الصورة.. الشاهد العَيَان على تاريخ المجتمع

برباره يوسف 05 مارس 2022 النقد السينمائي

الكاتب : برباره يوسف


الصورة.. الشاهد العَيَان على تاريخ المجتمع
.. والحكم النهائى على حدوثه

برباره يوسف
فى مشوارِنا الطويل لرحلة حياتنا، نحمِل فى ذاكرتنا صورا عديدة؛ صورا جذبَتنا يوما لمشاهدتها, وصورا أخرى أُجبِرْنَا على التوقُّفِ أمامَها. لكنَّ أكثر الصور عمقا هى التى كُنَّا جزءا منها؛ كانت روحنا تحيا فيها. هى صورٌ ليست ملحمية، ولا تكسوها ورودٌ حمراء, لكنها تحمل تعريفاتٍ خاطفةً غيرَ مُعَدَّة, عَفْوية, كصورةٍ لصديقٍ لك فى الطفولة يُحارب باستماتة ليحجز لك مقعدا بجواره, وصورةٍ لأحدهم يضع يديه على كتفك مُحاوِلا أن يَعبُر بك الطريق دون أن تطلب منه ذلك, وصورةٍ فى عَتَمَتِك ترى فيها عيونا تراقبك بحبٍّ دونَ الدخولِ بك فى تفاصيل, معلِّلةً ذلك بأنها تحظى بالأنس الصامت بجانبك. مئات الصور التى نحملها وتحملنا, تطفو بنا فوق مستنقعٍ خارجةً إلى فوَّهَة النور عندما يضيق الظلام. نحن نحب الماضى. نقترب إليه بحذر وشوق وحنين مبرَّر مدفوع الأجر مِن سنوات أعمارنا. الماضى يحمل صورا تحمل بداخلها تفاصيلنا. نبحث بين كل صورة وأخرى عن قسمات وجوهنا، ملابسنا كيف كانت تبدو, ألوان الغرفة والحائط ومقبض الباب والأرضية المتسخة. فى ألبومك تجد أحدهم يظهر فى صورةٍ فاغرا فمَه، فتحاول أن تتخيَّل ماذا كان يقول. صورة لطفل يبكى، تدفعك تلقائيا إلى الضحك، مُعلِّلا ذلك بأنه صار الآن رجلا. تَمضى كل التفاصيل، وتُصبح جزءا حرا طليقا منا, جانبا قد تحرَّر للأبد. وهكذا نشترك جميعنا فى ماضٍ واحدٍ حرٍّ ومحبَّبٍ إلينا، ويصبح وقتها الماضى ظاهرة نحاول أن نجمع تفاصيل صورها المتفرقة من قصص مثيرة وتاريخ وأحداث وفن وعلم وجمال, لنستعيد صور الماضى بأثر رجعى، ليس كما حدثت فعلا، ولكن تُعاد علينا بشكل معدَّل منمَّق, وكأن كلَّ صورةٍ كانت إشارة تخبرنا بشيء ما عن مستقبلنا الذى نحياه الآن, فنمضى لاهثين بحب وحنين إلى كل الماضى، نستجمع صوره، لنعرف الحاضر، فنميل إلى كل من يخبرنا بشيءٍ عنه، وكل من يحكى حواديته وطرائفه ونوادره وحوادثه.
وفى هذا يحكى لنا أبطال الصور وحاملو الكاميرات قديما حوادث مدينتهم وطرائفهم، وحكايات القصص المختلفة المرتبطة بالناس.
ففى مدينة المنيا الواقعة جنوب مصر، فى نهاية فترة الستينيات وبداية السبعينيات، كان منتشرا عددٌ من المصوِّرين وحاملى الكاميرات المتنقلة والثابتة. هؤلاء المصوِّرون يحملون فى جَعبتِهم ذاكرةً تربط الصورة بالمجتمع, فنستطيع أن نقرأ تفاصيل الناس من أرشيڤ المصوِّرين. حَظِيَت تلك الفترة بعددٍ لا يقل عن عشرة مصوِّرين، من بينهم سيدة واحدة لا تزال تعيش وتعمل فى نفس الاستوديو التى بدأَتْ فيه. هذه السيدة اسمها تريز فهيم، من مواليد شهر 9 عام 1949.
