الكاتب : عزة ابراهيم
سامى السلامونى وسعيد شيمى
وسيرة الحب القديم المجنون للسينما
عزة إبراهيم
أخطأ سامى السلامونى الناقد السينمائى رفيع المستوى حينما قال لصديقِه سعيد شيمى، فنان الصورة السينمائية الكبير، بعد أن دخل فى مرحلة اكتئاب فى سنواته الأخيرة، أنه تعب من الكتابة؛ لأنه لا أحد يقرأ؛ فالذى لن يعرفه السلامونى أبدا أن الزمن أنصفَه كناقدٍ، وأن ما كتبه لا يزال صالحا للقراءة ولإثارة الدهشة فى كل الأزمنة؛ فمقالاته صارت مع الوقت مُرشِدا ومَرجِعا فنيا لكلِّ مَن يريد أن يفهم ويتذوَّق السينما ويتعلَّم كتابة النقد السينمائى، ويبرع فيه، خاصةً بعد أن أصبحت متاحة للأجيال التالية، بعد أن جمع الناقد والمؤرخ يعقوب وهبى كل تراثه النقدى المكتوب، فى خمسة مجلدات صدرت عام 2001 عن سلسلة آفاق السينما التى كانت تُصدِرها (هيئة قصور الثقافة) تحت إشراف الناقد والمؤرِّخ أحمد الحضرى.
ومؤخَّرا أعاد مؤرِّخ الصورة وصديقه سعيد شيمى اكتشافه لنا، وقدَّم للقرَّاء خَبِيئةً إنسانيةً وسينمائيةً جديدةً كتلك التى سبق أن قدَّمَها فى رسائل محمد خان بأجزائها الثلاثة، ثم فى كتابه عن عاطف الطيب؛ والآن يُكمل ثلاثية الصداقة والسينما بكتابه الجديد (صديقى سامى السلامونى)، وهو شهادة إنسانية صادقة ومن القلب عن عِشرة عمر طويلة وصداقة مُلهِمة وعميقة جمعَته بسامى السلامونى، تختلف فى تفاصيلها عن تلك التى جمعته بالمخرجَيْن محمد خان وعاطف الطيب، وتتفق من ناحية أخرى فى أنها تتمحور كلها حول الهَوَس بالسينما، معشوقتهم التى كافحوا من أجل تقديم إضافة جديدة ومختلفة لها.
كان الاعتكاف الإجبارى فى المنزل الذى فرضه انتشار وباء كورونا على البشرية هو ما أتاح لمؤرِّخ الصورة السينمائية أن ينبش فى خبيئته القديمة وكنزه التوثيقى ليفاجئ متابعيه بكنوز ووثائق شِبه يومية على صفحات التواصل الاجتماعى، التى أتاح من خلالها بكرمٍ وبذخٍ كلَّ ما لديه من معارف وخبرات جمالية فى مجال الصورة السينمائية، ثم فاجأنا بكتابِه عن سامى السلامونى.
ترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنه يلتقط صورةً واقعيةً، ومن قلب الحياة النابض، لناقدٍ سينمائىٍّ لن يتكرَّر. ومن خلالِها ينقل إلينا مشاهدَ وصورا سينمائيةً لتاريخ إنسانى وإجتماعى، وكأنه يستحضر بعدسته لقطاتٍ مقربةً لعصر بكامله، يوزع إضاءته بحِرَفية وينثرها على سراديبِ ذاكرةِ زمنٍ مضى، ويسترجعه حيا ونابضا، فنشعر ونحن نقرأ الكتاب أننا نشاهد فيلما سينمائيا مصوَّرا بعيون كاميرا خبيرة ومثقفة ومدرَّبة تُتابع سامى السلامونى منذ عرفه لأول مرة فى كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1965، حتى رحيله فى عام 1991.
أسلوب الكتاب شائق لدرجةٍ تجعل القارئ كأنه داخل فيلم سينمائى، وكأنه كسر الجدار الرابع المُتَخيَّل وغير المرئى بينه وبين الحكاية السينمائية التاريخية التى يقدِّمها بأسلوب الفلاش باك والتنقُّل بين الأزمنة والتواريخ ببراعة، فيحكى لنا عن الأحلام المشتركة لجيل بكامله اتَّخَذ من النص الفرعونى المسطور فى كتاب الموتى: "انهض فقد بُعِثتَ من جديد"، حافزا للمشاركة فى نهضة ثقافية كبيرة شَهِدَتها ستينيَّات القرن الماضى. جيل جمعه الهوس بالسينما ومحبة الأفلام.
على غلاف الكتاب، ينشر المؤلف سعيد شيمى صورةً لإهداءٍ كَتَبَهُ له سامى السلامونى على كتابِه الصغيرِ الذى صدر عام 1978 عن مهرجان القاهرة السينمائى: "عزيزى سعيد شيمى... تحياتى لحبِّنا القديم المحنون للسينما، وشكرا لأنك كنتَ الباب الذى دخلتُ منه ومعه السينما". وفى حوارى معه، يتحدَّث عن هذا الباب الذى دخلا منه إلى عالم السينما، والصداقة الممتدَّة التى أصبحت الآن موثَّقة فى هذا الكتاب الجديد.
يصوِّر شيمى لقاءَه الأول بسامى السلامونى، قبل عَرْض فيلمه الأول بجامعة القاهرة (حياة جامعية)، بمشهد سينمائى بالصورة والصوت والموسيقى والانفعالات، ويرسمه بالكلمات، كأنه يكتب فيلما قصيرا، كالتالى:
"كنت متوترا قبل وأثناء عرض الفيلم بشكل لم يحدث لى من قبل. وكنت أسمع دقات قلبى، برغم الموسيقى المصاحبة للفيلم التى لم تكن تعجبنى كثيرا، وأشعر أن الزمن لا يَمُر. ووَسْطَ التصفيق والفرحة والهيصة التى تلت العَرْض، يتقدَّم شاب قصير عابس الوجه، شعره منكوش، وملامحه بها شيء من القسوة، وعلى ذقنه جهة اليمين حسنة كبيرة سوداء، يحمل معه نوتة وقلما، ولم يبتسم، ولم يهنِّئنى، وعرَّفنى بنفسه: سامى السلامونى طالِب فى قسم الصحافة. وسألنى فى كل شيء. أين تعلَّمت السينما؟ لماذا صنعت هذا الفيلم؟ صعوبات التنفيذ؟ نوع الكاميرا؟ إنت بتحب السينما؟".
بعدها قابله شيمى وهو يمر أمام محل حلويات خاله عبد الرحيم قويدر الذى كان يعمل به ليستقلَّ عن الأسرة، لكنه لم يُعِره انتباها؛ فقد كان دائم العبوس، يمشى فى خطوط مستقيمة، وفى ملكوت آخر... إلى أن قرأ مقالا له فى ملحق جريدة المساء الثقافى الذى يُحرِّره عبد الفتاح الجمل عن الفيلم الهندى (بيتر بنشالى) للمخرج ستياجيت راى، وهو أول مقال نقدى دراسى قوى وسياسى وسينمائى محترم يُنشَر فى جريدة عامة، وعليه توقيع الشاب العابس ذى الشعر غير المهذب سامى السلامونى، فقرر أن يقتحمه ويتعرَّف عليه، لتبدأ فصول صداقة عميقة ربطت بينهما طوال حياة السلامونى القصيرة، وظلت تلِحُّ على صديقه ليكتب عنه لسنوات طويلة.
يكشف لنا سعيد شيمى الكثير من تجارب الحياة التى أَثْرَت شخصية السلامونى وكتابته النقدية. ورغم أنه لا يقدِّمه كناقد، بل يقدِّمه بوصفه صديقه، يرسم له بورتريها دقيقا يصفه فيه باللامع المثقف بشكل مُطلَق، ويعتبره من أهم الشخصيات المؤثرة التى ظهرت فى أواخر ستينيات القرن الماضى، ويصفه كذلك بأنه متعدِّد المواهب؛ فهو صحفى بارع ساخر ظريف القلم واللسان، وإنْ نَقَدَ فيلما فهو مدقق باحث عن الموضوع وجمال التناول السينمائى، وأنه سلَّح نفسه بالعلم والدراسة بالمعهد العالى للسينما ومعهد النقد الفنى، وكان من أكثر الطلبة نشاطا وحيوية وسَعَة إطلاع، ومشاركا بغزارة فى الكتابة عن السينما فى مجلات الحائط الجامعية. ويصِفه أيضا بأنه كان مثلَ المغناطيس يجذب الناس حوله، وخاصةً عندما يعرفونه عن قرب، فيصبح كأنه مركزٌ يُشِعُّ لمَن حوله ثقافةً وعلما وسينما.
يأخذنا الكتاب والحوار مع سعيد شيمى إلى بدايات الحياة العملية للسلامونى فيقول: "بدأ حياته العملية صعلوكا متجوِّلا فى وسط القاهرة، يعرف خباياها؛ ومكتبه الدائم كان فى مقهى إيزاڤيتش المُطِل على ميدان التحرير، والذى كان يملكه أخَوان من صربيا، التى أصبحت يوغوسلاڤيا فيما بعد. ووقتها كان السلامونى لا يزال موظفا صغيرا فى مصلحة الكهرباء، قبل أن يبدأ عمله بعد تخرُّجه، فى مجلة روز اليوسف، التى لم يتكيَّف طويلا فى عمله بها، ولم يجد فرصةً كشاب جديد وَسْطَ محيطٍ من الكبار والمشاهير، فذهب ليعمل فى جريدة المساء مع الكاتب الكبير مكتشف المواهب عبد الفتاح الجمل، فتدفقت كتابته النقدية بغزارة".
كان فى هذه الأثناء يلتقى مع صديقيه سعيد شيمى وسمير فريد مساء كل سبت ليذهبوا إلى جمعية الفيلم التى كان لها دور كبير فى فهم الأصدقاء الثلاثة لجمال السينما وأسرار العمل السينمائى من خلال المناقشات التى كانت تدور بين الأعضاء والسينمائيين المحترفين من روَّاد الجمعية مثل: (أحمد كامل مرسى، وأحمد بدرخان، ويحيى حقى، ومجيد طوبيا، وبهاء طاهر، وفؤاد قنديل، وصبرى موسى، وناجى شاكر)، وبعضهم كان يصنع أفلاما ويعرضها فى الجمعية. ومن خلال نشرة الجمعية، برز اسم سامى السلامونى بكتاباته اللافتة ومناقشاته وآرائه وحضوره النشط فى فعاليات الجمعية. يفضل السلامونى الجلوس فى المقاعد الأمامية فى صالة السينما، بينما صديقه شيمى يفضل المقاعد الخلفية، لكنهما يلتقيان عقب الفيلم ليعيدا تشريحه واكتشافه ودراسته.
يُرجِع شيمى العمق والدقة والوعى فى مقالات السلامونى النقدية إلى نشأته الأولى فى الريف، فى قرية سلامون القماش قرب المنصورة؛ فقد أتاحت له أن يتعرَّف عن قربٍ على تخلُّف الريف المصرى، ومدى الظلم الواقع على البشر هناك؛ لذلك فإن كتاباته لا تخلو من البعد الإنسانى والنظرة الاجتماعية العميقة، وعمق المشاهد والمتفاعل والمدرك لأبعاد ما يعيشه البشر من معاناة وظلم. وفى هذه القرية صوَّر له سعيد شيمى فيلمه (القطار) أمام المقابر التى لم ينتبه لوجودِها فى الصورة إلا فيما بعد عندما عاد لدفن صديقه فى نفس المدافن المُواجِهة لمحطة القطار التى صوَّرَها فى الفيلم.
يَعتبِر شيمى أن نشرة نادى سينما القاهرة التى صدرت عام 1968 كانت نافذةً جيِّدةً لكتابات السلامونى الغزيرة والمهمة، وأنه بعد نكسة 1967 التى أحدثت شرخا فى قلوب أبناء الجيل الذى عاصرها، اختلفت كتابات السلامونى، وصارت قاطعةً، وترفض أى استهتار فى تناول موضوعات سينمائية لا تصلح لذلك الوقت. واتَّخَذ رؤيةً مخالِفةً لِمَا كان موجودا وسائدا فى صفحات النقد، فكان يناضل بالكلمة، وحوَّل قلمه إلى مدفع ودبابة، ووضع السينما فى قلب المعركة، وجعل من توعية جمهور السينما واجبا قوميا حمله على عاتقه، فآمن الجمهورُ بما يعرضه ويحلله من أفلام، وبقدرته على تمييز السينما التى ترفع وعى الجمهور وترتقى بذائقته من تلك التى تخدِّره وتهدر وقته. وحينما بدأت تتشكَّل جماعة السينما الجديدة وقتها أتاح لها رجاء النقاش رئيس تحرير مجلة الكواكب منبرا داخل مجلة الكواكب، مجلة داخل المجلة أسماها (مجلة الغاضبين)، ورأس تحريرها الناقد فتحى فرج، وكتب بها سامى السلامونى. وعرض عليه رجاء النقاش، الذى كان مُعجَبا بمقالاته فى الملحق الثقافى لجريدة المساء ونشرات نادى السينما، الانتقالَ من وظيفته فى مصلحة الكهرباء، ليُصبح ناقدا فى دار الهلال لفترة قصيرة. وحينما نُقِل رجاء النقاش إلى مجلة الإذاعة والتليڤزيون، أخذه معه، وبَقِى بها حتى آخر العمر.
انتظم السلامونى فى كتابته بالصحف، وأصبح له قرَّاء ينتظرون ما يكتب؛ فقد حفر لنفسه أسلوبا مميزا، يَصِفه (شيمى) بأنه احتفاء بسينما المقاومة فى كل مكان، شرط أن يكون مستواها الفنى يليق بما تُقدِّمه من أفكار إنسانية نبيلة؛ فقد رأى أن سينما المقاومة لا يمكنها أن تسكت وتتفرَّج أو تقدِّم للجماهير فقط ما يسلِّيها ويبسطها، بل إنها يجب أن تقول كلمتها؛ فهى فن طليعى له رأى، كما ظهر فى الأفلام التى تناولَت حربَ ڤيتنام باعتبارها حربا قذرةً تتناقض مع حضارة العصر، وصراعا طبقيا ودمويا. ومع ذلك لم يتجاهل السلامونى التحدى الذى واجهته السينما الاشتراكية حينما تفوَّقَت عليها السينما الأمريكية تكنولوجِيًّا، فرأى أن السبب فى ذلك هو سقوط السينما السوڤييتية فى مَأزِق الجمود والجفاف والأفكار الزاعقة، وابتعادها عن الأساليب الفنية لروادها وصناعها الأوائل مثل سيرجى أيزينشتاين وڤزيڤولد بودڤكين، وعن مرحلة الأفلام السيمفونية، إلى أن أوشكت أن تكون سينما الدبابات الثقيلة حيث تتكلم الآلات والجرارات أكثر مما يتكلم البشر. وفى نفس الوقت، لم يفقد الأمل، ورأى أن المضمون العميق للسينما الاشتراكية يمكن أن يحمل شكلا جميلا كما فى السينما التشيكية التى تميَّزَت بأسلوبها الذكى والحيوى بين مدارس السينما العالمية، وحافظت على التوازن بين المضمون والمقاييس الجمالية فى تلاحُم عضوى ذكى.
يكشف شيمى سرَّ اهتمام الناس بما كان يكتبه سامى السلامونى؛ فقد كان ناقدا له شعبيته وسط المهتمين بالسينما والمتابعين لها، ويقول إن سبب ذلك هو احتفاء السلامونى فى كل مقالاته بالجمال والحِرَفية والحساسية فى التناول وببراعة المخرج القادر على امتلاك الفيلم بين أصابعه بموسيقاه وأفكاره ورموزه وتكنيكه الفنى فى الصورة والإخراج والتمثيل. كذلك كان يحتفى بكل محاولات تجديد دماء السينما وأفكارها، ويَسعَد بالأفلام التى تستخدم أناسا عاديين ولم يمارسوا التمثيل من قبل، مؤكدا أن خلف الوجوه العادية تكمن كنوز فنية غير عادية، فضلا عن أن ذلك يجعل السينما تشبه الناس، والناس يسعدها أن تجد حياتها وألمها مجسَّدا أمامها على الشاشة، وأن أبطالهم الذين يتوحَّدون معهم يُشبهونهم، فيشعرون أنهم هم أيضا مهمُّون وأبطال.
السلامونى مُخرِجا
فى عام 1969، أصدر ثروت عكاشة وزير الثقافة وقتها قرارا بأن من يريد الدراسة فى المعهد العالى للسينما عليه أن يكون حاصلا على مؤهل جامعى وليس الثانوية العامة فقط، فكانت هذه فرصة ذهبية للسلامونى لتعلُّم حرفة وفن الإخراج، فكان أوَّل المقبولين بالمعهد، ومعه سعيد شيمى فى صف آخر. لكن ذلك أتاح لهما اللقاء والحلم بسينما مختلفة وجديدة.
ورغم أن السلامونى كتب النقد قبل دخوله معهد السينما، إلا أنه اكتشف، على حد قوله، أنه مهما كانت معلوماته عن السينما كناقد، فإنها ستظل مجرد معلومات نظرية ناقصة إذا لم يكن يعرف كل أسرار الفن الذى يتعرَّض لنقده، أسراره التكنيكية؛ لأن المعرفة بتكنيك أى فن هى الأساس الضرورى للتعرُّض لنقد هذا الفن حتى ولو لم يمارس الناقد هذا الفن نفسه كحرفةٍ بعد ذلك.
وفى حوار أرفقه شيمى بكتابه، سبق نشره فى كتاب (تجارب فى السينما التسجيلية) للمخرج محمد عبد الله، يقول السلامونى: "ليس بالضرورة أن يتحوَّل كل ناقد سينمائى إلى مخرج، لكن من الضرورى أن يعرف كل ناقد سينمائى السينما كتكنيك، وهذا ما دفعه إلى أن يصبح تلميذا من جديد فى معهد السينما"، ويقول إنها تجربة من أهم التجارب التى مرَّ بها، والتى يمر بها أى ناقد يريد أن يعى تماما ماذا يقول.
ويضيف السلامونى أن فكرة الإخراج لم تكن هى التى دفعَته إلى هذه الدراسة، لكنَّ ما دفعه لها هو أن المعهد يُطالِب الدارسين فيه بإخراج فيلم قصير كمشروع تخرُّج. ومن خلال عمله فى فيلم (مدينة) - وهو مشروع تخرُّجه - وُلِدَت بداخله عملية الخلق، وهى كما يقول عملية من الصعب أن يقاومها أى ناقد؛ لأنها تتيح له الفرصة لصياغة أفكاره النظرية صياغة سينمائية؛ فالإخراج يصبح بهذا الشكل نوعا من التحدى، يطرح نفسه كل يوم أمام الناقد فيقول لنفسه: "إذا كنت تعترض كل يوم على أعمال الآخرين، فما الذى تستطيع أن تفعله أنت؟".
وكان هذا بداية تحوُّله إلى التفكير فى الإخراج كما رصدها (شيمى) فى كتابه، وهى تجربةٌ مرَّ بها كثيرٌ من نقَّاد السينما فى العالم، وأصبح بعضهم مُخرِجين جيِّدين بالفعل، وإن كان هذا لا يعنى بالضرورة أن كلَّ ناقدٍ جيِّدٍ يُصبِح مخرجا جيدا؛ فقد يكون تفكيرك السينمائى جيدا على المستوى النظرى أو على مستوى الكتابة، لكن صياغة هذا التفكير سينمائيا مسألة أخرى قد تفشل فيها. بدأ تفكيره فى إخراج الأفلام بعد أن اقترح عليه (سعيد شيمى) أن يُخرج فيلما لشركته الجديدة وقتها (نفرتارى). فأخرج السلامونى ستة أفلام قصيرة؛ أربعة منها تسجيلية، واثنان روائيان قصيران. من بينها فيلم تخرُّجه عام 1971 (مدينة)، ثم أفلامه (ملل) و(القطار) و(اللحظة) و(كاوبوى) الذى يدين العنف الأمريكى خاصةً فى حرب ڤيتنام، ثم فيلمه المهم (الصباح) الذى حصد عدَّة جوائز فى الإخراج والتصوير، والذى يقول (سعيد شيمى) إنه فى جو الصباح الباكر شتاء عام 1982، وقدم فيه صورة مبهرة لضباب الشتاء البارد. ثم يقدمان معا فيلم (القطار) الذى استمر تصويره نحو أربع سنوات بسبب عثرات إنتاجية وانشغالات فى أعمال أخرى. وفيه مَسَحَ الصديقان مصر جغرافيًّا بالقطارات، وقدَّما وثيقةً بالصوت والصورة لشعب مصر والمجتمع الريفى فى ذلك الوقت. وبأسفٍ يقول (شيمى): "حرام أن تبقى مثل هذه الأفلام حبيسة المركز القومى للسينما الذى يملِك جواهر سينمائية ولا يعرِضها ليعرِّف الناس بلدهم. فعلا حرام أن تُترَك هذه الشرائط السينمائية التى تحمل عصارة عقل ونبض أجيال وصورة وطن لتفسد من سوء التخزين والإهمال فى أقبيةِ الجهات المختلفة التى تحوز هذه الثروة السينمائية التى لا تقدَّر بثمن، والتى فقدنا الكثيرَ منها للأبد بكل أسف".
المنع من الكتابة
يتطرَّق شيمى فى كتابه، وفى حوارى معه حوله، إلى مرحلة مُهمَّة فى تاريخ سامى السلامونى أثَّرَت عليه سلبيا، وهى تلك المرحلة التى تلت هزيمة 1967، والتى تم منعه فيها من الكتابة فى مجلة الإذاعة والتليڤزيون، ومن كل الإصدارات، وذلك بسبب نشاطه فى جماعة (السينما الجديدة) الرافضة للنكسة وللسينما التى سادت فى ذلك الوقت، والتى وصفها بأنها سينما (شنبو فى المصيدة) التى أغرقت الناس فى طوفان من التفاهات والابتذالات المقصودة لتغييب وعى الجماهير وإبعادها عن مناقشة قضاياها المصيرية التى فرضتها الهزيمة. وأيضا بسبب احتفائه بفيلم (أغنية على الممر) للمخرج على عبد الخالق مع طلبة جامعة القاهرة، الذين خرجوا فى تَظاهُرةٍ عَقِبَ عرض الفيلم فى القاعة الكبرى بالجامعة؛ حيث كان السلامونى على رأس حربة النقاد الذين احتفوا جميعا بالفيلم مثل: (خيرية البشلاوى، وفتحى فرج، وسمير فريد، وعلى أبو شادى، وكمال رمزى، ورؤوف توفيق)، وغيرهم. لكنه كما يقول (شيمى) يفوقهم فى أنه دارسٌ للسينما، ولديه فهم ثقافى مستنير لِسَعَة ثقافته المتنوِّعة والمدهشة، مما جعل الجمهور ينتظر مقالَه الأسبوعىَّ فى مجلة الإذاعة والتليڤزيون؛ فقد كانت مقالاته هى الأكثر عمقا وقدرةً على التفسير، خاصةً تلك التى كان ينشرها فى نشرة نادى السينما؛ فقد رأى أن السينمائيين الجُدُد يغيِّرون وجه السينما المصرية إلى الأفضل، موضوعا وتكنيكا، ممَّا تسبَّب له فى كثيرٍ من المشاكل من بعض السينمائيين الذين ينتقد أفلامهم بموضوعية كاملة، مما جعل هؤلاء السينمائيين يطلقون على أفلام جيله (أفلام الصراصير)، ووصفوها بأنها الأفلام التى جعلت الناس يهربون من السينما. وكان هذا الوصف غير الموضوعى كذبا بالطبع لصالح أفلام المقاولات التى ظهرت فى تلك الفترة، والتى تحمل بداخلها إعلاناتٍ للدول الخليجية.
لكن الحقيقة، كما يؤكِّد عليها شيمى فى كتابه وفى حوارى معه، أن السينما الجديدة صنعها شباب سينمائى مثقف وواعٍ ووطنى، يملِك أدواته الفنية كاملةً، ولا يعتمد على نظام راسخ فى الإنتاج، بل أمكنه أن يسخِّر ظروف الإنتاج لصالح فنه ورؤيته، فصوَّر بشكلٍ كبيرٍ فى الأماكن الحقيقية، وساعده فى ذلك أن المعدَّات السينمائية قد أصبحت أقل حجما وأكثر جودة، ويمكن بها أن يتم التصوير فى أى مكان وفى أى ظروف. وصارت هذه الأفلام علامات مهمة فى تطوُّر السينما المصرية، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر: (ضربة شمس، وطائر على الطريق، والحرِّيف) لمحمد خان، و(سواق الأتوبيس، والتخشيبة، والبريء، وضد الحكومة، والهروب) لعاطف الطيب، و(الكيت كات، وأرض الخوف) لداود عبد السيد.
ويؤكد شيمى أن السلامونى كان لسان حال كل هؤلاء المخرجين الجدد فى أفلامهم الجيدة فقط، وأنه كان ينقُدهم بشكل موضوعى وقاسٍ فى أحيان كثيرة، حتى ولو كانوا أقرب أصدقائه كسعيد شيمى نفسه الذى انتقده على صفحات مجلة الكواكب؛ لأنه رأى أن تصويره لفيلم التخشيبة لم يكن فى نفس مستوى أفلامه السابقة، خصوصا فى إضاءة بعض المشاهد الداخلية، وفى علاقة بعض الوجوه بالضوء والظل التى لم يحسها جيدا.
عاد السلامونى بعد منعِه من الكتابة للجلوس على مقهى إيزاڤيتش. لكنه لم يكن نادما على قدرته على أن يقول رأيه ويصرِّح بأن كلَّ ما يشغله هو أن يعمل ما يحبُّه بإخلاص وانهماك كامل، وأن يمتلك حريته فى أن يقول رأيه بشكل ما، ثم يجلس على المقهى ليشرب الشاى ويتفرَّج على المارة ويستمتع بالحياة بقدرِ ما هو مُتاح.
السلامونى يرأس جمعية الفيلم ويدافع عن مهرجان القاهرة
ومن المراحل الهامَّة فى حياة السلامونى، تلك التى رأس فيها جمعية الفيلم. فبعد أن أسقط أعضاء الجمعية الناقد مصطفى درويش من رئاستها بسبب انفراده بالقرارات ومفاجأة الأعضاء بغير ما اتفقوا عليه، انتخبوا السلامونى ليكون رئيسا للجمعية فى أغسطس 1972، والتى استمرت حتى عام 1977. أقام السلامونى خلال هذه الفترة المهرجان السنوى للأفلام المصرية، وهو ثانى مهرجان مصرى محلى بعد مهرجان المركز الكاثوليكى. وقام بتحديث نشرة الجمعية شكلا ومضمونا، وأصبحت تناقش بجدية التيارات الجديدة فى سينمات العالم، وتنقد الأفلام المصرية والأجنبية المعروضة فى مصر. وبعد أن ترك رئاسة الجمعية، أصدر كتابا توثيقيا بمناسبة مرور 25 سنة على إنشائها، راصدا فيه ما أضافته إلى الثقافة السينمائية فى مصر.
كذلك يدافع السلامونى عن ضرورة استمرار مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، وأن يتجاوز عثراته، ويطوِّر نفسه، ويقف بحزم أمام الرافضين لهذا المهرجان ويقول: "كنا نذهب إلى المهرجانات الدولية ونتحسَّر دائما على ما نشاهده ولا يشاهده جمهورنا فى مصر، ونحلم بمهرجان سينمائى دولى يقام فى القاهرة وبأى شكل، وأيا كانت البداية وأيا كانت الأخطاء والنواقص، لكى يكون لدينا نافذة لجمهورنا المحبوس فى السينما المصرية المكررة، أو حتى السينما الأجنبية التجارية، ليطل منها على سينما العالم، ولتتحرك بحيرة السينما الراكدة فى بلادنا؛ فهناك آلاف الشبان والمثقفين المتعطشين لأية نسمة ثقافة تحرك الهواء الثلجى الساكن".
وعلى حسابه ومسئوليته الشخصية، يصدر كتيِّبا يعرض فيه خبرته فى لجنة المشاهدة بأفلام مهرجان القاهرة، ويقدم لخمسين فيلما من بلدان العالم المتنوعة. والعدد الثانى من الكتيِّب، وضع له اسم (كاميرا 79)، والثالث كان اسمه (كاميرا 80)، وهدفه نشر الثقافة السينمائية قدر استطاعته، وأن يصل الفيلم الجميل الجيِّد إلى الناس.
هكذا كانت حياة سامى السلامونى القصيرة، سينما فى سينما؛ حيث لم يتوقف يوما عن الكتابة والقراءة والمشاهدة. ويا ليته كان موجودا بيننا الآن ليرى كيف تلقَّى المهتمُّون بالسينما ما كتبه وما كتب عنه فى صفحات التواصل الإجتماعى عقب نَشْر (سعيد شيمى) خبرا صغيرا بأنه يُعِدُّ مؤلَّفا عنه، وكيف وجد انفعالا وجدانيا وتجديدا لذكريات عشَّاق السينما القدامى، وكأن الكِتَاب أعاده إلى الحياة. فقد شاركت أجيال متعدِّدة فى الكتابة عن فضل السلامونى فى أنه جعلهم يحبون السينما والأفلام الجيِّدة ويفهمونها، وأنه ربَّى وجدانهم السينمائى على كتاباته، وعلَّمَهم قراءة الصورة وتذوُّق الفن والمعنى الحقيقى للسينما وللنقد السينمائى.