فهم الصورة جون بيرجر

سارة عابدين 15 مارس 2022 الفيلم القصير

الكاتب : سارة عابدين


فهم الصورة
جون بيرجر
ترجمة: سارة عابدين
على مدى قرون جادل المصورون والمدافعون عنهم، بأن التصوير الفوتوغرافي يستحق أن يعتبر فنا. من الصعب التعرف على مدى نجاح دفاعهم. بالتأكيد الغالبية العظمى من الناس لا يعتبرونه فنا، رغم أنهم يمارسونه، ويستمتعون به، ويستخدمونه ويقدرونه. كان جدل المدافعين (وأنا من بينهم) أكاديميا قليلا.
بدا واضحا الآن أن التصوير الفوتوغرافي يستحق أن يعتبر فنا. يبدو أن التصوير الفوتوغرافي (أيا كان نوع النشاط الذي هو عليه) سوف يعيش أكثر من الرسم والنحت، كما نعرفهم منذ عصر النهضة. لحسن الحظ هناك القليل من المتاحف اتخذت مبادرات شجاعة لفتح أقسام خاصة بالفوتوغرافيا، ما يعني أن هناك عددا قليلا من الصور محفوظة في عزلة مقدسة، ما يمنع الجمهور من التفكير في الفوتوغرافيا أبعد من تصوره الشخصي. تعتبر المتاحف مثل منازل النبلاء التي تسمح للجمهور بالزيارة في ساعات معينة. قد تختلف الطبيعة الطبقية للنبلاء، لكن بمجرد وضع العمل في متحف يكتسب غموضا بعيد عن الحياة العامة.

لأكون واضحا. الرسم والنحت كما نعرفهما لن يندثرا بسبب عيوب أسلوبية، أو بسبب الفزع المهني من التدهور الثقافي. إنهم يندثرون لأنه كما هو معروف عالميا، لا يمكن لعمل فني أن يصمد دون أن يتحول إلى ممتلكات ثمينة. ما يعني ضمنا أن اندثار الرسم والنحت بسبب أن الملكية كما لم تكن في السابق، أصبحت تتعارض حتما مع باقي المبادئ. يؤمن البشر بالملكية، لكن في الجوهر هم يعتقدون في وهم الحماية الذي تمنحه الممتلكات. كل الأعمال الفنية أيا كان مضمونها، ومهما كانت حساسية المتفرج الفردي تجاهها، لا يمكن اعتبارها أكثر من دعائم لترسيخ النزعة العالمية المحافظة.
نظرا لطبيعة الصور الفوتوغرافية فإن قيمتها الملكية ضئيلة أو منعدمة، لأنها لا تمتلك أي ندرة. جوهر التصوير هو أن الصورة الناتجة يمكن استنساخها إلى ما لا نهاية. هكذا فإن من قواعد القرن العشرين أن الصورة الفوتوغرافية هي تسجيل لأشياء شوهدت بالفعل. دعونا نعتبرها أقرب إلى الأعمال الفنية من الرسوم التخطيطية، بعد ذلك سنكون أكثر حرية في التخيل.
كان خطأنا هو تصنيف الأشياء كفن نظرا لمراحل عملية الإبداع. بشكل منطقي تجعل هذه الطريقة كل ما يصنعه الإنسان فنا. سيكون من المفيد أكثر تصنيف الفن حسب ما أصبحت عليه وظيفته الاجتماعية. وظيفته كممتلكات. وفقا لذلك تصبح الصور الفوتوغرافية غالبا خارج التصنيف كفن.
يشهد التصوير الفوتوغرافي على خيار بشري في موقف معين، لتصبح الصورة نتيجة لقرار المصور بأن هذا الحدث المحدد قد شوهد واستحق التسجيل. إذا صورنا كل شيء باستمرار، ستصبح الصورة بلا معنى. لا تحتفي الفوتوغرافيا بالحدث نفسه، ولا بالمشهد ككل. التصوير الفوتوغرافي بالفعل هو رسالة حول الحدث الذي يسجله، ولا تعتمد أهمية الرسالة بالكامل على أهمية الحدث، بل يمكن أن تكون مستقلة عنه تماما. تلك الرسالة على بساطتها تعني: لقد قررت أن هذا الذي شاهدته يستحق التسجيل.
ينطبق هذا أيضا على الصور الفوتوغرافية النادرة واللقطات الأكثر شيوعا. ما يميز أحدهما على الآخر هو إلى أي مدى تقوم الصورة بإيصال رسالتها، وإلى أي مدى تعكس قرار المصور بشكل واضح ومفهوم. هكذا نصل إلى مفارقة غير مفهومة في الفوتوغرافيا. الصورة هي تسجيل تلقائي بواسطة الضوء لحدث معين، ومع ذلك تستخدم الحدث لتوضيح سبب تسجيله. التصوير الفوتوغرافي هو عملية تجعل الملاحظة تحدث بوعي.
يجب أن نتخلص من الارتباك الناتج عن المقارنة المستمرة بين التصوير الفوتوغرافي والفنون الجميلة. يتحدث كل دليل إرشادي خاص بالتصوير عن التكوين. الصورة الجيدة هي تكوين جيد. ومع ذلك يبدو هذا صحيح بقدر ما نفكر في الصور الفوتوغرافية كمحاكاة للصور المرسومة. الرسم هو فن الترتيب، لذلك من المنطقي المطالبة بنوع من التنظيم فيما يتم ترتيبه.
ليس هذا هو الحال في الفوتوغرافيا (ما لم نضمن أعمال الاستوديو السخيفة التي يرتب فيها المصور كل التفاصيل قبل التقاط الصورة). لا يمكن للتكوين بالمعنى العميق والمفهوم البنيوي للكلمة أن يدخل في التصوير الفوتوغرافي. لا يفسر الترتيب الشكلي للصورة شيئا. الأحداث المصورة في حد ذاتها تكون غامضة أو قابلة للتفسير تبعا لمعرفة المتفرج المسبقة بها قبل رؤيته للصورة. إذن ما الذي يعطي الصورة معنى الصورة؟ ما الذي يوضح رسالته المبسطة ويجعلني أقرر أن هذا المشهد نابض بالحياة ويستحق التسجيل؟
إن المحتوى الحقيقي للصورة غير مرئي، لأنه مشتق من مشهد. ليس بالشكل، لكن بالوقت ومروره. قد يجادل أحدهم بأن التصوير قريب من الموسيقى مثله مثل الرسم. لقد قلت سابقا إن التصوير الفوتوغرافي يشهد على ممارسة خيار بشري. هذا الخيار ليس بين تصوير عنصر X وعنصر Y. بل هو خيار بين تصوير اللحظة X واللحظة Y.
تحمل المواضيع المسجلة في أي صورة (من الأكثر تأثيرا إلى الأكثر شيوعا) تقريبا نفس الوزن ونفس القناعة. ما يختلف هو الحدة أو الكثافة التي ندرك بها قطبي الغياب والحضور أو ما هو غائب وما هو موجود. تجد الصورة معناها الملائم بين هذين القطبين. يبقى الاستخدام الأكثر شيوعا للتصوير هو كتذكار للغياب. على الرغم من أن التصوير يسجل ما شوهد بالفعل، إلا أنه بطبيعة الحال يشير إلى ما لا يرى. إنه يعزل ويصون ويعرض لحظة مقتطعة من سلسلة متصلة.
تعتمد قوة اللوحة أو الرسم على إحالاته الداخلية، لأن الإشارات إلى العالم الطبيعي خارج حدود الرسم ليست مباشرة أبدا، لكنها تتعامل مع مرادفات لها. أو بعبارة أخرى يفسر الرسم العالم ويحيله إلى لغته الخاصة، بينما ليس للتصوير الفوتوغرافي لغة خاصة به. يتعلم المرء قراءة الصور الفوتوغرافية كما يتعلم قراءة آثار الأقدام أو الرسوم التوضيحية. يتعامل التصوير الفوتوغرافي مع لغة الأحداث وجميع إحالاته هي إحالات خارجية، ومن هنا تأتي فكرة الاستمرارية.
يمكن لمخرج الفيلم أن يتلاعب بالوقت، كما يمكن للرسام أن يدمج بين الأحداث التي يرسمها، بينما القرار الوحيد الذي يتخذه المصور الفوتوغرافي يتعلق باللحظة التي يختار عزلها. ومع ذلك فإن هذا القيد الواضح يعطي الصورة الفوتوغرافية قوتها الفريدة. ما تظهره يستحضر ما لا تظهره. يمكن لأي شخص أن ينظر إلى أي صورة ليقدر تلك الحقيقة. العلاقة المباشرة بين ما هو موجود وما هو غائب هي تمرين لكل مصور. قد تكون العلاقة بين الجليد والشمس، الحزن إلى المأساة، الابتسامة إلى المتعة، الجسد إلى الحب، أو الحصان الفائز إلى السباق الدائر.
تصبح الصورة مؤثرة عندما تحتوي اللحظة المختارة على قدر من الحقيقة يكشف ما يغيب عن الصورة بقدر ما يكشف ما هو موجود فيها. تختلف طبيعة هذا القدر وطرق تميزه اختلافا كبيرا. ربما يكون في تعبير أو فعل أو تباين أو خداع بصري أو تكوين، لكن في نهاية الأمر لا يمكن أن تكون تلك الحقيقة مستقلة عن المتفرج. قد يبدو هذا قريبا من المبدأ الفني الذي يحول الخاص إلى عالمي. لكن التصوير الفوتوغرافي لا يتعامل مع مفاهيم، ولا توجد تحولات في الفوتوغرافيا. لا يوجد سوى القرار واللقطة.
ربما تكون رسالة التصوير البسيطة أقل بساطة مما كنا نظن. بدلا من أن تكون: "قررنا أن ما نراه يستحق التسجيل" يمكننا الآن فك شفرته على النحو التالي: "يمكن الحكم على الدرجة التي تجعلنا نعتقد أن هذا المشهد يستحق التسجيل من خلال ما اخترنا إخفاءه لأنه مضمن داخل المشهد"
لماذا نعقد بهذه الطريقة تجربة نمر بها عدة مرات يوميا - تجربة النظر إلى صورة - ونحولها إلى تجربة مربكة؟ نحن نفكر في الصورة الفوتوغرافية كعمل فني او كدليل على حقيقة معينة أو كتطابق مع الواقع أو كمادة إخبارية. في الحقيقة كل صورة هي وسيلة لاختبار وتأكيد وبناء رؤية شاملة للواقع. من هنا يأتي الدور الجوهري للتصوير في الصراع الأيديولوجي. ومن هنا تأتي ضرورة فهمنا لسلاح يمكننا استخدامه، كما يمكن استخدامه ضدنا.
.................




التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات