رحلة البحث عن هوية "حوار" كمال الشيخ

أمنية عادل 15 مارس 2022 الفيلم القصير

الكاتب : أمنية عادل



أمنية عادل
"لقد كان في حقيقة الأمر نوع من التحدي بيني وبين نفسي، فقد بدا لي بالنسبة لهذا الموضوع أو هذه التصورات التي كتبها كمال الملاخ، أنه من الصعب عمل تتابع سينمائي منها يعبر عن فكرة ما.. أثناء هذا التفكير بيني وبين نفسي وردت على خاطري أو تذكرت هيلين كيلر الفيلسوفة الصماء البكماء التي استطاعت أن تفهم ما يدور حولها، وتعبر عما يدور في نفسها من خلال لمسة الأصابع، التي كانت هي الوسيلة الوحيدة لتفهم وتعبر، ولا شك أنها بأي تصور معجزة.. واستطعت أخيرا أن أجد صيغة لتتابع الصور، أشبه ما تكون بالعمل في أي فيلم روائي.. يتضمن الفيلم مشاهد متعددة، كل مشهد يعبر عن مضمون معين".
هكذا تحدث المخرج كمال الشيخ عن فيلمه الروائي القصير "حوار" تم إنتاجه عام 1972 من قبل المركز القومي للأفلام التسجيلية، وكان أول ما وقعت عيني عليه للتعرف على هذا الفيلم القصير الخفي ضمن مسيرة كمال الشيخ السينمائي، كان ذلك أثناء بحثي عن تجارب المخرجين المصريين في السينما القصيرة بعيدا عن أفلامهم الروائية الطويلة وشباك التذاكر.
البداية
ولحسن الحظ اكتشفت الكثير من المفاجـآت التي سأطلعكم عليها خلال مواد قادمة بمجلة الفيلم، ولكن ما دفعني أكثر نحو البحث عن فيلم "حوار" بالتحديد كان وصف الشيخ لهذا الفيلم بأنه "تسجيلي" ولا عجب لأنه إنتاج "المركز القومي للأفلام التسجيلية"، صادفت رحلة بحثي عن تجارب المخرجين المصريين في عالم السينما قصيرة "بوست" لصديقي المخرج "أحمد نادر" يسرد فيه عن عثوره على فيلم قصير من إخراج كمال الشيخ على موقع مهرجان كان يعود إلى عام 1973، لكنه في تلك المرة يأتي تحت غطاء إنتاجي مختلف، بحسب موقع مهرجان "كان" فإن الفيلم من إنتاج المملكة العربية السعودية.
كيف ذلك في الوقت الذي لم تكن المملكة تمتلك إنتاجا سينمائيا واهتماما بهذا المجال لتنتج فيلما قصيرا لمخرج مصري، ومن هناك بدأت رحلة السعي لاكتشاف ما وراء حكاية هذا الفيلم القصير المحير، وكان النتاج هو هذا المقال.
توجهت على الفور إلى المركز القومي للسينما للاطلاع على أرشيف المركز وتم العثور على الفيلم وشاهدته، سبع دقائق من السحر البصري والاستمتاع بالسينما الخالصة بعيدا عن الحوار، كما هو الحال مع السينما الصامتة بداية القرن العشرين، لقطات متتابعة وموسيقى رشيقة ذات جمل لحنية راقصة وساخرة في بعض الأحيان، تتضافر مع لقطات قريبة لتسرد مجموعة من المواقف المتتالية متباينة المعنى.
7 دقائق من السحر السينمائي
للوهلة الأولى عند مشاهدة الفيلم يلحظ المشاهد الاختلاف الكبير في سرد هذا الفيلم والأسلوب المعتاد لكمال الشيخ في أفلامه، حيث التوتر والتشويق والهدوء الذي يسبق العاصفة والصراع الداخلي النفسي الذي تغرق بداخله شخوص أفلامه وقلة الحوار، يمتاز الشريط السينمائي لفيلم "حوار" بالخفة والرشاقة والمونتاج السلس الذي ينتقل من موقف إلى آخر.
حيث تقسم الدقائق السبع لهذا الفيلم القصير إلى حكايات ومواقف متتالية لكل منها حبكة تقليدية، بداية ووسط ونهاية، وهو أمر ملفت على صعيد السيناريو القائم على أبطال غير تقليدين وهم "الأصابع"، ما يفسر اسم الفيلم بالفرنسية "LANGAGE DU GESTE\لغة الإيماء أو الأيدي"، يرتكز الفيلم على حركات الأصابع التي تجسد مشاعر ومواقف إلى جوار موسيقى مصاحبة رشيقة في جملها اللحنية، ولقطات قريبة.
بالنظر إلى مسيرة كمال الشيخ الإخراجية نلحظ اعتماده على أسلوب جاد في تقديم أفلامه، وغالبا ما يُغييب الجانب الكوميدي، خلال تجربته في فيلم "حوار\لغة الأيدي" يعتمد الشيخ على الدراما الحركية كما هو المفهوم المسرحي، حيث خلق المفارقات والمعاني من خلال حركة الأيدي للتعبير عن حالات شعورية مختلفة مثل الحب والغضب والسلطة، وتتصدر الرمزية مقدمة هذا الشريط السينمائي حتى نهايته.
حركات ورمزيات
وهو ما يذكر بتقنية إدوارد كوردن كريك المسرحية الذي اعتمد على التركيز البصري وفن الإيماء والرمزية البصرية، كذلك الطرح المعتمد على البناء والتفكيك لاستخلاص المعاني المجردة من الرمز، هذا الرمز مزدوج المعنى والدلالة والحضور في فيلم الشيخ.
جمع فيلم "حوار" خلال دقائقه ملامح الدراما الحركية وتكثيف للمواقف الإنسانية وتباينها، وكذلك حبكات متصاعدة ومكتملة رغم بساطة الإمكانيات التي اختارها مخرجه لإنجاز هذا الفيلم، هذه البساطة التي مثلت تحديا كبيرا للقائمين على العمل وإبهار مشاهديه لثقله وثرائه.
أثناء تجربة المشاهدة الأولى للفيلم حضر إلى ذهني سبب نسب الفيلم إلى المملكة العربية السعودية وعدت من جديد إلى التنقيب خلف الفيلم، وعثرت على رحلة الفيلم في المهرجانات العالمية كما رواها كمال الشيخ بنفسه حيث قال "إن الفيلم لم يشارك بالمسابقة الرسمية لمهرجان "كان" بسبب عرضه في مهرجان لايبزغ وتبينت\Leipziger الألماني، وقد أُرسل، بعد ذلك بعدة شهور، إلى مهرجان "كان"، وكان من الطبيعي أنه عرض خارج المسابقة لعرضه في مهرجان سابق.. ومع ذلك فقد نال تقديرا كبيرا إذ أشاد به مجموعة من النقاد في إذاعة مونت كارلو".
هذا التصريح المكتوب على لسان الشيخ زاد من حيرتي، إذ يشير موقع مهرجان "كان" أن الفيلم قد شارك بالمسابقة الرسمية للأفلام القصيرة عام 1973 إلى جوار 6 أفلام أخرى من جنسيات مختلفة، وهو ما أسعد الشيخ الذي قد كان له مشاركة سابقة مهرجان "كان" عام 1964 بفيلم "اليلة الأخيرة"، لاسيما مع حصول فيلم "حوار" على تقدير سينمائي، حتى وصل إلى القاهرة من جديد وكان له مشاركة عام 1973 بالمهرجان القومي للأفلام التسجيلية والقصيرة وحصل على شهادة تقدير في الدورة الرابعة من المهرجان.
وبحسب خطاب تلقاه كمال الشيخ والكاتب الصحفي يوسف فرنسيس من المذيعة المصرية "سناء منصور" أثناء تواجدها في باريس في ذلك الوقت فإن فيلم "حوار" حظي بتقدير سينمائي عقب عرضه في مهرجان "كان".
وتقول منصور في خطابها: كنت أستمع إلى أحد البرامج الإذاعية وتكلموا عن فيلم "لغة الأيدي"، الذي اشتهر في مصر باسم "حوار"، البرنامج هو (ب.أو.ب.كلوب) لجوزي ارتير، وهو أشهر البرامج في الإذاعة الفرنسية على الإطلاق، ويستمر بين الساعة العاشرة والواحدة صباحا يوميا، وكان يستضيف ثلاثة صحفيين بينهم روبير شاجال.. والحديث يدور عن مهرجان "كان"، وكل منهم يعارض الآخر.. إلى أن تحدثوا عن الأفلام القصير التي عرضت في المهرجان.. وقالوا إن هناك 138 فيلما تقدمت للمسابقة وأن الفيلمين الفائزين الفرنسي والمجري.. فجأة اجتمع ثلاثتهم، إلى جانب مقدم البرامج، على الإعجاب الشديد بفيلم (لغة الأيدي).. الفيلم المصري.. وقال جوزيه ارتير بالحرف الواحد :(كنت أود أن يفوز هذا الفيلم بالجائزة الأولى، فشاهدته مرتين وأثار دهشتي..)".
بالنظر إلى حقبة الستينيات والسبعينيات، حظيت الأفلام القصيرة، خاصة ذات التوجه التسجيلي، بقدر من اهتمام المخرجين، وهو ما انعكس على كل فناني المرحلة ومن بينهم مدير التصوير "عبد العزيز فهمي" أو كما يُلقب "فنان الضوء"، شارك فهمي مع نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات في تجارب سينمائية بها الكثير من التجريب على صعيد الحكي البصري، وكذلك تجارب قصيرة وتسجيلية من بينها أفلام مثل "سلوى" 1972 إخراج يوسف شاهين، "انطلاق" 1973 إخراج يوسف شاهين أيضا وكذلك "حوار\لغة الأيدي" وهو الفيلم الذي نحن بصدده.
اعتماد فهمي في تصوير لقطات فيلم "حوار" على اللقطات القريبة والقريبة جدا الثابتة لحركات الأصابع وجمع مع مونتاج سعيد الشيخ المتنوع، الذي تعاون معه في أكثر من عمل سينمائي، تكثيف الرمزية الناتجة عن المعطيات الحركية والديكورات البسيطة التي كونت ملامح المشاهد القصيرة، ووظف كل منهما الإضاءة والقطع لإعلاء قيمة الحكي البصري والتضفير لأكثر من معنى داخل الرمزية الواحدة.
تسجيلي أم روائي؟
اللافت أن الأفلام القصيرة الروائية التي قُدمت خلال فترة الستينيات والسبعينيات كانت توصف بأنها أفلاما تسجيلية بطابع درامي أو روائي، وهو ما يطرح في الذهن تعريف السينما التسجيلية، خلال الفترة ما بين 1952 إلى 1980 تم إنتاج 1058 فيلما "تسجيليا"، من إنتاج جهات عديدة من بينها "المركز القومي للأفلام التسجيلية، مركز الفيلم التجريبي وهيئة السينما" وغيرها من المؤسسات السينمائية التابعة للدولة التي قدمت أفلاما ذات حبكات درامية في صورة تسجيلية إلى جوار سينما التحريك، وقد يكون بعضها دراميا روائيا لكنه ينتمي إلى جهة إنتاج تسجيلية في جوهرها وهو ما يفرض عليه الانتماء إلى نوع مختلف.
وحضرت أسماء عديدة مثل "صلاح أبو سيف، عاطف سالم، عز الدين ذو الفقار، كمال الشيخ، توفيق صالح، يوسف شاهين" وغيرهم من الأسماء على تيترات أفلاما قصيرة غنية بالحكي البصري مبتعدة عن الحوار المباشر، وقد يكون فيلم "حوار" رغم بساطته أتاح فرصة لصانعه "كمال الشيخ" للغوص في عالم التشكيل البصري أكثر من عالم الإثارة والتشويق بحدث مثير والسعي خلفه كما هو الحال في فيلمه الأول "المنزل رقم 13" وتجاربه السينمائية الأخرى في عالم الفيلم الروائي الطويل.
وهو ما يفسر رأي الشيخ في الفيلم القصير حين قال:"وفي رأيي أن الفيلم القصير يستطيع أن يساهم في تطوير الإنسان ومحاولة نقله إلى العصر الحديث أسرع كثيرا من الفيلم الروائي الطويل الذي يحتاج إلى وقت طويل وتكاليف كثيرة".
رغم اضطرابي ورفضي لنسب فيلم "حوار" إلى المملكة العربية السعودية والخطأ الحاصل على موقع مهرجان "كان" لكنني سعيدة بهذا الخطأ الذي أتاح لي فرصة مشاهدة فيلم سينمائي قصير ساحر بلغته البصرية وتكثيف لمفهوم سحر السينما كما كثف معاني إنسانية بمشاهده القليلة.

بيانات الفيلم كما هو مذكور على التترات:
اسم الفيلم: حوار
سنة الإنتاج: 1972
إعداد وتنفيذ: كمال الشيخ
إنتاج: المركز القومي للأفلام التسجيلية
فكرة: كمال الملاخ
تصوير: عبد العزيز فهمي
مونتاج: سعيد الشيخ
موسيقى: ميشيل يوسف
هندسة الصوت: نصري عبد النور

المراجع والمصادر:
- تجارب في السينما التسجيلية المصرية، محمد عبدالله، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984.
- الأرشيف البصري للمركز القومي للسينما
- السينما والتاريخ، المجلد الأول، مجموعة مؤلفين، إصدارات مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، 2018
- إدوارد كوردن كريك (1873-1996) محاضرة م.م. شيماء حسين طاهر، مادة تقنيات مسرحية، كلية الفنون الجميلة، جامعة بابل
http://finearts.uobabylon.edu.iq/lecture_view.aspx?fid=13&depid=1&lcid=43236
- أرشيف المخرج أحمد نادر
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=10157756339390737&id=630715736
- صفحة فيلم "حوار\لغة الأيدي" على موقع مهرجان "كان" السينمائي
https://www.festival-cannes.com/en/films/langage-du-geste?fbclid=IwAR2uWkOiAVCFbwn3fz7oRr4CXoSviCuqYv0_jB_ggZ6RqqYc2udaWKnnsW0

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات