حكاية «الواقعية الجديدة» برواية سمير فريد

أحمد عزت 05 مارس 2022 النقد السينمائي

الكاتب : أحمد عزت


حكاية «الواقعية الجديدة» برواية سمير فريد
«كولاج» نقدى لعَقدٍ كاملٍ من عمر السينما: كيف رأى الناقد أفلامها ومخرجيها؟
أحمد عزت
كان سمير فريد مفتونا بفكرة وجود جرائد سينمائية يومية على غِرار (ڤارايتى) و(هوليوود ريبورتر).. وحين أصدر عبد المنعم الصاوى رئيس تحرير الجمهورية عام 1976 جريدة (الكورة والملاعب)، اقترح عليه سمير فريد على الفور إصدارَ جريدة أسبوعية باسم (السينما والفنون).. يحكى سمير فريد فى حواره المطوَّل مع وائل عبد الفتاح فى كتاب مغامرة النقد أن الصاوى قال له: لماذا لا تكون (السيما والفنون)؟ وأجابه فريد بأنه يكافح هو وغيره من النقاد السينمائيين من أجل أن تصبح السيما سينما، وأن تعامَل بنفس الجدية والتقدير الذى يُعامَل به غيرها من الفنون.
ربما كان سمير فريد هو أول مَن وُصِفَ بالناقد السينمائى. قبله كان الاسم الشائع هو الناقد الفنى. كانت جريدة (السينما والفنون)، التى توقَّف إصدارها قبل أقل من عام من صدور عددها الأول، هى ذروة حركة سينمائية بدأت عام 1968 نجحت فى إقامة نادى سينما القاهرة، وتأسيس جماعة السينما الجديدة وجمعية النقاد. كان فريد فى قلب هذه الحركة مشغولا تماما بما أسماه (قضية السينما)؛ أن تصل إلى المكانة التى تستحقها بين الفنون وفى المجتمع على المستوى الرسمى والشعبى.

كانت جماعة السينما المصرية، التى ضمَّت خريجى الدفعات الأولى من معهد السينما وغيرهم، دعوةً لتجديد السينما المصرية. ضمَّت هذه الجماعة أسماء مثل: (شادى عبد السلام، وممدوح شكرى، وعلى عبد الخالق، ومحمد راضى، وعلى بدرخان)، وغيرهم. لم يكن هناك اتفاق على مفاهيم جمالية أو فكرية محددة. كانوا، وفى القلب منهم سمير فريد، الجيلَ الذى تفتَّح وعيه على هزيمة 1967، وأراد أن يغيِّر مصر عن طريق تغيير السينما. لكن، وكما يرى فريد، لم تعبِّر أحلامُ هذا الجيلِ عن نفسِها إلا فى سينما الثمانينيات.
كان سمير فريد هو أول من أطلق عليها اسم (الواقعية الجديدة). بدا لفريد فى ذلك الوقت أن السينما المصرية آنذاك تشبه إلى حد بعيد السينما الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية. فإذا كانت الحرب هناك قد دَمَّرَت استوديوهات السينما، فقد دُمِّرَت هنا عن طريق البيروقراطية، بعد عشرين عاما من سينما القطاع العام. من ثم كان التصوير فى الشارع إجباريا فى الحالتين. كانت واقعية جديدة بعد أربعة عقود من الواقعية الإيطالية. كان فريد إذًا هو أول من صكَّ اسم (الواقعية الجديدة) فى السينما المصرية، ونظَّر لأفلامها ومخرجيها. إذا كان الناقد متلقيًا جيدًا ورَائِيًا فإن سمير فريد كان أول من رأى هذه الحركة السينمائية الأهم والأكبر تأثيرا وإنجازا فى تاريخ السينما المصرية. كان يكتب عنها منذ البداية باحساس البشارة.
آفاق الواقعية المصرية الجديدة


كان سمير فريد دائما ما يستعير من روجيه جارودى مصطلح (واقعية بلا ضفاف) للتعبير عن الآفاق الرَّحبة للواقعية الجديدة فى سينما الثمانينيات. لم تقتصر على أفلام الواقع الاجتماعى الحى، وإنما امتدت لتشمل التجريب فى (أنياب) محمد شبل، وفانتازيات الميهى الكوميدية الساخرة، وفانتازيا عرفة وعواد الرمزية. كانت واقعية لا تلتزم بالمذهب الكلاسيكى للواقعية، بل تحتمل ذاتية خيرى بشارة فى (العوامة 70)، وسُريالية داود عبد السيد فى (البحث عن سيد مرزوق).
كتب فريد عن فيلم (أنياب) لمحمد شبل أنه فيلم لا يشبه إلا نفسه، معتبرا أنه أول فيلم تجريبى يتم إنتاجه فى إطار السينما المصرية التجارية، وهى سينما لا تخشى التجديد فقط، بل ترفضه. معتمِدا على قصة دراكولا التى كانت مادَّةً للعديد من الأفلام التجارية، ومستعينا بنجم الغناء الشعبى أحمد عدوية، يصنع فيلما تجريبيا، ويتوجه به إلى جمهور السينما السائدة. حين يتحرر الفنان من قيوده، يحرر الجمهور منها فى نفس الوقت.
نعتقد أن فريد قد وجد مجازا للسينما الجديدة الذى يبشر بها فى فيلم شبل؛ فخادم دراكولا فى الفيلم مُقيَّد بالسلاسل، وعندما يطلب من سيِّده أن يُحرِّره، يرفض السيد ذلك، ليُدرك الخادم فى النهاية أن أحدا لن يعطيه حريته، وأن عليه أن يفك قيوده بنفسه. وهذا ما يفعله شبل أيضا فى فيلمه حين يتخلَّص من القيود المفروضة عليه كسينمائى، إذ يختار حكاية أجنبية كلاسيكية لم يفكِّر أىُّ فيلم مصرى آخر أن يقتبسها من قبل، ضاربا عرض الحائط بكل ما هو سائد فى الأفلام التجارية وغير التجارية.
يتحرر شبل أيضا من القواعد اللغوية السائدة فى السينما مقدِّما تجربة مدهشة فى التعبير الحر، مستلهما شجاعة جودار وغيره من رواد التجديد فى السينما المعاصرة.
كان فريد وجيله من النقاد السينمائيين الذين بدأوا فى ممارسة النقد نهاية ستينيات القرن الماضى، هم جيل سينما المؤلف ولغة السينما؛ لذلك يعيد فريد فى كتاباته الاعتبار لِمَا يُسمَّى (لغة السينما) كلغة خاصة بها، وليست تجميعا من الفنون التى سبقتها. يختلف سمير فريد عن النقَّاد الذين سبقوه فى اعتماده على منهج نقدى واضح المعالم يحاول من خلاله الموازنة بين القراءة الداخلية والخارجية للفيلم. قراءة الفيلم من الخارج تَعنى تحليل السِّياق الاجتماعى والسياسى للفيلم؛ إذ لا يمكن - فى نظر فريد - عزل الفيلم عن سياق صنعه، بينما القراءة الداخلية تعنى كيف عالج صانع الفيلم موضوعه عبر لغة السينما.
هذه رؤية تجميعية لعَقد سينمائى كامل، نبصر من خلالها ملامح ومسارات وآفاق (الواقعية الجديدة) كما رآها سمير فريد عبر كتاباته النقدية عن أفلامها ومخرجيها.
خيرى بشارة


هناك حماس دائم من قِبَل سمير فريد لخيرى وسينماه، منذ فيلمه الروائى الأول (الأقدار الدامية). يكتب عنه: "أثبت من خلال مجموعة أفلامه التسجيلية أنه واحد من أهم المخرجين الذين ظهروا فى مصر السبعينيات، وأنه مع فيلمه الأول يثبت أنه أحد الآمال الكبيرة فى تجديد السينما المصرية فى الثمانينيات".
يَعتبر سمير فريد فيلم بشارة الثانى (العوامة 70) الثمرة الأولى الناضجة لكفاح طويل من أجل سينما مصرية جديدة. إذا كان فيلم (العزيمة) الذى أخرجه كمال سليم عام 1939 هو بداية الواقعية فى السينما المصرية، فإن (العوامة 70) إخراج خيرى بشارة الصادر عام 1982 هو بداية (الواقعية الجديدة). لقد جعل هذا الفيلم كل ما سبق من أفلام هذا الجيل مجرد إرهاصات فى سبيل سينما مصرية جديدة.
يرى فريد أن خيرى بشارة فى فيلمه قد جَمع فى أسلوبه خلاصةَ ما قدَّمه شادى عبد السلام ويوسف شاهين، وهما أكبر من جدَّدوا السينما المصرية فى السبعينيات. أخذ بشارة من شادى عبد السلام القدرة على التخلُّص الكامل من مواصفات السينما السائدة، ومن شاهين شجاعة التعبير عن الذات وعدم الخوف من التأثر بالسينما العالمية. يكتب فريد: "هذا فيلم بلا تنازلات وليس توليفة سينمائية". ويتنبأ فى نهاية المقال بأن خيرى ورفاقه سوف يتجاوزون كل من سبقهم فى السنوات القادمة من عمر السينما.
يكتب فريد فى مقاله عن فيلم بشارة الثالث (الطوق والإسورة) المقتبس من رواية قصيرة ليحى الطاهر عبد الله، أنه تحفة من الواقعية الجديدة، مادحا قدرة المخرج على الإمساك بإيقاع ولغة الحياة فى الصعيد، وقدرته على التعبير بلغة سينمائية بديعة عن خصوصية المكان وناسه. ويكتب أيضا: "لقد أخرج خيرى بشارة ثلاثة أفلام طويلة فى عَقدٍ كاملٍ من الزمن. ومع كل فيلم منها يؤكد أنه اختار الطريق الصعب". يصف فريد فيلم (يوم مر ويوم حلو) باللقاء بين سينما فاتن حمامة وسينما خيرى بشارة؛ فاتن بما تمثله من سينما الواقعية الكلاسيكية فى أفضل أعمالها والميلودراما التجارية فى أعمالها الأخرى، وخيرى كممثل (الواقعية الجديدة)، وأحد روَّادها الذين كافحوا ضد (الواقعية الكلاسيكية)، وضد الميلودراما. تجربة فنية خصبة ومثيرة وممتعة لا يقدم فيها خيرى أى تراجع عن رغبته فى التجديد، كما يثبت قدرة فنانة كبيرة على استيعاب تيارات التجديد فى السينما المصرية.
أحمد زكى

الاكتشاف الأعظم للسينما المصرية فى الثمانينيات، النجم الذى يسطع كالشهاب مع كل فيلم جديد يقدمه، صانعا نجما من نوع جديد مثل جيمس دين فى سينما الخمسينيات، بكل ما يمثله من قيم التمرد. زكى بملامحه السمراء، وشعره وعيونه التى تتطلع إلى العالم فى براءة الأطفال وحُمْق المجانين، بجسده النحيل وملابسه التى يرتديها أى شاب تلتقى به على قارعة الطريق، وحركاته الطبيعية وصوته العادى الجميل، وإلقائه الطبيعى للحوار، يعبر عن الشباب المصرى الضائع الذى لا يدرى ما الذى ينتظره فى قادم الأيام. هكذا يكتب فريد مبشرا بنجم الثمانينيات وموهبته النادرة.
محمد خان


جاء إلى السينما بروح الهواية، بقدرة إخراجية لا تقلُّ عن المحترفين، مع كل مزايا الهواية، وأقل القليل من عيوبها. يتميز خان من بين بقية مخرجى جيل الثمانينيات بتأثره الكبير بالاتجاهات الحديثة فى السينما الأمريكية والأوروبية. يعبر عن الواقع المصرى بأسلوب خاص مستمَد من الثقافة الغربية. (ضربة شمس) - فيلم خان الأول - قصيدة حب للقاهرة لم تشهد السينما المصرية لها مثيلا من قبل. هذا مخرج يعشق المكان عشقا هائلا؛ ساعده فى ذلك مدير التصوير سعيد شيمى. إنها قصيدة حب فى إطار قصة بوليسية. فيلمه تحية للسينما أيضا، تحية إلى بلو أب/ أنطونيونى لفريد شوقى، حيث ينتحل البطل اسمه فى أحد المشاهد لسينما هيتشكوك. (ضربة شمس) فيلم ممتع. يرى فريد فى ثانى أفلام خان (الرغبة) إتقانا حرفيا دون روح. كل شيء محسوب بدقة، لكن البرود هو الطابع العام للفيلم. فيلم جميل، لكن المُشاهِد يشعر أنه لا يحتاج إليه.
يرى فريد فى خان مخرجا سينمائيا متمكِّنا من أدواته ومشبَعا بثقافة سينمائية واسعة؛ لكنه، وحتى فيلمه (موعد على العشاء)، يبدو مفتقرا إلى الخبرة العميقة بالحياة؛ إذ تبدو خبرته بالسينما أكبر من خبرته بالحياة. ينجح فريد فى رصد الملامح المميزة لسينما خان مثل اهتمامه بالمكان تأثيره على شخصياته. يرى أنه فنان يبحث عن سينما خاصة أبعد ما تكون عن الأدب. يتطور خان مع كل فيلم، لكن ضمن إطار السينما السائدة. يحاول فيلما بعد آخر أن يخلق أسلوبه الخاص، لكن لا يزال فى مرحلة طريقة الإخراج وليس أسلوب الإخراج. ويكتب عن فيلم (موعد على العشاء) أنه: "إعلان جميل عن فن السينما، ولكنه ليس فن السينما ذاته".
يرى فريد فى (الحريف) أكثر أفلام خان نضجا؛ إذ يقول إنه ليس فقط أحد أفضل الأفلام المصرية فى الثمانينيات، وإنما أحد الأفلام المصرية القليلة التى تصمد للمقارنة على المستوى العالمى. بالإضافة إلى واقعية الأسلوب عبر التصوير فى الشوارع والحارات والبيوت العادية والحكى عن الشخصيات العادية التى يمكن أن تلتقى بها على سطح أى عمارة أو ناصية أى شارع. يرى فريد فى فارس/ بطل الحريف امتدادا لغريب كامو؛ فهو يعانى مثله اغترابا وجوديا، ويصل التشابه بينهما حد التطابق فى مشهد سماع خبر موت الأم؛ إذ يواجهان الانقطاع الميتافيزيقى بالاتصال الجسدى المباشر.
يفيض فيلم خان بحب غامر لمدينة القاهرة. إنه فيلم على آخر نفس، يبدأ وينتهى بصوت لهاث بطله. إنه أول بطل يعيش على هامش المجتمع المصرى فى السينما المصرية، ويعانى مشاكل الواقع والوجود فى آن واحد.
يكتب عن (خرج ولم يعد) أنه قصيدة حب رومانسية للريف/ الرفض، وهجاء لقاهرة ما بعد الانفتاح. يكتب فريد عن خان الآن: "إنه أحد أساتذة التفكير باللغة السينمائية". رأى فريد فيلمه (أحلام هند وكاميليا) إحدى تحف الواقعية الجديدة، والذى يعود خان من خلاله للتعبير عن عالم المهمشين أو سواقط الطبقات. يرتبط التعبير الفنى عند خان بالمكان؛ والمكان هنا هو الشوارع الخلفية لمصر الجديدة، الجانب الآخر للعمارات الكبيرة حيث سلالم الخدم.
لدى خان شعورٌ بالغٌ بالحنان والتقدير تجاه شخصياته. يصف فريد فيلم خان بأنه فيلم أنثوى بتوقيع رجل. إنه فيلم عن الصداقة العميقة بين النساء، يُدافع فيه خان عن المرأة إلى آخر الحدود، مهاجما نظرة الرجل التقليدية لها.
عاطف الطيب


كان سمير فريد قد شاهد أفلام عاطف الطيب القصيرة، وتوقَّع أن يكون فيلمه الروائى الأول حَدَثا. لكنه حين شاهد فيلمه الأول (الغيرة القاتلة) فى أحد عروض النقَّاد الخاصة قبل عرضه تجاريا، كتب مقالا قاسيا ضد الفيلم تسبَّب فى إحباط شديد للطيب. كتب: "إن ضعف حِرَفية تنفيذ الفيلم لا يقل عن ضعف الدراما، وإنه ليس هناك فى الفيلم ما يدعو للحديث عن أسلوب ما. وإن الفيلم هو أسوأ تصوُّر قدَّمَه سعيد شيمى، وكان الممثلون أقرب للدُّمَى". يعود فريد ليعتذر للطيب بعد فيلمه الثانى (سواق الأتوبيس) الذى يعدُّه من الأعمال المؤسِّسة للواقعية الجديدة فى السينما المصرية. يكتب عن (التخشيبة) كفيلم يبدأ كبيرا وينتهى صغيرا، حين تتهاوى فى النهاية المشاعر الكبيرة التى يثيرها فى المُشاهِد عن وضع الإنسان فى العالم، وتنحل الدراما إلى لغز بوليسى محدد ينتهى بمجرد الكشف عنه، ومع ذلك يظل أحد أفضل أفلام 1984.
يستمر عاطف الطيب فى أفلامه اللاحقة مثل (الحب فوق هضبة الهرم) فى التعبير عن أزمة الطبقة التى عبَّر عنها من قبل صلاح أبو سيف فى أفلامه، وهى الطبقة الوسطى. كما يعبِّر الطيب عن الأزمة الخاصة لجيله - الجيل الذى حارب فى 1973 - وهى أزمة المسافة بين توقُّعات الجيل الذى حارب وانتصر، وبين ما حدث فى البلاد بعد الحرب. يرى ذروةَ الطيب الحِرَفية والجمالية فى (قلب الليل)، ويعتبره أحسن فيلم فى عام 1989، ويرى فى (البريء) عملا مدهشا ومثالا نادر على التفاعل مع الواقع الحى إلى درجة استشراف المستقبل، مضمِّنا مقالَه عن الفيلم النهايةَ الأصليةَ للفيلم؛ إذ تنتهى نسخة العرض السينمائى بصرخة أحمد سبع الليل، بينما تُظهره النسخة الأصلية وهو يُطلق الرصاص على الضباط والجنود، كما يلقى هو الآخر مصرعه، بينما يدق المعتقلون سيارة النقل التى تُقلُّهم إلى المعتقل.
رأفت الميهى




لا يندهش فريد من النضج الذى يُقدِّم به الميهى تجربته السينمائية الأولى كمخرج (عيون لا تنام)؛ إذ تأتى بعد ما يقرب من ربع قرن من كتابة الميهى القصة والشعر والسيناريو السينمائى، بالإضافة إلى كونه جزءا من حركة البحث عن سينما مصرية جديدة منذ نهاية الستينيات. يُمصِّر الميهى مسرحية يوجين أونيل (رغبة تحت أشجار الدردار)، مقدِّما نموذجا ممتازا للعمل السينمائى المقتبس من أصل آخر؛ حيث يتحوَّل الأصل إلى مجرد مصدر للإبداع.
يعبر الميهى فى فيلمه عن موقف نقدى صارم من الواقع الجديد، حيث الصراع الشرس حول الملكية فى عصر الانفتاح. يراه فريد فى هذا الفيلم كأنضج امتداد لصلاح أبو سيف، مقدِّما أبطاله كضحايا للظرف الاجتماعى، متعاطفا مع أبطاله وتمرُّدهم ضد هذا الظرف. يشهد للميهى بالبراعة فى اختيار الممثلين وإدارتهم. ينجح فريد برؤية ثاقبة أن يلمَح منذ هذه اللحظة المبكرة فى مسيرة الميهى هذا الصراع داخله بين التعبير عن الواقع والجنوح إلى عالم الروح والخيال.
يكتب فى مديح (الأڤوكاتو)، فيلم الميهى الثانى: "لم تشهد السينما المصرية فيلمًا كوميديًّا هو نموذج للكوميديا كفن درامى يَعرف أصول الدراما ومشغول بهموم الإنسان المصرى الاجتماعية والسياسية والنفسية، مع هموم الإنسان الكونية، مثل هذا الفيلم الذى يختار فيه الميهى، عبر سيناريو أصلى له، الكوميديا كوسيلة للتعبير عن الواقع المصرى بكل تناقضاته، مُشِيدا بعبقرية بطله عادل إمام فى الأداء الكوميدى الساخر والمرير".
ويكتب عن الميهى مجددا: "يندر فى العالم وفى مصر التى تمتلك صناعة سينما محدودة ومتخلِّفة أن يقترب فنان السينما - وهو وصف صَكَّه فريد للمخرج المؤلف كالميهى - من الأعماق، من المشاكل الإنسانية والوجودية الكبرى. ومن هنا تأتى أهمية فيلم رأفت الميهى (للحب قصة أخيرة). إنه فيلم واقعى من حيث تعبيره عن الحياة اليومية فوق جزيرة صغيرة وسط نيل القاهرة، ميلودرامى من حيث حبكته القصصية، ومع ذلك يستطيع الميهى خلاله تجاوُز الواقع الاجتماعى للجزيرة، والانطلاق من حبكته الميلودرامية إلى آفاق أوسع، ليعكس لهفة الإنسان على الحياة وخوفه الرهيب من الموت وعجز العلم والخرافة أمامه. إنه فيلم عن البؤس الإنسانى بشتَّى صوره".
يرى فريد فى الميهى عبر فانتازياته مثل (السادة الرجال)، كفنانٍ يقلب الجذور، مثالا حقيقيا على (سينما المؤلف)، لا يلتزم بالواقعية كمذهب فنى - لكن هذا التجاوز للواقعية لا يعنى الخروج عن الواقع، بل التعمُّق فيه - يقدم نظرة بانورامية للمجتمع المصرى لحظة صناعة الفيلم. يقترب الميهى فى تعبيره الفانتازى عن الواقع فى فيلمه (سمك لبن تمر هندى) - الذى يعده فريد ظاهرة جديدة فى السينما المصرية- من حدود العبث.
داود عبد السيد


"الإعلان عن مولد فنان ليس بالأمر الهيِّن ولا الحَدَث العارض". هكذا يكتب فريد مُبشِّرا بمولد فنان سينمائى مع ظهور فيلمه الأول. هذا الفنان هو داود عبد السيد، وهذا الفيلم هو (الصعاليك). يكتب فريد: "هذا فنان يُولَد تحت أبصارنا، وليس مجرد مخرج يُضاف إلى قائمة طويلة من المخرجين. والفرق بين الفنان والمخرج هو أن الأول تنبع أفلامه تحت ضغط حاجات فكرية وروحية.
يقارن فريد بين فيلم داود (الصعاليك)، وفيلم أستاذ الواقعية المصرية صلاح أبو سيف (الفتوة). فإذا كان فيلم أبو سيف، كنموذج للواقعية الكلاسيكية، يكشف آلية المجتمع الرأسمالى قبل الثورة، ففيلم داود يكشف مجتمع الانفتاح كنموذج للسينما الواقعية الجديدة. واقعية لا تكتفى بتصوير الواقع، بل التعبير عنه وتحليله. لا يكتفى فيلم عبد السيد بالكشف عن النظام الداخلى للانفتاح، بل يدمج هذا الكشف بالتعبير عن وجهة نظره فى الإنسان من الداخل، ويعبِّر بعمق عن الجدل بين الفرد والمجتمع، وبين الرجل والمرأة، والرجل والرجل. إنه فيلم عن الصداقة بين الرجال؛ والنهاية المخيفة لهذه الصداقة هى لحظة تنوير تكشف حقيقة مجتمع الانفتاح القاسية. يعلن فريد هنا أيضا ميلاد فنان موسيقى هو راجح داود.
رأى سمير فريد أن داود فى فيلمه الثانى (البحث عن سيد مرزوق) الصادر عام 1990 قد حطم كل القواعد التقليدية للسرد، متجاوزا الواقعية الجديدة التى ساهم هو نفسه فى تأسيسها، منطلقا إلى آفاق رحبة، مكَّنَته من التعبير عن الشرط الإنسانى بأبعاده الاجتماعية والوجودية. يخلو الفيلم من أى حدوتة، ويتعمَّد فى سرده على منطق الحلم أو الكابوس. داود هنا أقرب ما يكون إلى السُّريالية، حيث عالم اللاوعى، على نحوٍ لم تشْهَده السينما المصرية من قبل. يقدم داود فى فيلمه، الذى يختتم عقدا من السينما، رؤية متعددة الأبعاد لقاهرة نهاية الثمانينيات، وللصراع الطبقى المستشرى بها، ولعلاقة الشعب بالسلطة.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات