حوار مع الناقد التونسي الطاهر الشيخاوى

إسلام انور 05 مارس 2022 النقد السينمائي

الكاتب : إسلام انور


الناقد وظِلُّه
الناقد التونسى الطاهر الشيخاوى: الفن بالنسبة للناقد تجربة إبداعية وفردانية بالأساس قائمة على التساؤل والخيال والبحث والتفكير لا الإجابات

حاوره: إسلام أنور

شَهِدَت السنوات الماضية حضورا بارزا للناقد التونسى الطاهر الشيخاوى فى المشهد السينمائى العربى، وتحديدا الأوساط الشبابية من صنَّاع ومُحِبِّى السينما عبر كتاباته النقدية، وورش العمل التى ييسِّرها فى مجال النقد السينمائى، وبرامج وعروض أفلام السينما العربية التى ينظِّمها من خلال جمعية (أرخبيل الصور) التى يرأسها.
الشيخاوى، المولود عام 1954، تخرَّج فى مدرسة دار المعلمين العليا فى تونس، وعمل كأستاذ مساعد فى كلية الفنون والعلوم الإنسانية بجامعة (منوبة)، حيث درَّس الأدب، والحضارة الفرنسية، وتاريخ السينما، والنقد السينمائى. وفى السنوات الأخيرة، شارك فى تأسيس وبرمجة العديد من فعاليات السينما العربية مثل: (اللقاءات العالمية للسينما العربية) فى مدينة مارسيليا بفرنسا، و(ملتقى سينما شباب البحر المتوسط) فى مدينة الإسكندرية بمصر.

فى حوار مجلة الفيلم مع الطاهر الشيخاوى، نهدف للاقتراب أكثر من عالمه السينمائى، والتعرُّف على رحلته مع الفن السابع - عشقه الأول - منذ طفولته كما يَصِفه. كما نناقش العديدَ من الأسئلة عن ماهيَّة السينما، والكتابة النقدية، والعَلاقة بين النقَّاد وصنَّاع الأفلام، ورؤيته لواقع السينما العربية، وبخاصَّةٍ أفلام المخرجين الشباب التى تقدِّم موضوعاتٍ وأفكارا ومعالجاتٍ سينمائيةً مختلفة.
بدأت معرفتى بالناقد التونسى فى شهر يناير عام 2016، من خلال ورشة عمل بعنوان: (بروڤة واحد... ورشة تكوينية للنقد السينمائى)، استضافتها مؤسسة جدران للفنون بالإسكندرية، وبعدها تعدَّدَت اللقاءات والحوارات بيننا عن السينما، والأدب، والفلسفة، والحياة بشكل عام.
يفرض الشيخاوى حضورا خاصا بدون تكلُّف أو ادِّعاء، بملامحه التى ترسم بورتريها لرجل حكيم فى عَقده السابع، بوجه نحيل، وشعر أبيض، ونظارة طبية سميكة تُخفِى خلفها عينا واسعة وحالمة، وصوته الهادئ بلهجة تونسية مميزة، وثقافة موسوعية تظهر على استحياء فى حديثه.

فى اللقاء الأول من ورشة العمل، سألَنا الشيخاوى عن توقُّعاتنا؟ أنصت لجميع المشاركات، ودوَّن بعض الملاحظات فى ورقة صغيرة، ثم شرح منهجية عمل الورشة المقسَّمة إلى جزأين، أحدهما يتضمن برنامج مشاهدات لمجموعة من الأفلام والمقاطع السينمائية، والجزء الآخر يتضمَّن النقاشات والكتابات النقدية.
على عكس العديد من ورش الكتابة النقدية التى حضرتها، لم يكن الشيخاوى مشغولا بعملية الكتابة وآلياتها وأشكالها، ولا بالحديث عن مدارس وتاريخ السينما، بقدر ما كان تركيزه الأساسى على كيفية تلقى السينما، وجماليات الفن السابع، وتحديدا الجماليات البصرية؛ فالسينما بالنسبة له عبارة عن (حكاية) بصرية، والسؤال الأساسى الذى يشغله هو كيف يقدِّم المخرج هذه الحكاية عبر التصوير، والمونتاج، والموسيقى، وأداء الممثلين، والديكور، وغيرها من عناصر الفن السابع.

الصورة والنقيض
رغم قدوم الشيخاوى من قاعات الدرس كمحاضر جامعى، فإن فلسفته وأسلوبه ومنهجيته فى تدريس/ تيسير ورش العمل السينمائية فى الكتابة النقدية، أو برمجة الأفلام، مختلفة عن الطرق التقليدية للتدريس فى كثير من الجامعات العربية، مما يجعل تقييمات المشاركين فى ورش العمل شديدة التباين؛ حيث لا يوجد منهج ثابت، ولا معايير صارمة، ولا تدريبات محدَّدة لتطوير مهارات الكتابة النقدية؛ فكل ذلك يراه الطاهر سياجا وأسوارا تحدُّ من الإبداع والخيال، وتؤطِّر تجربة الكتابة، وتحوِّلها إلى واجب مدرسى مكرَّر وبلا معنى... مشيرا إلى أنه قبل سنوات كان الطلبة يأتون ليدرسوا معه، فكان يضع منهج ثابت يعملون عليه طوال العام؛ لكن مع مرور السنوات، لاحظ أنه رغم نجاح الطلبة فى الامتحانات، إلا أن وعيهم يبقى ثابتا فى مكانه، ويُعيدون إنتاج ما تعلَّموه دون أى إضافة أو معرفة حقيقية؛ لذلك قرَّر أن يتوقف عن هذه الطريقة، وأصبحت محاضرته تقوم على مشاهدة الأفلام، والتساؤل، والبحث، والتعلُّم سويا.
ويضيف: "لم يتفهَّم كثير من الطلبة فكرة العمل دون منهج ثابت ومحدَّد، معتمِدين على التساؤل، والبحث، والممارسة العملية، وإنتاج المعنى والمعرفة سويا، فرحلوا لأساتذة آخرين؛ لكن فى النهاية أدرك الطلبة القلائل الذين استمروا معى، ضرورة وأهمية أن يعبِّروا عن ذواتهم، ويبحثوا عن صوتهم المتفرِّد، وليس أن يكونوا صدى صوت لآخرين".
يستطرد الشيخاوى فى شرح رؤيته قائلا: "يمكن لأى شخص أن يذهب ويقرأ العديد من الكتب والمقالات، ويتعلَّم قواعد الكتابة وتقنياتها، ثم يشاهد الأفلام ويكتب عنها كلمات مقعَّرة بمصطلحات معقَّدة؛ لكن كل ذلك يبقى بلا قيمة، إن لم تكن علاقته بالسينما والأفلام قائمة على الحب، والتأمُّل، والتساؤل، والبحث سعيا وراء اكتشاف معانٍ، وجماليات، وأفكار، ورُؤى جديدة فى السينما، وفى الحياة بشكل عام".

ماهية النقد
فى إحدى ورش العمل التى حضرتها مع الشيخاوى، احتدم النقاش حول ماهيَّة محتوى ورشة العمل، وما هى الآليات والمهارات والأدوات التى مِن المفترض أن تقدِّمَها الورشة للمشاركين؟ بدت الأسئلة محمَّلة بانزعاج من طريقة إدارة الورشة. استمع الناقد التونسى إلى كل المداخلات دون أن يقاطع أحدا، جالسا فى وضعيته المعتادة، حيث يضع قدما على الأخرى، وينحنى برأسه قليلا إلى الأمام، ناظرا بتركيزٍ تارةً فى عين محدِّثه، وتارةً أخرى محدِّقا فى اللا شيء.
بهدوء، تحدَّث الناقد التونسى مُوَجِّها خطابَه إلى جميع المشاركين، حتى لا تتحوَّل الجلسة إلى نقاشات أو خلاف ثنائى، موضحا أن رؤيته للممارسة النقدية تنطلق من رؤيته للفن بشكل عام؛ فالفن بالنسبة له تجربة إبداعية وفردانية بالأساس قائمة على التساؤل والخيال والبحث والتفكير؛ وليس دور الفنان أو النقاد أن يقدِّم إجابات، وإنما دوره الأساسى هو التساؤل؛ مشيرا إلى أنه حتى الرؤى والأفكار والإنجازات التى تظهر فى الأعمال الفنية بالنسبة له، أصالتها مرتبطة بأن تكون نتاج العملية الإبداعية ذاتها، وليست سابقة عليها.
وأضاف: "فيما يخص المنهج وآليات العمل، هناك مناهج عديدة يمكن دراستها فى الجامعة أو على الإنترنت؛ ولكن فى ورشة مُدَّتها محدودة زمنيا، لن أستطيع الاستطراد فى شرح تاريخ السينما وشكل وآليات الكتابة النقدية"، مؤكدا على أن هذه المناهج، رغم أهميتها، لكن قيمتها الأساسية تأتى من رؤية وأفكار وتساؤلات وطريقة التذوق الخاصة بكل ناقد، وهو ما يحاول العمل عليه. وحتى نتيجة هذا العمل غير مضمونة، وقد لا تظهر فى حينها؛ فرحلة الإنسان وتلقِّيه للفنون تختلف وتتطوَّر مع مرور الزمن، وليس بشكلٍ لحظِىٍّ وآنِىٍّ".

سُلطوية النقد
ينزعج الطاهر للغاية من صورة الناقد الراسخة فى أذهان مجتمعاتنا العربية بوصفه قَيِّما على العمل الفنى، مشيرا إلى أن هذه الصورة السلطوية أفقدت الممارسة النقدية معناها، وحوَّلَت الناقد إلى قاضٍ على منصَّةٍ لم يُخَوِّلْه أحدٌ الجلوسَ عليها، ولا يحقُّ له أن يجلس عليها؛ فالناقد فى النهاية متذوِّق للفن مثله مثل الجمهور، والفارق الوحيد أنه يكتب ويعبِّر عن انطباعاته الشخصية تجاه العمل.
يقول الشيخاوى: "الناقد ليس معلما ولا قاضيا؛ وممارسة النقد لا يمكن تعلُّمها بوصفِها مادةً تعليميةً مكرَّسةً لها قواعدُ أساسيةٌ وحدودٌ واضحةٌ مثل العلوم والرياضيات؛ فالأمر بالنسبة له قائمٌ فى الأساس على الذائقة والرُّؤية الشخصية؛ فما قد يُعجِب شخصا، قد يكون مُزعِجا للآخر، والعكس صحيح فى الكتابة النقدية".
ويضيف: "الناقد فى عالمنا العربى - وهذه قضية مرتبطة ببنية المجتمع وتاريخنا وثقافتنا - دوما يُصوَّر على أنه سُلطة، وشخص يعرف أكثر من الجمهور، وقاضٍ يحكم على العمل السينمائى، فيقول هذا جيِّد، وهذا سيئ، وذاك عظيم... إلخ. وهذا أمر غريب، ويقضى على العملية الفنية القائمة فى الأساس على الخيال وكسر الأطر التى تم تكريسها بوصفها قواعد وقوانين لا يجب الخروج عليها"... موضِّحا أن هناك حضورا غزيرا لمختلف أشكال السلطوية فى مجتمعاتنا العربية؛ فهناك فصل بين الحاكم والشعب، المبدع والجمهور، الفقيه والعَوَامّ؛ الأول يملك المعرفة والسلطة، والآخر مطالَب بالإذعان وتلقى الأوامر. لذلك عندما نتحدَّث عن ضرورة وأهمية أن يكون هناك ديمقراطية، فنحن لا نعنى فقط الممارساتِ السياسيةَ، ولكن الأمر ينسحب على كافَّة جوانب الحياة، بحيث تصبح السلطة معبِّرة عن الشعب، وكذلك السينما وصنَّاعها يدركون أن إبداعهم لا يمنحهم مكانة أعلى من الجمهور".

ويكمل: "النقد بالنسبة لى مثل الحب تماما. لا يمكن أن أرتبط بامرأة لا أحبها، وكذلك لا أكتب عن فيلم لا أحبه. لذلك أستغرب عندما يكتب أحدهم عن فيلم ويقول إنه سيئ ولم يعجبه، وكان على المخرج أن يفعل كذا والممثل كذا والمنتج كذا. ومن يفعل ذلك أقول له: إذا لم يعجبك ذلك العمل السينمائى، يمكنك ببساطة أن تذهب وتجلس مكان صنَّاع الفيلم، طالما لديك الجرأة لتملى عليهم ما كان يجب أن يفعلوه".

جنة السينما
على مدار لقاءات عديدة، يتوقَّف الشيخاوى فى وسط حديثه ليؤكد على فردانية الإنسان، وأن ما يقوله ليس نظريات علمية مجرَّدة، وإنما هو رأيه الشخصى وتصوُّره عن السينما؛ عالمها الذى عشقه منذ طفولته وغير مجرى حياته تماما؛ فهو مَدِين للسينما بكلِّ ما وصل إليه، مشيرا إلى أن والده كان يُقدِّس التعليم المدرسى، والمدرسة كانت نسخة مماثلة من البيت، وفى الطريق بينهما كانت تقع دار السينما؛ لذلك كانت السينما هى المكان الذى يهرب إليه فى طفولته، ليحقق رغباته التى عجز عن تحقيقها خارجها، ومن هنا بدأ عِشقه للسينما.
هذه العَلاقة الخاصة مع السينما، يرى الشيخاوى أنها المدخل الرئيسى للكتابة بالنسبة له؛ فهو لا يستطيع الكتابة عن فيلم لم يَلمُس شيئا بداخله؛ لذلك لا يرى فى الكتابة الذاتية أو الانطباعية تهمةً أو عيبا، بل بالعكس يرى أن الكاتب ليس آلةً مجرَّدةً، ولكنه إنسان لديه حس ومشاعر تجاه ما عاشه فى الفيلم، وتلك هى النقطة المركزية التى تُولَد عبرها عملية الكتابة من وجهة نظره.
يقول الشيخاوى: "ولكن هذا لا يعنى أن عملية الكتابة هى فعل ذاتى ومجرَّد تماما؛ فالناقد من الضرورى أن يكون لديه ثقافة عامة، ومعرفة سينمائية، وقدرة على رؤية ما تحيل إليه الصورة. فالصورة فى السينما ليست كالفوتوغرافيا، لحظة مقتطعة وثابتة، ولكنها صورة متحرِّكة يظهر معناها عبر سياق من الصور السابقة واللاحقة؛ فهى لحظة تحمِل بداخلها فردانيتها، ولكنها فى ذات الوقت داخل سياق أوسع، وهذه واحدة من الخصائص المميزة للسينما فى قدرتها على أن تجمع بين الفردانية والمجتمع".
الشيخاوى المقيم فى مدينة مارسيليا بفرنسا منذ سنوات، يبدو متأثرا كثيرا بالمدرسة الفرنسية فى النقد السينمائى؛ لكنه لا يُنصِّب روَّاد هذه المدرسة مثل أندريه بازين، وجيل دولوز، وفرانسوا تروڤو، وغيرهم، كآلهة لا يمكن المساس بها، بل بالعكس يشير دوما إلى أن تنظيراتهم السينمائية تظلُّ محل تساؤل واختلاف ويمكن قبولها وتطويرها، أو رفضها؛ ففى النهاية، نحن بصدد عمل فنى، لا نصوص مقدَّسة.
يُوضح الشيخاوى فكرته قائلا: "ننسى كثيرا أن الفعل يسبق الوصف، والأفلام السينمائية تسبق النظرية، ومن هنا نقع فى خطأ متكرر، بأن نَدخل إلى الفيلم بتصوُّرات مسبقة، وأفكار ونظريات نحاول تطبيقها على العمل، مما يجعلنا نرى شيئا آخر غير الفيلم المعروض أمامنا. لذلك أحاول دوما رؤية العمل السينمائى من داخله، من اللحظة الخاصة جدا التى نجلس فيها فى قاعة السينما منعزلين عن العالم، وكأننا فى حياةٍ أخرى داخل الفيلم الذى نشاهده".
سينما جديدة
يسعى الشيخاوى منذ سنوات لبناء شبكة من المؤسسات الثقافية، وصُنَّاع السينما العربية، تعمل على إتاحة وتطوير مهارات الشباب بمختلف الفنون المرتبطة بالسينما من إخراج، وتصوير، وبرمجة أفلام، وكتابة نقدية، وكذلك تسليط الضوء على الأفلام العربية الجديدة والمختلفة، التى رغم نجاحها على المستوى النقدى وفوزها بالعديد من الجوائز السينمائية، قد لا تجد مكانا فى دور العرض السينمائية، وخاصةً السينما التسجيلية أو الأفلام القصيرة.
وخلال السنوات الماضية، شارك الشيخاوى فى تنشيط العديد من المبادرات السينمائية، من أبرزها ملتقى (لمسات أولى... سينما شباب المتوسط) القائم على فلسفة التفاعل وتبادل الخبرات والمعرفة بين مختلف الفاعلين فى مجال السينما من صنَّاع الأفلام والنقَّاد والجمهور والمؤسسات الثقافية، بهدف تسليط الضوء على سينما الشباب العربى.
يقول الشيخاوى: "معظم الأنشطة الثقافية العربية تعانى من سيادة مفهوم الإتاحة على حساب المشاركة، وهذا ما نحاول تغييره من خلال الأنشطة التى نشارك فى تنظيمها، فنحرص على وجود مجموعة من ورش العمل فى النقد والإخراج وبرمجة الأفلام، كما نتطلَّع إلى بناء حالة من الحراك السينمائى فى مختلِف الدول العربية؛ حيث بدأنا فعاليات سينما شباب المتوسط من تونس، وانتقلنا إلى الاسكندرية، ومن الإسكندرية إلى بيروت، ومن بيروت إلى الجزائر، وهكذا".
فى ختام حديثى مع الشيخاوى، أسأله عن رؤيته لواقع ومستقبل السينما العربية، وخاصةً فى ظل علاقته الوطيدة ومتابعته المستمرة لإنتاج المخرجين الشباب. يشير الشيخاوى إلى أن الصناعة تطوَّرَت كثيرا على مستوى الأدوات والتقنيات والأفكار والرؤى السينمائية خلال العقدين الماضيين، ويضيف: "هناك جيل جديد من المخرجين العرب يقدم سينما مختلفة، وتحظى أفلامهم بتقدير كبير فى المهرجانات العالمية، لكنها تفتقد غالبا فرصَ العرض فى قاعات السينما التجرية، وهذا يخلق فجوةً نحاول بناءَ جسرٍ لتجاوزها".

 
 
 

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات