ديفيد لينش رصاصة جديدة مع كل فيلم قصير

أيمن سوسة 15 مارس 2022 الفيلم القصير

الكاتب : أيمن سوسة



"أنقى فعل سريالي هو الدخول إلى جمهور بمسدس محشو وإطلاق النار عليه بشكل عشوائي"

أو هكذا يصفه "أندريه بريتون"، صاحب بيان الحركة السريالية. من هذا التعريف، يمكن وصف أفلام المخرج الأمريكي "ديفيد لينش" بأنها سريالية بجدارة. كشهادات من تعرضوا لحوادث قوية ومفاجئة، سيكون رد الفعل اللحظي لهذا الجمهور المتخيَل الذي يشير إليه بريتون، هو توقف كامل لعمليات التفكير وفي المقابل زيادة الحساسية للانفعالات، وهو ما يبدو أنه الأثر الذي يطمح له "لينش" على المتفرج.

بعد دراسته للفن التشكيلي، صنع ديفيد لينش عام 1966 فيلمه القصير الأول "ست شخصيات تتقيأ"، وهو يتكون بالكامل من رسومات تجريدية تم تحريكها، لرؤوس شخصيات تتقيأ يصاحبها صوت صفارة إنذار. في السنوات التالية صنع فيلم "الأبجدية"، القائم على تخيله الشخصي لحلم أحد الأطفال من أقاربه، ثم فيلم "الجدة" الذي يعد من أطول أفلامه القصيرة وأشهرها. الثلاث أفلام مرتبطة من حيث استخدام الرسومات المتحركة، وكذلك الصورة شديدة التباين فتبدو كأنها بالأبيض والأسود، باستثناء ظهور لون آخر وحيد بقوة، هو اللون الأحمر، كإعلان مبكر عن رغبة لينش من أفلامه: نقل جرعة حادة ومكثفة من المشاعر إلى المتفرج.

المثير للانتباه في أفلام لينش القصيرة، أنه قد يكون لها تأثير شعوري قوي على المتفرج، لكن بعد الانتهاء من المشاهدة، إذا سألك أحدهم "اسرد لي أحداث الفيلم"، تكون عاجز تماماً، ربما فقط تتذكر أن "ثمة طفل زرع جدته!" كما يحدث في فيلم "الجدة". وهو ما يشبه حالتنا بعد الاستيقاظ من الأحلام، قد لا نتذكر أحداثها بالتفصيل ولكن نتذكر الجو العام والأحاسيس التي انتابتنا خلالها. ربما يكون سبب ذلك أن أفلامه لا تحتوي على نمط منطقي يسهّل عملية تبسيطها إلى أفكار محدودة يمكن حفظها في الذاكرة. فتصبح أفلامه غير قابلة للاختزال وبالتالي لا يمكن التعبير عنها بلغة غير السينما.

بخلاف الثلاثة أفلام السابق ذكرها، أفلام لينش القصيرة شديدة الاختلاف عن بعضها، فمن حيث الشكل، نجد التحريك، التجريدي، والمصور. ومن حيث النوع، تمتد من الرعب إلى الكوميدي، وأحياناً ما تجمع بين هذين النقيضين، عن طريق استخدام "نوع من الفكاهة يمكنها التواجد بالقرب من الرهبة"، كما يصفها، مبتعداً عن "الكوميديا الآمنة". لكن ربما ما يجمعها هو أنها تحمل صبغات مختلفة لسمة واحدة، وهي العبث. يقول لينش "لا أعتقد أن الناس تتقبل حقيقة أن الحياة غير معقولة، أعتقد ذلك يجعل الناس غير مرتاحين بشكل رهيب". لكن أفلامه دائماً ما تحتفي بهذا الجانب اللا معقول من الحياة.

أثناء أحلامنا الليلية، قد يبدو لنا أن محاولتنا لـ"إزالة سرب بط صغير من صحن الحساء" هو حدث طبيعي تماماً ولا يدعو للتعجب، ونكون على حق في ذلك. فالأحلام تكون ذات معنى طبقاً لمنطقها الداخلي الخاص، ما يسمى بـ"منطق الحلم"، كذلك أفلام لينش تخلق منطقها الداخلي، وتدفعنا لتقبله والاستسلام له بعد مرور بضع دقائق من الفيلم، فتكون غير منطقية بشكل منطقي، وغير متماسكة بشكل متماسك. إن أردنا أن نكون أكثر قتامة، يمكن اعتبار أفلامه أنها كوابيس، بل لمحة من الجحيم، بعد أن تم نزع سلاح الإنسان الأقوى، العقل المنظم. لكن في نفس الوقت، يمكنها أن تبعث شعور بالحرية، فمنها قد ندرك أن الحقيقي هو شعور ذاتي وليس منطق خارجي، وأن المنطق اليومي هو غير مطلق، بمعنى أننا إذا تقبلنا أي منطق فحتماً سيبدو لنا -من داخله- أنه صواب. بهذا الشكل، تعمل أفلامه كتذكير أن كل شيء كان من الممكن أن يكون غير ما هو عليه، فالطبيعي شديد الغرابة والغريب قد يكون طبيعي.

يمكن اعتبار أفلامه أنها - مثل الحركات السريالية والدادية - ضد العقل، وتعمل جاهدة في سبيل "عرقلته"، لاعتباره محدد للتجربة الإنسانية الغنية في تصورات فكرية معدة سلفاً. قد تبدو أفلامه للوهلة الأولى أنها أفلام نفسية، ولكنها في أغلب الأحيان لا تكون قابلة للتحليل النفسي التقليدي، عن ذلك يقول لينش: "علم النفس يدمر الغموض، هذا الطابع السحري. بعد اختزال تجربة ما إلى عصاب أو مرض معين، وبعد تسميتها وتحديدها، تفقد غموضها وإمكانية أن تكون تجربة واسعة ولا متناهية".

يمكن تتبع بعض العناصر المشتركة في أفلام لينش القصيرة والطويلة. فرغم قتامة أفلامه، إلا أن معظمها لا يخلو من الأغاني الموسيقية، والكثير منها استعراضي ومبهج، مثلما نرى في أفلامه القصيرة "راعي البقر والرجل الفرنسي" (1988) و"ماذا فعل جاك" (2017) وأغلب أفلامه الطويلة، وهو ما يجعل أفلامه أمريكية للغاية، ويبرز تضاد يوحي لنا بأن الأشياء ليست كما تبدو.

كذلك نجد تكرار ظهور عناصر أخرى، مثل التشوهات الجسدية في فيلمه القصير "المبتورة" (1974) ولاحقاً في أفلام طويلة مثل "الرجل الفيل" (1980)، واستخدام بكاء الأطفال حديثي الولادة في فيلمه القصير "الأبجدية" (1969) والطويل "الرأس الممحاة" (1977). كذلك تظهر الحشرات في فيلمه الطويل "قطيفة زرقاء" (1986) والقصير "حشرة تزحف" (2008)، والتسجيلي القصير "العنكبوت والنحلة" (2020)، وهو ما يحيل إلى التشابه مع أحد أول الأفلام السريالية، "كلب أندلسي" (1929)، وكذلك مع روايات الكاتب "فرانز كافكا"، التي تشاركها أيضاً العوالم المليئة بمشاعر الشعور بالذنب والخوف غير محدد المصدر. يجمع تلك العناصر البصرية والسمعية المتكررة أنها - كإطلاق النار من مسدس محشو - تثير رد فعل مباشر ولحظي في المتفرج.

الشخصية الرئيسية في فيلم "الجدة" هي طفل صغير مصفف الشعر ومهندم الملابس. تقريباً كل الشخصيات الرئيسية في أفلام لينش هي شخصيات مثالية وبريئة، تجوب عوالم مخيفة وتحاط بشخصيات غير تقليدية. قد يتصل ذلك بأن لينش نفسه أمضى "أسعد مرحلة طفولة يمكنك تخيلها"، وذلك حتى انتقل إلى مدينة فيلادلفيا والتي كانت "بالنسبة لي، مدينة مليئة بالخوف، مكان فاسد وعنيف ومخيف"، حيث وجد "نطاق واسع من السلوك البشري".

من حيث البناء الدرامي، يقوم ديفيد لينش في أفلامه القصيرة بخلق ما يشبه منحنى القصة التقليدي من تصاعد وذروة وهبوط، لكن بدون قصة متماسكة أو أحداث متصلة، معتمداً بدلاً من ذلك على تتابع الصور والأصوات والمواقف. مع كل فيلم قصير، يقوم لينش بخلق المزيد والمزيد من الأنماط في السرد، التي توحي بالترابط المزيف، فنظن أننا على وشك الإمساك بطرف العقدة الدرامية ولكننا لا نفعل، وتُستبدل الحبكة الدرامية بحبكة غير منطقية كحبكة الأحلام. يظهر هذا الأسلوب كذلك في أفلامه الطويلة اللاحقة ويصل إلى قمته في فيلم "طريق مولهولاند" (2001). يعمل هذا الترابط المزيف على الحفاظ على انتباه المتفرج، ومن بعدها توجيه ضربة قاضية للعقل عند إدراكه عجزه عن الفهم باستخدام طرقه التقليدية، وهو ما يفتح الطريق لنقل مشاعر أولية وفطرية، مثل الخوف والمفاجأة والاشمئزاز والغضب والسعادة والحزن، مجردة عن قصة بعينها، نقية من التفسير العقلي. يقول لينش "الأفلام قادرة على التجريد، [...] يمكنها تجريد المشاعر"، فرغم ابتعاده نسبياً عن التجريد البصري بعد أفلامه الثلاث القصيرة الأولى، لكن أفلامه مازالت تحتفظ بهذا النوع الآخر من التجريد، تجريد المشاعر.


أخيراً، قد نفسر أفلام "لينش" بأشكال متباينة، لكن أظن أننا سنتفق مع شخصية "ساندي" في فيلم "قطيفة زرقاء":

"إنه عالم غريب... أليس كذلك؟"

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات