورة، وربما هذا الواقع المرتبك والمعقد منح المدينة جزء كبير من خصوصيتها وروحها المميزة على مدار تاريخها؛ فالانتقال من حي إلى آخر مختلف طبقًيا ومعماريًا داخل القاهرة التي نعرفها لم يكن يحتاج سوى لعبور شارع واحد مثل القصر العيني دون حواجز أو قيود، بينما في القاهرة الجديدة أصبحت التجمعات السكانية تبعد مسافات شاسعة عن بعضها، ومحاطة بأسوارعازلة، كذلك هناك كثير من التخوفات حول واقع المدينة القديمة بعد تطويرها، ومدى قدرتنا وحريتنا على الحركة داخلها!.
المشاعر والعلاقة المرتبكة تجاه المدينة عبر عنها بصورة موجزة وبليغة الشاعر الراحل عبد الرحيم منصور في أغنية "ع المدينة" التي غناها محمد منير في ألبومه الشهير شبابيك منذ ثلاثة عقود، وما تزال قادرة على التعبير عن واقعنا حتى الآن:
لفو بينا قالو لينا على المدينة
لما جينا التقينا كل شىء فيها ناسينا
القلق جوه العيون وشها له الف لون
حزنها غير حزننا منها واحنا لوحدنا
يا مدينة فيكى ماشى قلبى قمراية بشواشى
مهما تعصرى قلبنا مش هيكدب صدقنا.
صورة متخيلة للقاهرة
في مساحة وسط بين صورة القاهرة التي نعرفها، وصورتها الجديدة التي تعمل السلطة على بنائها يقدم مجموعة من الفنانين "صورة متخيلة للقاهرة" تعيد ترميم وإحياء وتجميل المدينة بمجموعة متنوعة من الملصقات والبوسترات الفنية دون الحاجة للهدم وإعادة البناء من جديد، كل ما نحتاجه هو مساحة من الخيال فقط.
في رحلة متخيلة داخل أحياء منطقة وسط القاهرة تتحول صور وبوسترات مجموعة من نجوم السينما المصرية والعالمية ليصبحوا جزءًا من نسيج المدينة المعماري "فريد أستير، وكاري غرانت، وأودري هيبورن، وعمر الشريف، ورشدي أباظة، وفاتن حمامة، وسعاد حسني، وغيرهم" من النجوم، يمكننا رؤيتهم على مباني وسط القاهرة في كولاج فني يمزج بين فنون التصوير الفوتوغرافي والجرافيتي والسينما.
تستدعي هذه الصورة المتخيلة للمدينة العديد من الرموز البصرية المميزة للقاهرة المعاصرة وتحديدًا الفترة الممتدة من النصف الثاني للقرن العشرين حتى الآن من خلال تقديم أبرز الصور والرموز والملصقات المرتبطة بكل مرحلة من خلال كولاج فني يمزج التصميمات اليدوية والتطبيقات الحديثة مع الأعمال القديمة.
"تمثال سعد زغلول، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، إسماعيل يس، الشاويش عطية، تحية كاريوكا، سامية جمال، نجيب محفوظ، عمر خورشيد، أحمد عدوية، عادل أمام، اللمبي، أسدين كوبري قصر النيل، ميدان التحرير، غلاف علبة سجائر كيلوباترا، بوسترات بانوراما الفيلم الأوروبي، جرافيتي الثورة".
مئات الرموز البصرية صارت جزءًا من النسيج المجتمعي مسكونة بتفاصيلنا الخاصة وذاكرتنا الفردية والجماعية. أفلام، وأغاني، وكتب، وشخصيات عامة، وأحداث تاريخية، وعلامات تجارية محملة بمشاعر ومعاني كثيرة يمنحها المعرض حياة جديدة بأسئلة وأفكار ورؤى ومعالجة فنية مختلفة.
نوستالجيا المدينة
على جدران مكتبة المعهد الفرنسي تتداخل المعروضات من بوسترات أفلام وملصقات مع أغلفة الكتب ليصنعوا كولاج آخر/ لوحة كبيرة تمتزج فيه الصورة بالكلمة، السينما بالأدب، التاريخ بالنقد، والفوتوغرافيا بالجرافيك، الخط العربي بالرموز بالحروف الأجنبية، مقاطع من النصوص الدينية بالأمثال الشعبية.
" وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ" تستقبلني هذه الآية بخطوطها الحادة وخلفياتها الداكنة كبوابة عبور لعالم المعرض، عالم يشبه رحلة الإنسان في الأرض. رحلة التمرد والاكتشاف، الخطايا والغفران، الإبداع والجنون. الإنسان الذي فضل خطيئة المعرفة على طاعة ورفاهية الإذعان وفقا للميثولوجيا الدينية؛ فكان جزاؤه الخروج من الجنة، هو ذاته من صنع كل هذه الحيوات والرؤى المتباينة في رحلته في الأرض/ المدينة.
داخل المعرض تبدو القاهرة كما عرفناها على مدار عقود، مدينة مزدحمة ومرتبكة بتفاصيل حياتها اليومية وطقوسها الخاصة وإيقاعها الصاخب. اشتراكية الستينيات من القرن الماضي، انفتاح السبيعينيات، تيه الثمانينيات، فساد التسعينيات، شرائط الكاسيت والفيديو، الفرق الغنائية، الجماعات التكفيرية العائدون من الخليج، العولمة والثقافة الاستهلاكية، خروجات شارع الشواربى وسط البلد، وشارع ٩ في المعادي.
القاهرة أيقونة سينما الثمانينيات والتسعينيات في أفلام خيري بشارة، ومحمد خان، وعاطف الطيب، وداود عبد السيد والجيل التالي من المخرجين شريف عرفة، وسعيد حامد "سواق الأتوبيس، أيس كريم في جليم، الكيت كات، أحلام هند وكامليا، إضحك الصورة تطلع حلوة، صعيدي في الجامعة الأمريكية" وغيرها من الأفلام التي لم يلق بعضها نجاحا جماهيريا كبيرا في حينها لكنها حققت نجاحا أكبر بحيويتها وقدرتها على الاستمرار والانتقال من قاعات السينما إلى شاشات التلفزيون والكمبيوتر والهواتف المحمولة مع الأجيال الجديدة.
" أضواء نيون الإعلانات أنا .. كل الحاجات والراديوهات أنا .. مليون نظام والبال سيكام أنا .. بنوك تجارة .. أوهام شطارة .. مناديل ورق فى ايدين بنات .. على كل لون .. عقل وجنون .. عمولات سريعة وتحويلات .. والسعر انا .. زحام مهول .. ماتقولش قول .. برة الأصول والمعتادات .. جوايا فكرة .. يا مدينة بكرة .. اسمى هيملى الإعلانات".
..................