إلى أبى..

جميلة ويفي 05 مارس 2022 النقد السينمائي

الكاتب : جميلة ويفي


إلى أبى..
جميلة ويفى
عندما طلب منى الصديق الأستاذ الناقد (حسن شعراوى) رئيس التحرير التنفيذى لمجلة الفيلم, كتابةَ شهادتى عن والدى الراحل الناقد الكبير (محسن ويفى)، أصابنى هذا بالارتباك الشديد والحيرة لبعض الوقت؛ فكيف أستجمع قواى لأختصر وأوجِز فى سطورٍ, وإن طالت إلى عددٍ لا بأسَ به من الصفحات, حياةً كاملةً بينى وبين أبى، دامت سبعةً وعشرين عاما؟!
كيف أستطيع ألَّا أطيلَ على القارئ بتفاصيلَ ربما تكون ممِلَّةً وغيرَ مُهِمَّة بالنسبة له، ولكنها عندى هى تفاصيل حياة كاملة، شديدة الخصوصية، بل والقدسية، قضيتها مع أبى الرائع، فيها الكثير من الحب والعطاء والسعادة الشديدة والحنان الجارف، وربما لا تخلو أيضا من الحزن والانكسارات أحيانا؟ فرأيت أن تكون هذه (الشهادة) هى بمثابة البوح أو (الفضفضة)، وكأنه خطابٌ من القلب، أُرسِله إلى والدى فى عالمه ومستقرِّه الآخر.
مرت سنةٌ الآن على رحيلك يا أبى؛ وكل يوم فيها، عندما أستيقظ من نومى، وقبل النهوض من سريرى، أراك تأتى إلىَّ لتوقظنى، وتصبِّح علىَّ برقَّتك المعتادة، مقدِّما إلىَّ كوبا من (النيسكافيه)، المفضَّل لى، والذى طالما أعددته لى بنفسك لمدة سنوات، ولم تتوقف عن فعل هذا يوما، إلا عند دخولك المستشفى. أتذكَّر الآن آخر كوب نيسكافيه حَرَصْتَ أن تُعِدَّه لى. كان هذا قبل اكتشاف مرضك اللعين ودخولك المستشفى ببضع ساعات. كانت وقتها يدك وهى تحمل الكوب لى قد بدأت ترتعش قليلا من المرض، فانهرتُ أنا بالبكاء، وارتميتُ فى أحضانك، فابتسمتَ لى ابتسامتك الحنون المعتادة قائلا: "حاسس انى ممكن معرفش اعمله ليكى تانى"!
ربما يشعر القارئ بسخافة ما ذكرته الآن. ماذا يعنى هذا الكوب من (النيسكافيه) لتذكريه لنا الآن؟! لكن هذا الفعل لم يكن بالنسبة لى أو لوالدى مجرد عمل روتينى أو اعتيادى يقوم به أبى كل صباح! بل كنتَ يا أبى حريصا أن تنهض كل يوم لمدة سنوات قبلى، وقبل أن تغسل وجهك وتزيح عنك آثار النوم، تذهب إلى مطبخ بيتنا، لتتأكَّد من وجود مكوِّنات هذا الكوب (اللبن والنيسكافيه)، وعندما تُفاجَأ بعدم وجودهما، تذهب بلهفة، وأنت لا تزال بملابس البيت، إلى أقرب سوبر ماركت، وتُحضِر إلىَّ المكوِّن الناقص، لتُحَضِّر لى هذا الكوب قبل استيقاظى.
عندما أشاهد فيلما كنَّا قد شاهدناه معا، أسمع تعليقك على إحدى اللقطات، أو ربما ضحكتك على إحدى نكات الفيلم، أو قفشاتك التى طالما أهلكتنى من الضحك.
لقد علَّمتَنى يا أبى كيف أشاهد الفيلم، وكيف أستطيع قراءته. ربَّيت فىَّ هذا دون أن أعى أنا ذلك وقتها. لقد كنت تصطحبنى معك منذ كنت طفلة صغيرة إلى (جمعية نقاد السينما المصريين)- التى أصبحتَ أنت بعد ذلك رئيسا مُنتخَبا لها لسنوات متتالية – لأشاهد أفلاما خارج سياق ما يَعرضه التليڤزيون أو السينما وقتها، فتربيت على سينما متنوِّعة، وتعلمت آداب المشاهدة؛ فالجميع يصمتون عندما يُطفأ النور وتحل الظلمة، ثم تنير هذه الشاشة الضخمة، ليبدأ الحلم... الحلم الذى أدركت بعد ذلك أنه (الفيلم) وأنها (السينما). هذا الحلم الفريد الذى شكَّل كل وعيى ومستقبلى إلى الآن.
لا أتذكَّر أننى قد أُعجِبت بمشاهدة الكارتون فى طفولتى كسائر الأطفال، إلا فقط توم وجيرى، ربما لأنك أيضا كنت تحبه... لا أعلم. لكننى أتذكَّر أفلام طفولتى جيدا - إن جاز التعبير - (إجازة نصف السنة - لوكاندة المفاجآت - شارع الحب - الزوجة رقم 13 - أنا وماما وتراڤولتا - ماما الشغالة)، وغيرها من الأفلام التى ناسبت سنى وقتها؛ فكنت عندما أُعجَب بفيلم يعرض فى التليڤزيون، تذهب أنت وأمى لتحضرا لى نسخة شريط ڤيديو منه، فكانت لى مكتبتى الخاصة منذ طفولتى، التى كانت تضمُّ بعضَ شرائط الأفلام، وبعض الروايات والقصص التى كنت تقرؤها لى بصوتك الدافئ، قبل تعلُّمى القراءة. كانت مشاهدة الأفلام معك متعة لا تضاهيها أى متعة أخرى؛ فقد كنتَ صديقى المفضل الذى أذهب معه إلى السينما، منذ طفولتى إلى شبابى. وعندما كبرتُ، صادقتَنى وصادقتَ أصدقائى، ورافقتَنا إلى دور السينما والمهرجانات السينمائية وجميع الفعَّاليات الثقافية، التى كانت تقام فى السنوات الأخيرة، فكان جميع أصدقائى يعتبرونك أبا أستاذا معلما، بل وصديقا شخصيا لهم يحكون له أسرارهم الشخصية، ربما التى لم أعرفها أنا!
أتذكَّر سينمات وسط البلد التى شاهدت معك فيها الكثير من الأفلام؛ وبعد الفيلم كنا نتسكَّع معا فى وسط البلد، نأكل بعضَ المخبوزات الساخنة التى كنت تعشقها، من الأفران المحيطة، أو ساندويتشات الكبدة الإسكندرانى، لتبدأ أنت فى الحديث عن الفيلم، فلا تتوقَّف بنا المناقشة إلا وقد وصلنا إلى البيت، ثم نستكمل الحديث، لتدخلَ أمى فى النقاش معنا.
أتذكَّر عندما اخترت بكامل إرادتى أن ألتَحِق بالمعهد العالى للسينما (قسم الإخراج). كنت أنت قَلِقا أن تكون رغبتى فى العمل بالسينما مجرد نزوة عابرة، لحبِّى الشديد لها كمشاهِدة، أو تأثُّرا بك وبأمى، ولهذا اصطحبتَنى وقتها إلى بعض أصدقائك من مخرجين, وكُتَّاب سيناريو، ليؤكِّدوا لك إن كانت بى أى موهبة أم لا، أو إن كنت أصلح لدخولى المعهد أم لا. وعندما أكَّد لك الكثيرون صلاحيتى لدخول المعهد، كنت أنت مَن قدَّم لى أوراقى، بل وجئت معى إلى كل امتحان من امتحانات القبول بالمعهد، وعند قبولى بالمعهد كانت فرحتك عارمة ولا توصف. فلم تحب أبدا أن تجعلنى صورة طبق الأصل منك، بل فضَّلت على ذلك أن تساعدَنى أن أختار مَن سأكون عليه. حتى ميولك السياسية (اليسارية)، لم تفرضها علىَّ يوما. أتذكَّر أننى عندما رغبت فى أن أقرأ كتاب (رأس المال) لماركس، قلتَ لى: "إشمعنى؟! ده كتاب صعب، أنا نفسى ماقريتهوش كله"، فرددت بسذاجة أنا وقتها، وقلت لك: "لازم علشان أكون يسارية صحيحة، أقرا (رأس المال) أكيد"! ضحكتَ وقتها قائلا لى: "أنا متأكد إن نصف أقطاب اليسار ماقَروش (رأس المال). لكن عندك كتب أهم تقريها دلوقتى". وأردف: "عيشى تجربتك، واقرى فى فلسفات متنوِّعة، وبعدين اختارى". ورشَّحتَ لى أن أبدأ بـ (هيجل) ثم فلاسفة آخرين، قبل أن أركِّز فقط على ماركس. رغم (ماركسيتك) التى لم تُنكرها ولم تَخُنْها يوما، إلا أنك لم تُرِدْنى نسخةً طِبقَ الأصل منك، وإلا فسوف أتحوَّل إلى مجرد مسخ!
كنتَ صديقى المفضل الذى احتفظ دائما بجميع أسرارى. كنت أستشيرك دائما فى أمورى العاطفية، وكنت لا تجد أى غضاضة عند إلقاء بعض النصح لى (كصديق) بخصوص هذه المسائل. كنتَ دائما تحاول ألَّا يغلب عليك الحس الأبوى، الذى فيه بعض الاستبداد والتسلُّط، فكانت عَلاقتنا مزيجا من الصداقة والأبوة والحنان الجارف. ولكن أحيانا كان يتغلَّب عليك حسُّك الصعيدى، فأذكر أننى عندما كنتُ أروى لك موقفا، أو تصرُّفا أحمقَ قد قمتُ به، كنتَ توقفنى عن الكلام مبتسما لى قائلا: "ماتِنسيش انا صعيدى بردو"! فقد كنتَ مُعتَزا دائما بأصولك الصعيدية التى أخذت أجمل ما فيها من قيم، وهى الحرص على أسرتك، وحمايتها، وبذل كل غالٍ ونفيسٍ من أجلها؛ فقد كنت دائما تضحِّى فى سبيل أسرتنا الصغيرة بلا حدود، وبلا توقف، كأنك فقط كنت تعيش من أجلى أنا وأختى وأمى، ومن أجل بيتنا، فتجاوزت كثيرا عن سعادتك الشخصية من أجل سعادتنا جميعا كأسرة.
أتذكَّر أننى قد استعجبت كثيرا من مدى إيثارك وتضحيتك بكثيرٍ من الأشياء من أجلنا، وسألتك عن هذا، ولكنك أجبتنى بكل بساطة وبدون أن تُفكِّر قائلا: "ماينفعش كل واحد مننا يفكر فى نفسه! إحنا أسرة واحدة. وتحديدا أنا - أنا الأب - ماينفعش أفكَّر بس فى نفسى".
كانت هذه هى قناعتك الراسخة التى أدرتَ بها أسرتنا لسنوات، وهذه أيضا هى القناعة التى أدرتَ بها مؤسسة هامة فيها عدد كبير ومختلف من العقول والأجيال المختلفة مثل (جمعية نقاد السينما المصريين). كنتَ أيضا تمارس الإدارة، ولا تنتظر شيئا، غير نجاح الجمعية وازدهارها. غلب إيثارك دائما عليك، بل وتعفُّف نفسك واستغناؤها عن المصلحة أو الظهور، لدرجة أنه عندما كان للجمعية دور مهم فى مهرجان سينمائى أو غيره من الفعَّاليات الثقافية، كنت لا تحب أن تصعد إلى المسرح لتقول كلمتك بصفتك رئيسا للجمعية؛ فقد كنت تفضِّل دائما أن يكون مَن ينوب عنك فى الظهور! وكان هذا شديد الغرابة بالنسبة لى وقتها. لماذا أنت الذى تقوم بالجهد الكبير، لا تريد أن يظهر هذا للناس؟! لكننى أدركت بعد فترة، وتحديدا بعد رحيلك، أنك كنت تمتلك درجة عالية من القوة والثقة فى النفس، جعلَتْك تسمو كالصقر المتصوِّف، مترفِّعا عن أى مصالح أو أنانية!
أتذكَّر أيضا عندما أخبرتك برغبتى فى كتابة النقد السينمائى؛ قلتَ لى يومها: "بس اعرفى كويس ان الناقد المحترم مش بيكسب كويس، وانتى بتحبى تعيشى مرتاحة، أنا عارفك"! ضحكتُ يومها، ثم فكَّرتُ فى كلمتك مرات عديدة؛ فإنك لم تحاول أبدا أن تتكسَّب من مهنتك كناقد، أو تنافق، أو حتى تجامل أحدا! بل إنك احتفظت بوظيفتك كمحاسب، حتى تدرُّجِك فى الوظيفة لتصبح (مدير إدارة بإحدى هيئات القطاع العام)، إلى أن قدَّمت معاشا مبكرا، لكى تضمن لأسرتنا حياة مستقرة. وهذه كانت تضحية كبيرة منك أيضا؛ فلقد مارست الوظيفة التى أخذَت من وقتك الكثير والكثير لسنوات طويلة، لكى تؤمِّن لنا حياةً كريمةً، ولكى تستطيع أيضًا أن تحتفظ دائما بشرفك كناقد ومترجم، فلا تأخذك حاجتك إلى المادة إلى تنازلٍ هنا أو هناك! وإننى لم أتذكَّر أبدا أنك قد احتجت إلى المادة إلا فقط من أجلنا، أنا وشقيقتى مريم؛ فقد كنت دوما مستغنيا، مكتفيا بالقليل من كل شيء.
أعترف أننى لم أتفهَّم فيك هذا السمو إلا بعد فراقك، ولكننى وقتها كنت دائما ألومك على هذا (الاستغناء)، ولكنك كنت دائما تقول لى: "هتفهمى بعدين"!
وأنا أقول لك يا أبى الآن إننى قد فهمت كل ما لم أفهمه وقتها، بل كل ما لُمتك عليه وكان مصدر خلاف بيننا. فهمت تضحيتك الشديدة من أجلنا. فهمت عطاءَك لى حتى فى أبسط التفاصيل، وإن بَدَت بسيطة وصغيرة! أتذكَّر هذا الآن وأنا أحاول كل يوم أن أتغلَّب على أنانيتى، وحبى لذاتى, فصرت أقوم الآن بأغلب التصرُّفات التى كنت أنتقِدُها فيك؛ لأننى أدركت أنك كنت دائما على صواب؛ فقد كنت دائما الحنون المعطاء بلا حدود أو شروط، وكنت أنا ومريم لك زهرتَىْ حياتك، مثلما كتبت مُهدِيا لنا كتابك (سينما توفيق صالح). وكنت لنا أنت نِعْمَ الأب المتصوِّف فى حب عائلتك.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات