الكاتب : أمل ممدوح
سمير فريد.. الناقد العنقاء
عقل هادئ وقلب شغوف
أمل ممدوح
"عقل هادئ وقلب دافئ". عبارةٌ عَرَفتُها كإحدى توصيات المخرج الروسى ستانسلاڤسكى لمنهجه، لكنى دائما ما كنت أتذكرها حين أراه أو أقرأ له؛ فهو يبدو دائما مُطمَئِنا هادئَ الأعصاب كمن لا يعبأ بشىء، لكنه شغوف متوهّج أيضا كالعاشق، يُشِعُّ اعتدادا، تُبرزه وِقفتُه الشامخةُ بشكل تلقائى، بقامته القوية الفارهة، مع لغة جسده الواثقة بارتياح، وطريقة إمساكه بسيجارته الصديقة، بينما يضع يده الأخرى فى جيبه أو عند وسطه، دوما بكامل أناقته، بملابس رسمية كنبيل أرستقراطى، بينما تكتشف سريعا بساطته الشديدة وروحه المرحة إذا ما تحادثتما؛ فهو قادر على إزالة المسافات بوُدّ يظهر حتى فى صوته رغم اعتدال نبرته.
سرعة بديهته وروحه المصرية القريبة تطلان دوما فتزيدان حضوره الطاغى؛ فهو يداهمك بكاريزما لا تملك إزاءها إلا الالتفات له وحده بين الجموع، ومع ذلك لا تلمح فيه ظلال (الإيجو) وأمراضه. له نظرة هادئة مستغرقة تصاحبها ابتسامة غالبا، مع رشفة عميقة لسيجارته المدللة بتمهُّل متلذذ كمن معه كل شىء، لتعرف سريعا أن هذه النظرة التى لا تفشى شيئا لم تدع شيئا إلا ورصدته. تبدو فى عينيه بدايات ضحكة أو نهايتها، وكأنما يتأمل الحياة بنظرة كاريكاتورية ساخرة تعرّيها وتجرّدها من صرامتها، ربما لأنه خاض الكثير من معاركها، وخبرها شرقا وغربا وزمنا، وجها لوجه، أو من خلال أعداد من الكتب ومشاهدة آلاف من الأفلام، فثمة ظل ساخر فى عينيه يعرّى ما يقابله وما يراه حتى من وجوه؛ فقد ذكر لناقد صديق أن رؤيته لأكثر من خمسة آلاف فيلم جعلته يحسن قراءة الوجوه، وحين يتحدث فحديثه غزير المعلومات متدفق بسلاسة، بمنطق عملى منفتح، حاضر الذهن دائما، كأنه فى حالة جريان دائم أنت عبرت بها...
إنه سمير فريد، (عميد النقاد العرب) كما اصطُلِح على تلقيبه، أو (شيخ النقاد السينمائيين العرب). كان ميلاده فى ديسمبرعام 1943 فى أسرة متوسطة بحى العباسية الذى نشأ وعاش به، حتى انتقل إلى حى الزمالك بعد ذلك، وحتى غادرَنا منذ أربعة أعوام فى أبريل 2017. درس النقد فى المعهد العالى للفنون المسرحية، الذى تخرَّج فيه، وله إسهاماته الكبيرة فى مجال السينما والنقد السينمائى، وإصدارات كثيرة من الكتب الهامة تصل إلى حوالى 50 كتابا. نال الكثير من الجوائز والتكريمات المحلية والعالمية الرفيعة، وله أياديه الكثيرة على مؤسسات ومشاريع خدمت السينما، التى عاش حياته يعشقها ويُخلص لها.
لن أُفرِط كثيرا فى هذا الجزء النظرى الذى تمتلئ به الصفحات، وسأحاول الاقتراب منه ومن زواياه النقدية والإنسانية من زاويتى الخاصة. ربما لم أخالطه إلا قليلا، لكن تلقى الأرواح والعقول تجربة خاصة لكل منا.
محاضرة فى ذاكرتى
"الناقد الجيد أندر من العنقاء التى قد تظهر كل خمسمائة عام". مقولة للفيلسوف الألمانى شوبنهاور؛ لكنى سمعتها من الأستاذ فى محاضرة، كان من حسن حظى حضورها معه، فى ورشة للنقد فى جمعية نقاد السينما المصريين، نظمها الناقد أحمد شوقى، وكانت المحاضرة تحديدا فى 22 من شهر فبراير عام 2015. لم يكن لقائى الأول به، وأقصد اللقاء الشخصى المباشر؛ فقد حضرت المؤتمر الصحفى لدورة 2014 لمهرجان القاهرة السينمائى؛ الدورة شديدة التميز، والوحيدة التى ترأسها؛ وربما مرة أخرى فى جمعية النقاد.
أذكر أثناء المحاضرة انطباعى، وإعجابى بموافقته على إعطاء هذه المحاضرة التى سمعت أنها تطوُّعية من جهة، ومن جهة أخرى كونها موجَّهة لحضورٍ قد يكون أغلبهم من الهواة أو المبتدئين، ممَّن ربما لم يمارسوا النقد أو يدرسوه، مع وجود بالطبع من يحضر للاستزادة. والحقيقة أنه ليس وحده الذى فعل، لكنه يظل الأستاذ ذا التاريخ الكبير فى الداخل والخارج.
كان يلقى المحاضرة واقفا، متدفقا وشيق الحديث، غزير المعلومات المدعمة عادة بمقولات تخدم الموضوع، لم يبدُ عليه فتور أو استهانة مَن جاء لمجاملة أو دور شكلى، فلم يحشُ الوقت مثلا لإهداره بأحاديث فرعية أو معلومات بدائية. لم يتعالَ على هذا الدور البسيط؛ فهو يحترمه ويحترم الحاضرين. كان مهتما بأن يؤسّس لهم مفهوم النقد ذاته، وحقيقة دور الناقد، بشكل جاد فعال وسلس جذاب معا. سأذكر فيما يلى بعضا ممَّا ذكره فى هذه المحاضرة.
أذكر أنه رشح لنا فى بدايات حديثه مرجعا يراه من أهم مراجع النقد، هو كتاب (النقد الأدبى الحديث) للدكتور محمد غنيمى هلال. أعرف هذا الكتاب منذ زمن، لكنى تعجبت من اختياره عند الحديث عن السينما، لكنه أكمل قائلا أن مناهج النقد واحدة فى كل الفنون، ثم تحدث عن المنهج، وأنه ينقسم لقسمين كبيرين: إما تناول العمل والنظر له من داخله، أو ربطه بالظروف الخارجية؛ والمهم أن تختار بينهما دون تطبيق ميكانيكى؛ الأمر الذى أتفق فيه معه؛ حيث هناك أعمال تفرض وضع ظروف العمل الخارجية فى الاعتبار لفهم أفضل. قال أيضا إن الناقد يطوّر نفسه من خلال الممارسة لا النظرية، وخلال هذه الممارسة يكتشف الناقد نفسه، مستدعيا بعدها مقولة (سارتر) بأن "النقد لقاء بين ثلاث حريات: حرية الكاتب، وصانع العمل، والمتلقى"، دون اعتداء أحدهم على الآخر؛ فهو يوضح لنا حدود الناقد.
ذكر أيضا تعريف الناقد الأمريكى (تى. إس. إليوت) للناقد بأنه (بشكل غير حرفى): "متلقّ جيد للعمل، وبالتالى قادر على تقييمه، وهو الفرق بينه وبين غيره". وأضاف أن مهمة الناقد مساعدة القارئ على تلقٍّ أفضل، لا ذكر الصواب أو الخطأ، كما أن الناقد يتوجَّه بنقده إلى المتلقى لا الفنان، وأكد على أن الناقد لا ينبغى أبدا أن يستسلم لطغيان أى شخصية أو فنان.
عادةً، كان يتخلل حديثه مقولات أدبية أو تاريخية أو من سير ذاتية، مع ذكر نماذج لكتب وكتاب ومخرجين وأفلام من مختلف العالم والأنواع، فأذكر أنه أعطى مثالا فى حديثه بفيلم الأنيميشن الإيرانى (دجاج بالبرقوق). ومِن جُمَله اللافتة لنا تلك التى كانت حول تحديد الأعمال الأَوْلَى بالنقد، فقال إن ذلك يتوقف على تحديد ما إذا كان العمل فيلما، بمعنى أن تعبيره بلغة السينما، أم لا، فإن لم يكن فلا يكون فيلما، وبالتالى لا داعى لنقده. وهنا أوضح أن السينما هى التى لا يمكن التعبير عنها إلا بلغة السينما، من حركة كاميرا وحجم لقطات وعلاقات بين اللقطات وسيناريو وصوت وغير ذلك. كما أن على الناقد أن ينقد الفيلم كما هو، وليس كما يجب أن يكون، ويضيف أن لهذا السبب فإنه يرى أن المخرجين هم أسوأ أنواع المحكّمين فى العالم، سواء بسبب الغيرة المهنية، أو لوجهة النظر الفنية؛ فممارسو العمل قد يكونون أسوأ من يقوم بتقييمه.
يُطل ارتباطه بجذوره فى حقائق أحبَّ أن يؤكد عليها معنا، فقال إن السينما اختراع عربى فى أساسه، لافتا النظر إلى أن فى جامعة السوربون توجد تماثيل لابن الهيثم وابن سينا وابن خلدون، وأن الأخوين لوميير قد درسا نظريات الحسن بن الهيثم، ليعود إلى مَا قبل العرب، إلى أجداده الفراعنة، رابطا آثارهم بالسينما وطبيعة حركة اللقطات، من خلال ضربه المثل بتعامد الشمس على وجه الملك رمسيس الثانى، كل عام فى يوم مولده، حيث شعاع الشمس (الضوء) يصنع (الصورة)، رابطا الجينات المصرية القديمة بصناعة السينما فى مصر الحديثة، حيث ذكر أن إنتاج مصر فى السينما أربعة آلاف فيلم فى 100 عام.
شعب واثق لكى تكون السينما
ومن أجمل ما قاله فى المحاضرة، إضافةً لكل ما سبق، أن هناك أساسيات ليعرف بلدٌ ما السينما؛ أولها معرفة المسرح، وهو ما أتفق كثيرا فيه مع الأستاذ؛ فالمسرح نواة الدراما، ويؤسس لربط الدراما بالجمهور وقضاياه، ثم يضيف نقطة أخرى هامة توقفتُ معها كثيرا، وهى: "شعب واثق فى نفسه"، بحيث يستطيع الفصل بين الواقع والخيال؛ حيث تعرض السينما وتظهر سلبيات المجتمع، مما يتطلب جمهورا يثق فى نفسه.
كان حواره متدفقا سلسا وموسوعيا. لم يجلس طوال المحاضرة التى كان يلقيها باستمتاع يظهر مدى حبه لهذه المهنة، التى يعتبر هو من أعطاها مسماها على المستوى العربى، وانتقل بها إلى مرحلة منهجية علمية، بعدما كان النقد الانطباعى وحده السائد. كان حريصا فى هذه المحاضرة على أن يؤسس مفاهيم وقيم هذه المهنة، حتى ولو كانت محاضرة تطوعية لمجموعة من المبتدئين؛ وهاهى إحدى الحاضرات تكتب عنها بعدَ سنواتٍ من حضورها، فبقيت المحاضرة وإن غادر الأستاذ.
الأكثر من ذلك أنه لم يكن قد ورد بخيالى وقتها، أنى سيأتى يوم سأكون المشرفة فيه على كتبٍ للأستاذ سمير فريد. وكم يصعب ذكر اسمه غير مشفوع بكلمة (أستاذ). فقد رغبت أثناء إدارتى لتحرير سلسلة (آفاق السينما) التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، فى إعادة طبع عدد من الكتب التى لم تُنشر فى مصر له، ففكرت فى سلسلة من عدة أجزاء اصطُلِح على تسميتها بمجموعة (الاتجاهات)، واقترحتها على د. يحيى عزمى رئيس تحرير السلسلة، واتفقنا عليها مع السيدة منى غويبة زوجة أستاذنا الراحل، وكانت أربعة كتب، أنجزت منها فى مهمتى كتابين حتى وجودى، وبانتظار الكتابين الآخرين. أما الكتابان اللذان صدرا فهما: (مخرجون واتجاهات فى سينما العالم) و(مخرجون واتجاهات فى السينما الأمريكية). كانت هذه فرصة لتعرُّفى على السيدة منى، التى أستطيع - كامرأةٍ - تمييزها كامرأة محبَّة، تملؤها ذكرى من أحبَّت وقدَّرت، وإن كنت من قبل أستطيع أن ألمح طبيعة العَلاقة بينهما من بعض صور رأيتها تجمعهما؛ فالعَلاقات الدافئة المتناغمة تتخطى أُطُر الصور. أستطيع تمييز ما كانته له، وما تُكِنُّه له، ليتأكد ذلك فى تعاملى معها من أجل الكتابين، وحرصها الكبير على التعاون لإخراج الكتب فى أفضل صورة، مهما كلفها الأمر من جهد، وذلك برغم عائدها المتواضع من مؤسسة حكومية، وكأنها تلقاه عبر هذه المهام من جديد.
مع أجنحة الحالمين بلا روح أسيرة
لم يكن سياسيا، وإن كان يهتم بالسياسة. قال عن نفسه أنه: "يسارى على طريقة جودار". كان تقدميا ليبراليا، قادرا على كسر الأنماط الذهنية وتبنى آراء خارج وعى محيطه تصدمه، يميل لدعم المواهب الجديدة والاتجاهات الفنية الحديثة، متوافقا بذلك مع طبيعة الفن القادر على استباق الواقع بخطوة أو خطوات، يحارب الرجعية ويناصر الحرية، ساعيا دوما لتحرير الفن من سطوة السلطة والدين، فكان يدعو لخروج السينما من عباءة إنتاج الدولة وتوجيهها، كما له مواقفه لتقليص دور الرقابة الفنية وقيود المؤسسات الدينية على الفن، مثل مواقفه مع فيلم (الرسالة) للمخرج مصطفى العقاد، وفيلم (المهاجر) ليوسف شاهين، الذى كان مناصرا لأفلامه عموما رغم الموقف الجماهيرى ضدها، كما كان منحازا وداعما للسينما المستقلة مغردا خارج السرب مع (الحالمين)، بحسب تعبير المخرجة هالة لطفى فى مقال عنه؛ فما أكثر ما ناصر المخرجين الجدد والمختلفين، وأفكارهم الجريئة وأفلامهم، وإن لم يُرضِ ذلك أو يتفق مع جموع السينمائيين، الذين قد يتهمونه أحيانا بالمبالغة فى الانتصار لأعمال متواضعة. ورأيى الشخصى أنه كان ميَّالا لإحداث نوع من الصدمة، والرغبة فى تحرير الفن من قبضة الصرامة والقواعد النظرية الجافة، والآراء والأحكام النمطية، بالانتصار لجانبه الإمتاعى، وإطلاق جناحيه بحرية، وهو ما لا يتأتى إلا بتحرير صانع العمل وتخفيف وطأة الأحكام عليه، فيميل للبحث عن نقاط التميُّز فى العمل ويحتفى بها، وهو ما يذكّرنى بأحد التعريفات الفلسفية للنقد بأنه: "البحث عن مناطق الجمال فى العمل".
كان قادرا على الاستشراف وطرح نظريات وأطروحات ترصد اتجاهات وظواهر السينما؛ فهو صاحب مصطلح (الواقعية الجديدة فى السينما المصرية)، التى رصدها فى أعمال المخرجين الأربعة: (عاطف الطيب ومحمد خان وخيرى بشارة وداود عبد السيد)، وكان متابعا جيدا لكل جديد، ميالا للتطور والحداثية، قادرا على القرارات الجريئة وإدخالها عمليا حيز التنفيذ، كتبنّيه للتجارب والكيانات السينمائية الناجحة عالميا، والمبادرة لتطبيقها محليا، مثل إسهامه فى قيام اتحاد نقاد السينما وتأسيس جرائد سينمائية أسبوعية، ومشاركته فى تأسيس جمعية نقاد السينما المصريين، والمهرجان القومى للسينما، وغير ذلك؛ فهو كان يعترف بالتأثير الغربى ويأخذ منه المناسب لكنه يرفض "الروح الأسيرة له"، بحسب تعبيره.
كتاباته... عين كاشفة وصديقة
حين تقرأ لسمير فريد، لن تبهرك لغة مغزولة، أو تعبيرات أكاديمية صعبة، أو بريق كلمات غير مألوفة تبدو عميقة، أو أسلوب يغازل القارئ ويسعى لإثارته. لن تجد الكثير من النظريات والمصطلحات النقدية والسينمائية والكلمات الأجنبية، بل ستقف كثيرا أمام بساطة أسلوبه القادر على جذبك دون اصطناع واحتياج لِمَا سبق؛ قادر أن يعبر إليك دون حواجز، فى جريان سهل دون خفة، وأن يشبعك دون إثقال، وأن يضىء بسلاسة ما يستحق أن يُضاء، دون ميل لإسهاب لا داعىَ له قد يشتتك ويرهقك؛ فهو حريص على عدم التعالى على القارئ، أو الانعزال عنه فى جبال الأوليمب (مقر آلهة الإغريق)، وأيضا على احترامه وعدم الاستهانة به، فيلتزم عادةً بالحديث عن العمل نفسه، مع إحالات ومعلومات خارجية وترابطات إن تطلب الأمر، فيضيفها فقط لفهم أشمل وأعمق للعمل، مستطيعا وضعَ يد القارئ على مفتاح أو مفاتيح قراءة العمل ونقاطه المركزية، بموضوعية وبدون ذاتية، مع لغة راقية منضبطة دون تكلف، بأسلوب شيق، به روح حكَّاءة دون ثرثرة أو إفراط فى سرد قصة العمل. قد يلخص معنى كبيرا فى عبارة بسيطة؛ فمقالاته ثمرة لاتساع الرؤية والتجربة والفهم الدقيق. يحترم أيضا صاحب العمل، ويحترم تجربته وحديثه عنها، سواء اتفق أو اختلف معه أو معها، فلا يلجأ للشخصنة أو التجريح، ولن تجد أثر خلفيات علاقات أو خصومات فى حديثه ومواقفه.
المسرح كنقطة أولى
عبَّر الأستاذ عن أهمية المسرح للسينما كما ذكر فى المحاضرة المشار إليها، وربما أكد ذلك فى مواقف أخرى، وهو من تخرج فى الأساس فى معهد الفنون المسرحية. ويتماشى رأيه هذا مع كتابه (شكسبير كاتب السينما) الصادر عام 2002 عن المجلس الأعلى للثقافة، والذى أسند مهمة كتابة مقدمته للناقدة المسرحية القديرة د. نهاد صليحة، التى - بشكل ما - أجد بينهما بالمناسبة تشابها كبيرا، على اختلاف وسيط تخصصهما؛ فقد عايشت كلًّا منهما، أو على الأقل تعاملت معه؛ فكلاهما صاحب علم واسع وموسوعى، مسكون بالشغف والعشق الحقيقى لمهنته؛ كلاهما منفتح على التجارب الجديدة منحاز لها وداعم للموهوبين، وكلاهما دءُوب معطاء حتى آخر لحظة، معتد بذاته بتواضع وبساطة، وهى سمات الكبار بحق.
تقول د. نهاد صليحة فى مقدمتها للكتاب، إن الكتاب "يتبنى المنظور الليبرالى تجاه التراث الأدبى، ولكن دون مغالاة أو تطرف؛ فالكاتب لا يتجاهل النص الأدبى الأم، الذى يتولد منه العمل السينمائى، بل يتبع منهجا قوامه المقارنة الذكية الواعية بين النص الأدبى الشكسبيرى، وبين الفيلم السينمائى، ويكشف هذا المنهج الصعب المركب، عن تمرس الناقد السينمائى الكبير ـ سمير فريد ـ بالفن السينمائى فى كافة جوانبه وكل عناصره، وهو ما نتوقعه منه، كما يثبت لنا أيضا، وهو الجديد المبهج، درايته العميقة بفن المسرح عامة، وبمسرح شكسبير خاصة؛ فهو يكتب عن الدراما الشكسبيرية وكأنه باحث متخصص فى هذا المجال، بل يحللها بعمق لا يتوفر لكثير من المتخصصين". ثم تشير بانبهار لأهم خاصية تراها فى هذا الكتاب، وترى أنها ربما لم يتطرق لها أحد قبل ذلك، وهى تطرُّق الكاتب لخاصية (المخيّلة السينمائية) فى أعمال شكسبير المسرحية، ثم تشير لتعبير سمير فريد: "كان شكسبير يفكر بلغة السينما".
مقتطفات من كتاب
لننتقل الآن لتأمُّل مقتطفات من كتابته، وسأتوقف مع نموذج منها من خلال كتابه (الموجة الجديدة فى السينما المصرية)، ولننظر لكمّ الفقرات الهامة التى يحتويها فقط كتاب واحد من كتبه:
يقول فى مقاله عن فيلم (أرض الأحلام) لداود عبد السيد: "ولكل عمل فنى مفتاح يحتاج إلى قدر من الجهد للعثور عليه؛ فتلقّى الفن ليس عملية سلبية تماما؛ بل إن متعة الفن فى تجاوب المتفرج مع العمل الفني؛ ويكبر العمل كلما زادت قدرته على التقليل من سلبية المتفرج، وجعله يستمتع بإثارة أحاسيسه وأفكاره".
وفى مقطع من مقاله عن فيلم (الرجل الأبيض المتوسط) للمخرج شريف مندور يقول: "كل من يخرج فيلما هو مخرج، ولكن ليس كل مخرج مبدعا، وإنما المبدع من يتمكن من الإخراج بأسلوب خاص. الإبداع هو الأسلوب".
ولا أبسطَ من هذا الشرح لمفهوم الحداثة، الذى ورد فى مقاله عن فيلم (جنة الشياطين) للمخرج أسامة فوزى: "الحداثة فى السينما أن يكون الفيلم كله مضمون الفيلم، بحيث يستحيل تلخيصه فى قصة أدبية، مثل قطعة الموسيقى أو قصيدة الشعر".
ويروى فى بداية مقاله عن فيلم (العودة والعصفور) لهانى لاشين، عن سؤاله حين كان طالبا فى السنة الأولى فى معهد الفنون المسرحية، لأستاذه محمد مندور الذى كان يدرس له مادة النقد المسرحي: "كيف نكون نقادا يا أستاذ؟"، ليضحك الأستاذ مجيبا: "لهذا السبب سميت هذا القسم فى المعهد العالى للفنون المسرحية، بقسم الأدب المسرحى وليس قسم النقد؛ فلا يوجد قسم فى العالم كله من شأنه ضمان، ولا حتى الحد الأدنى، لتخريج ناقد، كما يمكن ضمان ذلك فى كلية الطب أو الهندسة أو غيرهما"، ليضيف أستاذه: "الناقد يوجد ولا يصنع"، ليستطرد: "ولكن هذا لا يعنى أن الإلهام والعبقرية كافيان؛ فالمعرفة أولا، والمعرفة أخيرا للناقد الحق".
وليس أكثر سلاسة لشرح مفهوم (سينما المؤلف) من حديثه عن المخرج رأفت الميهى، فى بداية مقاله عن فيلمه (قليل من الحب... كثير من العنف)، فيقول: "رأفت الميهى نموذج للمؤلف السينمائى فى السينما المصرية المعاصرة، ليس لأنه يكتب أفلامه ويخرجها فقط، وإنما أساسا لأنه يعبّر من خلال الأفلام عن رؤية خاصة للعالم بأسلوب خاص".
السينماتيك، حلما أخيرا
خمسون عاما تقريبا أمضاها أستاذنا مبحرا فى عالم هذا الفن، يعطى بشغف ودأب للسينما التى عشقها، ولمهنة النقد السينمائى التى احترمها وسعى لإعطائها ثقلها، كعلم ذى أسس ومناهج، لا مجرد هوى، إلى أن اضطر لإنهاء الرحلة، تاركا وراءه أحلاما تمنَّاها وما زالت لم تتحقق، كإنشاء (سينماتيك) أو أرشيڤ سينمائى موثق، وإن كان بيته تقريبا يضمُّه؛ ففى بيته مكتبة سينمائية كبرى، وأرشيڤ فيلموجرافى دقيق هائل. فلا أقل من تحقيق هذا الحلم والاستفادة من جهده الجاد والهائل عبر السنين، بإنشاء مؤسسة لتوثيق السينما من الممكن أن تحمل اسمه، حفظا لجهده ذاته فيها، كما أتمنى أن يُحفظ تراث سمير فريد، ليس كتكريم مستحَق لاسمه؛ فالأمر يتخطى تكريم الاسم إلى تكريم مهنة عاش لها وأعطاها هذا الاسم، وسعى لتقديرها وإعطائها مكانتها، فلا يكون الاهتمام فقط بحفظ تراث السينمائيين من صناع السينما، بل إن مهنة الناقد التى حافظت على قيمة هذه الصناعة وهذا الفن وحفظته من الانحطاط، جديرة فى حد ذاتها بالتكريم. وهنا أذكر رأيا هاما لشوبنهاور: "إن الناقد هو المؤطر للحاسة الجمالية، وهو مِصفاة تقف فى وجه المقلدين عديمى القيمة؛ فالجمهور وفى كل الأحوال يفتقر إلى هذه الحاسَّة، أى حاسة التمييز بين الجميل والردىء، وفى غياب الناقد، يعمل المندسون فى عالم الإبداع على خلق اللبس بين ما هو جميل وما هو ردىء". فتَحيَّة للصادقين رواد النور.. مَن رَأَوْا فأَرَوْنا.. تحيَّة لك أستاذى سمير فريد.