الكاتب : علياء طلعت
دراسة النقد السينمائى فى مصر
.. البحث عن العنقاء والخِلِ الوفىِّ
علياء طلعت
فى الزمن الحالى، لم تَعُدْ دراسة أى فرع من فروع المعرفة تقريبا أمرا مستعصيا. يمكنك فقط فتح متصفِّح الإنترنت، وكتابة (طريقة دراسة البرمجة)، على سبيل المثال، وستجد أمامك عشراتٍ من دورات التدريب المجانية والمدفوعة، وقنوات اليوتيوب والمواقع الإلكترونية. ولو أردت الدراسة بشكل حقيقى وليس افتراضيا، فستجد مراكز تعليم خاصة، بالإضافة إلى الجامعات التى تقدِّم كذلك برامج دراسات عليا للطلاب.
ولكن هذه الإتاحة الكبرى غفلت عن دراسة (النقد السينمائى)، كما لو أنه سقط سهوا، وليس هناك من يحتاج إلى دراسته من الأساس، فلا داعى لتلبية احتياجاتهم هذه!
وبما أننى ناقدة سينمائية أعمل فى المجال منذ سبع سنوات، سعيت لدراسة هذا الفرع من العلوم الإنسانية، واستطعت أن أحرز بعض التقدُّم فى هذا المجال؛ الأمر الذى أريد أن أشاركه هنا معكم.
دبلوم النقد السينمائى.. جامعة عين شمس
عام 2016، بدأَتْ كلية الآداب (جامعة عين شمس)، وبالتحديد قسم الدراما والنقد المسرحى، تقديم الدبلوم المهنى فى النقد السينمائى؛ وهو دبلوم مهنى مُنتَهٍ لمدة عامين، يستقبل الدارسين الحاصلين على المؤهلات العليا دون تحديد دراسة سابقة معينة، وهى مزيَّة كبيرة تتيح الفرصة للدارسين الذين التحقوا بكليات مختلفة فى السابق ولكن يرغبون فى دراسة النقد السينمائى أو يعملون بالفعل فى المجال ولكن يريدون الاستزادة والتعلُّم الممنهج للنقد السينمائى.
قدَّم الدبلوم قائمةً مميزةً من المواد الدراسية لروَّاده، تشمل أساسيات صناعة السينما، وتاريخ الأخيرة، وأهم اتجاهاتها، والأنواع السينمائية، بالإضافة إلى موادَّ متخصِّصةٍ فى كتابة المقال النقدى، وتزويد الطلبة بمعرفة ضرورية بمناهج النقد الحديثة، والسرد السينمائى واللغة السينمائية، وذلك فى إطار 24 مقررا دراسيا، تتم دراستها على مدار 4 فصول خلال عامين.
التحقت بهذا الدبلوم فى الدفعة الثانية، لتكون واحدة من أفضل التجارب التى خضتها فى حياتى. زخم من المعلومات السينمائية، ومجالات متعددة تساهم بالتأكيد فى إثراء وتعزيز معلومات الناقد السينمائى، بدايةً من تفاصيل صناعة الأفلام عبر ورش السيناريو والإخراج، وحتى المناهج النقدية التى تُعتبر أدوات ضرورية فى يد الناقد يستخدمها فى تحليل الأعمال التى يكتب عنها.
وبالتالى، أتاحت المواد الدراسية للناقد الاطِّلاع على جانبين مهمَّين: الجانب الأول طريقة صناعة الأفلام نفسها وتاريخها، وبالتالى القدرة على فهم تركيب المنتج السينمائى النهائى الذى يتعامل معه ويعمل على قراءته. أما الجانب الثانى فهو أدوات ومعارف تساهم فى إثراء تحليل وفهم الناقد للعمل السينمائى.
مشكلة هذا الدبلوم الأساسية بالنسبة لى هى التفاوت الشديد فى مستويات المحاضرين بين المواد وبعضها البعض؛ وهذا يرجع فى البداية إلى أن دراسة وتدريس (النقد السينمائى) تبدو كما لو أنها نسىٌ منسىٌّ؛ فلا توجد كوادر كافية لتعليمه، حتى فى دبلومة مهنية تابعة لواحدة من أهم الجامعات المصرية، وبالتالى لم يكن من الممكن الاعتماد على كوادر أكاديمية أو متخصصة طوال الوقت، ودَرَّس بعضَ الموادِّ الدراسية الضرورية والمهمة محاضِرون ليسوا على المستوى المناسب.
الأمر الثانى المُحبِط هو أن الدبلوم مهنى مُنتَهٍ، أى لا يمكن للدراسين، أيا كان مستوى تفوقهم الدراسى أو رغبتهم فى الاستزادة، إكمال رحلتهم فى التعلم والبحث العلمى. وبما أن عدد المواد كبير بالفعل فى الدبلوم، والمدة الدراسية لكل مادة لا تزيد عن تيرم واحد، أو تيرمين فى بعض المواد القليلة، فهذا يعنى غياب الكثير من التعمُّق الذى قد يرغب فيه الدارس فى بعض نواحى النقد السينمائى.
ولكن تظل التجربة هى الأكثر اقترابا وكمالا فى دراسة النقد السينمائى حتى الآن. ولكن للأسف، شِبه توقَّفَتْ، فلم تُستقبل دفعة جديدة فى العام الماضى، أى السنة الدراسية 2020/2021. وأتمنَّى أن تكون تلك مجردَ كبوةٍ أو تراجعٍ وقتىٍّ بسبب انتشار جائحة الكورونا، وتعود تلك الدراسة الضرورية للغاية لتأهيل النقاد السينمائيين.
معهد النقد الفني
معهد النقد الفنى التابع لأكاديمية الفنون هو المكان المتخصِّص لدراسة النقد بكل فروعه فى مصر. ويقدِّم المعهد دبلومتين مختلفتين؛ دبلومة التذوُّق الفنى، ودبلومة النقد الفنى. الثانية مقدَّمة لفئات محدَّدة من دراسى الآداب واللغات، مع شروط لقبول طلبة بعض الكليات دون الأخرى، بينما الأولى متاحة لكل الحاصلين على المؤهلات العليا.
هناك فروق جوهرية بين الدبلومتين؛ فدبلومة التذوُّق الفنى هى دبلومة منتهية، أى لا تتيح لطلابها استكمال الدراسة فى المعهد بعد التخرُّج، على عكس دبلوم النقد الفنى الذى يستطيع دارسوه استكمال الدراسات العليا للحصول على درجات علمية. وكذلك الفارق الآخر هو عدد المواد المقدمة لكل من الدبلومتين؛ فالأولى تقريبا 6 مواد كل تيرم، أما الثانية فحوالى 10 مواد فى الفصل الدراسى الواحد، ويتضمن كل تيرم دراسى، خلال الدراسة التى تمتد إلى عامين، مقررا فى النقد السينمائى، وآخر فى النقد التليڤزيونى.
بعد انتهائى من دبلومة النقد السينمائى، حرَّكتنى رغبةٌ حارقةٌ فى الاستزادة من العلم والتعلُّم، ولكن المعهد بشروطه كان بابا مُغلَقا فى وجهى، بسبب شهادة البكالوريوس. ولم يكن دبلوم التذوُّق الفنى، بانتهائه بعد عامين، هو ما أرغب فيه، بل حلمت بطَريقٍ من الدراسة لا ينتهى.
وفقدت كل أمل، حتى حدث ما يشبه المعجزة، على يد الأستاذ الجليل الدكتور ناجى فوزى، الذى رأى فىَّ بذرةَ الباحثة المتحمِّسة للعلم، ووجَّهَنى للقيام بمعادلة شهادة دبلوم النقد السينمائى التى حصلت عليها منذ عامين؛ وبالفعل قَبِلَ المعهد معادلتى بعد عرضها على لجنة متخصِّصة، والتحقتُ بالدراسة فى دبلومة النقد الفنى، تخصُّص (نقد سينمائى)، فى السنة الدراسية الثانية.
وأتيحت لى الفرصة للتعرُّف على المعهد ودراسته بصورة أقرب. فى البداية، اكتشفت أن وجودى فى قسم النقد السينمائى هو مزيَّة لا تُتاح تقريبا إلا لقِلَّة محدودة جدا من الطلبة؛ حيث نظام المعهد يفرض ما يشبه التنسيق الداخلى بين الأقسام المختلفة فى النقد، ويجب أن يكون الدارس حاصلا على مؤهله الدراسى فى قسم مشابه للقسم الذى سيلتحق به فى معهد النقد الفنى. وبما أنه لا توجد أى دراسة أكاديمية متخصِّصة فى النقد السينمائى أو مؤهل دراسى فى السينما إلا من المعهد العالى للسينما فقط تقريبا، فإن طلبة قسم النقد السينمائى يجب أن يكونوا خرِّيجى المعهد حتى يلتحقوا بالقسم. ودفعتى الدراسية لا تحتوى سِواى متخصِّصة فى النقد السينمائى، والدفعة التى تلينى كذلك بها طالبة واحدة متخصِّصة فى النقد السينمائى.
قَدْرَ ما شعرت بالامتنان لالتحاقى بالمعهد والقسم، وإتاحة الفرصة أمامى للعودة إلى مقاعد الدراسة، التى قد تكون البداية للاستزادة فى دراسة النقد كما أرغب، قَدْرَ ما شعرت بالإحباط لأن هذه الفرصة متاحة لعدد قليل للغاية من الطلبة والنقَّاد والدارسين، الذين قد يقف مؤهلهم الدراسى عقبةً فى طريق ذلك.
الدراسة فى دبلوم النقد الفنى ذاته تتَّسم بمزيَّة مهمَّة، ولكنها عيب فى ذات الوقت؛ فهى تُتيح للطلبة التعرُّف على كامل فروع الفنون ونقدها، من النقد الأدبى للموسيقى والمسرح والرقص والفن التشكيلى، وهو ما يَصقُل ذائقة الناقد، ويدرِّس له أساسيات الفنون المختلفة التى تتداخل بالتأكيد مع بعضها البعض، ولا يمكن فصمها بصورة واضحة، حتى فى وسيط شديد الحداثة نسبيا مثل الفيلم السينمائى.
وبالتالى أدرس فى الوقت الحالى فى معهد النقد الفنى موادَّ مختلفةً عن تلك التى تخصَّصت فيها من قبل فى دبلوم النقد السينمائى، وأتنقَّل بين فروع الفنون المختلفة بصورة يومية، ممَّا يُثرى ثقافتى الفنية بصورة عامة، مع محاولة تطبيق هذه المعارف على النقد السينمائى. ولكن على الجانب الآخر، بوجود مادة واحدة فى النقد السينمائى، وأخرى فى النقد التليڤزيونى، أفتقد المزيد من التعمُّق فى هذين الفنين البصريَّين المعقدين واللذين يحملان طبيعةً خاصَّةً تحتاج إلى إفراد مساحة أكبر من المواد.
ما هى ضرورة دراسة النقد السينمائى؟
قد تبدو الرحلة السابقة واهتمامى بدراسة النقد السينمائى شأنا شخصيا للغاية، أو تجربة فردية. ولكن فى الحقيقة هى ليست كذلك؛ فدراسة النقد السينمائى ليست رفاهية أو متعة فقط للدارسين، وهذا ما يحيلنا إلى أهمية النقد السينمائى بالأساس.
فنقد الأفلام لا يقدِّم فقط إلى المتفرجين ومتلقِّى الأفلام شرحَ ما استخفى عليهم، ولكن يهدف إلى المساعدة فى تشكيل صناعة السينما كلها، من خلال تزويد صنَّاع الأفلام وخبراء السينما والمشاهدين برؤية واضحة لعيوب ومزايا كل فيلم. وتحسينُ الصناعة بشكل عام لن يأتى إلا عن طريق النقد الجِدِّى والمستنير للأفلام.
وبالاقتباس من الناقد الأمريكى الشهير روجر إيبرت: "أهمية نقد الأفلام تأتى من أهمية الأفلام نفسها"، وإلا فكيف يمكننا تقييم الأفلام دون نقد؟ كيف يمكننا تقييم التحديات التى تواجهها الأفلام بشكل مباشر، وما هى العيوب المجتمعية التى تسلِّط الضوءَ عليها أو المخاوف التى تكشفها؟ هل هناك طريقة أخرى لنا لتقدير وفهم هذا الفن الجماعى دون نقد سينمائى؟ لا، بدون نقد، تنخفض قيمة الأفلام، وتتضاءل الأهمية الثقافية لها. نفقد المعنى الحقيقى لأى فن عندما لا تتمُّ دراسته بشكل شامل وكامل، والفيلم ليس استثناءً من ذلك.
وهذا لا يمكن أن يحدث دون امتلاك الناقد السينمائى الأدوات الضرورية لهذه العملية، والتى يكتسبها من الدراسة؛ فالنقد السينمائى يختلف عن التقييم الذى يحصر العمل فى مدى جودة عدة نقاط مثل الصورة والصوت، والتمثيل والقصة والقيمة الأخلاقية للعمل، والتى فى بعض الأحيان يتم تقييمها على هيئة رقمية، فيحصل الفيلم على 5/10 فى التمثيل، و7/10 فى السيناريو.
ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى والمنصات المختلفة، أصبح تقييم الأعمال السينمائية ليس محصورا على النقاد المتخصصين فقط، بل الجميع يمتلك هذه الحرية، ولكن الاختلاف هنا يجب أن يأتى من الناقد نفسه، والذى عليه امتلاك أدوات وقدرات تجعله يقدم للقارئ ما هو أكثر من تقييم رقمى أو سطحى للعمل، وتفتح أمامه وجهات نظر ربما لم يكن ليكتشفها وحده.
وبدون دراسة النقد السينمائى بفروعه المختلفة، من تفاصيل صناعة الأفلام وتاريخ السينما واللغة السينمائية والمناهج النقدية، فنحن بالفعل نقتل فنَّ السينما بأيدينا، ونحكم عليه بأنه فنٌّ لا يقدِّم سوى الترفيه للمشاهدين، وننتزع منه كلَّ قيمة ثقافية واجتماعية يحملها.