بحثًا عن سامى السلامونى

اية طنطاوي 05 مارس 2022 النقد السينمائي

الكاتب : اية طنطاوي


بحثًا عن سامى السلامونى
آية طنطاوى
فى اقتفاءِ الأثر رحلةٌ تبدأ بالحلم وتنتهى بمواجهة الوجه الغائب للحقيقة. لم أتردَّد لِلَحظةٍ فى الصعود إلى القطار لأبدأ مغامرةَ البحث عن الناقد السينمائى سامى السلامونى، لأكتب سطورَ المقال الذى تقرءونه الآن. رحلةٌ تطلَّبَت بحثا وتنقيبا فى صفحات الماضى المطويَّة. رحلةٌ بدأت قبل سنوات، وتستقرُّ محطتها الأخيرة هنا؛ وتمنَّيت أن يكون معى كاميرا تُسَجِّل كلَّ محطات ومنعطفات تلك الرحلة.
كان ياما كان
قد لا يعرف الكثير من الأجيال المعاصرة عنه سوى اسمه (سامى السلامونى). إنه الناقد السينمائى الذى يُحكَى عنه كأنه أسطورة من زمن بعيد. الناقد الذى ذبح الأفلام فى معاركَ خاضها وحده على صفحات الجرائد والمجلات، والخصم الشرس لعددٍ لا بأس به من أكبر صنَّاع الأفلام المصريين. أذكر أن أول معرفتى به كانت عن طريق الصدفة؛ حكاية تُتَناقل فى جلساتى مع الأصدقاء عن المخرج حسام الدين مصطفى الذى تعمَّد أن تكون شخصيةُ الشرير فى عدد من أفلامه اسمها (السلامونى)، لا لشيءٍ عَدَا أن تلك الشخصية ستتعرَّض للسِّبابِ والشتائمِ وعددٍ لا بأس به من الصفعات؛ وفى النهاية سينتهى به الحال قتيلا أو مقيَّدا بين يدى الشرطة. واختيار المخرج لاسم (السلامونى) هو انتقام درامى من الناقد السينمائى سامى السلامونى!
بدا لى الأمر عبثيا للغاية؛ محض نكتة ساخرة، لكنها أيضا مخيفة. سمعت الحكاية قبل سبع سنوات أو يزيد، وبعدها أصبح اسم السلامونى يمر أمامى كل حين وآخر.
وفى عام 2016، أهدى الكاتب إبراهيم عيسى عدده الأول من مجلة (فرجة) إلى روح السلامونى. وبعدها بعامين فى معرض القاهرة للكتاب، أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة بَيْعَ أعماله الكاملة التى تضمُّ مقالاته المنشورة من عام 1969 حتى عام 1991. لم يُعَدْ طبعها، بل أخرجوا من المخازنِ النسخةَ القديمةَ ذاتَها التى جمع مادَّتَها صديقه يعقوب وهبى، وأصدرتها هيئة قصور الثقافة تِباعا بدايةً من يوليو 2001 فى أربعة مجلَّدات. قطعت الطريق نحو معرض الكتاب جريا وهرولةً لأحصل على نسخة. وبمجرد وصولى، كانت النسخ قد تبخَّرت واختفت، ولا يوجد لها أثر فى المنافذ حتى يومنا هذا. لكن اللافت هنا أن إقبال القرَّاء على شرائها يدلُّ على أن الكثيرين مِثلى يبحثون عن هذا الرجل.
سألت وبحثت عن أى شيء مكتوب للسلامونى أو عنه، فواجهت الصمت. اتجهت إلى سور الأزبكية وفرشات بيع الكتب القديمة على الأرصفة فلم أجده. وأذكر أنى لم أرَ له سوى صورة أو اثنتين بالأبيض والأسود فى مواقعَ متفرقةٍ على فضاء الإنترنت الواسع. وانتهت رحلة البحث عن السلامونى قبل أن تبدأ.
