الكاتب : أحمد عزت
أحمد عزت
هناك نوع من الوعي الشائع لدى شريحة عريضة من الجمهور، وربما لدى بعض صناع السينما تتعلق بأن الفيلم القصير ما هو إلا مجرد بذرة للفيلم الروائي الطويل، مرحلة أولية أو تدريب تقني وليس شكلا فنيا مستقلا وقائما بذاته، له فلسفته وهويته الجمالية الخاصة.
يعد الفيلم القصير شكلا فنيا أكثر إرهاقا وتطلبا من الفيلم الروائي الطويل فما هو فضيلة هناك كالتكثيف والإيجاز جوهري هنا وضرورة تفرضها طبيعة النوع. فمثلا يفرض الزمن المحدود للفيلم القصير على صانعه ضرورة النفاذ سريعا الى القلب، فليس هناك وقت يسمح للاستهلال أو التقديم للشخصيات والأماكن نحن أمام شكل فنى يدفع صانعة الى قدر أكبر من التكثيف و الايجاز على صعيد السرد والأسلوب. هذا مدخل مناسب للكتابة عن تجربة المخرج المصري سامح علاء والممثلة في فيلميه القصيرين "خمستاشر" و " ستاشر" والذي فاز ثانيهما بالسعفة الذهبية في مهرجان كان كأفضل فيلم قصير، باعتبارها وفية تماما لجماليات الفيلم القصير الخاصة.
النفاذ سريعا الى القلب
ينفذ بنا السرد دون تردد في الفيلمين الى قلب الدراما ولحظة المواجهة. هناك في فيلمي سامح علاء ( خمستاشر وستاشر) حدث صادم يفترض لحظة مواجهة مع واقع ثقيل أكبر من أن تواجهه الشخصية الرئيسية مع حداثة عمرها المذكور في عنوان الفيلم. مسؤولية ثقيلة تفرض عليها فجأة ودون إرادة منها. يمكن اعتبار ذلك كتيمة أساسية ممتدة تصل بين عالمي الفيلمين.
يبدأ السرد مباشرة عقب وقوع هذا الحدث. في " خمستاشر" نحن أمام مراهق تعرض والداه لحادث خطر ويرقدان الآن داخل أحد المستشفيات تاركين له وحيدا رعاية أخيه الرضيع. يكتشف سريعا وفاة الأب وأن الأم لا تزال في حالة حرجة. في "ستاشر" نحن أمام مراهق آخر فقد حبيبته انتحارا بعد ان حبسها الأهل لمدة شهرين وكل ما تركته له تسجيل صوتي لها مع احساس مكبل بالعجز وخوف عميق من أن ينسى الوجه الذي أحبه، وهو ما يدفعه الى رحلة بها الكثير من المخاطرة من أجل وداع أخير.
رغم بساطة الحكاية في الفيلمين، فهي مكتملة البناء الدرامي في الحقيقة مجرد لحظة في عمر المراهقين امتداد هذه اللحظة هو زمن الفيلم وملعب الدراما.
الوفاء بمتطلبات الدراما
في " ستاشر" لدينا بطل يريد شيئا ما/ رؤية وجه حبيبته للمرة الأخيرة. يقرر التنكر في ثياب والدته المنتقبة مواجها خطر افتضاح أمره إلا انه يحقق ما أراده في النهاية. في " خمستاشر نجد الدراما أقل وضوحا وداخلية أكثر. يتحرك السرد بين مشهدين يحاول المراهق خلالهما تلبية احتياجات أخيه الرضيع وبين المشهدين هاك شىء ما تغير داخل المراهق. هناك تنافر بين المراهق وأخيه في المشهد الأول يعبر عنه البكاء المستمر للرضيع، هنا الصغير يمثل عبئا مفروضا على الأخ وجزءا من اللحظة الصادمة التي يواجهها بينما في مشهد النهاية هناك نوع من الصمت والحميمية بينهما ينتهي بملامسة المراهق لليد الصغيرة لأخيه الرضيع كأنما يعقد صلحا معه او يطلب العون من هذا الكائن الذي سيشاركه أيامه القادمة.
حكي بصري خالص
تبدو خيارات المخرج في الفيلمين مشغولة جدا بما تشعر به الشخصية الرئيسية و هي مشاعر تتسرب إلينا دون كلمات عبر حكي يكاد يكون بصريا خالصا.هذا خيار مناسب للشخصية الرئيسية في الفيلمين والمنتمية لفئة المراهقين وهي فئة عمرية لا تعرف البوح ولا كيف تعبر عن مشاعرها بطريقة طبيعية، هناك نوع ما من التطرف في ردود أفعالها، إذ تؤول كل المشاعر إلى صمت غاضب.
أول ما نستشعره بشأن بطلي سامح علاء هو وحدتهما في مواجهة العالم في هذه اللحظة الفارقة وهو شعور تعززه الصورة تعكس ضآلتهما في مواجهة الواقع الجديد الحاضر دائما عبر ضجيجه الذي ينقطع من على شريط الصوت، مثل هذا الكادر الواسع من فيلم " ستاشر" على سطح العمارة التي تقيم بها الشخصية الرئيسية حيث يصعد ليحضر جلباب الأم ونقابها ، نشاهده ضئيلا جدا في قعر الكادر.
يعزز هذه المشاعر أيضا غياب الحوار من الفيلمين، فمراهق " خمستاشر" ينطق مرتين بكلمات مقتضبة بينما مراهق " ستاشر" لا ينطق سوى بجملة وحيدة، فكلاهما وحيد تماما مع مشاعره. في " ستاشر" يعبر الحوار القليل عن حالة من القطيعة بين المراهق وأمه. يعاتبها غاضبا أن اقتحمت عليه الحمام أثناء استماعه لرسالة حبيبته الأخيرة وفي هذا المشهد لا نراها ولا نسمع ردا على عتابه وفي المرة الثانية تقول له " انا نازله، سلام" ولا نستمع الى أي رد منه.
في أحد مشاهد " خمستاشر" و هو المشهد الذي يلي معرفة الشخصية الرئيسية بموت والده، يلجأ سامح علاء للحركة المبطئة للدراجة البخارية التي تحمل البطل خلال طريق العودة ليلا في لقطة عامة ليبدو الطريق كما لو كان بلا نهاية، عاكسا ثقل اللحظة العاطفية التي يمر بها.
يمكنك ان تتأمل أيضا في " ستاشر" خيارات المخرج في مشهد صعوده ونزوله من بيت الحبيبة. اللقطة العلوية واحساس الضآلة، الخطوات المتثاقلة مع صوت الحذاء النسائي الذي يسيطر على شريط الصوت ناقلا قلقه الشديد وخوفه من افتضاح تنكره في مقابل الخطوات المتسارعة أثناء الخروج والتي تعكس رغبته في الابتعاد عن المشهد بأسرع وقت مع حركة البشر الصاعدين عكس اتجاهه نحو الشقة التي تزيحه دائما نحو طرف الكادر.
الرحلة الداخلية للبطل
هناك نوع من الرحلة الخارجية في الفيلمين، الذهاب للمستشفى ومعرفة خبر وفاة الأب والذهاب لبيت الحبيبة ورؤية أخيرة لوجهها لكن السرد مشغول أكثر بالرحلة الداخلية، بالحالة العاطفية للشخصية الرئيسية ، بما ستغيره الرحلة بهما. يجعلنا السرد جزءا من هذه الرحلة. في " ستاشر" وقبل أن يكمل المراهق تنكره ينظر نحونا مباشرة عبر عين الكاميرا مرتديا جلبابا نسائيا تقترب الكاميرا ببطء منه من الخلف. حركة الكاميرا هنا وكأنها تحاكي رغبتنا في الاقتراب منه ومصاحبته خلال رحلته القادمة.
يخلق المخرج عبر فيلميه - ستاشر تحديدا- صورة صاعدة في التأثير والاحتشاد بالمعنى .
في " ستاشر" لدينا مثال جيد على التكثيف حيث الصعود سريعا نحو ذروة عاطفية تتبعها حالة من التنفيس. تجعل الفيلم أقرب لدفقة وجدانية صاعدة من قاع الشخصية للسطح. تأمل وجه المراهق الخال من التعبير في أول لقطة داخل حمام مسكنة وكأنه يعاني من إنكار ووجهه الباكي وسط الطريق خلال آخر لقطات الفيلم.
ينجح سامح علاء عبر فيلميه في تجسيد وعيه بفرادة الوسيط الذي يعمل من خلاله مستوعبا امكانياته وموظفا جمالياته في تحقيق المعنى والشكل الذي يسعى خلفهما