بدأت حياتها العملية بعد زواجها عام 1972 من أنور صاحب استوديو أنور, الواقع بحرىَّ المنيا، والذى أُسِّس عام 1965. بعد عِدَّة أعوام من زواجها، أصيب زوجها، فاضطرَّت السيدة أن تتولى هى إدارة الاستوديو من تصوير وتحميض وطباعة، حتى هذه اللحظة, لكى تستطيع أن تَعُول أسرتها وأبناءَها. وتحكى السيدة تريز عن أن مهنة التصوير من المهن الشاقَّة والتى لم تحظَ أى فتاة بالعمل فيها؛ حيث إن المجتمع كانت تحكمه عاداته الصارمة، وتمنع دخول وخروج البنت المتكرر، والتعامل مع الزبائن من الرجال. وكما نعرف، فمهنة التصوير كانت تحتاج إلى أكثر من ذلك؛ حيث كان على مَن يعتلِى هذه المهنة أن يتعلَّم أولا فنَّ التصوير، وأن يكون مبدعا قبل كل شيء, وهو ليس بسهولةِ ما نراه الآن، وإنما كان أولا يتعلَّم كيف تعمل الكاميرات والإضاءة، وكيف يضع الرتوش، ويغير معالم الوجه يدويا بقلم رصاص موضوع بداخلِ صندوقٍ مَطلِىٍّ من الداخل بمادة. أضِف أن هناك جزءا يُسمَّى التحميض، وهذا الجزء كان يتم داخل غرفة مظلمة؛ لأن الإضاءة كانت تؤثر على جودة الصورة التى تُحمَّض. ويتم من خلاله وضع الصور داخل حمض. هذا الحمض كان يسبب تشوُّهات فى الأصابع من حروق وتشوُّهات, وكان الحمض أيضا يترك اسمرارا فى منطقه الأصابع لا يمكن التخلُّص منه لعدة أيام, فكان يشوِّه منظر اليد, وهو ما تخشاه الفتيات. لهذه الأسباب، لم تحبِّذ البنات العمل فى هذه المهنة الشاقة وقتئذٍ... ولكنِّى فى المقابل كنت أحظى بشعبية كبيرة بين الفلاحين؛ حيث إنهم كانوا يجلبون الفتيات حديثات السن، ما بين الثانية عشرة والخامسة عشرة من أعمارهن، لتصويرهن، لتسنينهن؛ حيث إن الريف كان منتشرا فيه فى تلك الفترة الزواج المبكِّر للفتيات, وبما أنى سيدة، كان الأهالى يفضلون التصوير فى الاستوديو الخاص بى، مُعلِّلين ذلك بأن الفتيات لا يجب أن ينكشفن على رجال أثناء تصويرهن, فاستطعت بعد موت زوجى أن أحظى بدخل مقبول، استطعت أن أربِّى به الأولاد الخمسة الذين رزقنى بهم الله...
صور التسنين جريمة لم يعاقب عليها القانون
وبمناسبه صور التسنين، يَحكى لنا (حكيم) البالغ من العمر 77 عاما، والذى يُسمَّى شيخ المصوِّرين - يحكى خبرته مع الفلاحين، أنهم كانوا لا يحبُّون التصوير نهائيا، وكان من عاداتهم أن تضع المرأة بُرقُعا على وجهها إذا رأت مصوِّرا، أو إذا وُجِّهت الكاميرا ناحيتها. ومن الطرائف أن أحدهم جاء مرةً ليُسنِّن ابنته, وكانت العادة أن يُحضروا معهم قلم روج أحمر وبعض الدقيق الأبيض وكيسين من القطن لحشو منطقة الصدر حتى تبدو الفتاة أكبر من سنها. وفى هذه الأثناء، رفض الوالد والرجال الذين معه أن تنكشف الفتاة على المصوِّر بداخل الاستوديو, فشبَّ جدال كبير بينهم، وعادوا بها دون تصوير، تاركين المُصوِّر فى حيرةٍ من أمرهم. ويحكى لنا حادثةً أخرى. فى تلك الأوقات، كانت صور الفتيات شيئا مقدَّسا, وإن من الكوارث أن تجد شابا يحمل صورة لفتاة من دون زواج. وحدث أن تمَّ تصوير إحدى الفتيات، وبعد فترة ذهب شاب لخطبتها، فرفض أهلها الزواج من هذا الشاب, فثار الشاب عليهم مهدِّدا بأنه سيأخذها بالقوة, معلِّلا ذلك بأنه يمتلك صورة لها. وعند سماعهم أنه يمتلك صورتها، انقلبت الدنيا وقتئذٍ على الفتاة ضربا، حتى اعترفت أن صاحب الاستوديو - الأفندى حكيم كما كانوا يطلقون على المصوراتى - هو من سرَّب صورها إلى هذا الشاب. وفى عصر اليوم ذاته، كنت جالسا داخل الاستوديو، ليس على المكتب وإنما فى زاوية أشرب الشاى كأحد الزبائن, فإذا بى أفاجأ بأن عددا من الرجال، كل واحد يحمل شومة فى يده, ومعهم الفتاة ملثَّمة بحِرَام طويل, واقتحموا الاستوديو ثائرين ومتسائلين عن مكان صاحبه, فتعلَّلت بأنه ذهب فى مشوار وسيعود قريبا، مُحاولا أن أفهم ما الذى يحدث، فقصَّ علىَّ أحدُهم تفاصيل قصتهم مع الشاب والصور المسرَّبة, فأجبتهم بحزم شديد بأن الاستوديو لا يمكن أن يفعل مثل تلك الفعلة، وأن كل استوديو عليه ختمه الخاص من الخلف, وأن الفتاة تكذب عليهم، وأنها هى وحدها من فعلت نسخا من الصور فى مكان آخر, وأن الاستوديو غير مسئول عن هذه الأفعال. وبعد التحقيق، تبيَّن أن الفتاة تكذب عليهم فعلا، فانهالوا عليها ضربا. وقد أوقفهم حكيم، وهدَّدَهم بأنه إذا تمَّت أذيَّتها، فسيشهد ضدهم فى المحكمة.
وفى هذا يوضح لويس المنياوى صاحب استوديو بيت الفن، والذى تعلم المهنة على يد حكيم, أن المصورين اشتركوا فى ظاهرة مجتمعية سيئة جدا ما زال المجتمع يجنى ثمارها حتى الآن، وهى ظاهرة الزواج المبكر، وأن القانون لم يجرِّم المصورين أو يسن لهم قوانين رادعة لهذا التحايل أبدا.

الصورة تفرض على الناس الطابع الصارم فى الظهور
ويوضح أيضا أن عَلاقة الناس بالصورة فى تلك الفترة، وبشكلهم أمام الكاميرا، كانت عَلاقة وثيقة جدا، وأكثر اهتماما وترابطا منها الآن؛ ففى الماضى كان الأشخاص يرتدون أفضل ما عندهم فى شكل كلاسيكى جاد, ويقفون أمام الكاميرات بكل ثقة، دون إظهار أى نوع من الضحك، وربما السبب فى هذا يرجع إلى أن الصور جميعها كان تُؤخَذ بهدف إرسالها إلى جهات المصالح الحكومية، أو جوازات السفر, وكانت الجهات الحكومية لا تقبل بالصور الضاحكة أو التى يبدو الأشخاص فيها أقل من الشكل الرسمى الصارم, فترتَّب على ذلك انتشار الملامح المجتمعية العنيفة الصارمة, وأن المثال المقبول مجتمعيا والمطلوب فى كل الأوساط هو المثال الذى لا يقبل بأقل من الصرامة والجدية, فلم يكن هناك مجالٌ للعبث بصور أحد؛ وبناءً عليه كانت الصور لا تُسلَّم إلا باليد لصاحبها. ولكن بعض المواقف الطريفة كانت تحدث دائما من الفلاحين البسطاء الذين يبتعدون عن المدينة مسافة بضعة كيلومترات, فيذكر أنه فى بداية السبعينيات, جاء أحد الفلاحين ليأخذ صورة شخصية يضعها على جواز السفر؛ وعند تسليمه الصور، أُعْطِىَ الفلاح ظرفا به كثير من الصور، وطلب صاحب الاستوديو من الفلاح أن يُخرِج صُورَهُ من بينها, وكان رد الفلاح مفاجئا عندما قال: وكيف أعرف صورى من بينها؟ وتبيَّن بعد ذلك أن الفلاح لا يمتلك مرآة فى بيته طوال عمره، ولا يعرف حتى كيف يبدو شكل وجهه من الخارج. وقد تفاجأ الفلاح بشكله لأول مرة عند تسلُّمِه صورَهُ!
وتَذكُر السيدة تريز أنه كانت هناك بعض الكوارث بالتأكيد؛ فأحيانا كنَّا ننزل لتصوير بعض الأشخاص أو المناسبات، ونُفاجَأ أن الفيلم كله ممسوح، ولا يوجد عليه ولو صورة واحدة, أو أن الأشخاص يظهرون مشوَّهين أو مغلقة عيونهم؛ فكان هذا من عيوب الكاميرات؛ عدم تواجد ميزة رؤية الصورة بها مثل الآن. وأحيانا كنا نُضطرُّ إلى إعادة التصوير مرة أخرى، مُعلِّلين ذلك بأخطاء الأشخاص لا خطأ المصوِّرين.
ويسترجع حكيم حادثة لتصوير أحدهم, وكان فى منصب قيادى، فلم تُفلِح معه أى حجج من تلك التى كانت تُستَعمل مع الفلاحين فى تقديم الأعذار, واضطرَّ وقتها أن يقدِّم اعتذارا رسميا على خطأ حدث أثناء التصوير فى توصيل الكاميرا.
وكان الربح القائم على مهنة التصوير مقبولا إلى حد كبير, وكانت الغنائم دائما تأتى من جهة الأرياف، كما تحدَّثنا؛ لأنهم دائما كانوا يطلبون صورا مستعجلة، وكانت وقتئذٍ الصورة العادية بـ 15 قرشا والمستعجلة بـ 35 قرشا, وكان ذلك بمثابة غنيمة، وربما هذا سبب التغاضى عن الاشتراك فى جرم الفلاحين فى تسنين الفتيات.
ويَحكِى عزت عبد المسيح، وهو مصوِّر من أقدم المصوِّرين, أن الشاب الدنجوان قديما، كان يأتى إلى الاستوديو من الصباح إلى نحو العصر, حتى يتم تصويره عددا ثابتا من الصور، وهو 24 صورة, بحركات مختلفة وأوضاع مختلفة. وعندما تساءلنا عن مصير هذا العدد من الصور، وماذا كان يفعل الشاب بهذه الصور, أجاب أنه فى ذلك الوقت كان معروفا أن الشاب الدنجوان كلَّما تعرَّف على بنت، أعطى لها صورة من صوره, فكانت هذه سمة (الشباب الروِش) وقتذاك؛ أن يحمل عددا من صوره بحافظته, فكان يُبرهن على حبِّه للفتاة بإعطائها إحدى صوره الخاصة.
ويسترجع لويس المنياوى كيف كانت تتم عملية التصوير قديما من خلال تَغطية الأفلام الفوتوغرافية بطبقة رقيقة من أيونات الفضة، وهى عديمة اللون. فعند تعرُّض الفيلم للضوء، تتحوَّل المناطق المعرَّضة من الفيلم الفوتوغرافى إلى اللون الأسود, وبطبيعة الحال، فإنه عند التقاط الصور، لا تتعرض جميع أجزاء الفيلم لنفس الكميات من الضوء، أى إن بعض المناطق تحصل على ضوء أكثر من غيرها، فتصبح بعض أجزاء الفيلم مظلمة جدًّا، وتكون أجزاء أخرى أقل ظلمة. وهناك خطوات إضافية ضرورية لتحميض الأفلام الفوتوغرافية لاستخراج الصور منها، فكانت عملية التصوير تحمل الطابع الفنى والتقنى؛ وربما هذا ما يجعلنا نتساءل: لماذا نعتبر التصوير فنا، ولماذا نحب الفن؟ ربما نراه فى بعض الأحيان تافها ساذجا لا يصلح لشيءٍ سوى بعض المتعة وتمضية الوقت. وربما لو تعمَّقنا أكثر لأجبنا بأننا نحبه لأنه يترك لنا مساحةً للتعبير وللتفكير. لكن أكثر ما سوف نصل إليه من إجابات فى حب الفن، أننا نحبه لأنه يدهشنا. الفن وحده لديه هذه القدرة. إنها مسحة إلهية قادرة على خلق وتجسيد لحظات حياتنا مره أخرى أمام أعيننا, وربما لو ذهبنا أبعد من الدهشة، فسنحتار كيف أن آلة موسيقية صغيرة قادرة على أن تضرب وجداننا من الداخل, أو أن شخصا يقف على خشبة مسرح ويصرخ فجأة، فيتجمَّد قلبنا, أو كيف لصوتٍ عذبٍ يُنشِد، أن يهذِّب أنفسَنا، ويروِّض وحشيتَنا؟ هذا هو الفن.
والفن الذى كان يحمله المصور ليس فقط فى طريقة التصوير التى تحتاج إلى مبدع وصاحب مزاج، كما يقول لنا شيخ المصوِّرين حكيم, ولكنه كان يحتاج إلى صبر شديد؛ فعند تعديل الصور يتم ذلك بقلم رصاص يمر على تجاعيد الوجه، لإخفائها بدقة متناهية بداخل الصندوق المظلم قبل طباعتها. وكانت هناك بعض الحركات المتَّفق عليها فى شكل العين والوجه حتى يبدو وسيما وأصغر وأجمل من هيئته.
ويُذكِّرنا شعار (كوداك) - أول كاميرا - الذى يقول: "أنت تضغط الزر ونحن نعمل الباقى"؛ هذا الشعار كان ينطبق كليا على تلك الفترة، أن الكاميرا تلتقط، والمصوِّر يفعل كل الباقى.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات