شارع التجارة.. مكان واحد وهويات متعددة

برباره يوسف 15 مارس 2022 الفيلم القصير

الكاتب : برباره يوسف


شارع التجارة.. مكان واحد وهويات متعددة
برباره يوسف

ما الذي يدفعنا إلى النظر بهيبة للأماكن التاريخية القديمة؟! هل فكرت وأنت تسير كأنك تود لو أن تنحني أمامها، أو كأن طاقة عنيفة تشتعل بداخلك فتدفعك إلى الشعور بشيء لا يمكن تفسيره إذا أردت أن تطرحه إلى سطح الكلمات، الشعور إلى البقاء في شكل خالد ونهائي.. وإلى الزوال فى لحظات خاطفة..
كل متناقض يجتمع مكتملا فى شكله النهائي أمام عظمة التاريخ.
ولكل مكان روحه وحضوره رغم اختلاف الزمن والعصر يبقى المكان حاضرا بماضيه كاشفا عن الاختلاف مع صورته المعاصرة، الأمر ذاته نراه في "شارع التجارة"، واحد من أقدم الشوارع القابعة في محافظة المنيا، إحدى محافظات الصعيد الغنية بالتاريخ، تأتي المنيا في شمال الصعيد فيما يمثل "شارع التجارة" حيوية وسط تلك المحافظة الهادئة، حيث علامة بارزة في حركة المنيا الاجتماعية، وساهم في التشبيك بين ريفها ومدينتها، ترفق في الشارع الشوام والسودانيين والغجر وغيرهم من الطوائف والفئات الاجتماعية، كما تجاور البهوات والفلاحين في نطاقه الجغرافي الفريد.

هذا الشارع العريق أطلق عليه قديما العديد من الأسماء من بينها شارع المطرانية، وشارع الصاغة، وشارع النحاسين؛ لما تعاقب عليه من قيام وسقوط لحرف ضخمة سيطرت لعشرات وإن لم يكن لمئات السنوات، فهو يعتبر رئة المنطقة القبلية لمدينة المنيا؛ ومنه تتفرع عدة شوارع أهمها شارع الحسيني "أحمد ماهر" والشارع الجديد، والدرابة، والعطارين، كما أنه يؤدي إلى كورنيش النيل وميدان البوسطة، ويعرف فى ذاكرة الفلاحين الآن بشارع المنيا القديمة.

يعود الشارع تاريخيا إلى العصر اليوناني والروماني، إذا بدأت أهميته لكونه جبانة دفن الموتى التي بنيت على مجموعة من الأكوام الأثرية، بجانب المعبد الرئيسي للمدينة، هذه الخلفية التاريخية تحيط بشارع التجارة عدد من الأقاويل التي تصل إلى حد الأساطير بوجود آثار تحت هذا الشارع العتيق، لاسيما مع وقوع الشارع في محيط شوارع تاريخية أخرى مثل شارع الجزارين والأِشعر الجديد والدروب القديمة، عادة ما يتم التنقيب بها على الآثار.

أول من منح الشارع أهميته كان "الأمير الحنش" الذي امتلك مراكب تجوب النيل وترسو على ضفافه محملة بالبضائع القادمة من فرنسا وإنجلترا وحتى تركيا، كانت تستقر البضائع على موردة النيل المقابلة لمدخل شارع التجارة، وتعتبر أول مرسى لتوزيع البضائع ونقلها إلى التجار، حملت الموردة اسم صاحبها حيث الامير الحنش وأصبحت "موردة الحنش".
تعتبر تلك الموردة بمثابة العمود الفقري الذي ربط العالم التجاري الخارجي بالعمق المصري والصعيد، المفارقة أنه رغم اختفاء الموردة يظل اسمها حاضرا حتى يومنا هذا، حتى أن الشارع حمل اسم "شارع أمير الصعيد" نسبة إلى الأمير وموردته، قبل أن يكون شارع التجارة.

هويات متداخلة
مثلما أثرت أفكار وطموحات إسماعيلية العمرانية على العاصمة القاهرية شهدت محافظات مصر الأخرى تغييرا ومنها شارع التجارة، الذي حمل اسم "كوم الحدادين" بعد نقل الورش من شارع سيدي على المصري إلى "شارع التجارة" ومع مرور الوقت جذب الشارع أصحاب الحرف بصفة عامة، إذ انتقل بائعي الذهب إلى الشارع، حمل لقب جديد وشارع الصاغة، كما اشتهر الشارع أيضا بشارع المطرانية نسبا لتلك البناية المهيبة القابعة به منذ عام 1605م، لكن اللقب الأشهر كان شارع التجارة نظرا لكثرة المحال التجارية والوكالات الوطنية والتجار.


تمتد جغرافيا الشارع على امتداده، حيث تبدأ الناحية الغربية باللوكاندة الشهيرة "الفتوح الجوهرية" التي كانت مرسى للبشوات وأصحاب الوكالات التجارية، وشهدت إقامة العديد من العروض السينمائية، من بين نزلاء تلك اللوكاندة الشهيرة كان "محمد راغب باشا" الذي أمر بتصميم عدد من منشآت الشارع، كذلك طه بيك مخلوف، وهو من وجهاء المنيا وصاحب توكيل سجائر "جناكليس"، كما شرفت اللوكاندة باستقبال النحاس باشا أثناء زيارته إلى المنيا عام 1943م، فيما تنتهي الناحية الغربية من الشارع بمقام السيدة نميلة.
وعلى امتداد الشارع يمينا ويسارا تجد العديد من المحلات والمنشآت التاريخية التي لم يتغير ولم يطرأ على طابعها الأثري سوى وضع يافطة جديدة بأولاد فلان أو أحفاد فلان.

صلاح الجندي " أبو شارع التجارة" و الشاهد العيان على تاريخه
نجد في بداية الشارع أكبر شركتين لبيع الأقمشة، شركة الجندي وشركة جنة رضوان. وعن هذا يحكي لنا الأفندي الارستقراطي صاحب الـ 93 عاما، صلاح عبدالحميد سليم الجندي. مواليد عام 1930 فى محافظة المنيا. سافر إلى القاهرة عام 1952 وحصل على بكالوريوس التجارة تعلم ودرس على يد كبار الأساتذة المصريين والإنجليز، وعاد إلى المنيا ليبدأ رحلته التجارية ويكمل مسيرة آبائه وأجداده ويدير شركة من أكبر الشركات اسماً فى المنيا كلها وبالتحديد فى شارع التجارة، وهي شركة الجندي.
نجدها على مدخل الشارع من ناحية الشرق، يقول صلاح الجندي إن الشركة تم انشاؤها حين كلف راغب بيه مهندس إيطالي بتصمم الشركة والذي بني فيما بعد على نفس طرازها محلات عمر افندى فرع الخازندار فى شبرا مصر، وهذه المحلات لها طابع فني مميز لها فواجهة هذه المحلات تحتلها من الاعلي قبتين برجيتين تنتهي كل واحدة فيها بأنثي نصف عارية وبجانبها الشعار الملكي، وفى مركز الواجهة نسر مجنح منحوت نحت بارز، أرضية المحل كانت فى الأصل أرضية خشبية إلى أن تم استبدالها لبلاط فى منتصف الستينيات. وظلت ملكية محلات الجندي تنتقل بين المستأجرين إلى أن وصلت إلى عبدالحميد الجندي عام 1932, وفى عام 1936 حصل على ملكية نهائية لها.
ويتذكر أنها كانت تحتوي على أكثر من 30 موظفا بالداخل وأكثر من 70 عاملا وشيالا وناقلا بضائع فى الخارج, المبني يتكون من ثلاثة أدوار، الدور الأول لعرض وبيع الملابس والأقمشة وبيع الادوات المنزلية, الدور الثاني والثالث عبارة عن ورش لتصنيع الأثاث المنزلي، على الأعمدة والارفف وضعت لافتات إرشادية فى الداخل باللغة الانجليزية وسرعان ما تم تغييرها إلى الفرنسية وذلك لان كل تجار الاقمشة كانوا فرنسيين وكل الزوار الكبار فى فترة الثلاثينيات وما قبل كانوا من الفرنسيين.
كانوا يتوافدون على الشركة لشراء كل ما يلزم السيدات من أقمشة للفساتين والشوارب ومفارش المنزل, وبعد فترة الخمسينيات كان الوافدون الأكثر من الإنجليز والمصريين, حتي دبت الروح المصرية بالكامل فى فتره الستينيات والسبعينيات, فكانت الشركة ومستلزماتها تحتوي على كل اساس المنازل ووفد إليها خاصا فى الافراح فكانت مقرا أساسيا لتجهيز العرائس من مستلزمات المفارش والملايات وأقمشة التنجيد والستائر وكل شيء.
وذكر صلاح الجندي أو كما يسميه أهل الشارع" أبو الشارع" أن فى بداية الخمسينيات لم يكن جده يهتم بالتجارة وحسب، ولكن كانت له ميول سينمائية وشغف كبير تجاه الفن، فكان يقيم داخل الشركة كل اسبوع فى يوم الراحة عرضا سينمائيا للعاملين بالشركة، مع خصم لكل عميل يحضر دور السينما والفيلم الذي يعرضه، فكان مولعا بالثقافة والفن وإثراء العاملين و إمدادهم بحبال العالم الخارجي وجعلهم يرون العالم من منظور مختلف.
وعلى الجهة المقابلة لشركة الجندي تم إنشاء شركة جنة رضوان فى منتصف الأربعينيات فقال إن حسن رضوان صاحب الشركة: كان أحد العاملين فى شركة الجندي ومع اختلاف الآراء خرج حسن من الجندي واشترى قطعة الأرض الموازية لهم وأنشأها وضم عليها فيما بعد عددا من قطع الأرض المجاورة لها حتى كبرت وصارت المنافس الأول لشركة الجندي فى بيع الأقمشة والمفارش. وفي ذاكرة الناس مثل عجيب يقول" جنة رضوان ولا نار الجندي" وعند السؤال عن المثل الشائع من أهل الشارع قال البعض لأن الجندي كان حادا فى تعاملاته بأسعار مرتفعة جدا. لكن رضوان كان لينا وعلى "قد الايد".

ويرد صلاح الجندي أن شركة الجندي كان استيرادها كله من الخارج على عكس الشركات الأخرى لذا كان زبون الجندي معروف.
أيقونات تجارية
وبجانب شركات الاقمشة العملاقة كان الشارع يمتلك توكيلا فريدا لنوع من السجائر وهي سجائر" نستور جانكليس" والتي حظيت بشهرة واسعة بين الوجهاء وكبار الأعيان آنذاك وكان يديرها طه بيه مخلوف نسيب صلاح عبدالحميد الجندي.. والتى تعتبر من أول أنواع السجائر انتشارا فى العالم والتى كانت أيضا تعرض فى معارض دولية فى أكثر الدول شهرة فى العالم ومكتوب عليها من الداخل بيان تقول فيه "قررت إدارة المعرض سنه 1926 بمصر بأن سجائر جاناكليس لا تضارعها سجائر أخرى". وهذه السجائر هي أول فابريكا للسجائر الملفوفة يدويا بدأت عام 1860 فى سراى جناكليس فى منطقة شبرا، ونشرت الصحف المحلية والأجنبية ان سجائر " نستور جانكليس" هى الأرقى على الاطلاق فى العالم لما لها من مذاق له خصوصية فى التخمر والتفتت اللذين يحدثان للدخان حين يخلط ويفرز بطرق علمية تحت اشراف فنيين مختصين, بالإضافة لتأثير الشمس والمناخ فى مصر الذى يعطيها رائحة عطرية خاصة للدخان.. وكان مقر توكيلها يقع فى شارع التجاره وزبائنه كان من الاعيان والانجليز والفرنسيين.
ورغم أن شارع التجارة كان يمتلك الشركات والتوكيلات الضخمة إلا أنه أيضا كان يحتوي على العديد من المحلات الصغيرة التى تفوقت فى تاريخها عليهم وفى بقائها إلى اليوم أيضا، فعلي ركن صغير من ناحية اليمين من اتجاه الغرب, يوجد محل لا يتعدي مساحته الثلاثة أمتار لكنه يضرب فى التاريخ من القدم مكتوب عليه تاريخ انشائه ويرجع لعام 1887 ومالكه الآن جمال كامل جورجي لديه 87 عاما, يجلس كل صباح على كرسيه مع مساعدة أمام المحل الصغير ويبيع الأقمشة وأدوات الترزي.
ويحكي عم جمال أنه يعمل فى المحل منذ كان عمره 10 سنوات ويذكر لنا أن جده الكبير لأمه أعطي المحل لأبيه هديه لزواجه من ابنته فى بداية القرن الماضي، لأن التجارة كان رزقها واسع فقد اشتغل فيه جده وأبوه وهو واولاده وأحفاده بالرغم من تعليم الجميع فى مدارس عليا فإنهم استغلوا تعليمهم وطوعوه فى التجارة، وعلى نفس الطريق فى الشارع نجد أيضا منشأة قديمة جدا لبيع المنسوجات مالكها نصفه انجليزي ونصفه مصري وهو "رؤوف نجيب جيد " تاريخ المكان ترجع إلى 1850 ومبني بحجارة عريضة وقديمة جدا له 3 مداخل وسلالم حلزونية على الشكل القديم جدا ومنحوت بداخله بعض الكلمات بلغات مختلفة، ظل مالكه يتوارثه جيل بعد جيل حتى باعه وسافر الى بريطانيا هو وعائله وترك المحل ل "عبدالرافع طه" فامتلكه من واحد وخمسين عاما، ولا يزال يحتفظ المحل برونقه وسطوعه وعبق تاريخه على واجهته.
كذلك نجد فى الشارع القديم الذي لا يخلو شبرا واحد من آثار التاريخ وعبقه الذي يضرب فى جذوره, نجد في منتصف الشارع أيضا عدة مهن مربحة وشائعة وكانت نواة الشارع قديما,، امثال النحاسین حیث كانت تجارته مربحة فلا كان یخلو بیتا من النحاس فكان شارع النحاس قدیما الموازي لشارع التجارة المختص بالبیع كان یوجد به ما یقرب عن 20 ورشة للبیع وتشكیل النحاس و 5 دكاكین لتبیيضه ولكن معظم أصحاب الورش والدكاكین ماتوا والباقي غیر نوع تجارته ومنهم من استبدل النحاس ل الألومنیوم.. كانت حرفة النحاس مزدهرة فى الأربعینیات كان سعر رطل النحاس عشرة قروش وبدأت تزداد أسعاره حتى قل إقباله واندثرت الحرفة مع ظهور الألومنیوم فبدأ الناس یحجمون على شراء النحاس رغم أنه صحى فى استعماله لتجهیز الطعام إلا أنه كان ثقیل الوزن و یحتاج دائما إلى تلمیع من وقت لآخر ـ ومع اختفاء المبیضین وندرة القصدیر وهى المادة الأساسية المستخدمة فى التبیيض لإزالة المواد السامة التى تتسرب مع الوقت وارتفاع سعره اندثرت الحرفه وأصبح الألمونیوم حل محل النحاس فهو لینافسه فى الوزن والسعر والصناعة فهو معدن بسیط وعملى فى استخدامه وفى متناول الید حیث إن كان سعر النحاس ضعف سعر الألومنيوم ووزن إناء المطبخ ” الحلة” من الألمونیوم لا تتعدى 2 كیلو فى حین أن وزنها من النحاسیه ما یقرب 7 كیلو، ولأن السوق عرض وطلب فمن الطبیعى أن یندثر النحاس وتظهر محلات بیع الألومنیوم والاستانلیس والبایركس واوانى السیرامیك وما زال یظهر الجدید لیحل محل القدیم، وكما ذهب النحاس ذهب بائع الروبابیكیا الذي كان یشتر النحاس القدیم لبیعه للمصانع لإعادة تصنیعها .. فتجد النحاس الأحمر لیدخل فى صناعة مواتیر الكهرباء والنحاس الأصفر لصناعة التحف وهلالات الجوامع وحلل العسل يقع على جانبي الشارع محلات الصاغة والتي جاءت بدايتها حرفة لحام الذهب، ويحكي لنا لحام الذهب عم حامد الذي امتلك جده اول محل لحام فى شارع التجارة، إن مهنة اللحام من أقدم المهن وارتبطت ارتباطا وثيقا بالذهب وهي مهنة لا تقل فى خبراتها عن خبرة تجارة الذهب نفسه، فاللحام الشاطر يعرف الذهب ووزنه وعياره من مجرد رؤيته.
ويذكر لنا صلاح الجندي أن الشارع فى الاربعينيات كان يعج بتجار الذهب يمينا ويسارا وأن الحاج احمد عویضة أول من باع الذهب لتنتشر تجارته من بعده حتى الآن لیأتي إلیها أسر من القرى الریفي ومن جميع سكان المنيا لشرائها وكان الأشكال المنتشرة التي يفضلها الزبائن، الحلق المخرطة والذهب البندقى عیار 24 والكردان والخلخال الذهبى والفضى لیتزین بیه العروس وتعتبر من ايقونات الحلى الشعبى فى الریف والتي انتشرت فى منتصف القرن الماضي ولا تزال حتى الآن ولكن نادرا ما تجدها بالأسواق، كان يصنع من الذهب ویطعم الكردان بالأحجار الكريمة وكان یقدم كشبكة للعروس بالقرى وهذا یعتبر من الأعراف والعادات المنتشرة بالریف من أجل التباهي والتفاخر.
نجد أيضا في الشارع محلات المنجدين البلدي والأفرنجي وايضا باعة أكفان الموتى، فالشارع يعد رمزا للتكامل التجاري فكان يباع القطن الى جوار محلات الالومنيوم الى جوار محلات الذهب إلى جوار محلات الاقمشة واللحامين والترزية.
ويذكر لنا جمال كامل أن الشارع قديما كان عبارة عن سوق ضخمة وكبيرة لكل شىء، وخاصة يوم الاثنين من كل أسبوع، فقد كان الفلاحون يوفدون من كل حدب وصوب قبل اختراع المواصلات والكباري، كان يتم نقلهم من خلال مورده الحنش فى آخر الشارع محملين بمنتجاتهم المختلفة، كالألبان والجبن والزبد، والحيوانات كالبهائم والحمير والخرفان لبيعها، وكان الشارع يستمر الى العاشرة مساءً، ويعود بعدها الأهالي إلى قراهم حاملين مصابيح الإضاءة الكلوبات ومشاعل النور فى أيديهم، فلم تكن الكهرباء قد دخلت منازل الفلاحين بعد.
ويذكر ايضا عم عبدالكريم أحد مواليد الشارع القديم انه كانت هناك احتفالية كبري تقام كل عام قرب موعد المولد النبوي الشريف، ويتذكر حين كان طفلا كان الشارع يمتلئ بالعديد من الجنسيات المختلفة كالسودانيين والبرابرة والغجر، يقطنون في نهاية الشارع من الناحية الشرقية، في مبني ضخم كان مقسما إلى غرف غرف منفصلة، كان الجنسيات المختلفة يؤجرون تلك الغرف لمدة شهر كامل يقيمون فيه، وكان يجلبون معهم أدواتهم ومنتجاتهم، فيذكر مثلا انهم كانوا يصنعون حلوى صغيرة تسمي " الدوم" وأيضا كانوا مشهورين بمشروب " العرقسوس" وكان الغجر يطوفون القرى المجاورة لقراءة الكف والطالع, ويعودون كل مساء إلى غرفهم في المبنى المخصص لهم, والحكايات المنتشرة أيضا قصة الشوام اللاجئين الذين سكنوا الشارع واشتهروا بصناعة الحصر اليدوي ، ويذكر أهل الشارع أن العائلات السودانية كانت لهم علامات مميزة على وجوههم ثلاثة شرط بموس حاد من اعلي الصدغ إلى اخره، وكانوا يشتهرون بزيهم الجلباب الطويل الأبيض والشال المعقود من خلف رؤوسهم ومتدلي على أكتافهم، وقلة من الكبار فقط يتذكرون مثل هذه الاحتفالات حيث قد تم إلغاؤها من زمن فات.
وتفرقت قبائل الغجر ولم يعد قراءة الطالع والفنجان منتشرة بين الناس كسابق الزمان، كذلك يتذكر أهل الشارع الكبار منهم أن شارع التجارة قديما ومعظم المدينة لم يكن يتوافر فيها المياه سوى حنفيات عمومية متفرقة بعيدة عن بعضها، وكانت هناك مهنة قد اندثرت الآن هي مهنة السقا، حيث كان السقا، يحمل القربة محملة على ظهره وينقل بها المياه إلى السيدات فى منازلهن وينقل إلى الباعة والتجار واصحاب المحلات المياه محملة على ظهره، بمقابل صاغ وبعد ذلك كانت بقرش تعريفة للقربة الواحدة، وكانت منتشرة المهنة بين الكبار والصغار فكانت مربحة ولكن آثارها كانت تظهر سريعا على ظهور من يشتغل فى السقاية، حيث يتقوس ظهره وينحني من جراء حمل القربة المستمر، وكانت النساء تحفظ المياه في أوان فخارية للحفاظ على نظافتها وبرودتها خاصة فى الصيف قبل اختراع الثلاجة.

أديان طائفة ومبان راسخة

ومثلما اشتهر برجال أشداء حضرت النساء أيضا مثل السيدة نميلة، أحد أولياء الله الصالحين، والتي يعود لها مسجد السيدة نميلة المتفرع من شارع التجارة وشارع الحرية، حيث بُني المسجد في العصر المملوكي عام 1399م \ 820هـ، وكانت السيدة نميلة سيدة صالحة أخت فاطمة المشطوبية وكانت خادمة للسيدة زينب، وكانت سيدة علوية لها دور سياسي كبير في فترة الاحتلال العثماني.
يقال إن نميلة كانت فائقة الجمال، تجيد ركوب الخيل وتشارك في سباقاته، من صفاتها الذكاء والتقوى إلى جانب براعتها في حل المعضلات والمشكلات، جد نميلة هو الشيخ خليل الجليل بن معروف النميلي، اكتسب شهرته كونه شيخا جليلا ومناضلا ثوريا، إذا كان رجلا مناضلا ساهم في تحرير سوريا من قبضة الاستبداد العثماني عام 1825م، حكم عليه بالإعدام وكان مطاردا حتى يوم وفاته.
السيدة نميلة كانت خادمة السيدة زينب، حينما جاءت إلى مصر أثناء الحكم الفاطمي، حظيت بشعبية كبيرة نظرا لآرائها السياسية، احترمها الجموع وتم بناء ضريح لها، جدير بالذكر أن تلك المرحلة شهدت اهتمام ببناء الأضرحة، كما هو الحال مع مسجد السيد حامد الريدي أحد أشراف المنيا في نهاية القرن 19، تم تجديده على يد محمد راغب باشا، يعتبر مسجدا بسيطا يخلو من الزخرفة والنقوش، له واجهة واحدة تطل على الشارع ملاصقة لمنازل أهالي المنطقة يمتاز هذا المسجد بأن مئذنته تقع على مدخله الرئيسي.
المدخل الأول للمسجد هو على شكل مستطيل والثاني ثلاثي يطل على فحتة يعلوها عتبة عليها شاهد تجديد المسجد بطول 12م، وله 3 أعمدة تحمله، العقود به شخشيخة ومحراب ومنبر بسيط من الخشب الخرط، والتجمیع بأشكال سداسية بخشب المفرغ، أما المنبر نص دائریة یعلوها شرفات ثلاثیة.
يرتكز المسجد على دور واحد مربع ثم هرم مقلوب مثمن وفي آخره الجوسق الدائري ومن ثم الهلال النحاسي وشرفة واحدة، داخل ساحة الصلاة ضريح السيدة نميلة، هناك رواية يتحاكى بها أهل المنطقة وهو تجديد المسجد على يد قبطي كان يتبارك بأولياء الله الصالحين، نقش اسمه على باب المسجد.
المنيا كمحافظة تجمع بين الطيف المسلم والمسيحي، وهو الحال نفسه في شارع التجارة إذ تحضر المطرانية بالقرب من المساجد المذكورة سلفا، مطرانية المنيا القديمة ينتمى لها الأقباط الأرثوذكس، تعود جذورها إلى مئات الأعوام، وتعتبر من أقدم المطرانيات، حاليا توجد 9 مطرانيات داخل المنيا كلها تابعة للنطاق الإداري لمحافظة المنيا.
يعود تاريخ المطرانية إلى عهد الأنبا ايساك والبابا متاوس الثاني عام 1458م، الذي كان اسمه "الراهب سليمان الصعيدي"، حسب ما ذكر في الكتب القديمة المؤرخة أنه اسقف المنيا والأشمونين وتوالى من بعده أساقفة مذكورة أسماؤهم هم الأنبا توماس الاول والانبا ميخائيل والانبا توماس الثانى المعروف بـ المليجى و الأنبا ياكوبوس الأول، اكتسب شارع التجارة مكانة كبيرة في عهد الأنبا باكوبوس الثاني وعهد السلطان فخر الدين عثمان.
" هذه دار أحكام شريعة أسقفية كرسى المنيا والأشمونين" هذه العبارة تم كتابتها على حجر الرخام الذي يتقدم المطرانية بعد تجديدها على يد الاسقف الانبا ياكوبوس 1605 ش1890م , ثم توالت التجديدات إلى أن اتم بناء كنيسة مارمرقس فى 1968 وفى عهد الأنبا ارسانيوس تم هدم أجزاء وتوسيع شامل للكنيسة من عام 2000 وحتى تاريخه إلى أن صارت كرسي اسقفية المنيا وتوابعها.
تم تصميم الطراز القديم للكنيسة على الطراز البيزنطي وهو طراز بازيليكي متأثر بالفن الروماني تمتاز بسقوف بالجمالون، مغطى بالهياكل وصحون الكنيسة جمالون من الخشب أو القرميد ، كما في الكنيسة المعلقة بالقاهرة، كما يمتاز سقف الكنيسة بالقباب، وعادة ما تكون على شكل الدير الأحمر فيما يوجد الدير الأبيض بسوهاج وكنيسة آيا صوفيا بالقسطنطينية، تجمع كنيسة المطرانية بين الطرازين.
تعتبر الكنيسة من الكنائس الغنية والأيقونات الاثرية واللوحات والنشوق التي يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، فيوجد "حامل الايقونات"، المصنوع من رخام المرمر الإيطالي وتم نقله إلى الكنيسة بعد رحلة بالنيل المقدس توقفت السفينة على شاطئ النيل أمام الكنيسة ولم تتحرك، وتم اعتبارها إشارة ومنحة للكنيسة وتم تركيبه كأيقونات الحامل سنة 1875م.
على مستوى الجمهورية المصري هناك ثلاثة حوامل للأيقونات أخرى بنفس الشكل والحجم ونوع الرخام، الأولى بالكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية والثانية في كنيسة مارجرجس بالمنيا والثالث بكنيسة مارجرجس بالدير المحرق بأسيوط.
من بين الأيقونات المسيحية أيضا في شارع التجارة كنيسة "المنارة" تم بناؤها 1910 م وتعتبر المبنى الوحيد الذي لم يتم تجديده حتى وقتنا هذا، حيث لم يطرأ عليها أي تجديد سوى الدهان فقط، تحتوى الكنيسة على بئر يعود تاريخها إلى القرون الأولى للمسيحية وتمتد حتى عمق 20 مترا، وتحتوى على مياه نقية متجددة لقربها من نهر النيل، ويُشاع أن الرهبان القدامى كانوا يشربون منها، كما تصرف بها مياه المعمودية حتى الآن.
كما تحتوى الكنيسة على أيقونة دخول المسيح أورشليم وعدد من الأيقونات الأثرية مثل صلبان من الفضة الخالصة" صليب من عام 1915 م في عهد البابا كيرلس الخامس وعدد 7 صلبان كبيرة و14 صغيرة وعدد 4 صليب دورة يرجع لعام 1894، كذلك " أواني مذبح" كأس من الفضة يرجع لعام 1183 للشهداء، وكأس من الفضة الخالصة يعود للعام 1911، وهناك مقتنيات أخرى مثل كرسي الأسقف عام 1198 المصنوع من الخشب المعشوق ومحاط بقوائم مخروطة دقيقة الصنع وتاج عمود أثري وحجر معمودية من عهد الكنيسة القديمة، وكانت هذه القطع الأثرية محفوظة في الجزء الخاص بمذبح القديسة دميانة (حاليا) وكان عبارة عن غرفتين الغرفة السفلية كان موجود بها متعلقات الأساقفة والكرسي وأواني المذبح والغرفة العلوية كان يوجد بها جميع المخطوطات التي ظلت الكنيسة تحتفظ بها إلى يومنا هذا.

أخيرا يذكرنا عم صلاح أن المميز فى الأمر قديما هي روح الناس التي استطاعت أن تبني وأن تشيد وأن تجعل لنفسها مكانة لا يمكن لأحد شاهدها أن ينساها، وأن المختلف الآن بشكل عام هي التهذيب والالتزام الذي يجب أن نعود إليه ولا نترك طابع الاستسهال والفوضى يسير على كل شيء، ويقول أهل الشارع أن لكل عصر سماته وطابعه المميز له وأن على كل جيل أن يعرف ويقدر ما فعله الأولون حتى لا يضيع تراثنا وقيمته ..
ومن هنا تظهر قيمة التاريخ الشفهي المتنقل، فعندما يحكي التاريخ عن نفسه من خلال كتاب قد يحذف الكاتب أو يضيف أو قد يعدل فى مجرى الأحداث إذا لم تناسب السياق الذي كتب من أجله، وعندما نقرأ قد نصدق ما كتب أو نقف مكتوفى الأيدى ونقول ربما هذا ما حدث، لكن عندما يكون للتاريخ شاهد عيان وقتها نقف لنستمع ونقر بصحة ما سمعناه.

الصاغة، النحاس، الذهب، الأقمشة، السجائر، اللحامين، المنجدين البلدي والافرنجية، الترزية، تجار الحمير والماشية وحتى بائعي الأكفان وغيرها من المنتجات كانت ولا تزال تشكل شهرة شارع التجارة إلى جانب العديد من الحرف التي شهد الشارع على صعودها وهبوطها، ومازالت الذاكرة حاضرة عن الشارع الذي شهد القدم ويعيش الحداثة، ويتذكرون كل ما سبق على ألسنة رواد الشارع وساكنيه الذين يتفاخرون بالانتماء إليه والبقاء فيه حتى الآن.

....................

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات