بعد المؤلف والقارئ.. هل مات الناقدُ أيضا؟

عصام زكريا 05 مارس 2022 النقد السينمائي

الكاتب : عصام زكريا


النقد السينمائى فى العالم
بعد المؤلف والقارئ.. هل مات الناقدُ أيضا؟
عصام زكريا

مقدمة لا بدَّ منها..
ما الذى يمكن قوله اليوم.. ولمن.. ولماذا؟
هذه هى الأسئلة التى بات على أى ناقد سينمائى جاد أن يتوقف ليوجّهها إلى نفسه اليوم.
فى عالم (ما بعد بعد الحداثة)، حيث مات المؤلف وماتت السينما ومات الجمهور، ما الذى يفعله النقاد هنا، غير أنهم مستمرون فى كتابة مقالات لا يقرؤها أحدٌ، ولا يرغب فى وجودها أحدٌ، لا الصناعة السينمائية ولا المؤسسات السياسية والاجتماعية ولا القرَّاء الذين تتوسَّل إليهم هذه الكتابات؟
ما الذى يفعلونه غير الاستمرار فى ممارسة مهنتهم سعيا وراء كسب الرزق والسفر إلى المهرجانات ومصاحبة النجوم والنجمات، أو على أفضل تقدير، من أجل المتعة الشخصية الناتجة عن التواصل مع أصدقائهم وزملائهم من محبى السينما؟
ما الذى يفعله الناقد السينمائى فى بلدٍ نامٍ، نائمٍ، تنهار فيه معالم السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة، حيث يتحوَّل البشر إلى طفيليات تعيش يوما بيوم على فُتاتِ ما يصل إليهم من رأسمالية تابعة، معاقة، قابعة أسفل سلم الحضارة، لا تستطيع النهوض من كبوتها المزمنة؟
الناقد السينمائى فى مثل هذا البلد كائن غير مرغوب فيه، لا من السلطة، ولا من الوسيلة الاعلامية التى يعمل فيها، ولا من القائمين على صناعة السينما، ولا القراء الذين يتوسل إليهم بكتاباته، إلا إذا كان منافقا أو موهوبا فى العلاقات العامة، يسعى إلى كسب رضاء وود كل هؤلاء.
كيف للناقد الجاد، الذى يؤمن بمهنته، أن يجد طريقه فى عالم اليوم، خاصة إذا كان يعيش فى بلد متخلف عن ركب الحضارة، فى ظروف غير مواتية بشكل مضاعف؟
هل يمكن أن يعثر على صوته وجمهوره ودوره المقدر له أن يلعبه؟
ما الذى ينبغى عليه أن يقوله، ولمن، وكيف؟
بداية النقد... ونهايته
منذ حوالى ثمانين عاما، كتب الشاعر والمنظّر الأدبى الإنجليزى الكبير (تى. إس. إليوت) فى كتابه المرجعى (نفع الشعر ونفع النقد):
"يمكننا بصفة عامة أن نفصل النقد منذ البداية، لا حسب أنواعه، بل حسب اتجاهاته، وهى اثنتان. فالنقد هو ذلك المجال الفكرى الذى يهدف إمَّا إلى تحديد ماهية الشعر وفوائده والرغبات التى يشبعها ولماذا يُكتب أو يُقرأ أو يُسمع، وإمَّا يفترض (بوعى أو دون وعى) أننا ندرك هذه الأشياء جميعها، فيقبل على تقييم الشعر الحقيقى. وقد يتناول النقد الجيد أمورا أخرى سوى هذه، ولكن هذه هى التى يسمح له بها. فالنقد بطبيعة الحال لا يكتشف أبدا ما هو الشعر، بمعنى تحديد تعريف كامل له، كما لا يمكن أن يصل النقد إلى تقييم نهائى للشعر مهما كان. ولكن هناك حدَّين من الوجهة النظرية للنقد، نحاول بالنسبة لأولهما أن نجيب على سؤال: «ما هو الشعر؟»، ونحاول بالنسبة للآخر الإجابة على سؤال «هل هذه قصيدة جيدة؟»" (1).
لا مجال هنا لاستعراض تاريخ مهنة النقد والتطورات التى لحقت بها على مر العصور. يقال إن أرسطو، المولود عام 384 قبل الميلاد، هو أول ناقد فنى فى العالم قام بدراسة الآثار المسرحية والشعرية فى عصره، ووضع قواعد الدراما فى كتابه (فن الشعر) المكتوب عام 335 قبل الميلاد.
(فن الشعر) كتاب ينتمى إلى فلسفة ونظرية الفن، حيث كان علم الجمال يشكل أحد المباحث الأساسية للفلسفة، بجانب الحقيقة والأخلاق؛ لكن النقد، بمعناه الشائع الآن، هو نشاط حديث، ولد مع نشأة وتفرُّع وتطوُّر الفنون والعلوم الإنسانية، فى الغرب الأوروبى تحديدا، منذ عصر النهضة فى القرن الرابع عشر، وظل مرتبطا بالفلسفة، ولم يصبح مهنة مستقلة إلا فى القرن التاسع عشر، مع الميل إلى التخصص العلمى وزيادة حركة النشر وظهور الصحافة ووسائل الاتصال الحديثة. وتجلت مهنة النقد كأفضل ما يكون فى النقد الأدبى، حيث يعتمد كل من الأدب (الشعر والمسرح والرواية والقصة) ونقده على وسيط واحد هو (اللغة)، على عكس بقية الفنون مثل الموسيقى والتصوير والعمارة.
مع انتصاف القرن التاسع عشر، توالى ظهور مذاهب وتيارات متعاقبة من الفنون، متزامنة مع نشأة الثورة الصناعية، ومتأثرة بالتغيرات السريعة المتلاحقة فى البِنَى الاجتماعية والسياسية وأنماط الحياة والأفكار الفلسفية المصاحبة وتطوُّر العلوم الطبيعية ونشأة العلوم الإنسانية الحديثة مثل علم النفس والاجتماع وغيرها، ومع ما كشفته هذه العلوم من معارف واختراعات وأفكار قلبت عقل البشر وطرق تفكيرهم ونظرتهم للعالم ولأنفسهم وسط هذا العالم.
هذه الاكتشافات العلمية الحديثة تركت آثارها على كل الفنون وأشكال إنتاجها واستهلاكها؛ ويكفى مثلا أن نتأمل ما تركه اختراع المطبعة واختراع المصباح الكهربائى على الثقافة وأنماط الحياة بشكل عام.
دارون وفرويد وماركس... آباء النقد الحديث
فى مجال النقد، كان لظهور علم النفس الحديث على يد سيجموند فرويد وتلاميذه فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر تأثيرٌ مُدَوٍّ على الطريقة التى يُقرأ بها الشعر والأدب، والأهم من ذلك فكرة الاحتياج إلى (محلّل) لقراءة النصوص مثل المحلل النفسى الذى يقرأ نفوس مرضاه. وقد اكتسب تعبير "المعنى فى بطن الشاعر" القديم معانىَ جديدةً، على رأسها فكرة أن العمل الفنى له عقل ومعنى باطن يحتاج لمن يفكُّ شفرته، مثلما قام شامبليون بفك شفرة الكتابة الهيروغليفية على حجر رشيد.
تأثير آخر هائل أحدثته الفلسفة الماركسية وكتابات ماركس وإنجلز ولينين التى أرجعت ما يصدر عن الفكر من آراء وإبداعات وفنون باعتبارها تجلّيَات للظروف والمصالح الطبقية لصاحب هذه الآراء أو الإبداعات، أو تجلّيَات لموقفه من الصراع الطبقى فى مجتمعه. ومنذ ذلك الحين، أصبح تحليل الأعمال الفنية من منظور اجتماعى جزءا لا ينفصل من نظريات النقد الفنى المتعاقبة.
وقبل ماركس وفرويد، كان لاكتشاف عالم البيولوجى دارون لنظرية النشوء والارتقاء أثر حاسم فى طريقة النظر إلى المنتجات الفكرية والإبداعية وأجناسها وقوالبها، باعتبارها كائنات تتطور أو تنقرض. وحتى طريقة دارون فى تحليل الهياكل العظمية والهندسة الوراثية للنباتات والحيوانات وجدت معادلها فى دراسة وتحليل الآثار الأدبية.
وقد شهدت بداية القرن العشرين، مع ظهور فن السينما وصعوده، منافسة حادة بين المذاهب النقدية الثلاثة، التى استمدَّت أفكارها من علم الأحياء، وعلم النفس، والماركسية. وهذه المذاهب تجلَّت فى (المدرسة الشكلية) التى تُعنَى بتحليل الأشكال والبِنَى والنماذج والوحدات، و(مدرسة التحليل النفسى) التى تُعنَى بتحليل المعانى المكبوتة التى يتضمنها نص فنى ما، و(التحليل الاجتماعى) للعمل الفنى.
ومثلما كان القرن العشرون مليئا بالحروب السياسية الكبرى، فقد شهد أيضا صراع المذاهب الفنية والنقدية الكبرى، بشكل لا يمكن فصله عن الصراعات السياسية فى المجتمعات التى ظهرت فيها هذه المذاهب.
وبشكل عام، يمكن تقسيم هذه المدارس النقدية إلى تصنيفين رئيسين: الأول هو المذاهب التى نشأت عن (الحداثة)، وهى امتداد لأفكار عصر النهضة والتنوير والثورة الصناعية. وهذه المذاهب متفائلة بمستقبل البشر، تؤمن بوجود الحقائق وقدرة العقل على الوصول إليها، كما تؤمن بحتمية التقدُّم وبالخير المتأصّل فى الإنسان. أما الفئة الثانية فنابعة من حجم الدمار والموت والمعاناة التى تسببت فيها الحروب ومظاهر الاستغلال والظلم، مما أدَّى إلى اليأس من إمكانية الإصلاح أو الاعتماد على العقل أو على الإنسانية. وهذه المذاهب ترى أنه لا يمكن العثور على الحقيقة، لأنها نسبية، أو لأنها غير موجودة أصلا.
نظريات النقد السينمائي
فى المقابل، ساهمت المؤثرات الاجتماعية والثقافية والمذاهب الفلسفية والفنية المتعاقبة، وما يُعرف بـ (النظريات الكبرى للنقد) التى انتقلت من الأدب والفنون الأخرى إلى السينما، فى ظهور عدد من المدارس النقدية السينمائية. فيما يلى استعراض لأهم هذه المدارس:
النقد الاجتماعى
وهو مستمد من مدرسة (الواقعية الاجتماعية social realism)، التى انتشرت فى مجال الفنون فى أوروبا، ثم اتخذت شكل (الواقعية الاشتراكية socialist realism) فى الاتحاد السوڤييتى، وهو اتجاه ينحو إلى تحليل وتقييم أى فيلم بمدى (صِدْقِه) فى التعبير عن الواقع، وقدرته على طرح الظواهر والقضايا الاجتماعية، مثل الفقر أو الاستغلال، خاصةً عندما يتسلَّح الناقد ببعض الأفكار الماركسية فى تحليل الظواهر الاجتماعية. والنموذج (الجمالى) الأعلى لهذا النقد هو الفيلم الذى يساهم فى التوعية والتحريض والحث على النضال.
لكن النقد الماركسى مر على مدار القرن العشرين بالكثير من المحطات والتطورات والتحالفات مع تيارات أخرى مثل البنيوية والنسوية وما بعد الكولونيالية التى تدرس مجتمعات ما بعد الاستعمار، كما تخفف كثيرا من (يساريته)، وغلبت عليه (الاجتماعية) مع تراجع وسقوط الأنظمة (الاشتراكية).
النقد الشكلى أو السياقي
ويطلق عليه فى مجال السينما (الفيلمولوجى)، باعتبار أنه يدرس الفيلم كظاهرة أو علم. وقد تأسس هذا النقد على يد المخرجين الروسيين مثل (إيزنشتين) و(ڤيرتوڤ)، ولكنه شهد الكثير من التطورات والتحولات على يد الشكلانيين الفرنسيين والأمريكيين. وتستمد هذه المدرسة أفكارها من علم الأحياء، ثم علم دراسة الشعوب (الأنثروبولوجى)، خاصة تطبيقاته على يد باحث الفلكلور (ڤلاديمير بروب) فى كتابه (فورمولوجيا الحكاية الشعبية)، و(كلود ليڤى شتراوس) عالم الأنثروبولوجى ومؤسس البنيوية، و(جوزيف كامبل) عالم دراسة الأساطير، الذى كشف عن آثار وقوة الأسطورة فى المجتمع والفن المعاصر، ثم على يد عالم الاجتماع (دى سوسير) مؤسس علم العلامات أو (السيميولوجيا).
وإذا كان النقد الماركسى يهتم بالمضمون على حساب الشكل والتقنية، فإن النقد الشكلانى يركز على التقنية أكثر من المضمون، إلا من خلال تقييم علاقة الأسلوب واللغة السينمائية بالتعبير عن هذا المضمون. ومثلما يتعامل نقاد الأدب مع النص باعتباره حدثا لغويا، فإن النقد السينمائى الشكلى يتعامل مع الفيلم كحدث سينمائى، يتكوَّن من مجموعة من الصور والوحدات التى تربطها علاقات ظاهرة أو خفية عبارة عن شفرة أو لغة غير منطوقة بين المبدع والمتلقى، وذلك عن طريق التصوير والمونتاج وبقية العناصر السينمائية.
ويمكن أن نجد نماذج بسيطة وجيدة من أعمال هذه المدرسة فى كتاب مثل (خفايا نظام النجم الأمريكى)، تأليف (بول وارن)، المخصص بالكامل لدراسة لقطة رد الفعل، أو دراسة (برايان هندرسون) عن (اللقطة الطويلة)، أو مقال (ليڤى شتراوس) الشهير عن اللقطات المقربة لوجه (جريتا جاربو)!
النقد النفسى
أو التحليل النفسى للنص السينمائى. كان فرويد أول من تعامل مع منتجات إبداعية مثل مسرحيتى (أوديب) و(هاملت)، أو أعمال (ليوناردو داڤينشى) التشكيلية، كما يتعامل مع (أحلام) و(تخييلات) مرضاه النفسيين. وهو أول من تعامل مع الأحلام باعتبارها تعبيرا (إبداعيا) عن ذات الحالم أو الفنان، ومع العمل الفنى باعتباره حلما جماعيا، يعبر عن لاوعى الجماعة التى "تستهلكه".
وقد تطورت أفكار فرويد على يد نخبة من تلاميذه الذين اختلفوا معه، ولكنهم احتفظوا بالمنهج والطريقة فى التحليل، بدايةً من (كارل يونج)، و(إيريك فروم)، و(جاك لاكان)، وصولا إلى مدرسة التحليل النفسى الجديدة، والكثير من أعمال الناقدات النسويات.
النقد الأسطورى
أو نقد النماذج العليا archtypes، وهو نوع مهم ومثير جدا غير معروف للأسف فى العالم العربى، وإن كان هناك بعض الدراسات التى طبقت هذا المنهج فى مجالى الأدب والشعر. ويستمد المنهجُ جذورَه من أبحاث علماء الأنثروبولوجى، مثل (جيمس فريزر) و(ليڤى شتراوس)، بجانب نظريات عالم النفس (كارل يونج) حول النماذج البدئية للَّاوعى، وذلك من أجل دراسة المنتجات الثقافية باعتبارها تعبيرا عن مجموع الأساطير والنماذج الأسطورية البدائية التى تحكم عقل مجتمع ما، مثل أساطير الموت والبعث، أو نموذج المرأة غاوية الرجال، أو البطل المنتظر. ويرى أنصار هذه النظرية أن الأعمال الأدبية والفنية تتشابه وتتكامل عبر العصور والحضارات لترسم لوحة جدارية كبيرة لعقل الإنسان وتصوراته عن العالم.
الاستشراق والاستغراب وما بعد الكولونيالية
على نقيض مذهب (الاستشراق)، الذى ابتكره المفكر الفلسطينى إدوارد سعيد، يسعى النقد (الاستغرابي) إلى دراسة صور الغرب فى عيون وفنون الشرقيين. وهو مذهب حديث نسبيا، ومهم بالنسبة لنا، ولكن الأعمال التى ظهرت فيه فى مجال علم الاجتماع والنقد الأدبى قليلة جدا، وشبه معدومة فى مجال السينما، على حد علمى. ويتخصص نقد ما بعد الاستعمار أو الكولونيالية فى دراسة الفنون فى البلاد التى كانت تحت الاستعمار وتأثير الصراع الحضارى عليها.
التحليل الثقافي
كل المدارس السابقة وغيرها شهدت مراجعات وتطورات، كما استفادت من بعضها البعض وامتزجت فى بوتقةٍ واحدةٍ حتى بات الناقد أو محلل الأعمال الفنية يستخدمها كأدواتٍ دون تقديس أو تفضيل إحداها على الأخرى، وهو ما يُعرَف بـ (مدرسة التحليل الثقافي)، التى تتعامل مع المنتج الفنى باعتباره حدثا (اجتماعيا)، وتهتم بدراسة رد فعل المتلقى، والمعانى التى تتولد فى ذهنه من العمل، ومن ثم تركيزها على الأعمال الجماهيرية، لا النخبوية. ونقاد أو باحثو هذه المدرسة يستخدمون أدوات من كل المدارس السابقة وغيرها، لدراسة المنتج الثقافى من عدة جوانب.
ما بعد الحداثة... وما بعدها
شهد القرن العشرون، منذ عَقده الثانى، عمليات هدم متتالية لأفكار الحداثة، يرجع بها البعض إلى أعمال الفيلسوف الألمانى (نيتشه) فى نهاية القرن التاسع عشر. ومن أهم المدارس النقدية التى نشأت عن انهيار الحداثة التفكيكية: (ما بعد البنيوية)، و(ما بعد الحداثة)، التى تتجلى فى أعمال مفكرين مثل (ميشيل فوكو)، و(جى ديبور)، و(جاك بودريار)؛ ويحتاج الأخير منهم إلى وقفة خاصة؛ لأنه يتحدث عن صلب المأزق الذى نعانى منه اليوم.
أبرز ما فى (ما بعد الحداثة) هو تأكيدها على غياب الثبات عن معنى الأشياء. وبالرغم من أنها تنتقد، مثل الماركسية، آثار الحداثة الرأسمالية السلبية، وعبثية الحياة فى المجتمع الاستهلاكى الراهن، إلا أنها تحتفى بهذه الحياة بشكل كوميدى ساخر، نزع عنه مرارة الالتزام السياسى، وهى تدرس تأثير مجتمع اليوم على مفاهيمنا عن الهوية والنوع الجنسى والطبقة الاجتماعية. و(ما بعد الحداثة) تركز على الفنون (الجماهيرية) مثل الأغانى والسينما والمسلسلات وبرامج المسابقات وبرامج الواقع، وتعطى اهتماما بالغا بالصور، خاصة الصور المتحركة عبر شاشة التليڤزيون والسينما.
وإذا كانت (ما بعد البنيوية) ترى أن الواقع بناء لغوى، ليس له أصل، فإن (ما بعد الحداثة) تهدم التصورات الحداثية عن الحقيقة والعقل والتقدم، وترى أنها ابتداعات غربية ونتاج لنظرة محددة إلى ما يُعَدُّ معقولا أو حقيقيا أو تقدُّميا، ولكنها ليست أفكارا كونية متعدّية للتاريخ كما يرى الغرب (2).
وقد قام (جى ديبور) فى كتابه (مجتمع الفرجة)، و(جان بودريار) فى الكثير من أعماله، بدراسة المجتمع (ما بعد الحداثى)، ووصَفَاه بأنه (مشهد) أو (فرجة) spectacle، وأن المجتمع الحديث هو مجتمع (مشهدي) يقوم على استهلاك السلع التى تخطف الأبصار.
رأى (بودريار) أن الحقبة التى تنطبق عليها المفاهيم الماركسية مثل (الاغتراب) و(الفتيشية السلعية) قد عَبَرَت، وأننا غارقون فى عالم (ما بعد حداثى)، لم يعد فيه المشهد هو الوهم، بل الشىء الواقعى.
وعند (بودريار)، فإن النمو المتسارع فى الاتصالات الجماهيرية، على هيئة التلفاز متعدد القنوات، عالمى النطاق، الذى يبث على مدار 24 ساعة، والنمو المتسارع فى تكنولوجيا المعلومات والإنترنت، قد ولد حملا زائدا من المعلومات. أما الأثر المترتب على ذلك، فيتمثل فى (نزع استقرار المعنى). إن هناك الكثير من صور الحقيقة، لدرجة الشك فى فكرة وجود عالم واقعى يمكننا أن نعلم حقيقته. وبلغةِ ألسُنِيَّةِ (دى سوسور)، فإن العلاقة المستقرة بين الدال والمدلول قد تحطَّمت، وأصبحنا نعيش فى عالم تتوالد فيه الدوالُّ حتى باتت "تعوم حرَّة". وقد بات الدالُّ من هؤلاء قادرا على أن يقيم عَلاقات عابرة للحدود مع دوالَّ أخرى.
وحتى نبسّط هذه الفكرة، هناك المثل الذى يضربه (بودريار) عن صورة (مارلون براندو) فى فيلم (العراب) المعلقة على حائط مطعم للأكلات الايطالية فى جنوب إنجلترا، باعتبارها (دالًّا) على الثقافة الإيطالية!
وبحسب بودريار، فإن الصور لم تعد مقيَّدة إلى أى شىء محدد أو نوعى فى العالم الواقعى، بل باتت تتحرَّك هنا وهناك بسيولة، قافزة عبر حدود الواقع التقليدية.
ويضرب ما بعد الحداثيون نموذجا من برنامج تليڤزيونى مثل (ستار أكاديمي)، يأتون فيه بمغنّين هواة يتنافسون عن طريق تقليد الأغانى القديمة الشهيرة، حتى إن الجمهور لا يعلم فى النهاية هل هو يصوّت لواحدٍ من هؤلاء الهواة، أم للمطرب القديم! وتتلاشى الحدود بين الأصل والصورة، فلا نعرف كيف نفرّق بينهما.
إن رؤية (بودريار) الكابوسية تتحقق كل يوم، وكلماته التى قيلت منذ ربع قرن تزداد انطباقا على الواقع، أو بمعنى أدق يزداد الواقع محاكاةً لها كل يوم، فى عصرٍ قامت فيه وسائل الإعلام ووسائل الاتصال بتحويل كل شىء إلى (واقع افتراضى) وصور متتابعة متناقضة فى سيل لا ينقطع، انفجرت فيه المعانى، وسادت هَيولَى من الفوضى، لا مهرب للناس منها سوى الانغماس أكثر فى هوس الاستهلاك. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية وكارثة ڤيروس (كوڤيد 19 المستجد)، والأزمات السياسية المتلاحقة، تزداد عبودية الإنسان لرأس المال والآلة والأجهزة الإلكترونية الصغيرة والصور التى تبثها، بما فيها السينما السائدة.
نقد النقد السينمائى
أفرزت (ما بعد الحداثة) تعريفات فى النقد منها (موت المؤلف) و(موت القارئ)، غالبا ما يقصد بها غياب المعنى الواحد المحدد عن النص، وعدم قدرة النقد على تقييم عمل ما بشكل قطعى، بما أنه لا يوجد اتفاق على ماهية الشعر أو السينما، أو قيمة هذا الشعر أو الفيلم.
ولكن إذا كان من غير الممكن للنقد أن يجيب عن سؤالَىْ (تي. إس. إليوت): "ما هى السينما؟ وما قيمة فيلم ما؟"، فما الذى يبقى من النقد؟!
مع نشأة فن السينما فى بداية القرن العشرين، ظهر (النقد السينمائي) على يد رواد السينما الأوائل مثل (إيزنشتين) و(جريرسون)، وتمثلت غايته الأولى فى الإجابة على سؤال: هل السينما فن؟ وما هى طبيعة هذا الفن؟ ثم انتقل النقد إلى السؤال الثانى: هل هذا الفيلم أو ذاك جيد أم سيئ، ولماذا؟ ومع انتشار السينما وسحبها البساط من تحت أقدام الفنون الجماهيرية الأخرى، ظهرت (الصحافة السينمائية) المتخصصة، كما أصبح من الطبيعى أن تخصّص كل صحيفة مساحات ثابتة ومتحركة للكتابة عن السينما، ومعظم الصحف باتت تعتمد على صحفى (متخصص) فى الشئون السينمائية، أشبه بمحرر الرياضة أو الحوادث.
ومنذ ذلك الحين، أصبح هناك لبس وخلط متعمَّد غالبا بين عدة مهن لا يربطها سوى أنها تقوم على (الكتابة عن الأفلام).
أولى هذه المهن (الناقد الأكاديمي)، بحكم عمله كسينمائى أو مدرس للسينما أو باحث متخصص فى التعريف بماهية السينما ومعاييرها الجمالية. وهذا النوع، منه (الناقد النظرى) الذى يبحث فى طبيعة وجماليات الوسيط بشكل عام، و(الناقد التطبيقى) الذى يطبق نظرية أو منهجا تحليليا ما على فيلم بعينه، أو مجموعة أفلام.
وثانى هذه المهن كاتب المراجعات النقدية المتخصص فى مشاهدة الأفلام الحديثة المعروضة للجمهور، وإبداء رأيه فيها بشكل مختصر.
وثالثها المؤرخ والباحث السينمائى المهتم بجمع وتنظيم المعلومات حول الأفلام، وليس تقييمها أو تحليلها.
ورابعها (المخبر الصحفي) المكلف بجمع أخبار السينمائيين والأفلام، والذى يكتسب بمرور الوقت خبرة تمكنه من تقييم الأفلام وإبداء رأيه فيها.
وخامسها الناقد الهاوى، الذى يكتب بشكل غير منتظم عن بعض الأفلام التى يشاهدها، ومن هؤلاء صحفيون وأدباء ومفكرون وأساتذة علم تاريخ أو اجتماع أو فلسفة، وأيضا أطباء علم نفس أو أمراض تناسلية، بل وسياسيون ولاعبو كرة قدم. وهذا النوع من النقاد لا يوجد له مثيل فى أنواع النقد الأخرى فى مجالات الشعر أو الرواية أو الموسيقى أو الفن التشكيلى؛ ذلك أن السينما بحكم جماهيريتها ولغتها المباشرة البسيطة وقدرة معظم الناس على استساغتها والاستمتاع بها، هى أكثر إغراء بمناقشتها وتقييمها وإبداء الرأى فيها عن علم أو غير علم.
الفيلم إنتاج جماعى أم إبداع فردى؟
مع اكتمال نمو الفن السينمائى، ترسخ نوعان من نقد الأفلام: الأول ينظر إلى الفيلم كمنتج جماعى تتحكم فى تحديد معناه ومستواه عدة أطراف، على رأسها شركة الإنتاج، ثم مؤلف السيناريو والممثلون النجوم والمخرج... إلخ، والثانى ينظر إلى الفيلم كعمل إبداعى فردى للمخرج، أو ما يعرف بـ (نظرية المؤلف).
كان عام 1954 فاصلا فى تاريخ النقد السينمائى؛ فهو العام الذى قام فيه الناقد الفرنسى (فرانسوا تروڤو) وزملاؤه فى مجلة (كاييه دى سينما) باختراع تعبير (نظرية المؤلف film auteur)، أو (auteur theory)، حين اعتبروا أن المخرج، من بين كل فريق العاملين فى السينما، هو القوة المحركة وراء إنتاج المعنى فى الفيلم. وحتى لو كان المنتج هو القوة المحركة وراء إنتاج الفيلم نفسه، فإن من يعطى للفيلم معناه ونوع التأثير الذى يُحدثه هو المخرج.
والآن، بعد أكثر من ستين عاما على (نظرية المؤلف) وظهور عشرات، وربما مئات من المخرجين المؤلفين، ممن نطلق عليهم (المخرج الكبير)، عالميا ومحليا، فإن الحقيقة الدامغة هى أن النسبة الغالبة الهائلة من المنتجات السينمائية فى العالم تتحكم فيها قوى أخرى مثل: شركة الإنتاج، المنتج الفنى، الموزع، الرقابة، الرأى العام، والمزاج العام السائد.
فى مقال بعنوان "نحو نقد سينمائى جديد"، يُعرّف (ويلى أوسترويل) هذه القوة المحركة فى العبارات التالية:
"إنها روح عصر zeitgeist مصنَّعة، ظرف طارئ مفتعل، يعززه ويديمه وابل من الاعلانات والمناقشات والكتابات النقدية حول فيلم ما بشكل يوحى بأن هذا الفيلم أو ذاك يعكس اللحظة الثقافية الآنية"، أو ما يطلق عليه أوسترويل (الراهن السينمائى film current) (3).
يتساءل (أوسترويل):
"ما الذى يجعل أفلاما متوسطة القيمة، رجعية، مملة، بل وغبية، جديرة بالمناقشة؟ إنه (الراهن السينمائى)".
يناقش (أوسترويل) الوضع الانتاجى الحالى فى هوليوود، حيث يذهب من ربع إلى ثلث الميزانية على التسويق، وهذه الأموال تنفق من أجل جعل الفيلم "يتواجد فى كل مكان" ومن أجل ربطه بالقضايا الثقافية الراهنة. وفى الوقت الذى تجرى فيه التغطية على ضعف مستوى فيلم ما، يتم دعوة النقاد لاعتباره نافذة على الحالة النفسية للشعب الأمريكى، واعتبار أنفسهم ثاقبى البصيرة لأنهم اكتشفوا ذلك!
يصف (أوسترويل) هذا (الراهن السينمائى) بأنه "حالة من الإثارة يسيطر عليها شعوران هما الأمل والإحباط؛ الأمل فى نزول فيلم جديد نشاهده ونناقشه، والإحباط من مستوى هذا الفيلم الذى شاهدناه وناقشناه أو لم نشاهده بعد".
المشكلة بالنسبة للناقد هى أنه لا يستطيع غالبا الخروج من هذه الدائرة الجهنمية، التى يشارك فيها، حتى وهو يحاول الخروج منها بنقد أو كشف خواء عمل ما أصبح حديث الناس ووسائل الاعلام. ومهما برهن الناقد المستقل على أن هذا العمل رجعى أو متواضع فنيا، فسوف يظل رأيه بلا جدوى؛ لأن هناك أصواتا سترد عليه دائما بمقولات محفوظة من نوعية أن الفن أذواق، وأن تنوع الآراء سمة من سمات الديموقراطية، إلى آخره!
الأمر نفسه ينطبق على النظرة للمخرج باعتباره مبدع و(فنان) الفيلم، وهى نظرة خاضعة أيضا لـ (الراهن السينمائى) الذى تحدده اعتبارات كثيرة.
من هذه الاعتبارات، أن (نظرية المؤلف) طُبقت على أعمال مخرجين مثل (هيتشكوك) و(هوارد هوكس) و(ڤللينى) الذين كانوا يعملون مع فريق عمل لا يتجاوز 15 شخصا من خلال منتج واحد. أما الآن، فيشارك عشرات البشر فى صنع فيلم يستغرق العمل فيه ثلاث سنوات أو أكثر، وأحيانا يشارك فى اتخاذ القرارات الإنتاجية والإبداعية أكثر من جهة، من صناديق الدعم وأصحاب المنصات والفضائيات، وحتى مسئولى بعض المهرجانات.
الحقيقة أن صاحب المال لا يزال يتحكم فى السينما، حتى فى الفيلم الفني؛ لأن أسطورة (المخرج المؤلف) لها جمهورها أيضا، والمنتج يرحب بها طالما أن هذا المخرج له جمهور وأفلامه تباع لهذا الجمهور، مهما كان محدودا، أو مختلفا (حيث توجد أفلام تعتمد فى ميزانيتها وإيراداتها على الأسواق الخارجية، وصناديق الدعم، والمهرجانات، ومحطات التليڤزيون... إلخ)؛ ولكن بمجرد أن يفقد هذا الفنان جمهوره، فلن يحصل على تمويل فيلم آخر. والأمثلة حولنا كثيرة على مخرجين مؤلفين توقفوا بعد صنع فيلم واحد أو عدة أفلام، والبعض الآخر يضطر إلى صنع فيلم كل عشرة أو خمسة عشر عاما.
يرى (أوسترويل) أن تمجيد النقاد لشخص واحد - هو المُخرِج - فى فيلم يعمل به 300 شخص يعانون من الاغتراب عن العمل الذى يمارسونه، ليس احتفاءً بفن السينما، ولكن بالمديرين. وهو يطالب النقاد بالتوقف عن الاستمرار فى هذه الخدعة، والتعامل مع أفلام الإنتاج الضخم كمنتَج جماعى.
يكتب (أوسترويل): "احذف تعبير (الرؤية الإبداعية) من المعادلة، وسوف تتضح أمامك الأجندة الأيديولوجية لأى فيلم بشكل أوضح. إن تعامل النقاد مع أى فيلم باعتباره عملا فنيا محتملا هو أمر غير منطقى؛ لأن الكثير من هذه الأفلام مجرد سلع استهلاكية معلبة" (4).
إن التعامل النقدى مع فيلم ما من منظور تاريخى اجتماعى ووضعه فى سياق النوع الفنى الذى ينتمى إليه، أو من خلال اسم مخرجه أو بطله الرئيسى، يجعل الناقد يغفل عن رغبات وأهداف المحرك الأساسى وراء الفيلم، وهو الصناعة. هذه الصناعة التى تجعل من كل فيلم سلعة. إن التعامل مع أى فيلم باعتباره (مرآة للمجتمع) - حسب رأى أوسترويل - إنما هو "امتثال للعبة التسويق، وامتهان للفن" (5).
نهاية النقد ونهاية العالم
ولكن ما هو البديل؟ ما هو النقد السينمائى الجديد الذى يطرحه (أوسترويل) فى نهاية مقاله؟ لا شىء، سوى الاحتفاء بمستقبل يصبح بإمكان كل شخص فيه أن يصنع فيلمه الخاص ويبثه عبر الإنترنت، حيث يصبح بإمكان أى (ناقد) أن يكتب عن أى (فيلم). مستقبل لا يحتاج فيه المشاهد إلى وسيط خبير (يشرح) له التجربة الجمالية للفيلم، وإنما يعتمد على نفسه فقط. مستقبل تتوه فيه المعالم بين المبدع والناقد والمتلقى، نموذجه الحالى - فى رأى أوسترويل - هو (اليوتيوب)!
هذا القفز الحماسى فى المجهول لا يجيب عن السؤالين الأساسيين لوظيفة النقد: ما هى السينما؟ وكيف نحدد الجيد من الردىء؟
هل تختفى السينما التى نعرفها وتظهر سينمات أخرى تناسب عالم اليوتيوب والأفلام يدوية الصنع، والمنصات الرقمية التى لم تكن قد ظهرت بعد وقت كتابة (أوسترويل) لمقاله، وربما تظهر أيضا قنوات عرض أخرى لا نعلم عنها شيئا.
وعندما تختفى السينما التى عرفناها، هل سيختفى النقاد؟ هل ستختفى المهنة؟ هل يتوقف الناس عن مناقشة الأفلام وتحليلها وتقييمها، وينشئ كل قارئ - كما نرى اليوم - مدونة يكتب فيها عن الأفلام التى يراها؟
عندها سنصل إلى درجة الصفر أو الهَيولَى المعرفية، ويبدأ تاريخ آخر، تظهر فيه أنواع جديدة من الفنون، ويأتى أرسطو آخر ليعرّفها ويضع قواعدها، وهلمَّ جرا.
ما أستشعره من الآراء المطروحة حاليا هنا وهناك، أننا نشهد نهاية العالم، وأن هناك عالما جديدا على وشك البدء... ربما. وربما يكون هذا الشعور زائفا؛ ومن يقرأ تاريخ الفلسفة والفنون يعرف أنه شعور متكرر طالما سيطر على الفنانين والمفكرين فى عصور التحول، من (جلجامش) إلى (صمويل بيكيت)، مرورا بـ (شكسبير).

هوامش
1- ) نفع الشعر ونفع النقد the use of poetry and the use of criticism)، ص6 عن ترجمة د. محمد عنانى فى كتابه (النقد التحليلي)، مكتبة الأنجلو، تاريخ النشر غير محدد.
2- (النظرية النقدية - آلن هاو - ترجمة ثائر ديب - إصدارات مكتبة الأسرة - الهيئة العامة للكتاب).
3- Towards a New Film Criticism - Willie Osterweil مجلة (ذا نيو إنكوايري)، يوليو 2011.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.


التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات