السينما الغنائية الاستعراضية في مصر

بسمة شرين 15 مارس 2022 الفيلم القصير

الكاتب : بسمة شرين


بقلم: بسمة شيرين


منذ أول مرة شاهدت فيها فيلم "غزل البنات" لأنور وجدي ووقعت في حب الأفلام الغنائية الاستعراضية، وكنت أنتظر بشدة عرض الأغاني حتى أبدأ بالغناء والرقص معها، وكأني ليلى مراد، وفي مرات أكون أحد الراقصين، وأحيانا نجيب الريحاني ولكني مهما رقصت وغنيت معهم لا أمل ولو للحظة من مشاهدة هذا الفيلم.
وظل حبي للأفلام الغنائية يكبر، وتساءلت مؤخرا لماذا لم نعد نصنع أفلاماً بمثل جودة أفلام العصر الذهبي.. وإن أردت أن أصنع واحدا يضاهي جمال الأفلام الغنائية القديمة ما الذي على أن أفعله كمخرجة وكاتبة؟ من هنا فكرت في دراسة القديم لكي أتعلم صناعة الجديد، ولم أجد أفضل من الرجوع بالزمن للوراء لمعرفة ودراسة كيف بدأت تلك الصناعة الساحرة.

أول فيلم غنائي مصري عربي

" يبدو أن السينما المصرية نطقت لكي تغني"؛ لم تحتج السينما المصرية إلى صناعة الكثير من الأفلام كنظيرتها الاجنبية لتدرك أن للسينما الغنائية سحرا خاصا بها يجعلها دونا عن باقي الأنواع صانعة البهجة الأولى للمشاهد.

بعد مضي شهر واحد على بدء عرض أول فيلم ناطق في تاريخ السينما المصرية، عُرض أول فيلم غنائي مصري بعنوان "أنشودة الفؤاد"، وذلك في الرابع عشر من أبريل لعام 1932، وإن كان الاستعداد لإنتاج " أنشودة الفؤاد" قد بدأ قبل فيلم " أولاد الذوات "،إلا أن الأخير قد سبقه في بدء العرض أمام الجمهور ويرجع هذا إلي بعض الظروف التي واجهت صناع العمل ويذكر منها : أنه تم استبعاد الفنانين أحمد علام وإستيفان روستي بسبب تخلفهما عن حضور حفلة الشاي المقامة علي شرف رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا، كما تأجل التصوير إلى 5 ديسمبر 1931 بدلاً من 5 نوفمبر 1931 .

وكانت الفكرة الأساسية لفيلم "أنشودة الفؤاد" وقصته مشابهة بشكل عام لفيلم "أولاد الذوات"، فدارت حول أمين باشا (علي أحمد) الذي يشغف براقصة أجنبية ويصحبها لتعيش معه في سوهاج، هناك يعجب بها حسني (عبد الرحمن رشدي) ويهجر زوجته (نادرة) فتحاول نادرة استمالة زوجها ولكن تتوالى الأحداث بشكل مأساوي لكليهما. وشارك في تمثيل هذا الفيلم جورج أبيض ونادية، وأخرجه الإيطالي ماريو فولبي؛ وكانت أغاني الفيلم طويلة وبدت مملة، نظرًا لأن المخرج ترك الكاميرا تواجه المطربة دون أن يحركها طوال الأغنية.

وأشار الناقد الفني سعد الدين توفيق في كتابه "قصة السينما في مصر"إلى أن الفيلم رغم ضعف قصته حقق نجاحًا تجاريًا لكونه أول فيلم غنائي، وعُرض في دول عربية عديدة.

محاولة ثانية ولكن غير ناجحة
الفيلم الغنائي المصري الثاني كان " تحت ضوء القمر " من إخراج شكري ماضي، تدور قصة الفيلم حول سميرة (أنصاف رشدي) الفتاة الريفية التي تفر هربا مع أخيها في يوم زفافها إلى عزبة حامد بك (عبد المعطي حجازي) وبعد أن أنقذ أخوها حامد بك، وقع حامد بك في حب سميرة ويتبادلان الحب ويتعاهدان على الزواج.
الفيلم سبق عرضه صامتا عام 1930، ولما كان تفكير المشتغلين بالسينما في ذلك الوقت متجهاً الي أن تكون أفلامهم ناطقة أو حتى أن تكون بعض أجزائه ناطقة فقررت الشركة المنتجة وقتها "فيلم نهضة مصر" إضافة بعض الأجزاء الناطقة وإعادة عرضه في يوليو 1932.
الطريقة التي اتبعت في تسجيل الصوت كانت جديدة وقتها وترجع جهود تسجيل الصوت لمسيو ميشيان صاحب شركة أسطوانات ميشيان بالقاهرة في تسجيل الأصوات والكلام والغناء بالتزامن مع عرض الصورة على الشاشة، وجهود ضبط السرعة والتزامن لمسيو جوليو كاتانيو، ولكن للأسف باءت جهودهما بالفشل حيث جاءت الآراء حول الفيلم سلبية جدا ونستعرض رأي الناقد - المخرج لاحقاً - أحمد بدرخان الذي نشر في مجلة "الصباح " عدد 22 يوليو 1932
"والآن نعود إلى موضوعنا أي اختراع مسيو ميشيان ومسيو كاتانيو- إذا صح أن نسميه اختراعا- فقد انقلب تفاؤلي تشاؤما.. تصور يا سيدي القارئ إنك لا تسمع الممثلين إلا عندما تون شفاههم في سكون تام وإذا تحركت شفاهه للكلام لا تسمع أي صوت، علاوة على أنك تسمع (خشخشة) الإبرة على الأسطوانة طوال عرض الفيلم أما الصوت فغير واضح.. إن الاختراع لم يطبق الا على جزء صغير من الفيلم.. خمس دقائق في أول الرواية - تفتح نفس المتفرجين - وفي نهايتها لتكون مسك الختام..".

طالت الانتقادات أيضا التي تعرض لها الفيلم سوء اختيار الممثلين وعدم تمكنهم من تقمص شخصيات الفيلم ومبالغة التنكر (المكياج) الذي كان واضحا جدا، وكذلك لم يوفق ايضا المخرج في اختيار المناظر وخصوصا المناظر الداخلية.


النجاح الكبير لعبد الوهاب ودوره في تطوير الأغنية السينمائية.

أحدث دخول عبد الوهاب الي السينما ضجة كبيرة نظرا الي شهرته وقتها، كما أحدث تطويرا بالغ الأثر الي يومنا هذا في الأغنية السينمائية والألحان والموسيقى العربية؛ فبالرغم من أن "أنشودة الفؤاد "هو الفيلم الغنائي العربي الأول، لكنه ليس هو الفيلم الذي أدخل الأنواع الموسيقية الثلاثة الجديدة إلى الموسيقى العربية، بل كان الفيلم الثالث الذي حمل أحد الأنواع الثلاثة (المونولوج والمحاورة والاوبريت) وهو فيلم "الوردة البيضاء" لعبد الوهاب،1933.
فقد استحدث طريقة البلاي باك وهو أول فيلم ظهرت فيه الأغنية السينمائية بسماتها الحديثة من حيث الطول، إذ كانت في الغالب أغانٍ قصيرة طول كل منها حوالي خمس دقائق ، علي عكس الأغاني التي قدمت في فيلم أنشودة الفؤاد تلحين الشيخ زكريا الذي كان يصل طول الأغنية الواحدة الي ثلث ساعة التي اتسمت بطول المقدمة والتكرار الرتيب ،كما سجلت اغاني الفيلم أيضا أثناء التصوير وبحضور الفرقة الموسيقية وكانت المطربة نادرة تغني بشكل تقليدي لا يتماشى مع الطبيعة التي يجب أن تكون عليها الأغنية السينمائية التي ترتبط بالتعبير الذي يتفق مع طبيعة السياق الدرامي .
كانت الفرصة مواتية لعبد الوهاب فأدخل ألحانا غربية مثل لحن "التانغو" الأرجنتيني إلى الأغاني الشرقية البحتة، وألحانا أخرى كثيرة كما فعل في المقطع الأخير من رائعته "عندما يأتي المساء" التي غنّاها في فيلم "يحيا الحب" عندما أدخل إيقاع "لاكوكاراتشا" من أمريكا اللاتينية، فكانت فعلا مغامرة وجرأة لم يقم بها أحد من قبله.
فبعد ادخاله للمونولوج في فيلمه الاول قدّم عبد الوهاب فيلم "دموع الحب" 1935، وفيه كون أول ثنائي غنائي في السينما المصرية مع المطربة نجاة علي في أغنية "ما أحلى الحبيب"، وبهذا نقل عبد الوهاب الحوار الغنائي من المسرح إلى السينما، ثم إنه استخدم آلات موسيقية أوركسترالية إضافة إلى الآلات التقليدية المحدودة ليضيف بذلك ألوانا صوتية جديدة للموسيقى العربية.
وأخيرا النوع الثالث الأوبريت في فيلم "يوم سعيد " 1939 ،فلم يكن دخوله تطويريا فقط بل ايضا اشعل المنافسة بين المطربين ليتنافس كل النجوم وقتها علي عمل أفلام تضاهي بجمالها وقوتها أفلام عبد الوهاب، فحاولت نادرة دخول السباق مرة أخري بفيلمين هما "شبح الماضي" 1934 و " أنشودة الراديو " 1936 ولكن الفيلمين لم ينجحا مثل فيلمها الأول، وبعدها قررت منيرة المهدية الانضمام الي المنافسة بفيلمها "الغندورة" 1935 والذي برغم ما كان متوقعا لها من نجاح نظرا الي شهرتها آن ذاك وأن الفيلم مأخوذ عن أوبريت ناجح جداً للمطربة ومع ذلك لم ينجح الفيلم أيضاً .

أم كلثوم
أول أفلامها "وداد" للمخرج الألماني فريتز كرامب، عرض في عام 1936، الذي بدأ التحضير له منذ عام 1934 وقد كانت فكرة الفيلم من بنات أفكارها، وتلقي الفيلم وقتها الكثير من المديح من قبل النقاد ونعرض الان رأي الناقد شحاتة أحمد بيومي الذي نشر في جريدة " كوكب الشرق عدد 15 فبراير1936 .
"سيطرة المخرج علي المجموعة كانت قوية فعالة فبدت متجانسة منسجمة في كل مشهد.. أدت أم كلثوم دورها بنجاح كنا له متوقعه لأولي خطواتها أمام الكاميرا.. فمواقفها في الفرح والحزن والأمل واليأس نطقت بها أجزاء وجهها بوضوح وجلاء، كما أن صوتها انساب شجياً حنوناً تلقفته الأفئدة في نشوة بالغة وسرور عظيم.. لا يفوتني أن أبدي إعجابي بألحان الشاب النابغ الأستاذ رياض السنباطي فلقد تفوق وظهر، رغم أن ألحانه وموسيقاه كانت للكورس فقط.

انطبعت أفلام كوكب الشرق الستة بمنطق السينما في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، هذا المنطق كان قائماً على المبالغة في القصة والزخرفة في الأداء الصوتي، والنزعة الدرامية الفجة التي تعتمد على المصادفات غير المنطقية، كما أن صناع أفلامها لجأوا إلى التاريخ ليستلهموا منه القصص التي تصلح لها، ففيلم "دنانير" 1940 يرصد حكاية مطربة من العصر العباسي، وفيلم "سلامة" 1945 اتجه لنفس الاتجاه، ووداد قبلهما تحدث عن جارية حظيت بصوت رائع عاشت في الفترة المملوكية بمصر.
بقيت أفلام (نشيد الأمل 1937)، (عايدة 1942) و(فاطمة 1947)، وكلها تدور في العصر الحديث. صحيح أن فيلمها الأخير كان أكثر نضجًا من حيث بساطة الأداء وسرعة الإيقاع ومتانة الحبكة وسيولة الأحداث، ومنطقيتها نسبيًا، لكن ذلك يعود في المقام الأول إلى التطور الذي لحق بصناعة السينما في وقت إنجاز الفيلم، فضلا عن أن أم كلثوم نفسها كانت قد اكتسبت قدرًا لا بأس به من مهارة التمثيل بعد كل هذه السنوات التي أمضتها داخل البلاتو.
السينما الاستعراضية
السينما المصرية لم تتوقف فقط في بداياتها عند الغناء ولكن أيضا غامرت بإدخال نوع جديد وهو السينما الاستعراضية، وترجع أولى التجارب الي الراقصة بديعة مصابني التي قامت بإنتاج وبطولة مجموعة من الأفلام الاستعراضية الغنائية.. فقد دعت في يوم الخميس 26 يناير 1933 أسرة الصحافة والملهي لمشاهدة العرض الخاص لأفلامها في سينما رويال.. وكانت الأفلام، وعددها ستة، هي: " رقصة يلدز التركية " و " رقصة عروس النيل " و"رقصة الفلاحة المصرية" و "مارش تحية مصر " و "لغة العيون" و"الليل يناجي القمر "وغيرهم.
وكانت وقتها ردود الفعل إيجابية جدا، على سبيل المثال امتدح السيد حسن جمعة في عدد الكواكب 13 فباير 1933 بديعة مصابني ووصفها بأنها تمتلك كل المواصفات لتصبح نجمة سينمائية محبوبة، وأثني على خطوة إنتاج الأفلام القصيرة وتمني لها مزيداً من النجاح..
ويبدو أن الردود الإيجابية التي تلقتها بديعة شجعتها لإنتاج وبطولة أول فيلم استعراضي طويل وكان ذلك في عام 1936 في فيلم " ملكة المسارح " وهو اللقب الذي كانت تعرف به وقتها، وشاركها البطولة كل من: بشارة واكيم ومختارعثمان وفؤاد الجزايرلي.
تم تصوير مناظر الفيلم في استوديو مصر وعمل على إخراجه ماريو فولبي، الذي سبق له إخراج "أنشودة الفؤاد" 1932 و"الاتهام" 1934 و"الغندورة"1935، ولكن للأسف لم يحقق الفيلم إيرادا كبيرا وتلقى الفيلم انتقادات فنية عديدة منها ضعف المناظر الاستعراضية ورتابتها ومبالغة الأداء التمثيلي لمختارعثمان كما وجه انتقادات أخرى للمخرج والمصور.. ما سبب خسائر فادحة لمصابني واضطرت الي بيعه في النهاية.


في حين ارتبطت الموجة الأولى من الأفلام الغنائية بالميلودراما، كانت أفلام الأربعينيات أقل ارتباطاً بهذا النوع. ويمكن ملاحظة بعض الأنماط فيما يخص القصص والنجوم والمخرجين. على سبيل المثال، لعبت أم كلثوم في الغالب أدواراً في قصص حب بائسة وفي قصص تاريخية. بالمقابل، تقمص فريد الأطرش في العديد من الأفلام دور مغن شاب في رحلته الشاقة نحو الشهرة. ومالت الأفلام الغنائية التي لعب بطولتها محمد فوزي للكوميديا، خاصة في آخر الأربعينيات؛ يبرز هذا الطابع في أفلام مثل "العقل في اجازة" 1947 و"صاحبة الملاليم" 1949.
كما ظهرت أفلام تمزج الدراما والكوميديا والرومانسية وتحوي أغاني فردية واستعراضات مسرحية مثل "قلبي دليلي " 1947 و "غزل البنات" 1949".
عوضت السينما الغنائية والاستعراضية عن وجود المسرح الغنائي الاستعراضي بل واصبحت ايضا اهم ثلاث جهات لإنتاج الأغاني وتحولت الي أحد أهم مصادر الترفيه عن الأسر المصرية والعربية، التي لا تستطيع ماديا دخول حفلات عبد الوهاب وام كلثوم وفريد الاطرش وليلي مراد، أو ارتياد صالات الرقص والغناء، فقد نقلت السينما الغنائية كل ما كان يقدم فيها من فنون إلى شريط السينما من أغاني واستعراضات ورقصات لكاريوكا وسامية جمال ومونولوجات إسماعيل ياسين وشكوكو، واستعراضات واوبريتات فريد الاطرش ومحمد فوزي في افلامهما.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات