الكاتب : عصام زكريا
عصام زكريا
كان أحدُ رؤساء الصفحات الفنية فى مصر يُصَدِّر مقاله الأسبوعى بعبارة أن الفنان والناقد يُشبهان حَدَّى المِقَصِّ؛ كلاهما يعمل عكس اتجاه الآخر، ولكنْ كلاهما يُكمل عمل الآخر.
واحدٌ من أفضل المشاهد التى تُجَسِّد هذه العَلاقة الشائكة بين النُّقاد والمبدعين هو تلك المواجهة المخيفة التى نراها بالقرب من نهاية فيلم (بيردمان) (إخراج أليخاندرو جونزاليس إناريتو، 2014) بين بطل الفيلم (الفنان)، وناقدة شهيرة تحتقر هذا الفنان، وتتوعَّده بأنها ستُدَمِّر مسرحيته الجديدة التى لم تُعرَض بعد.
الفنان، ريجان تومسون (مايكل كيتون)، هو ممثل هوليوودى اشتهر بلعب دور (الرجل الطائر) فى واحدة من سلاسل أفلام الأبطال الخارقين، توقف عن العمل منذ سنوات، ويقرر أن يعود إلى الساحة بإنتاج وإخراج وتمثيل نص شهير لأحد الكتاب الكِبار على خشبة أحد مسارح (بروداوى)، حى الفن الراقى. أما الناقدة الجادَّة فهى تكره أفلام هوليوود ونجومها؛ لأنها ترى أنهم (تافهون).
يلتقى الفنان والناقدة فى (بار) مجاور للمسرح، حيث يقوم باستفزازها أثناء قيامها بكتابة مقال حول عمل آخر، ويدور بينهما الحوار التالى الذى أُورِده كاملا لأننى سأعود إليه أكثر من مرة خلال السطور التالية. تُخبره الناقدة بأنها تنوى تدمير مسرحيته، فيقول متعجِّبا:
- ولكنكِ حتى لم تشاهديها.
- لا يهم.
- إذا كنت قد ضايقتك، أعتذر.
- نعم، ضايقتَنى. لقد احتللت مكانا فى المسرح يستحق أن يذهب إلى عمل آخر.
- ولكنكِ لا تعلمين إذا ما كان عملى جيدا أم لا... فأنا لم...
- صحيح، لم أرَ العمل، ولم أقرأ كلمةً منه، ولكن بعد العرض الافتتاحى غدا سأكتب أسوأ نقد يمكن أن يُوجَّه إليه، وسأتسبَّب فى إغلاقه. هل تريد أن تعرف السبب؟
- نعم.
- لأننى أكرهك وأكره كل شىء تمثله. أنت طفل مدلل، أنانى، غير مدرَّب، غير قادر على تجربة الفن الحقيقى، وغير مُهيَّأ إلا لأفلام الكارتون والبذاءة. تقيس نجاحك بإيرادات شباك التذاكر. حسنا، هذا هو المسرح، ولا يحق لك المجيء إلى هنا لتُخرِج وتُمثِّل وتؤلِّف عملا لا هدف له سوى الدعاية لنفسك... على جثتى أن تفعل ذلك. حظا سعيدا!
ينظر إليها تومسون متحيِّرا، ويقرر أن ينقلب إلى موقف الهجوم على الناقدة المتغطرسة:
- ما الخطأ الذى يصيب حياةَ بعض الناس ليتحولوا إلى نقاد؟ (يمسك بالكراسة التى تكتب فيها) ما هذا؟ نقد آخر؟ ما الذى تكتبينه؟ هل يوجد ميزة فى هذا العمل؟ هل هو سيئ؟ هل شاهدتِه أصلا؟
- سأتصل بالشرطة.
- انسى الشرطة. لنقرأ نقدك اللعين. (عديم الخبرة). هذا مجرد نعت. (ممل). هذا نعت آخر. (هامشى)! هل تمزحين؟! يبدو أنك تحتاجين إلى بنسلين لتوضيح ذلك النعت. كل هذه نعوت لا نقد فيها. هذه بلادة. أنتِ بليدة. كل ما هناك أنكِ بليدة. (يمسك زهرة على البار) هل تعرفين ما هذه؟ لا، لأنك لا تستطيعين رؤيتها طالما أنك لا تملِكين نَعتا لها. أنتِ تستعيضين بكل التشويش فى رأسك عن إدراك الشيء على حقيقته.
- هل انتهيت؟
- لا، لم أنته. لا يوجد شيء هنا عن التقنية، عن البناء، عن المعنى. هذه مجرد وجهة نظر رديئة، مدعومة بتشبيهات أكثر رداءة. تكتبين فقرتين لا تُكلفانك أى شيء. أنتِ لا تجازفين بشيء. لا شيء. لا شيء. أنا ممثل، وقد كلفتنى هذه المسرحية كل شيء. سأقول لكِ شيئا. خذى هذه الورقة وضعيها فى مؤخرتك الضيِّقة المجعَّدة!
- لنكن واضحين، أنت لست ممثلا. أنت مجرد شخص مشهور. سأقتل مسرحيتك غدا.
يكتمل معنى هذه المواجهة الدامية بعد ذلك، عندما تأتى الناقدة لمشاهدة العرض فى ليلته الأولى، التى تنتهى بقيام الفنان بإطلاق النار على أنفه، من شدة اندماجه فى العمل، ورغبته القاهرة فى الخروج من صورة النجم إلى جوهر التمثيل، وهو ما يدعو الناقدة إلى كتابة مقال تمتدح فى العمل وصاحبه على الصفحة الأولى من الجريدة التى تكتب فيها.
من ناحية، يعبِّر (بيردمان) عن موقف كثير من الفنانين الذين يكرهون النقد والنقَّاد، وينظرون إلى الناقد كشخصٍ فَشِلَ فى أن يُصبح فنانا، جبانٍ، لا يجرؤ على المخاطرة بنفسه كما يفعل الفنان، يكتفى بإصدار الأحكام وتصنيف الأعمال وأصحابها.
مهنة سيئة السمعة
يُصَدِّر الفنانون إلينا الإحساسَ بأنهم يتعبون ويبذلون الجهد والموهبة ليأتى ناقد كسول لم يبذل جهدا حتى فى مشاهدة الفيلم وينتقد العمل بمنتهى الغرور والجهل. وهناك مَقولة شائعة بين الفنانين أن النقاد أشخاص فَشِلوا فى أن يصبحوا فنانين، لذلك قرَّروا أن يصبحوا نقادا. أما فى مصر فهناك ما هو ألعن، وهو أن كل ما تكتبه يتم تأويله بشكل شخصى. إذا امتدحت عملا ما، فلا بد أن الفنان الذى صنعه صديقك، أو أن هناك مصلحة أو منفعة تعود إليك من ورائه. وإذا انتقدت عملا ما، فلا بد أن هناك سببا لذلك؛ ربما لأنك صديق لأحد منافسى الفنان الذى انتقدته، أو أنك كنت صديقا له وتخاصمتما، أو لأنه تأخر فى إرسال (الظرف) إليك! وأتذكَّر فى بداية حياتى الصحفية أن فنانة كبيرة قالت أمامى، عندما ذُكِر اسم أحد النقاد المعروفين: "مين ده؟ أنا اشتريه بعشوة". أما بعض الفنانين فقد حاولوا فعليا دعوتى إلى العشاء أو أشياء أخرى، ولكننى كنت أحرص على تناول عدد كاف من ساندويتشات الفول قبل الذهاب للقاء أى فنان، حتى لا يقول أحدٌ منهم فى يوم من الأيام أنه اشترانى بعشوة. ومع ذلك، فقد اتَّهمتنى زوجة فنان معروف كتبتُ أن فيلمه لم يُرشَّح للأوسكار كما يدَّعى، بأننى أقبض من إسرائيل، وسألتنى فى التليفون: "قبضت كام من إسرائيل علشان تهاجمه؟". فضحكت وسألتها: "بالشيكل أم بالدولار؟". فانطلقَت فى سِبابٍ بذيءٍ متواصلٍ، قبل أن أغلق الخط فى وجهها. ومنذ سنوات، تلقيت مكالمة من مسئول سينمائى راحل انهال علىَّ بالاتهامات والشتائم لأننى انتقدت أعماله، فقلت له أنه رجل كبير السن والمقام (يُفترَض ذلك) ولا يصح أن أشتمه، فأغلَق الخط محبطا؛ لأنه على ما يبدو كان يتمنَّى أن أشتمه.
والتعرُّض للمكالمات الشخصية البذيئة ليس أسوأ ما فى المهنة، ولكن الأسوأ هو خسارة من كنت تعتبرهم أصدقاء أو فنانين كبارا لمجرد أنك انتقدت أحد أفلامهم أو قلت لأحدهم رأيا سلبيا فى فيلمه، حتى ولو كان بينك وبينه!
والأسوأ أيضا هو أن مستوى معظم ما يُكتَب من نقد، وسلوك بعض من يمتهنون النقد، يعطيان الفرصة للفنانين لطَعن كل النقاد. وقد تجد نفسك مدفوعا إلى مسايرة الجو، وتخفيف حدَّة آرائك أو إخفائها كليا، إن لم يكن لمصالح شخصية، فمن أجل أن يتم الاعتراف بك كناقد (كبير)، أو على الأقل حتى تتجنَّب الكراهية وتشويه السمعة، وأحيانا حتى لا تُفسِد عَلاقات رئيس التحرير أو رئيس الصفحة التى تعمل بها. وكل هذا وأنت لم تبدأ عملك النقدى بعد، الذى يحتاج إلى مجهود لا يقل عن جهد المبدعين، وإن كان يختلف عنه فى النوع.
والحقيقة أن هذه المشاكل لا تُوجَد فى مصر فقط، ولكن يبدو أن النقَّاد مكروهون فى كل مكان من الفنانين والمشاهدين، على السواء!
فى صحيفة (الجارديان) البريطانية، قرأت منذ عدة سنوات مقالا لناقد سينمائى يَروِى فيه كيف أن رئيس تحرير إحدى الصحف الكبرى رفض تشغيل ناقد شاب لأنه "يعرف أكثر مما ينبغى عن الأفلام"، وهو ما يتعارض مع الطبيعة الخفيفة للنقد الصحفى الذى يُوجَّه لجمهور الأفلام التجارية.
وعلى أحد مواقع الإنترنت المخصَّصة لنقد الأفلام، قام مؤسساه بتخصيص صفحة لِمَا أطلقا عليه (رسائل الكراهية) التى يبعث بها قرَّاء الموقع. وهذه الرسائل لا تختلف كثيرا عمَّا يكتبه القراء المصريون تعليقا على مقالاتنا عن الأفلام من نوعية: (كيف تجرؤ على مهاجمة النجم الذى نعشقه؟) و(لماذا لا ترينا مهارتك وتصنع فيلما مثله؟) و(لماذا لا تستمتع بالأفلام مثل باقى خلق الله بدلا من هذا النقد البارد؟) أو العكس (لماذا تبحث عن المتعة فى هذا الفيلم الفكرى العميق؟).
وفى الكتاب الرائع الذى يضم حوارات الناقد والمخرج الفرنسى فرانسوا تروڤو مع المخرج ألفريد هيتشكوك، يقوم تروڤو، الذى كان قد ترك النقد وأصبح مخرجا، بمهاجمة النقاد، ويتَّهمهم بأنهم محدودو النظر، بينما يدافع عنهم هيتشكوك الذى طالما ظلم النقادُ أفلامَه وأساءوا تقدير موهبته. وبطريقته المعهودة، يسأل هيتشكوك تروفو: "ألم تكن أنت نفسك ناقدا؟"، قبل أن يستطرد أمام تلعثُم تروڤو: "أعرف أنك كنت ناقدا جيدا". بالطبع كان نقد تروڤو وزملائه فى مجلة (كاييه دو سينما) هو الذى لفت انتباه العالم إلى أهمية سينما ألفريد هيتشكوك. والنقاد هم أيضا الذين كشفوا للعالم عن مواطن الجمال فى أعمال تروڤو وزملائه من مخرجى (الموجة الجديدة).
بعض السينمائيين (المثقفين) هم للأسف أعدى أعداء النقد. وهذه العَلاقة الشائكة بينهم وبين النقاد أراها فى ردود أفعال عدد من المخرجين المصريين الذين يشعرون بأنهم أفضل من النقاد لأنهم قرأوا كتابين أو ثلاثة وشاهدوا فيلمين أو ثلاثة ينقلون منها أعمالهم الضعيفة أو المتوسطة. وقد قال أحدهم مرة، فى مَعرِض ردِّه على ما كتبته عن أحد أفلامه، إن المخرج كالطبيب والناقد كالمريض، ولا يصحُّ أن ينصح المريضُ طبيبَه بالكيفية التى يعالجه بها!
ومن حِيَل هؤلاء جمل جاهزة يردُّون بها على أى نقد لا يُعجبهم، لا تختلف كثيرا عن تعليقات الجمهور المكتوبة أعلاه؛ وهم للأسف يجدون ما يشجعهم على ذلك؛ لأن النقد فى مصر (مريض)، رغم أنه ليس أكثر مرضا من السينما التى يصنعونها.
أما أسباب مرض النقد فمنها عدم التمييز بين الصحفى الذى يكتب المراجعات النقدية السريعة والناقد المنهجى الذى يُحلِّل فنيات العمل ومضمونه وسياقه الاجتماعى والفكرى وَفقا لرؤية متكاملة لدور وتاريخ السينما والفن؛ وتسعون بالمائة ممَّا يكتب عن الأفلام فى العالم ينتمى إلى المراجعات النقدية reviews، بينما يقتصر النقد الجاد غالبا على المطبوعات المتخصِّصة والأكاديمية. وكل من كتب رأيا عن الأفلام فى العالم العربى يُطلَق عليه ناقد، مع أنه فى أفضل الأحوال كاتب مراجعات جيِّد. وهناك أشخاص يكتبون عن السينما لا يعرفون الفرق بين الصحافة والنقد. وقد أتيح لى أن أقرأ بعض ما يُكتَب باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية من نقد، فوجدت أن الهوَّة بين العالم (الثالث) و(الأول) لا عَلاقة لها بالفقر أو المرور أو استعداد الشوارع لتحمُّل المطر، ولكن الفرق الأساسى هو أن العلماء والمتخصصين والمثقفين والفنانين (ممن يُطلق عليهم النخبة) فى العالم الأول، يختلفون عن الناس العاديين فى المعرفة والتذوُّق الفنى. فى العالم الثالث هم مختلفون أيضا ولكن غالبا للأسوأ!
عندما بدأتُ أسافر إلى المهرجانات السينمائية الدولية فى بداية حياتى الصحفية، التقيت ذات يوم شابا أوروبيا جاء لتغطية المهرجان. سألنى عن مهنتى، فقلت له بمنتهى الثقة: "ناقد سينمائى". ولما سألته بدورى عن مهنته قال أنه (مراجع للأفلام). هو شعر بالدهشة وأنا بالخجل؛ لأننا كنا نتكلم عن نفس المهنة، ولكن الفرق أننى من بلدٍ يُسمِّى الأشياء بأسماء أكبر أو أقل من معناها الحقيقى. السبَّاك اسمه (باشمهندس)، والشاويش (سعادة الباشا). كان معنا فى المهرجان عشرة على الأقل من العالم العربى لا ينطبق على أىٍّ منهم صفة ناقد أو حتى مراجع للأفلام، ولكن كلهم كانوا يحملون محافظ مُتخَمة ببطاقات عمل (business cards) تحمل لقب ناقد ومدير تحرير ومساعد رئيس تحرير، بينما أعطانى رجل أمريكى ما يقترب من الستين بطاقة تقول فقط أنه مجرد (كاتب تقارير reporter).
هذه المشكلة من عمر السينما نفسها على ما يبدو. فى كتاب بعنوان (السينما مفخرة القرن العشرين)، دار نشر مطبعة روايات الجيب، 1941، يشير مؤلفه الأديب والناقد محمد عبد القادر المازنى إلى مقال عن النقد لكاتب اسمه إبراهيم حسين العقاد يساوى فيه بين مشكلة النقد فى مصر ومشكلة المتعلمين العاطلين (!)، ويحدد خمسة أسباب للمشكلة هى:
1- سهولة احتراف النقد فى مصر وترك المتمكنين منه ميدانه للدخلاء.
2- الحذلقة والتحيُّز ورؤية من يوجه إليهم النقد بعيون لا ترى العيوب.
3- غَرام متطفلى النقد فى مصر بالأكلات الدسمة والشراب المجانى.
4- المحسوبيات ومطاردات الأصدقاء والمعارف.
5- عدم التفريق بين النقد والإعلان. (ص 155 - نقلا عن كتاب «النقد السينمائى»، تأليف على شلش، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971).
هذه الأمراض التى يعانى منها النقد، خاصةً فى بلادنا، لا تقتصر بالطبع على مهنة النقد، ولكنها منتشرة فى كل المهن، وبشكل أسوأ. والفنون نفسها تعانى من هذه الأمراض، بالإضافة إلى حزمة كبيرة من أمراض أخرى.
لا نقد... لا فن!
خلال إحدى الندوات التى شاركتُ فيها عن النقد فى العالم، قال أحد النقَّاد الأجانب: "إن الفيلم الذى لا يَكتب عنه النقَّاد يُصبح نَسْيا مَنسِيا، وكأنه لم يصنع". وقد استوقفتنى هذه العبارة كثيرا لِمَا فيها من مبالغة وحقيقة فى الوقت نفسه.
أعود إلى المواجهة الدامية بين الفنان والناقدة فى فيلم (بيردمان). قلت إن هذه المواجهة تعبِّر عن العَلاقة السيئة بين النقاد والفنانين، لكنها من ناحية ثانية تجسِّد أهمية النقد؛ فالنجاح الأعظم الذى يحققه بطل الفيلم هو حصوله على اعتراف الناقدة به، بالرغم من الاتهامات والشتائم التى وجَّهها إليها؛ ذلك أن اعترافَ النقَّاد (الفاهِمين)، الذين يتمتعون بالنزاهة والانحياز للفن الجاد، هو أقصى ما يصبو إليه أى فنان حقيقى. واعتراف (الناقدة) بالفنان فى (بيردمان) ليس مجرد تعبير عن رغبة الفنانين الجادِّين فى الحصول على اعتراف النقَّاد والمهرجانات السينمائية بموهبتهم، فى مقابل النجوم والتجار الذين لا يَعنيهم سوى كسب الأموال وعدد التذاكر التى تبيعها أعمالهم، ولكنه تعبير عن معانٍ أخرى أهمها: القيمة المعنوية فى مقابل القيمة المادية، والحصول على اعتراف الأم والأب بأبنائهما. عقدة البطل فى (بيردمان) هى الحصول على اعتراف الأم، التى تتجسَّد فى الفيلم من خلال زوجته وابنته والناقدة المُسِنَّة التى تُمثِّل الأم.
النقَّاد، بشكلٍ ما، يُجَسِّدون السلطة المعنوية التى تضع معايير القيمة والجودة للأعمال الفنية، والتى تختلف عن معايير السوق والعرض والطلب والنظام الرأسمالى الذى يَقيس السلعة بمدى قدرتها على جلب المال. والفنان التجارى يشبه أحيانا الابن الذى ينجح فى حياته من خلال الاتِّجَار فى المخدرات، ولكنه يظل بحاجةٍ إلى نظرة الرضا فى عيون والديه، والاحترام فى عيون أطفاله.
النقَّاد، أحيانا، يلعبون الدورَ الأهمَّ فى الحفاظ على القِيَم الفنية النبيلة، وفى تطوير الفنون من خلال قدرتهم على النفاذ إلى الأعمال الفنية بعمق وفهم.
ما زلت أذكر مقالات الناقد رؤوف توفيق فى مجلة (صباح الخير) وكتبه الرائعة مثل (السينما عندما تقول لا) و(سينما الزمن الصعب) و(سينما الحقيقة) وغيرها، التى كانت أول ما قرأت من نقد، وما زلت أذكر مقال الناقد كمال رمزى عن عماد حمدى، الذى قرأته فى مجلة (أدب ونقد) فى منتصف الثمانينيات، فغيَّر طريقتى فى مشاهدة الأفلام، وأصبحت أتابع مقالاته وكتبه منذ ذلك الحين؛ واكتشفت بعد مرور سنوات طويلة، واطِّلاعى على أحدث الدراسات السينمائية فى العالم، أن كمال رمزى، بفطرته وشغفه بالسينما وعَلاقتها بالجمهور والمجتمع، كان سبَّاقا ورائدا لهذه الدراسات، بالرغم من أنه لم يَضَعْ لها إطارا نظريا فلسفيا، كما يفعل الدارسون الغربيون.
تعلَّمت كذلك من مقالات الناقد اللبنانى إبراهيم العريس، التى تتَّسم بثقافة موسوعية واهتمام خاص بسينما المخرجين المؤلِّفين وبعلم النفس، وكذلك مقالات الناقد الراحل أحمد يوسف... والقائمة طويلة.
لا أنسى أيضا برنامج (نادى السينما) الذى كان نافذتنا الأسبوعية لمطالعة السينما العالمية الفنية، وتلك الحوارات التى تسبق وتعقب عرض الأفلام، بين مقدمة البرنامج (درية شرف الدين) وضيوفها من النقاد والسينمائيين. ولا أنسى نشرات (نادى سينما القاهرة) التى كانت تصدر أسبوعيا مع عروض الأفلام، وكان يشارك فيها عددٌ من نقاد مصر الكبار، فريد سمير وسامى السلامونى ومصطفى درويش وغيرهم.
وقد اختبرت شخصيا أهمية المطبوعات والكتابة الجادة عن السينما من خلال عملى فى مجلة (الفن السابع)، التى كان يمولها ويرعاها الفنان محمود حميدة. فرغم أن المجلة كانت شهرية، ولم تستمر سوى ثلاث سنوات، وتوقفت منذ حوالى سبعة عشر عاما، إلا أننى كثيرا ما ألتقى، إلى الآن، بأشخاصٍ يُخبروننى أنهم كانوا من قرَّاء المجلة، أو أنهم حصلوا على بعض النسخ القديمة منها، وأنهم أعجبوا كثيرا بها، وغالبا يُبدون أسفهم على توقُّفها.
لاحظت مبكرا الفارق الكبير بين ما يكتب فى عالمنا العربى عن الأفلام، وما يكتب فى الغرب خاصَّةً فى المطبوعات السينمائية المتخصصة، وكان من حسن حظى أن اطَّلعت على هذه المطبوعات فى بداية عملى بالصحافة، قبل أن أركِّز أكثر على الكتب المتخصِّصة. ومن أوائل هذه الكتب التى أفادتنى كثيرا كتاب الناقد الكندى روبن وود عن هيتشكوك، وكتابات الناقدة النِّسْوية الإنجليزية لورا ميلفى، والناقد الأمريكى روجر إيبرت، وغيرهم.
صحيح أن الفن العظيم يغيِّر إحساسنا بالعالم، ولكن النقد الجيد هو الذى يغيِّر طريقتنا فى التفكير.
هل للنقد مستقبل؟
رغم كل المشاكل التى يتعرَّض لها النقد السينمائى فى العالم، وفى بلادنا بشكل أكبر، إلا أن المسألة نسبية، وهناك اختلاف كبير فى درجة حدتها. فى كثير من البلاد لم يزل للنقَّاد تأثير كبير على الصناعة، وحتى فى أمريكا نفسها هناك الكثير من الأفلام المستقلة والصغيرة التى تحقق الشهرة والنجاح بفضل اهتمام النقاد بها، ومنها مثلا فيلم (بيردمان) نفسه الذى فاز بالعديد من جوائز الأوسكار؛ فقد كان ما كُتِب عن هذا الفيلم هو السبب الرئيسى فى ترشُّحه وفوزه، وأيضا فى إقبال الملايين من المشاهدين على مشاهدته.
فى مصر، لم تزل الهوَّة سحيقة، وليس هناك تأثيرٌ يُذكر، إيجابيا كان أم سلبيا، للنقدِ على الصناعة؛ وسمعةُ النقاد فى الحضيض. بعض القرَّاء يرون أنهم متحذلِقون و(مكلكعين) وغير مفهومين، والبعض الآخر يرى أنهم سطحيون ومجامِلون للنجوم والمنتجين. وبالطبع الفئة الأولى غير الفئة الثانية، وربما يتسبَّب (ناقد) واحد معقَّد أو مرتشٍ فى الإساءة للجميع.
نحتاج بالطبع إلى رفع مستوى النقد، على مستوى الكتابة ومستوى النزاهة. وأعتقد أن تطوير النقاد لأنفسهم على المستويين هو أول خطوة لكسب حب وثقة القارئ، وبالتالى القدرة على التأثير على الجمهور وذوقه، ومن ثم التأثير على الصناعة نفسها.
على أية حال، ليست مهمة النقد التأثير على الصناعة؛ فهذه ستظل خاضعةً لاعتبارات كثيرة استهلاكية وتجارية وسياسية، ولكن مهمة النقد الأساسية هى التأثير فى ذوق النخبة الثقافية، وبالتالى رفع حد سقف التفكير والتعبير، وهو ما يُسهم تدريجيا وببطء فى رفع المستوى الثقافى العام.
الناقد السينمائى ليس أفضل من كاتب المُراجَعات، ولا صحفى الأخبار أقل من كاتب العمود، لكنها تخصُّصات وَفقا للموهبة والكفاءة. ولطالما كنت أردِّد للصحفيين الناشئين الذين يعملون معى أن الصحفى الذى يأتى بخبر جيِّد أفضل من مائة ناقد سيئين.
والناقد السينمائى لا يكتب لعامَّة الناس عادة، ولكن للمتخصِّصين من السينمائيين أو الدارسين للفن والمهتمين به، ولا تحظى المطبوعات النقدية المتخصِّصة بالشعبية فى أى مكان، وحتى أشهر مجلة جادَّة فى تاريخ السينما، وهى (كاييه دى سينما) Cahiers du Cinema، تعرَّضَت لخطر الإغلاق منذ عدَّة سنوات، لولا أن قام بعض المثقفين بمحاولةٍ أخيرةٍ لإنقاذِها. وهذا الخطر يواجِه حاليا معظم المطبوعات الجادَّة، ومنها المطبوعات السينمائية.
وأفضل النقَّاد فى العالم لا يكتبون فى المطبوعات الرائجة، والقليل منهم يكتب لمجلات نصف شعبية مثل (سايت أند ساوند) Sight and Sound البريطانية، و(سينيست) Cineaste الأمريكية.
الناقد السينمائى يجب أن يتمتَّع بثقافة فنية عريضة وعميقة لتاريخ الفنون، وخاصة السينما، ليس فى بلده فقط، ولكن فى العالم. وعليه أن يكون مثقفا فى السياسة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، وحتى فى الرياضة والموضات النسائية... عندما يتطلب فيلم ما، يجب أن يعرف كيف يأتى بالمعلومات اللازمة التى تساعده على قراءة وتحليل الفيلم، وقبل كل هذا يجب أن يحب السينما؛ لأننى رأيت العديد من (النقَّاد) لا يطيقون مشاهدة الأفلام!
طموح الناقد الأكبر
كما بدأت بمشهدٍ من فيلم (بيردمان)، أُنهى بمشهدٍ من فيلم التحريك (راتاتوى Ratatouille) إخراج براد بيرد، 2007. فى هذا الفيلم المصنوع للأطفال، يستطيع فأر شوارع، أو بالأدق (مصارف)، أن يُصبح أفضل طبَّاخ فى المدينة، وهو ما يثير دهشة ناقد طعام كبير إسمه (إيجو)، أى (الأنا) أو (المغرور). هذا الناقد الذى عُرِف بحدَّة وقسوة أحكامه، لديه قناعة بأن فنَّ الطبخ لا يجب أن يُترك لمن هبَّ ودبَّ من غير الموهوبين والدارسين، ولذلك تكون صدمته كبيرة عندما يعلم أن هناك فأرا يجيد الطبخ؛ بل يجيده بمهارة فنان. وعندما يفيق الناقد من صدمته، يكتب مقالا عن هذه التجربة، وينتهى الفيلم بصوت الناقد voice over يقرأ المقال الذى كتبه عن (الفأر الفنان):
"عادةً ما يُعَدُّ عمل الناقد من أسهل الأشياء، فليست به مخاطرة. نحن النقَّاد لا نخاطر بشيء، ونستمتع بالحكم على الأشياء، وكثيرا ما ننجذب للنقد السلبى. ما أمتع النقد السلبى، لمن يكتبه ولمن يقرؤه. مع ذلك، فإن المخاطرة الوحيدة التى يتعرَّض لها الناقد تأتى عندما يتحمَّس ويدافع عن الجديد؛ فالعالم لا يُرحِّب بالمواهب الجديدة أو التغيير. والجديد يحتاج إلى صديق".
(إيجو)، بعد أن يتحدَّث عن انبهاره بالوجبة التى تناولَها من يدى الفأر الموهوب فى الطبخ، يقول:
"لم أُخفِ فى الماضى رَفضى لعبارة (الشيف جوستو) المشهورة: «الطبخ للجميع»، لكنى لم أدرك ما كان يعنيه سوى الآن. وبالرغم من أننى ما زلت أرى أنه لا يستطيع أى شخص أن يصبح فنانا عظيما، فإن الفنان العظيم قد يأتى من حيث لا نتوقع"!
يُلخِّص (إيجو) ببراعةٍ العَلاقةَ الشائكةَ بين النقَّاد والمبدعين. هناك انطباعٌ لدى الكثيرين بأن مهنة النقد سهلة، مأمونة العواقب، لا تحمل مخاطرةً من أى نوع، وأنها مهنة ممتعة، خاصةً إذا كان الناقد من هؤلاء الساخرين الذين يدغدغون عواطفَ القراء، ويداعبون نزعتهم الساديَّة تجاه المشهورين من النجوم وصناع الأفلام. ويشير (إيجو) غالبا إلى كتَّاب المراجعات النقدية reviews أصحاب التأثير فى الإعلام الغربى؛ حيث يمكن لرأى أحد النقَّاد النافذين أن يؤثِّر بالفعل على نجاح أو فشل فيلم ما، وحيث يُعتبر رأى النقَّاد والمتخصصين شهادة موثقة على جودة عمل ما أو رداءته.
فى كتابه (النقد السينمائى)، يذكر ميشيل فرودون، الناقد الفرنسى ورئيس تحرير مجلة (كاييه دو سينما) سابقا، أكثر من عشرين وظيفة للنقد منها: (إظهار القِيَم الباطنة للعمل السينمائى - تمكين كل مُشاهد من توضيح أفكاره الخاصة عن الفيلم - تقييم الأفلام وَفق معيارَى الذوق والمعنى - الوساطة بين المتفرِّج والعمل الفنى وتسهيل تلقى الفيلم - اكتشاف الجديد فى مسار تطوُّر السينما - إعطاء شرعية لِمَا يبدو فنيا صادما ومختلفا وجديدا، ليغدو مقبولا ومرحَّبا به - التحريض على التفكير انطلاقا من العمل السينمائى، لفهم الذات والعالم المحيط بنا).
وإذا كان لى أن أضيف شيئا، فهو أن عمل الناقد الأساسى، مثل الفيلسوف، هو البحث عن قِيَم الحق والخير والجمال فى الأفلام، وهو مثل الفيلسوف اليونانى ديوجين الذى كان يبحث عن الإنسان حاملا مصباحه فى عز النهار، والناس تسخر منه.
الناقد، بشكل ما، هو ديوجين الذى يبحث عن العمل الفنى الجيد، بينما كلُّ من حوله يعتقدون أن كل شيء واضح، وأنه لا يوجد شيء يستحق أن يبحث عنه!