مرَّت الأعوام إلى أن جاءت محطة جديدة حالفنى فيها الحظ عندما حضرت فعَّاليات مهرجان الإسماعيلية السينمائى فى دورته الحادية والعشرين، وكان من ضمن مطبوعاته كِتابٌ مجمَّعٌ لمقالات السلامونى، عن السينما التسجيلية والقصيرة ودراما التليڤزيون. وقبل شهور قليلة، حصلت على أعماله الكاملة، وهنا بدأت أستعيد الأمل فى اقتفاء أثره من جديد.







سنوات النحت فى الزمن
وُلِدَ السلامونى فى المنصورة عام 1936، وقضى سنوات الصِّبا والشباب قبل قراره الحاسم بالانتقال إلى القاهرة بعد إنهائه الشهادة الثانوية، ليستكمل رحلته فى البحث عن ذاته والعمل فى العاصمة. وفى وسط المدينة، بدأ حياة جديدة فى قلب الوسط الثقافى، حيث السينمائيون والأدباء والمثقفون على المقاهى وفى الشوارع والسينمات.
عاش فى شقة فقيرة بشارع معروف، وتحرَّك فى كل المسارات، ومصدر رزقه هو عمله كموظف - قارئ عدَّادات - فى وزارة الكهرباء، والليل له، يشاهد الأفلام، ويقرأ ويجلس مع الأصدقاء، ويكتب عن السينما مقالات متفرِّقة فى جريدة المساء والنشرة الأسبوعية لنادى سينما القاهرة، وهى مرحلة البدايات والمحاولات، فى أواخر الستينيات، حيث تشابهت الكتابات النقدية فى استعراضها العام لقصص الأفلام وغزارة المعلومات عنها؛ لكن السلامونى كان مختلفا، يعتمد على تحليل العناصر الفنية فى الفيلم، فأصبحت كتابته خاصة لا تُشبه أحدا، وهو ما جعل السلامونى ناقدا له ثقافة وذائقة وعين ناقدة حقيقية تلفت الأذهان إلى متابعة رأيه وتحليلاته، ثم جاءته فرصة الكتابة بشكل دائم بعرضٍ من رجاء النقاش للانضمام إلى مجلة الكواكب، فترك وظيفته الحكومية، وأصبح النقد مهنته. وإذا أردت البحث عنه، تجده فى مقهى (إيزاڤيتش) المطل على ميدان التحرير، أو مقهى (لاباس) بقصر النيل، أو سينمات وسط البلد.
فى إحدى مقالاته، كتب السلامونى: "كلُّ ما يشغلنى أن أعملَ ما أحبُّه بإخلاص وانهماك كامل، وأن أملِك حريتى فى أن أقول رأيى بشكل ما، ثم أجلس على القهوة بعد ذلك لأشرب الشاى وأتفرَّج على المارَّة وأستمتع بالحياة بقدر ما هو متاح".
كانت مقالاته مفتاح فهم شخصيته التى لا يُقيِّدها نفاق ولا حياد زائف، بل حرَّة كأجنحةٍ لا تكفُّ عن التحليق أمام أعين الصيادين.
كانت الستينيات هى مرحلة التشكُّل والتكوين فى حياته؛ نقلة مكانية ومعرفية قادته لرسم مسار حياته حيث السينما هى الوجهة الأولى والأخيرة. بدأ كناقد، ودخل المعهد العالى السينما للدراسة، أو كما ذكر فى حوار معه: "اكتشفت أنه مهما كانت معلوماتى عن السينما كناقد، فستظل معلومات نظرية ناقصة إذا لم أعرف كل أسرار الفن الذى أتعرَّض لنقده".
وإلى جانب النقد، أخرج السلامونى أفلاما قصيرة (مدينة - ملل)، وتسجيلية (كاوبوى - الصباح - القطار - اللحظة)، وحصل على جوائزَ فى عددٍ من المهرجانات المحلية. لكن السلامونى مثلا لم يكن راضيا عن فيلمه (ملل)، بل ونَقَدَه بسخريته المعتادة وقال: "السينما ليست بالنوايا دائما". وهو ما يعيدنا إلى الطريقة التى اختار بها السلامونى أن ينقد الأفلام الرديئة بلهجة حادة، أو كما يصفه الكاتب عادل حمودة: "كان يُخالف قوانين النقد السينمائى التى كانت سائدة، والتى كانت خاضعة لقانون «ليس فى الإمكان أفضل مما كان»". ويصفه أيضا بالقاضى الذى يجلس متفرِّدا على منصة العدالة لمحاكمة الأفلام.
نضع هنا نصب أعيننا طبيعة النقد السينمائى وقتها الذى لم يكن مهاجما شرسا بقدر ما كان منحازا للأعمال الجيدة، ومولِّيا ظهره لكل ما هو رديء، ولا يتطرَّق فى مفرداته إلى مفردات قاسية لنقد عمل سيئ أو رديء. وكل هذا يطرح أمامنا سؤالا شائكا عن دور الناقد السينمائى وحدوده، وإلى أى مدى يحلل الأفلام بجدِّية وينقد صنَّاعها ويصفهم بـ (عدم احترام الجمهور) إذا لزم الأمر؟ وهل يخوض الناقد حربا مع الفيلم داخل قاعة السينما، أم على سطور المقال، أم إن الأمر يتَّسع لمساحة أكبر من المشاكسات على أرض الواقع مع السينمائيين والفنانين؟ ولأنى فى رحلةٍ خاصَّةٍ للبحث عن الناقد سامى السلامونى، فالإجابة أن بطل حكايتنا اختار الاشتباك والمشاكسة فى سطوره وعلى أرض الواقع، غيرَ مكترثٍ لصُنَّاع الفيلم ومشاعرهم؛ لأنه ببساطة – وحسب منطقه - دفعَ ثمنَ التذكرة، ويريد مقابلَها فيلما جيدا، ولأنه أيضا اختار أن يكون حُرا فى رأيه، لا تُقَيِّده صداقةٌ ولا معرفةٌ من قريب أو بعيد.
لم ينفصل السلامونى عن مجتمع صناعة الأفلام، واكتفى بمقعدِ الناقد فى البرج العاجى. ففى عام 1968، انضمَّ السلامونى إلى جماعة السينما الجديدة، وهى جماعة ضمَّت شباب صنَّاع السينما الباحثين عن فرصة لإنتاج أفلامهم، بعد أن اقتصر القطاع العام على إنتاج أفلام لكبار المخرجين. وكان السلامونى ضمن أفراد هذه الجماعة، ومعه: (على عبد الخالق - رأفت الميهى - سعيد شيمى - داود عبد السيد - سمير فريد - أشرف فهمى)، وغيرهم. بدأت الجماعة من حلم بالسباحة عكس تيار موجة أفلام العصابات وملوك الشر وقصص الراقصات والغانيات. كان لا بد للحلم أن يجد مساحة ليتحقق فيها على أرض الواقع، بنقودٍ قليلةٍ وحماسٍ فنىٍّ للاستمرار وصناعة الأفلام.
على عتبات السبعينيات
انتقلت مصر من العهد الناصرى إلى عهد السادات، وتبدَّل المشهد السياسى كليا. وهنا لا يمكننا بحالٍ أن نُغفِل انعكاسات التغيُّرات السياسية والاجتماعية وتأثُّر الحركة الثقافية والفنية بها؛ عهد جديد يفرز معه أجيالا جديدةً من شباب صنَّاع الأفلام الذين خلقوا تيارا سينمائيا جديدا مُحَمَّلا بنكسات الماضى، ويعيد قراءة الواقع، ويشكِّل مفرداته السينمائية بلغةِ المجتمع وهمومه اليومية. بل إن هموم الحرب باتت الشغل الشاغل للناس فى الشارع. ولأنه اختار الانحياز للواقع، كان السلامونى مهاجِما شَرِسا لكلِّ الأفلام التى رأى أنها تتلاعب بالعقول وتخدع الجمهور بحكاياتٍ ركيكةٍ لا تحترم المُشاهِد، أو تقدِّم أفلاما تافهة، بينما المجتمع فى حالة حداد واشتعال.
سارَت حركة النقد جَنبا إلى جنب مع صناعة السينما. تولَّى السلامونى رئاسة جمعية الفيلم عام 1972 - وكان يوسف شريف رزق الله أمينا لها - وأحدث تغييرا كبيرا فى أفكاره، فأسَّس المهرجان السنوى للأفلام المصرية. وفى تلك الفترة، دعم السلامونى شباب المخرجين، ولم يكن قاسيا معهم ومع تجاربهم الأولى، لِمَا لمسه من فقر الإمكانيات والرغبة فى النهوض بتيار سينمائى يجاهد لخلق سينما حقيقية.
لم يبقَ من هذه التجربة سوى نشرات الجمعية التى شارك النقاد فى كتابة مقالات نقدية فيها، بالإضافة إلى فيضٍ من الذكريات الشخصية للنقَّاد والسينمائيين والجمهور العادى مِمَّن واظبوا على حضور عروض الأفلام.
وصف الناقد أمير العمرى على مدوَّنته السينمائية (عين على السينما)، نشرات نادى السينما بأنها "كانت زخم الحركة النقدية وقتها"، وأن الحركة النقدية فى حينها "هى التى أسَّست لفكرة السينما الجديدة". لكن إلى أى مدى تركت أثرا حقيقيا فى ذائقة الجمهور العادى؟
كان علىَّ أن أنطلق فى رحلة بحثى عن السلامونى، فى قطارٍ موازٍ، بعيدا عن المقالات والكتب، أقترب ممن تأثروا به أو عاصروه فعلا، وكانوا جزءًا من تجربته النقدية. كيف كان السلامونى بالنسبة لهم؟ وما الذى طبعه هذا الناقد السينمائى فى ذاكرتهم الآن؟
عودة إلى الجذور
انطلقت فى رحلة جديدة تحمل أثرا مختلفا فى شرق الدلتا، تحديدا مدينة المنصورة، حيث تقبع ذكرياتٌ بعيدةٌ لصديق قديم. إنه الأستاذ عبد الحميد القداح الذى كان كريما للغاية، وسمح لى أن أُجرِى معه حوارا عن ذكرياته مع السلامونى التى بدأها بحديثه عن معرفته الشخصية بسامى وأخيه حمدى السلامونى الذى جمعته به صداقةُ عُمْرٍ حتى وفاته. كما أنه شهد حركة السلامونى النقدية فى المنصورة، تحديدا فى نادى السينما.
"كانوا جيرانى فى المنصورة. عمل سامى موظفا فى وزارة الكهرباء. حينها كان مُولَعا بالسينما، وبجانب وظيفته لم ينطفئ حبُّه للسينما، وقرَّر الاستقرار فى القاهرة ليدرس الإخراج ويمتهن النقد. وكان أخوه حمدى مهتما أيضا بالفنون، وكانت له ذائقة سينمائية، لكنه لم يمتهن السينما مثل سامى، واتَّجه للعمل بالمحاماة. لكنى عرفت سامى السلامونى عن قرب أثناء حضوره ومناقشاته فى (نادى سينما المنصورة) الذى تأسَّس بجهود ذاتية من طلبة كلية الطب فى بداية السبعينيات. حينها شاهدنا أشهر الأفلام المصرية والعالمية مثل (الساموراى السبعة - المدرعة بوتمكين - النسخة المرمَّمة من المومياء)، وغيرها من أفلام. والأمر لم يقتصِر على المشاهدة فحسب، بل كانت مشاركات النقاد والسينمائيين لعروض الأفلام ثريَّة للغاية، وكان السلامونى يحضر العروض. وأذكر أيضا حضور أحمد رأفت بهجت ورفيق الصبَّان وخيرى بشارة وشادى عبد السلام وغيرهم، يناقشون الأفلام بعد عرضها، ويطرحون قراءتهم لها بتحليل فنى واعى غيَّر من رؤيتنا للأفلام وأنعش ذائقتنا. كانت أياما جميلة، وكانت نوادى السينما ساحةً للمعرفة السينمائية للجمهور العادى أمثالنا".
قادنى حديث الأستاذ القدَّاح إلى العودة لتأمُّل عَلاقة السلامونى، لا بالسينمائيين، بل بالجمهور العادى؛ الجمهور الذى يخاطبه أى ناقد فنى بالأساس، وفى أى تجربة كان السلامونى قريبا من الجمهور؟ المقالات والنشرات، أم مناقشات نوادى السينما؟
أجابنى قائلا: "لا نُغفِل أن السلامونى هو ابن المنصورة، ولذلك تعامل معه جمهور النادى باعتباره واحدا منهم، أخاهم وجارهم. ربما لذلك لم تكن معرفتهم بالنقاد السينمائيين قوية، بقدر معرفتهم بالسلامونى تحديدا. ولا أعتقد أنهم اهتموا مثلا بقراءة المقالات الدورية التى يكتبها النقاد فى الجرائد والمجلات، لكن السلامونى كان الناقد الأكثر قربا من أبناء المنصورة المُولَعين بالسينما.
جمهور نادى سينما المنصورة بسيط، بعكس جمهور نادى سينما القاهرة - برئاسة أحمد الحضرى - الذى وضع شروطا لقبول الجمهور فى عضويته، من ضمنها حصول المتقدِّمين على شهادة عليا، بعكس نادينا، الذى جمع فى مقاعدِه بين الطلبة والأساتذة والعمَّال. لذلك كان السلامونى يتكلَّم مع الجمهور بلغةٍ تُشبههم ويستطيعون فهمها؛ لغة تقوم على التبسيط فى شرح الفيلم وتحليله. بالفعل كانت مقالاته النقدية عن الأفلام السيِّئة حادَّة، واشتبك مع المخرجين، مثل واقعة ذَهاب حسن الإمام إلى السلامونى فى مكتبه ليفهم سبب نقده له، ثم هدأ انفعاله عندما عرف أن السلامونى مثله من المنصورة فضَحِكا. لكن أعزو ذلك إلى أن السينما كانت بمثابةِ عقيدةٍ له. كان مُخلِصا لها، كما أن آراءه تنبع من رأيه وذائقته، ولا تخضع لتسلُّط السوق. وكان يتحدَّث معنا فى نوادى السينما عن الأفلام بحب شديد، وثقافة واضحة".
واستطرد قائلا: "أذكر أيضا أن السلامونى اعتاد أن يطبع فى معرض الكتاب كلَّ عامٍ كتيِّبا صغيرا اسمه (كاميرا)، كان يكتب فيه مقالات نقدية عن الأفلام التى يُرَشِّحها للمشاهدة فى مهرجان القاهرة، وحوارات صحفية، بالإضافة إلى مقالات نقَّاد آخرين عن أفلام الموسم، ينشرها على حسابه الشخصى. ولذلك كانت له شعبية بين الجمهور البسيط. ما زلت أملِك نُسَخا من هذه الكتيِّبات، وهى آخر ما تبقَّى لى من ذكريات السلامونى".
بحثت عن كتيِّبات (كاميرا)، وطبعا لم أعثر عليها. لكن فى زحام البحث، عرفت أن السبب وراء نشاط السلامونى فى الكتابة فى نشرات جمعية الفيلم وتفكيره فى إصدارها، هو الفترة التى مُنِعَ فيها من الكتابة فى المجلات بأوامر عليا، بعد أن تسبَّبت إدارته لندوة فيلم (أغنية على الممر) بجامعة القاهرة، فى قيام الطلبة بمظاهرات، لحماسهم وتأثُّرهم بالفيلم. ونفس المنع طال مخرج الفيلم علِى عبد الخالق، وصلاح السعدنى بطل الفيلم، من تقديم أعمال بالتليڤزيون.

ولا يحسب حسابا لأحد
شارك الأديب خيرى شلبى فى كتابة مقدمة الأعمال الكاملة لسامى السلامونى، أو بالأحرى رَسْم بورتريه أدبى مُتقَن كعادة شلبى فى رسم الشخصيات التى يكتب عنها. وكانت عَلاقته وثيقةً بالسلامونى، أو كما وصفهما الكاتب ياسر الزيات بأنهما (مولودين فوق رُوس بعض)؛ فكلاهما لا يكفُّ عن مناكفة الآخر فى كل شيء. اختار خيرى شلبى فى البورتريه أن يعدِّد لنا سِمات السلامونى كناقد سينمائى مميز عن نقاد جيله، وأشار فى مَعرِض كلامه إلى أن السلامونى تعمَّد دائما دخول الأفلام مرة واثنتين على نفقته الخاصة، فلا يُحسَب له أنه دخل على حساب المخرج أو المنتج؛ فهو ناقد حر، ورأيه حر.
إنها السِّمَة الأبرز له كناقدٍ لاذِعِ الرأى كحدِّ السيف ولا يخشى فى التعبير عن رأيه لومةَ لائم. هنا عدت إلى السيرة الأولى التى عرفت بها السلامونى. إنه العدوُّ الشَّرِسُ لعددٍ من صنَّاع الأفلام بسبب انتقاداته التى لا يخشى فيها أحدا. لكن هل كانت سِمَة السلامونى الوحيدة أنه ناقدٌ مشاكسٌ ساخرٌ لا أكثر؟
انتقلتُ إلى محطَّةٍ أخرى للبحث عن السلامونى بين جيلٍ من محبِّى السينما الذين لم يعاصروه إلا فى سنواته الأخيرة، أو عرفوه عن قرب بعد صدور أعماله الكاملة. واستوقفنى هنا لقب (ديوجين النقد السينمائى) الذى أطلقه الناقد السينمائى رامى عبد الرازق على سامى السلامونى. ولعل اختيار اللقب يعود بنا إلى الفيلسوف الإغريقى (ديوجين) الذى عاش متقشِّفا، واتَّبع فلسفته الخاصة فى الحياة التى قامت على الحكمة، وابتعدت عن أفكار المجتمع التقليدية.
ذهب رامى عبد الرازق - فى مدوَّنته السينمائية - إلى أبعد من ذلك اللقب؛ فقد كتب مقالا هو مانيفستو سينمائى - من واقع ما كتبه السلامونى فى مقالاته وأعماله الكاملة - يُبلوِر به السينما بعيون السلامونى، فيما يشبه إعادةَ قراءةٍ لفِكْره ورؤيته لحال صناعة السينما عموما، وفى مصر بصفة خاصَّة. ويعيد – على لسان السلامونى - تعريف مهمة الفن السينمائى، الذى يكتسب قيمته الحقيقية من استخلاص أفكاره الأساسية الكبيرة من نسيج الواقع دون أن يفرضها عليه حتى يصدِّقها الناس، وهو ما ينتج عنه فنانون حقيقيون يملِكون لغة سينمائية ومعالجة صادقة للواقع الذى يخاطبونه ويُحاكونه فى أفلامهم.
من هذا المنطلق، يُحيلنا عبد الرازق إلى إعادة قراءة السلامونى من خلال رؤيته للسينما وصنَّاع الأفلام، بعيدا عن المساحة التى نحصر فيها السلامونى كناقدٍ متهكِّمٍ سليطِ اللسان ومشاكسٍ لكبارِ مخرجى السينما التجارية. بل يعيدنا إلى أن هذا الرجل لا يُهاجِم فقط من باب الهجوم، بل إن ما يُحَرِّكه هو انزعاجه من بُعد السينمائيين عن معنى الفن السينمائى، الذى يعنى بالضرورة بُعدَهم عن الواقع، فتغرق السينما فى ركاكة المعالجات السينمائية التى تقدِّم واقعا مشوَّها، وحكايات بلا قيمة، وهو ما يدفع الجمهور الواعى إلى التذمُّر والاستياء قبل أن تهبط على الشاشة كلمة النهاية.
دفعتنى الأفكارُ إلى التنقيب أكثر عن السلامونى بين صفوف الجمهور، تحديدا من قرأوا له وعرفوه فقط من كتاباته. هل أضفى على رؤيتهم للمشهد السينمائى بُعدا مختلفا؟ أم إن مروره كان عاديا وعابرا بالنسبة لهم؟
تحدثت مع الأستاذ محمد حسين، وهو كاتبٌ مهتمٌّ بالسينما، يكتب مراجعات وتحليلات سينمائية بشكل مستقل. تعرَّف فى بدايات الألفية على السلامونى عند صدور أعماله الكاملة. كان حينها شابا مهتما بالسينما، يقتفى أثر الكتب والمجلات والمقالات المنشورة عن السينما، ويتابع حركة النقد السينمائى فى ذلك الوقت. فى البدء، سألته عن تجربة سامى السلامونى النقدية، كيف استقبلها باعتباره حينها شابا من صفوف الجماهير يقرأ لناقدٍ لم يعاصره؟
بدأ وصفه لمقالاته السلامونى بأنها أمتع ما قرأ فى النقد السينمائى؛ واستطرد فى الحديث عن النقاط التى جعلت السلامونى مميَّزا فى رأيه، فقال موضِّحا:
"كان من اللافت اختيار السلامونى أن ينحاز إلى صف الجمهور. وبهذا يحيلنا إلى التفكير فى سؤال هام: لمن يكتب الناقد؟ والإجابة هنا تختلف من ناقد لآخر. هناك من يكتب لأصحابه، أو أصحابه من الوسط السينمائى، أو لحساب (شلَّة) بعينها، وهناك أيضا من يكتب لنفسه، ويخوض حوارا أحاديا معها. لكن تبقى النقطة الفارقة لكشف حِرَفِية الناقد الذى اختار أن يُحلِّل الفيلم ويفكِّكه ويفهم كل ملابساته ولغته التى يخاطب بها الجمهور؛ وهذا الناقد ينحاز إلى السينما فى الأساس، وإلى الجمهور أيضا. وفى رأيى، إن ذلك النموذج الأخير هو ما اختاره السلامونى لنفسه؛ انحياز فنى فى الأساس، يبدأ وينتهى عند صفوف الجمهور. وهذا مثلا ما لاحظته فى مقال كتبه السلامونى عام 1979 عنوانه (تحليل متأخِّر لظاهرة رجب)، الذى يبدأ فيه الحديث عن النجاح الكبير لفيلم (رجب فوق صفيح ساخن) للمخرج أحمد فؤاد، وبطولة عادل إمام وسعيد صالح. واللافت هنا أن تحليله للفيلم جاء من منطلق رغبة السلامونى فى فهم سبب النجاح الجماهيرى للفيلم من جهة، وتكرار اسم الفيلم ضمن اختيارات مهرجان جمعية الفيلم السنوى لاختيار أفضل فيلم. وسطور المقال كانت محاولة لتفكيك حكاية هذا الفيلم الظاهرة الذى لم يأتِ بفكرة جديدة – فهو نفس فكرة فيلم Midnight Cowboy - لكن المختلف فى المعالجة أنها قدَّمت صورة واقعية للمدينة المتوحشة التى تكشِّر عن أنيابها فى وجه الفلاح الساذج القادم من قلب الريف؛ فالمدينة تخونه وتشوِّه إنسانيته، على عكس الصورة النمطية للأفلام التى تصوِّر المدينةَ التى يدخلُها البطلُ الريفىُّ البسيطُ باعتبارها جنةَ الله التى تبدِّله حتما إلى الأفضل. ومن هنا استخلص السلامونى سببا ملموسا لنجاح الفيلم، وهو أنه صادق ولا يراوغ الجمهور الذين وجدوا أنفسهم فى البطل رجب. ورغم عدم خلوِّ الفيلم من ضَعف فى الفنِّيات، إلا أن السلامونى انحاز إلى تجربة الفيلم بعد تحليله لنجاحه الجماهيرى؛ وهو رأى يخلو تماما من التعالى الذى قد يدفع بعض النقَّاد إلى عدم الالتفات لفيلم جماهيرى كهذا".
يتماسُّ حديث محمد حسين مع السؤال الذى تردَّد فى ذهنى دونَ إجابةٍ واضحةٍ حول العَلاقة بين الناقد والسينما والجمهور المتلقِّى، بما يشمله دور الناقد الذى يختار إلى أى الصفوف ينحاز. وهنا يُكمل حسين حديثه قائلا:
"بعد قراءة مقالاته، تَبَيَّنَ لى أنه ناقدٌ واعٍ، لا يكتب نقدا شعبويا، بل يملِك وجهة نظر صريحة وصادقة فى أمورٍ لم يتطرَّق إليها ناقدٌ من قبل. ويَحضُرنى هنا ما قرأته من نقد السلامونى لأفلام يوسف شاهين، وهو ما اعتبرته حينها كسرا للتابوهات. ولا أذكر أقلاما كتبت نقدا سلبيا عن انفعالات الممثلين، وقطعات المونتاج الحادَّة والمزعِجة فى سينما شاهين، وغيرها من عناصر فنية تجعل من لغته السينمائية مزعجة وثقيلة على الجمهور العادى".
يتجلَّى هنا عنصر مشترك ألَا وهو الجمهور، والعودة للجلوس إلى جواره عند تحليل ونقد الأفلام. واستكمالا لحديث الأستاذ محمد حسين، عدت إلى مقال سامى السلامونى عن فيلم (إسكندرية ليه) الذى كتب فيه: "كانت وجهة نظرى أن فنانا عبقريا مثل يوسف شاهين يجب أن يصل إلى الناس فى سينمات عماد الدين، أو يقترب منهم قليلا؛ على الأقل يأخذ بيدهم ليقنعهم بأن هناك سينما أخرى غير سينما مخيمر، وأنها يمكن أن تكون مفهومة وجذَّابة أيضا". تأمَّلت كلماته، ونظرت من نفس العدسة التى يرى بها الأفلام، وأدركت أن السلامونى لا يتحدَّث من علياء، بل يقف فى الصفوف الوسطى؛ فهو رجل حتما ينحاز إلى من يحترم عقل الجمهور، ويعرف جيدا من تخاطبهم السينما، ومن يخاطبهم هو فى كتاباته.
نهاية الرحلة
حياة بطلنا الدرامية يجب أن تنتهى نهاية درامية تليق به. والنهاية كانت بعنوان آخر مقالاته (أَعطِ للناس البطلَ الذى يريدونه). توقَّف قلم السلامونى بعد أن توفَّاه الله فى 25 يونيو 1991، وهو فى الخامسة والخمسين من عمره، إثرَ أزمة قلبية. وقبلها بيومٍ سلَّم آخِرَ مقالاته لمجلة الناس. وصل المقال إلى أسرة تحرير المجلة بعد أن عرفوا بخبر موته، فى مشهد عبثى يمزج بين سخرية الحياة وألمها، وكأن الموت لا يمنع كاتبا من الحضور بين الناس. كأن كلماته هى الأبد.
جاءت محطة النهاية. علىَّ أن أهبط لتنتهى سطور المقال، لأترك خلفى رحلةً بين الذكريات والمقالات وملامح الزمن البعيد؛ والجزء الأكثر إمتاعا فيها هو البحث عن السلامونى فى ذاكرةِ مَن عاصروه ومَن تأثروا به دون أن يَرَوْه. هذا الأثر له حضوره بين النقاد، والأهم بين المُشاهِد الذى طالما خاطب السلامونى صنَّاعَ السينما باسمه، كأنه المحامى والمدافع عنه. فى النهاية، لا يمكن اختزال سنوات طويلة فى سطور قليلة، لكن رصيد السلامونى من المقالات يكفى لأن نرصدَ بعينٍ صادقةٍ حالَ السينما فى سنواتٍ لم نعاصِرْها، بعيدا عن الكلمات المنمَّقة لتاريخ السينما المصرية الذى لا يخلو من أعمال جيدة وأعمال ركيكة. وهنا سأضع اقتباسا من ختام إحدى مقالات السلامونى، قرأته وكأننى أسمعه بصوته الغائب.
"أيها المؤلِّفون، المخرجون، الممثلون، التجَّار، الرقابة، النقَّاد الصامتون، ما الذى تدبِّرونَه بالضبط لجُمهورٍ مُرْهَق؟".

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات