الكاتب : عصام زكريا
عانت الأفلام القصيرة والوثائقية على الدوام من عدم وجود منافذ كافية لعرضها، عندما كانت مشاهدة الفيلم تحتاج إلى قاعة عرض وشاشة كبيرة وجهاز عرض، وكان الأمر أصعب أيام الـ35 مم، حيث كان مجرد الحصول على نسخة لعرضها أو لارسالها إلى المهرجانات مسألة صعبة ومكلفة.
الأفلام القصيرة والوثائقية أصبحت الآن متوفرة على الانترنت بغزارة هائلة، أكثر من الهم على القلب، وأكثر من قدرة أي شخص على المتابعة أو الاختيار الملائم..إذ يختلط الجيد بالردئ والعاطل بالباطل والفيلم باللافيلم، حتى تصبح عملية البحث والانتقاء بالنسبة للمشاهد غير الخبير تكاد تكون مستحيلة.
المشكلة الأكبر أن توفر هذه الأفلام على الانترنت لا يعني أن هناك توزيعا أو سوقا لها، يمكن الاعتماد عليه كمصدر لتغطية انتاج الأفلام، والغالبية الساحقة من هذه الأفلام يرفعها أصحابها مجانا لمجرد التواجد أو أملا في أن يحقق فيلمهم عددا محددا من المشاهدات يأتي لهم ببعض الدولارات وفقا لشروط قنوات العرض. أما الفيلم المتماسك الذي تقوم بانتاجه شركة كبيرة أو صغيرة ويقوم على صنعه فنانون محترفون أو يرغبون في أن يصبحوا محترفين، وتعمل شركة الانتاج أو شركة توزيع أخرى على بيعه وفتح أسواق ومنافذ له وارساله إلى المهرجانات السينمائية المعروفة، حيث يمكن أن يتاح له المشاهدة من قبل لجنة تحكيم متخصصة وسينمائيين ونقاد محترفين، وبالتالي يمكن أن يحصل على جوائز وأن يلفت انتباه النقاد ووسائل الاعلام وأن يباع حق عرضه أو يسهل لصناعه دخول أفلام أخرى مع منتجين أكبر أو حصول مشاريعهم المستقبلية على تمويل من صناديق ومؤسسات الدعم، هذا الفيلم/ الفيلم، الذي نقصده بالحديث هنا، أصبح عملة صعبة نادرة وسط فيضان وهيجان الانترنت.
معظم صناع السينما الجادين لن يفرطوا في فيلمهم، كما لو كان لقيطا يرغبون في التخلص منه، بالقاءه مجانا على "يوتيوب" أو "فيميو" أو غيرها من قنوات العرض، إلا في حالات استثنائية ولأهداف محددة، كأن يكون الفيلم بمثابة "برومو" أو "سي في" دعائي لهم، أو لأسباب عملية أخرى. وعلى مدار ربع القرن الماضي، منذ أن بدأت الثورة الرقمية، هناك عشرات وعشرات من الأفلام القصيرة الممتازة، التي قام بصنعها سينمائيون شباب في مصر والعالم العربي، اختفت الآن كما لو أنها لم توجد قط، ولا يوجد لها فرص للعرض إلا لو قام أصحابها بالقاءها، كما لو كانت "روبابيكيا"، على الانترنت.
الحس السليم يقول أن هذه الأفلام يجب أن تجمع ويتم حفظها و"أرشفتها" وتوفيرها لمن يرغب في مشاهدتها، ولكن هذا موضوع آخر، نعلم أن الحديث فيه عبثا لا فائدة منه، طالما أنه لا توجد مؤسسة أو جهة حكومية أو خاصة تعني بهذا الأمر. والشئ نفسه ينطبق على تراث الـ35 مم، والفيديو، خاصة الأفلام التي أنتجتها الدولة ممثلة في الشركة العامة للسينما، ثم المركز القومي للسينما، وهيئة الاستعلامات والتليفزيون المصري ومعهد السينما..
من يصدق، مثلا، أن هذه الجهات لا تتوفر بها معظم الأفلام التي أنتجتها، وما يتوفر منها لا يصلح للمشاهدة. من يصدق أن المعهد العالي للسينما نجح في تدمير معظم مشاريع التخرج التي أنتجها، والتي تضم الأعمال الأولى لكبار المخرجين في مصر، وذلك باستثناء عدد محدود من الأفلام التي نجح أصحابها في تهريبها أو الحصول على نسخة "بوزيتيف" أو "تيليسين" منها قبل فوات الأوان! ومن يصدق أن أفلام المركز القومي للسينما يفترض أن تكون نسخها الأصلية ( النيجاتيف) موجودة ومحفوظة كلها في ثلاجة حفظ النيجاتيف في "مدينة السينما"، ولكن تقريبا يستحيل أن تحصل على فيلم منها أو تتأكد أنه لا يزال حيا وبصحة جيدة، أما بالنسبة للتليفزيون المصري فليس هناك فعليا أي أرشيف، ولا تصدق هذه النسخ المخجلة التي تعرضها قناة "ماسبيرو زمان".
هناك مثلا مجموعة من الأفلام الروائية القصيرة التي أنتجها التليفزيون مثل ثلاثية "حكاية وراء كل باب" التي أخرجها سعيد مرزوق ولعبت بطولتها فاتن حمامة (1979) وعدد آخر من الأفلام القصيرة التي لعبت بطولتها فاتن حمامة أيضا وآخرون، وهي متاحة بنسخ رديئة للغاية سواء على قناة "ماسبيرو زمان" أو على "يوتيوب".
هناك تراث كامل يستحق أن نظل نصرخ منادين بانقاذ ما يمكن انقاذه منه، ولكن هذا موضوع آخر كما ذكرت..ربما يزيد الانتباه والاهتمام به مع زيادة الاهتمام بالفيلم القصير الذي نشهده حاليا. وهذا هو موضوعنا الأساسي.
خلال السنوات الماضية ظهر منفذ هام جدا لتسويق وعرض الأفلام القصيرة هو "المنصات الاعلامية أو الترفيهية على الانترنت"، over the top media (or entertainment) service platform ، وتختصر عادة بالحروف OTT Platform أو OTT Streaming Service أي "خدمة البث على الانترنت"، التي يطلق عليها في وسائل الاعلام المصرية أحيانا "المنصات الرقمية" وهي ترجمة خاطئة لا أعرف مصدرها.
تعمل هذه المنصات بطريقة مبتكرة تجمع بين الانترنت والتليفزيون التقليدي، أو بالأدق التليفزيون المدفوع عن طريق الاشتراك الشهري أو الدفع مقابل المشاهدة. الفارق أن المشاهد تصله القناة عن طريق الانترنت وليس عن طريق القمر الصناعي أو الديكودر الذي يفك القنوات (مثل "شوتايم" و"بين")، ويمكن مشاهدة مواد هذه المنصات على شاشات التليفزيون الذكية أو أي جهاز به شاشة وانترنت. ومن أشهر هذه "المنصات" "نتفليكس" و"ديزني بلاس" و"برايم فيديو" وفي العالم العربي "شاهد" و"ووتش ات".
الفارق الجوهري فيما يتعلق بالمواد التي تبث على هذه المنصات أن حقوق عرضها تشترى مسبقا مثل التليفزيون العادي وفي معظم الأحيان يكون للمنصة نفسها ذراع انتاجي ينتج بعض ما يتم بثه على المنصة. وبالتالي فهي سوق شرعية يمكن أن يعتمد عليها موزعو الأفلام الطويلة والقصيرة، بل أصبحت في بعض الأحيان هي السوق الرئيسية للأفلام، سواء التي تنتجها هذه المنصات أو التي تقوم بشراء حقوق عرضها.
ميزة المنصات أنها على عكس السينما ليست مقيدة بجمهور دور العرض الذي يتكون معظمه من الشباب الذين يميلون إلى الأنواع الفنية "التجارية"، ويترددون قبل أن يذهبوا إلى فيلم جاد أو "فني" أو مختلف، وبالطبع ليس أمام الأفلام القصيرة فرصة في دور العرض العامة التجارية، باستثناء القليل جدا من دور العرض الفنية Art House مثل دار عرض "زاوية" في مصر.
المنصات غير مقيدة بهذا الجمهور، ولكنها تهدف إلى إرضاء قطاعات كبيرة ومتنوعة جدا من المشاهدين، لذلك تحفل هذه المنصات بأفلام وثائقية وقصيرة وأفلام فنية مختلفة لجذب القطاعات المختلفة من جمهور هذه النوعيات، ومن ثم أصبحت منفذا رائعا للأفلام الوثائقية والقصيرة.
من أكثر المنصات انتشارا في عالمنا العربي، والتي تهتم بالأفلام القصيرة، منصتا "نتفليكس" و"شاهد"، وسوف نركز في المساحة الآتية من المقال على ما تحتويه كل منهما من أفلام قصيرة، وأفضل هذه الأفلام.
"نتفليكس"...كل الأنواع..بكل اللغات!
ميزة منصة "نتفليكس" أنها "عالمية"، تتوجه إلى المشاهدين في معظم بلاد العالم، وهي تعتبر كنزا لعشاق السينما الذين يرغبون في التعرف على أفلام من بلاد أجنبية يصعب أن يشاهدوها في منافذ ودور العرض التقليدية.
ميزة أخرى هي أنها لا تخضع لقوانين الرقابات المحلية ولذلك تعرض أعمالا قد تكون ممنوعة في بعض البلاد حتى البلد الذي جاء منه الفيلم، كما نجد في حالة البلاد العربية والصين مثلا، حيث تعرض المنصة أفلاما لا يسمح بعرضها في بلد المنشأ!
تتراوح الأفلام القصيرة المتوفرة على منصة "نتفليكس" من أعمال حاصلة على الأوسكار وجوائز عالمية حتى أعمال محلية جدا من بلاد غير معروفة بصناعة الأفلام مثل السعودية.
فيما يلي بعض الأفلام القصيرة التي تستحق المشاهدة على "نتفليكس":
What did Jack Do?
"ما الذي فعله جاك" من إخراج فنان السينما السيرالية الكبير ديفيد لينش، وهو فيلم تجريبي غريب يعود به لينش إلى السينما بعد فترة من التجريب في فنون أخرى مثل الرسم والنحت. كما يشارك لينش في لعب الشخصية الرئيسية فيه بالإضافة إلى قرد متكلم اسمه جاك!
Tow Distant Strangers
"غريبان متباعدان" إخراج ترافون فري ومارتن ديزموند رو الذي حصل على الأوسكار هذا العام. فكرة الفيلم مستلهمة من فيلم "يوم الجراوند هوج" Groundhog day ( إخراج هارولد راميس1993) الذي يدور حول رجل يجد نفسه عالقا في يوم واحد لا يستطيع الخروج منه، تتكرر أحداثه بلا نهاية. ويروي "غريبان متباعدان" قصة شاب إفريقي أمريكي يتعرض لتحرش رجل شرطة عنصري يقوم بمهاجمة الشاب وقتله، ويستيقظ الشاب ليكتشف أنه كان كابوسا، ولكن الكابوس يظل يتكرربطريقة أخرى، ويشير الفيلم بوضوح إلى مقتل جورج فلويد وعشرات الأمريكيين الأفارقة على يد رجال الشرطة.
الهدية
فيلم فلسطيني كان مرشحا للأوسكار هذا العام، من إخراج فرح نابلسي وبطولة صالح بكري، حول رجل فلسطيني يعلق هو وابنته على الحاجز الذي يفصل بين الضفتين الغربية والشرقية.
A Love song for Latasha
"أغنية حب إلى لاتاشا" إخراج صوفيا ناهل أليسون رشح لأوسكار أفضل فيلم وثائقي قصير في 2019، وهو من نوع الوثائقي الابداعي حيث يحتوي على مادة صوتية لفتاة سوداء قتلت على يد الشرطة في التسعينيات مع صور فوتوغرافية ورسوم متحركة ومؤثرات خاصة ولغة سينمائية فنية شعرية.
Anima
"أنيما" إخراج الأمريكي المعروف بول توماس أندرسون هو واحد من أغرب وأجمل الأفلام القصيرة التي صنعت خلال السنوات الماضية، وهو فيلم موسيقي مستلهم من ألبوم بالاسم نفسه للموسيقيار الانجليزي توم يورك، يمزج بين الوثائقي والخيال العلمي!
Ghosts of Sugar land
"أشباح أرض السكر" للأمريكي المسلم بسام طارق، يتتبع في قالب وثائقي حكاية أربعة أصدقاء يبحثون عن صديقهم المسلم الذي أصبح متطرفا ثم اختفى، وتتكشف أمامهم أسرار لم تكن تخطر ببال.
We Love Moses
"نحب موسى" للمخرجة ديون إدواردز هو نموذج لأي صانع أفلام قصيرة سواء من ناحية الفكرة أو السرد المحكم الدقيق أو الاخراج المتمكن. تحفة روائية قصيرة ممتعة.
If Anything Happens I love You
"إذا حدث أي شئ فأنا أحبك" فيلم تحريك من إخراج ويل ماكورماك ومايكل جوفير، يعالج واحدة من أكثر القضايا إيلاما في أمريكا، وهي حوادث القتل في المدارس، حيث يروي الفيلم بطريقة فنية ومؤثرة قصة والدين يعانيان من صدمة موت طفلتهما الوحيدة.
على "نتفليكس" العديد من الأفلام الأخرى المتميزة روائية ووثائقية قصيرة من بلاد ولغات مختلفة تعد من أفضل ما يمكن مشاهدته أكتفي بذكر أسماء بعضها مثل:
Period, End of Sentence
Lorena, La de pies ligeros
Sitara: Let Girls Dream
After Maria
One Last Shot
Frankenstein’s Monster’s Monster, Frankenstein
Birders
The Trader (Sovdagari)
The White Helmets
الفيلم الأخير عن سوريا ولكن مخرجه أجنبي. للأسف لا يوجد الكثير من الأفلام القصيرة العربية على "نتفليكس". على حد علمي لا يوجد سوى فيلم مصري واحد هو "واحدة كده" من إخراج مروان نبيل وتمثيل ريهام عبد الغفور، بينما يوجد عدد كبير من الأفلام السعودية الجيدة منها:
"27 شعبان"، "هل تذهب سومياتي إلى النار؟"، "الفأر"، "ستارة"، "وسطي" و"من كآبة المنظر".
"شاهد"..نافذة عربية غير مسبوقة
المنصات سوق جديدة تحتاج إلى إدراك وفهم لطبيعة الوسيط من قبل المسئولين عن المنصة وإهتمام من قبل السينمائيين الشباب. ومنصة "شاهد" هي أكبر منصة عربية، تركز على المحتوى العربي بجانب بعض المواد الأجنبية، وكما لاحظنا غياب الأفلام العربية – باستثناء السعودية- على "نتفليكس" نجد الأمر نفسه وبشكل أكبر على "شاهد". لكن المنصة بدأت حديثا في الاهتمام بالأفلام القصيرة والوثائقية حيث قامت ببث بعض الأفلام القصيرة السعودية منها "خمسون ألف صورة"، "بسطة"، "كيكة زينة"، و" أغنية البجعة"، وكذلك الفيلم المصري "ستاشر" للمخرج سامح علاء الحاصل على السعفة الذهبية كأفضل فيلم قصير في مهرجان "كان" 2020.
ومن الأعمال الكلاسيكية التي تم اتاحتها على منصة "شاهد" حديثا الفيلم القصير"القاهرة منورة بأهلها" ليوسف شاهين (1199) ، وهو فيلم "سئ السمعة" لا تجرؤ قناة تليفزيونية عربية على عرضه، مع إنه واحد من أهم أعمال شاهين وأكثرها جرأة فنية وقدرة على نقد الواقع المصري في بداية التسعينيات.
الأفلام العربية القصيرة أمامها فضاء مفتوح على المنصات، لكن هناك مشكلة كبيرة في التواصل، وربما يكون هناك مشكلة في إدارة هذه المنصات القائمة على اختيار الأعمال العربية، فمن الملاحظ أن هناك اختيارات "عشوائية" واختيارات "مثيرة للتساؤلات" كثيرة.
..أما بالنسبة للمنصة المصرية Watch it فيبدو أن القائمين عليها لا يعرفون ما هي المنصات بالضبط، ويعتقدون أنها مجرد وسيلة لحماية حقوق المسلسلات الرمضانية، وعرض بعض المواد التليفزيونية التقليدية، وبالطبع هناك رقابة مشددة، أكثر من رقابة المصنفات الفنية، على ما تعرضه المنصة.
الرقابة هي المشكلة الكبيرة التي ستواجه المنصات العربية، بجانب مشاكل أخرى مرتبطة بالمنطقة مثل الصراعات الإقليمية والطائفية، ولكن ربما تكون المنصات أيضا نافذة للحرية والانسانية تساهم في خروج المنطقة من رجعيتها، والأفلام الوثائقية والقصيرة، التي لا تخضع للرقابة التقليدية أو شروط السوق والتوزيع، يمكن أن تكون العنصر الأكثر حيوية في هذا الصراع.