وليد سيف يكتب: كيف أكتب مقالاتي في النقد السينمائي

د.وليد سيف 05 مارس 2022 النقد السينمائي

الكاتب : د.وليد سيف


د. وليد سيف
كنت قد أدركت منذ زمنٍ مبكرٍ أنه على الناقد السينمائى أن يسعى لإجادة فن كتابة المقال بوجه عام. لكنى أعترف لكم بأننى لم أتوقف فى يوم من الأيام عن السعى نحو تحسين أسلوبى فى الكتابة؛ فالقدرة على الكتابة النقدية لا تعتمد فقط على الفهم الصحيح والإدراك السليم للعمل الفنى وامتلاك الرؤية ووجهة النظر فى الفن والحياة؛ بل إن هناك الكثير من الزملاء الذين يتحدَّثون بطلاقة وتمكُّن فى الندوات والنقاشات، وحين أقرأ لهم، أرى مسافةً شاسعةً بين المستوى الرفيع لِمَا يقولونه، وبين كتابتِهم الهزيلة، ربما عن نفس الموضوع الذى سمعتهم يتحدَّثون عنه بطلاقة! فليس من المُجدى أو المفيد أن يتضمَّن المقال آراءً فى غاية الأهمية، ونافذةً نحو قراءةٍ عميقةٍ للفيلم، ولكن بأسلوب ركيك أو ردىء، أو فى بناء غير متسلسل أو جاذب للقراءة، أو بأسلوب جاف وممل، أو بطريقة مقتضبة أقرب إلى تقارير معامل التحاليل!
عرفت مبكرا أنه ليس من اللائق أن أحيل مقالى إلى نقاط وتفاصيل تحليلية منفصلة، فهنا أتحدَّث عن السيناريو، ثم أُتبِعه بالتصوير، ثم المونتاج وهكذا، بل أحاول قدر الإمكان أن أبدأ بتساؤلاتى حول مفتاحى النقدى نحو تفسيرى لجوهر الفيلم وعمقه وهدف صُنَّاعه طبقا لتصورى.
فى مَعرِض تناولى التحليلى لتفاصيل الفيلم التى تؤيد رؤيتى أو مفهومى، أغرس ملاحظاتى التفصيلية، وأحاول أن أضعها فى المكان اللائق، وبأسلوب التداعى، وأن تُسلّم كل جملة أو فقرة للأخرى بشكل انسيابى، وأتجنَّب النقلات الخشنة قدرَ الإمكان.
يمكن أن أشير إلى جانبٍ أعجبنى فى التصوير أثناء تناولى لأحد المَشاهد الدَّالَّة فى فِقرةٍ ما، ثم أعود فى فِقرةٍ أخرى فى موضع آخر لأتناول جانبا آخرَ فى نفس التخصُّص لم يُعجبنى. قد يمتزج الكلام عن السيناريو مع المونتاج لارتباطهما بالإيقاع، وقد يرتبط أداء الممثل بأسلوبية المخرج واهتمامه بعنصر الإيهام والاندماج أو العكس.
تعيننى القواعد التقليدية البسيطة على الأقل فى الكتابة المبدئية؛ وأفضّل أن أبدأ مقالى بتساؤل جوهرى، قد يكون عن مضمون الفيلم ومكمن جماله وسر إبداعه؛ وأفضّل أيضا أن أنهى مقالى بإجابة، أو بمحاولة إجابة، عن هذا التساؤل، أختزِل فيها بشكل سريع كلَّ ما احتواه المقال. وأحاول أن أتخيَّر عبارات النهاية بشكل قوى ومعبر، وأن تتضمَّن آخر سطورى مفاجأة تنويرية - إن أمكن - أو معلومة أخفيتها، ليترك المقال أثرا قويا فى قارئه.
أعترف لكم أننى مع كل فيلم أشاهده، مهما كانت بساطته، أجد نفسى حائرا كالتلميذ الذى يواجه امتحانا صعبا؛ فمع كل فيلم جديد تجربة جديدة. والمسألة لا تتعلق ببساطة الفيلم أو صعوبة استيعابه، لكنها تتعلق في الأساس بأسلوب تناولى له؛ فمن الممل جدا أن تجد نفسك تعيد فى مقالاتك نفس العبارات، أو تكرر نفس الأفكار؛ فعليك دائما أن تجد شيئا جديدا تقوله، وأن يتفق هذا الشىء مع ثقافتك وقناعاتك وخبرتك بالفن والحياة، وبالطبع مع رأيك فى الفيلم على وجه التحديد.
من السهل أن تقرر أن الفيلم جيد أو ردىء، وأن تلتقط بعض الجوانب الإيجابية والسلبية فى الفيلم؛ لكن الصعوبة تكمن فى أن تَصُوغ من هذا الرأى وهذه التفاصيل مقالا له قوامه وبناؤه وكيانه وقيمته.
لكى أصل إلى هذا الشكل من الكتابة، ليس أمامى سوى الكتابة. قد أحتاج إلى عدَّة ساعات من التأمُّل على الورق، أو بطريقة ذهنية مَحضة، وقد أكتفى بالاعتماد على الذاكرة بعد المشاهدة، أو تدوين ملاحظات أثناءها. لكن اللحظة الحقيقية التى أبدأ فيها بالعمل الجدى هى تلك اللحظة التى أؤجلها دائما، وهى اللحظة التى أبدأ فيها بالكتابة.
أحيانا أضطر إلى تكرار المشاهدة، وقد تتفتح لى آفاق الكتابة حين أتوصل إلى عنوان للمقال، ربما قبل أن أبدأ الكتابة. وهى مسألة ساعدتنى فى بعض الأحيان؛ لكن فى حالة غيابها ليس أمامى سوى أن أكتب كلَّ ما يتبادر إلى ذهنى؛ فقرات متصلة أو عبارات منفصلة. أدوّن على الورق كل آرائى وملاحظاتى عن الفيلم. ربما أتذكر بعض جمل حواره الموحية، أو بعض مَشاهده المعبرة والبليغة. قد تستدعى ذاكرتى بعض الآراء النقدية النظرية التى تنطبق على موضوع الفيلم أو تفاصيله فأدوّنها، وقد تخطر على ذهنى بعض الأقوال المأثورة التى ترتبط بأفكاره أو بتصوُّرى عنه.
هكذا تتشكل أمامى المادة الخام للمقال. أتركها قليلا، وأعيد التفكير فى الفيلم. قد أجد ملحوظة مهمة نَسِيت أن أدوّنها. أعود للورق من جديد. أعيد قراءته، وأدوّن ما أريد إضافته، وفى الغالب سوف تجذبنى بعض العبارات أو الفقرات، فأجدها تستحثنى على الاستطراد، فأضيف المزيد هنا وهناك.
تتبلور فى لحظةٍ ما رؤية كلية أو وجهة نظر عامة أو فرضية أريد إثباتها من هذا المقال؛ فلا يوجد فيلم فى الدنيا، مهما كانت بساطته أو حتى تفاهته، إلا ويكون كفيلا بإثارة قضية، أو على الأقل إلهام الناقد بفكرة، أو دفعه لتصحيح مفهوم عن الفن، أو توجيه الفنان نحو مكمن الإجادة أو الخلل الذى أدَّى بعمله إلى النجاح أو الفشل.
فلأبدأْ بكتابة الفقرات الافتتاحية التى تحمل تساؤلاتى حول فكرتى المحورية التى أسعى لإثارتها من خلال هذا المقال، ثم لِأُشرِك القارئَ معى وأُعطِهِ نبذةً عامةً عن الفيلم وفكرته. يجب أن تكون نبذة مختصرة، فى حدود فِقرة، أو على الأكثر فقرتين، لكن بدون إخلال، عن توصيل موضوع الفيلم ومضمونه من وجهة نظرى.
فالمقال ليس موجَّها فقط لمن شاهدوا الفيلم، لكنه موجَّهٌ أيضا لمن تدعوهم لمشاهدته أو مقاطعاته. ولا يستطيع أحد أن يتابع مقالا يدور حول موضوع دون أن تتوفر لديه ولو فكرة بسيطة عنه، وهذه مسئوليتى. سوف أجد ضمن مادتى المكتوبة ما يناقش الجوانب الفكرية والبصرية للفيلم؛ ربما تبدو هذه التفصيلة هى الأفضل الآن لأبدأ بها.
قد أجد بعض التفاصيل التي يمكن غرسها داخل عرضى لملخص الفيلم، وقد أنقل جزءا من تفاصيل أحداث الفيلم لأضعه داخل فقرة تتضمَّن تحليلا لأحد جوانبه؛ وهكذا أكون قد انتهيت من كتابة ثلث المقال تقريبا.
لكن ما زالت أمامى نقاط كثيرة لم أتناولها. سوف أختار الأهم فى البداية، وأكتب عنها ما يشكل الثلث الثانى الأكبر من المقال، وأستبقى المهم. الآن لم يتبقَّ سوى الثلث الأخير. فلأتركه لكتابة الفقرات الختامية. هكذا أكون قد انتهيت من المُسَوَّدة الأولى. استراحة قصيرة لإعداد فنجان من القهوة، ولأُعِد التأمُّل فى الفيلم، والتفكير فيما كتبته. أعود إلى الورق من جديد لقراءة النقاط التى لم أضمّنْها متنَ المُسَوَّدَة الأولى؛ فربما أجد بينها ما يلزم إضافته.
والآن لأقرأ ما كتبته. ما هذا السُّخْف؟ إن هذه المقدمة فاضحة وتقليدية. لكن الفقرة الثانية لا غبارَ عليها. أما الفقرة الثالثة، فإنها الأفضل لأبدأ بها المقال. نعم، إنها الأكثر جاذبية وتعبيرا وتحريكا لعقلى وقلمى، حتى ولو كانت تبدأ مباشرةً بسرد نهاية الفيلم، دون أن تحمل تساؤلا طبقا للمبدأ التقليدى الذى أتبعه فى كتابة المقال. لا يهم؛ فهذه النهاية فى حد ذاتها تحمل الكثير من الدلالات، وتفرض الكثير من التساؤلات. سوف يفرض هذا التغيير إجراء تعديلات كثيرة. فلأبدأ على الفور. والآن، قد أخذ المقال شكلا أفضل وأقرب لِمَا تمنيته؛ لكن المساحة زادت عن المطلوب، مع أنى لم أكتب فقرة النهاية. فلأسترِحْ قليلا، أو أؤجل الكتابة النهائية للغد مع قوة دفع وحماسة جديدة.
قد يصيبنى الأرق من التفكير والتركيز، فيطرد النوم من عينى، لأعود من جديد. يا ألله! لم تكن هذه الفقرة الأنسب للافتتاح، لكنها فقرة ختامية هائلة. كانت فقرة الافتتاح التى حذفتها من قبل هى الأنسب، والحمد لله، لم ألقِ بها فى سلة المهملات. إنها تحتاج بعض التعديلات، لكنها سوف تصل إلى شكل رائع وجذاب ومعبر.
هكذا اكتمل شكلُ المقال. أصبح له بداية ووسط ونهاية. فلأسترِحْ ثانية، ثم أَعُدْ إليه. الآن أقرؤه بهدوء وعناية، ودون قلق أو توتر. إنها الكتابة الثالثة، للمراجعة والتوضيح والتجويد. هذه العبارة غامضة، تحتاج إلى بعض التوضيح. وهذه الجملة قد تسبب لبسا أو ارتباكا فى توصيل المعنى، فلأستبدلها بأخرى. وهذه الفقرة فى حاجة إلى تدعيم؛ لأنها لم تستوفِ الجانب المهم الذى تتعرض له.
فى هذه المرحلة، بعد أن أوشكت الصورة على الاكتمال، قد تتبادر إلى الذهن إضافات فى غاية الأهمية، سواء على مستوى بلورة الفكرة، أو تجويد أسلوبية المقال. وقد أشعر بعدها أننى وصلت إلى حالة من الرضاء شبه التام، وقد أجِدُنى مصابا بقدر من القلق، وما زالت هناك أفكار تدور فى رأسى، وقد أجِدُنى فى حاجة إلى إعادة كتابة المقال من جديد، لكن بعد أن أصبحت كل الأمور واضحة أمامى.
قد أجِدُنى أعيد قراءته فقط من أجل مراجعة اللغة والبيانات، ولضبطه تماما طِبقا لعدد الكلمات المطلوبة من الجريدة، فأحذف بعض الجمل والعبارات فى حالة الزيادة، أو أضيف إلى بعض النقاط التى أجدها قد تحتاج مزيدا من الإيضاح فى حالة النقص. وهكذا أصبح المقال جاهزا للإرسال قبل أن أتراجَع عن قرارى.
لا تتعجَّبْ عزيزى المبتدئ؛ فالخبرة لا تعنى الثقة المفرطة، ولا يُوجَد صانع فى العالم، مهما كانت خبرته، يُتقن صنعته من أول مرة، إلا لو كان يعمل على نماذج جاهزة. لكن الحقيقة أنه ما من مقال كتبته، مهما كانت مرات المراجعة، إلا ووجدت فيه بعد النشر أخطاءً وقعتُ فيها. بل إننى كثيرا ما أجد فى مقالاتى وكتاباتى السابقة آراءً تستحقُّ المراجعة والتصحيح.
لهذا، لا تقلق، ولتبدأ من الآن؛ فأهم شىء ذكرته لك أن ممارسة النقد لا تبدأ فعليا إلا من لحظة الكتابة؛ هذه هى طريقتى عادةً فى الكتابة التى تتحقق بها معظم مقالاتى؛ لكنها ليست ملزمة لأحد؛ فطرق الكتابة تختلف من شخص لآخر. بل إننى كثيرا ما أكتب بطريقة مختلفة؛ ففى بعض الأحيان لا أستطيع أبدا أن أكتب المقال بشكل مرتب، فأظل أعيد كتابة النقاط التى دوَّنتها، وأضيف إليها وأعدل فيها وأختصر منها وأجوّد وأدقق فى تعبيراتها دون أى ترتيب، حتى يتشكل لدىَّ عدد من الفقرات المتكاملة المعبرة.
وهنا أبدأ فى ترتيبها وإعادة صياغتها حتى تتشكل لدىَّ المُسَوَّدة الأولى. ومن إعادة قراءتها، أتوصل إلى فكرة محورية، أجدها تغلبت على مختلف الفقرات، وهنا فقط أبدأ فى ترتيب وضبط المقال. كما أننى فى بعض الأحيان أجد الفكرة قد اختمرت فى ذهنى بسهولة، فأجلس على الورق مباشرة، لأجد المقال يُصَاغ بشكله المرتب وبصورته التى تقترب من النهائية التى لا تستلزم إلا بعض المراجعة والتجويد.
لكن أهم ما يجب أن يلتزم به الناقد هو: مراجعة ما كتبه، وأن ينفصل بعض الوقت عن مقاله، ثم يعود إليه بعد فترة، ولا يجب أن ينظر إلى ما كتبه نظرة العاشق الولهان المفتون بقلمه. الحقيقة أننى لم أكتب مقالا فى حياتى إلا وشعرت أنه أضعف ما كتبت. كل ما فى الأمر هو أننى وصلتُ إلى مرحلةٍ لا أجد فيها ما أضيفه أو أحذفه، أو أن الوقت قد حان لتسليم المقال، ولا أبدأ أنظر إلى المقال بأى قدر من الإعجاب إلا عندما يُبدِى أحدُهم إعجابا به؛ هنالك فقط أعود إلى المقال، وأقرؤه من جديد فى شعور بالسعادة والفخر.
بعيدا عن وجهة النظر النقدية وأسلوب الكتابة، هناك بعض المهارات البسيطة التى تضيف مزيدا من الأهمية والجاذبية لِمَا يكتبه الناقد، وتتيح لِمَا يكتبه مجالاتٍ أوسعَ للنشر، وجمهورا أكبرَ من القرَّاء. سبق أن ذكرت أهمية العثور على عنوان للمقال كأحد العناصر الدافعة للإمساك بالموضوع والسيطرة على الفكرة مِمَّا يؤدّى إلى تدفق الكتابة.
على جانب آخر، تكمن أهمية اختيار العنوان فى جذب القارئ، ومن قبله المسئول عن النشر، خاصةً عندما يكون الناقد فى بداياته ولم يصبح محل ثقة الجريدة. فإذا كان عنوان البحث العلمى هو الذى يبلور صياغته ويحدد مضمونه بطريقه جامعة مانعة، فإن عنوان المقال يضاف إليه بعد هذه الشروط شرط الجاذبية وإثارة الاهتمام والتلميح دون الإفصاح.
كثيرا أيضا ما ينجذب القارئ حين يجد عنوان المقال يتَّصل بعنوان الفيلم، أو يعتمد على مفرداته؛ ولا مانع من أن يضع الناقد عنوانين للمقال قد تختار الجريدة أحدهما أو تنشر كليهما، وهو ما حدث فى عنوانى: (إحكى يا شهرزاد، فهل ينصت أحد؟ من سحق المرأة إلى قهر المجتمع)، أو عنوانى عن الفيلم الأمريكى: (حياة رائعة لكنها تسير بالعكس).
من المهم أيضا أن يتعرف الناقد على طبيعة الموقع أو الجريدة أو المجلة التى ينشر بها، أو التى من المنتظر أن ينشر بها؛ على أسلوبها وتوجهاتها وسياستها. ربما لا يجد أفكاره متطابقة تماما معها، لكنه من المحتمل جدا أن يجد مساحات من التَّماسّ والتلاقى.
كنت، وأنا فى بداياتى، قد تلقيت دعوة كريمة ومفاجِئة عبر اتصال من الكويت من رجلٍ لم أعرفه من قبل، يدعونى للكتابة فى مجلة (العربى)، اسمه (عبد الله العطار)، وسرعان ما اكتشفت أنه رئيس التحرير شخصيا.
وأكد لى الأصدقاء أنها فرصة نادرة؛ لأن الكثيرين يسعون لنَيْل شرف النشر فى هذه المجلة العريقة، لقيمتها وقوة توزيعها. كان لا بد أن أطَّلع على أعدادها الأخيرة لأعرف أسلوب اختيار الموضوعات، ونوعية الكتَّاب الذين يُسهمون فيها، وكنت أعرف مسبقا بالطبع أن مجلة (العربى) تهتم بالموضوعات ذات الطابع الشرقى، ويضاف إلى الجانب الثقافى لها الاهتمام بالجانب المعرفى، وبأهمية طرح صورة صحيحة للشرق عموما. وجدت ضالتى سريعا فى فيلم (المليونير المتشرد Slamdog Millionaire) الذى كنت أنوى الكتابة عنه وكان يحظى بنجاح كبير واهتمام لا حد له من الصحافة.
وجدت مدخلى بسهولة للفيلم الذى يرتبط بطرح صورة جديدة للمواطن الشرقى تختلف تماما عن تلك التى رسَّخ لها الإعلام الغربى لسنوات طويلة. كان علىَّ أن أتعرف أيضا على المساحات المتاحة لكتابة المقال. ومن عاداتى الرديئة أننى لا أحب أن أسأل أحدا أو أستوضح شيئا من مسئول، خاصةً إذا كان من الممكن استنتاج الإجابة دون الحاجة لسؤال اللئيم، أو حتى الكريم.
لاحظت أن المقال فى هذه الجريدة مساحته أضعاف المتاح لى أن أكتبه فى معظم الدوريات، فوجدت أنها فرصة لعرض الموضوع بصورة أقرب من البحث المتوسّع، خاصة فى النقاط التى تتعلق بالجانب الموضوعى، مع عدم التخلى عن أسلوبيتى المعتادة فى المقال، بالتعرض للجوانب السينمائية والعناصر التى تلعب دورا أساسيا فى التعبير عن مضمونه ورؤيته الدرامية.
انتهيت من الكتابة المبدئية للمقال، وبدأت التفكير فى عنوان للمقال، فعدت لدراسة أسلوب كتابة العناوين فى الأعداد الأخيرة من المجلة المرموقة، فوجدتها تتميَّز بالطول نوعا، وكثيرا ما تنحو فى اتجاه الأسئلة. وسرعان ما ربطت بين هذا الأسلوب وطبيعة الفيلم الذى يرتبط بفكرة (من سيربح المليون؟) المبنى على سؤال وأربع إجابات مقترحة لاختيار إحداها.
هكذا تحددت فكرة العنوان؛ وسرعان ما تشكل السؤال المحورى للفيلم وللمقال مع إجابات أربع، وجدتها تضيف إلى المقال مزيدا من الغموض والجاذبية، فوضعت العنوان التالى:
"(المليونير المتشرد) ربح الجوائز وأثار ضجة، فهل هو: أ - تحفة سينمائية. ب - دعاية موجَّهة. ج - إهانة مُتَعمَّدة. د - فيلم تجارى".
جاء المقال المنشور يحمل نفس العنوان، لكن بتعديل أو اختصار بسيط: "(المليونير المتشرد) ربح الجوائز وأثار ضجة فهل هو: أ - تحفة سينمائية. ب - إهانة متعمَّدة). ربما يأتى العنوان الذى استقرَّت عليه المجلَّة أكثر تكثيفا، لكنه بالتأكيد يُفقد العنوان الأصلى ارتباطه بفكرة الفيلم، كما يختزل، بأسلوبٍ مُخِل، مجالات التساؤل والبحث التى يطرحها المقال. لكن مسألة تدخل المجلَّة أو الجريدة، فى العنوان تحديدا، أمرٌ مفروغٌ منه؛ بل إن بعض الكتاب لا يضعون عنوانا، ويتركون هذه المهمة لمسئول الصفحة أو التحرير. لكنها مسألة تعبر عن عدم اهتمام الكاتب بمقاله؛ فالعنوان الذى يضعه، حتى وإن لم يتم الالتزام به، فهو يمنح المسئول فرصة التفكير فى عنوانٍ للمقال يتَّسق مع فكر الكاتب. الحقيقة أننى نادرا ما كتبت عنوانا لمقالٍ وغُيّر أو عُدّل.
تطوير الكتابة
تحدثت فى الفقرة السابقة عن احتمال قيام المسئولين عن النشر بالتغيير والتعديل فى المقال؛ وهى فى الحقيقة مسألة قد تحدث أحيانا مع الكتَّاب الجدد، وكثيرا ما تكون بدافع تحسين المقال وضبط عباراته، وإلغاء أى التباس يمكن أن يحدث للقارئ نتيجة لعدم دقة الكاتب فى عباراته أو ضعف أسلوبيته.
من الهواية إلى الاحتراف
كنت أكتب النقد لفترة طويلة باعتباره وسيلتى للتعبير والتحقق الوحيدة عندما تنسدُّ سُبُل كتابة السيناريو أمامى. لكنى فى إحدى المرات، وفى نهاية لقائى بالمشرف على الصفحة الفنية (الأمير أباظة)، لتسليمه مقالى، وجدته يصافحنى مودعا وهو يقول: "ما تبقاش تتأخَّر فى الكتابة، وحاول تنتظم معانا فى النشر بشكل أسبوعى... إنت كاتب كبير ولك قرَّاءك".
قاومتُ رغبتى المُلِحَّة فى تقبيل رأسه، وسرت فى طريقى وأنا فى حالة من الدوار. كانت الكلمة تتردد فى رأسى فتسكرنى: "إنت كاتب كبير ولك قرَّاءك". متى حدث هذا وكيف؟ كان عمرى وقتها ناهز الأربعين، لكنى لم أكن أتصور أننى وصلت إلى هذه المكانة!
واستطعت أن أقاوم أعراض الغرور المؤدّية إلى السرايا الصفراء، خاصةً حين علمت أن هذه الجريدة الغرَّاء لا توزع سوى ألفَىْ نسخة على مستوى الجمهورية، وأن هؤلاء (القرَّاء) الذين يتحدَّث عنهم المسئول، قد ينحصر عددهم - مع كل التفاؤل - فى بضع مئات. لكن هذه الكلمات كان لها تأثير إيجابي كبير؛ فقد تزايد اهتمامى بالدقة فى الكتابة. ففكرة وجود القارئ كانت شِبه غائبة. كنت أكتب تقريبا لمزاجى الشخصى، أو لشخصٍ يستحقُّ أن يُقامَ له نصبٌ تذكارىٌّ باسم (القارئ المجهول)؛ أما الآن، فهناك بالتأكيد من يقرأ، وهناك حِرصٌ من جريدةٍ على وجودى، وهى لا تكتفى بالترحيب بما أكتبه ونشره سريعا، بل إنها تستكتبنى، وتطالبنى بالكتابة بانتظام.
كانت هذه اللحظة فارقة، تزايد فيها اهتمامى بما أكتب، وتزايد حرصى على مراجعته، وبدأت أهتمُّ بشدَّةٍ بالمساحة المتاحة للنشر، بتحديد عدد الكلمات، والتزمت بهذه المساحة التزاما صارما؛ فأنا لا أحبُّ أن يَظهر مقالى بصورة مشوَّهة، أو أن يُختزل بصورة مُخِلَّة.
لغة الناقد
بدأت أيضا ألاحظ أن الأخطاءَ اللغويةَ التى أقع فيها، كثيرا ما لا تُعدَّل قبل النشر، مع أنه من المفترض أن هناك مُصحّحا فى المجلة أو الجريدة من واجبه مراجعة هذه الأخطاء؛ فأصبح من الواضح أنه لا يجوز الاعتمادُ على أحد. عدت لمراجعةِ القواعِد النَّحْوية، خاصةً تلك التى تتعلَّق بتصحيح الأخطاء التى تبدو واضحةً فى الكتابة بدون تشكيل، ونجحت فى تجنُّبِ كثيرٍ من أخطائى المتكررة قدر الإمكان. وكان يدهشنى أحيانا أن يقوم المُصححُ فى جريدةٍ هنا أو هناك بممارسةِ دورِه فى ارتكابِ أخطاءٍ بدلا من التصحيح، فى مقالاتٍ كنت راجعتها بنفسى، بل وسلَّمتها للجريدة مكتوبةً على الكمبيوتر بالبنط والفنط والتنسيق المطلوب!
كنت أعتقد أننى وصلت إلى مرحلةٍ من الإجادة التامَّة على مستوى الشكل واللغة فى الكتابة؛ لكن زميلا لى فى أحد الإصدارات الخاصة كنت أجالسه مصادفة وهو يُراجع مقالا لى، فوجدته يصارحنى، وهو يستخدم قلمه فى أوراقى، بقوله: "أنت لا تعرف الفواصل". كان هذا الرأى يحمل قدرا من المبالغة.
لكنى اكتشفت أن كلامه يحمل انتقادا به قدر من الصحة؛ فأنا بالفعل لم أكن أهتمُّ بالفواصل بالقدر الكافي. ومن تلك اللحظة، أصبحت أخصص مراجعة أخيرة للفواصل والنقاط.
كانت أستاذتى الروسية المشرفة على رسالتى بموسكو - وهى تجيد العربية - قد لاحظت أننى أستخدم النقطتين المتجاورتين كثيرا للفصل بين الجمل. واكتشفتُ بالفعل أننى أبالغ فى هذا الاستخدام وأضعه - فى كثير من الأحيان - فى غير موقعه، ربما تأثرا بناقدى المفضَّل (سامى السلامونى)، فبدأت أسعى لاستخدام النقاط والفواصل بشكل صحيح ودقيق. والمسألة فى الحقيقة لا تتعلق بتجنب الانتقادات، بقدر ما ترتبط برغبة أكيدة فى التواصل بشكل صحيح وبسيط، وفى أن يستطيع القارئ متابعة مقالى بالإيقاع المطلوب، وبالفصل السليم بين الجمل والعبارات، الذى يجعله يقرأ المقال بالطريقة التى أريده أن يقرأه بها، والذي يعينه على الفهم الصحيح والتذوق السليم المضبوط لجزئيات وعموميات المقال.
كما أرجو أن أوجه ملحوظة ذهبية، ربما أسهو أنا شخصيا عنها فى كثير من الأحيان، وهى أن القراءة بصوت مسموع تساعد الكاتب كثيرا على مراجعة ما كتبه وتِبيان أخطائه وعثراته؛ فالصوت المسموع فاضِح، ويمنح الإحساسَ بإيقاع الكلمات بشكل سليم وأسلوب مؤثر؛ وكثيرا ما أكتشف، عند مراجعتى بصوت مسموع، أخطاء لم أتبيَّنْها من القراءة الصامتة.
خطأ شائع
يعتقد بعضُ النقاد، أو من يحملون صفة (ناقد) على سبيل التجاوز، أن هناك معايير واحدة ثابتة تقاس بها كل الأفلام بلا استثناء، وأنه بتطبيق هذه المعايير بشكل صارم وملزم يستطيع الناقد أن يصل إلى حكمه على الفيلم، وأن يؤدى عمله بثقة مفرطة وضمير مستريح. والحقيقة أن هذا هو الخطأ الذى يتسبب فى إفساد الكثير من الآراء والأحكام النقدية. فإذا كانت هناك مبادئ وقواعد تختص بفكرة الفن ومبادئه، إلا أن هناك أيضا خصوصية لكل عمل فنى، ولكل اتجاه وأسلوب أو نوع يرتبط به هذا العمل. فالبعض منا يعتبر أن الواقعية هى الفيصل فى حكمه على الفيلم، ويتمادَى فى الأمر، فلا يدرك أن هذا المعيار لا يجوز استخدامه مع الأفلام الفانتازية مثلا. فالفنان هنا لا يسعى لأن يحقق إطارا واقعيا تقليديا لعمله، لكنه يصنع شروطا مغايرة تختص بواقع من صنعه هو. فى هذا الإطار، يصبح على الناقد، والمتلقى بالطبع، على السواء، التعامل مع الواقع فى هذا الفيلم من خلال شروطه هو، التى تصبح فى هذه الحالة هى الملزمة للفنان، والتى تتحقق المصداقية للفيلم من خلال التمسُّك بها.
هناك نقاد آخرون يحملون سيف الأخلاق والفضيلة فى قراءتهم لكل الأفلام، ويصبح كل ما يكتبونه منصبا على رصد علامات البذاءة والابتذال فى الأعمال؛ وهو بالطبع اتجاه مقبول، لكنه يضيّق من حدود الرؤية النقدية، ويحيل المقال إلى مساحة للخطابة أو الموعظة الأخلاقية، بل وقد يصدم هؤلاء النقاد بأنهم ينتقدون هذا الجانب كثيرا فى نوع من الدراما تُعَدُّ البذاءةُ أحدَ ملامحه. فكوميديا (الفارْس) مثلا، طبقا لمعجم الفن السينمائى لأحمد كامل مرسى ومجدى وهبة: "موجَّهة لعامَّة الناس والدَّهْماء، وتكون مَحشُوَّة بالفكاهة الهابطة والحركات الهازلة والتهريج الرخيص". ليست هذه بالطبع دعوة للنقاد للتغاضى عن التيار البذىء فى الفن وعدم مقاومته، لكنها إشارة لأهمية أن يكون النقد نابعا من فهم صحيح لنوع العمل وأسلوبيته.
قد يرتكب الناقد الخطأ الجسيم مع أعمال تنتمى إلى تيار (ما بعد الحداثة)، فيُحمّل المَشاهد مضامين، ويسعى للبحث والتنقيب عن الأبعاد الرمزية والدلالات العميقة للصورة، وهو لا يدرك أن أهم ما قدمته فكرة (ما بعد الحداثة)، لفن السينما على وجه التحديد، هو حث الفنان على السعى إلى التعبير المباشر بالصورة، بحيث يصبح ما تعبر عنه بشكل مباشر وبسيط هو الهدف، بعيدا عن السعى إلى تحميلها مضامينَ ومعانىَ معقدة.
إن إدراك الناقد للنوع الذى ينتمى إليه العمل وأسلوبية الفنان هو عامل أساسى فى بناء رؤيته النقدية التى لا يجوز أن تكتفى بفهم الفكر الذى يطرحه العمل، أو بالقدرة على تحليل عناصره بطريقة تقليدية دون إخضاعها للشروط والقوانين التى تفرضها خصوصية العمل ذاته.
على جانب آخر، قد يعبّر بعض النقاد عن انحيازهم للسينما ذات الطابع التجريبى والعمق الثقافى والفكرى، والتى قد لا تجد فى الغالب رواجا جماهيريا كبيرا. وقد يرى نقادٌ آخرون أن احترام الفنان للطبيعة التجارية لفن السينما ولضرورة تبسيط الخطاب وتسهيل توصيله إلى الجمهور هو الأجدى والأولى بالاهتمام؛ وفى رأيى الشخصى، لا أعتقد أن الانحياز لأى من الاتجاهين يضر بالنقد أو العملية النقدية أو يضعف من مكانة الناقد؛ فازدهار الفن واحترام أسلوبية الفنان وحريته فى التعبير هو الهدف الأسمى. ولا أعتقد - كما يظن البعض - أن الأفلام غير التجارية تضر بالسوق أو تصرف الجماهير عن السينما، لكنى أرى أن التجارب الفنية الجريئة هى الوقود والطاقة التى تجدد دماء السينما وتمنحها مزيدا من القدرة على الاستمرار والتطور.
وإذا كانت الأفلام التقدمية والطليعية قد تفشل جماهيريا، إلا أنها بالتأكيد تمهد الطريق وتُطلِع أجيالا من السينمائيين الجدد على وسائل وأساليب جديدة قد ينجحون فى الاستفادة منها وتسخيرها فى إطار أفلام قد تكون أقل طموحا فى مجال التجريب، لكنها من الممكن أن تكون أقرب وأسرع فى التواصل مع الجمهور.
على الرغم من كل هذا، فالانحياز لاتجاهٍ أو أسلوبٍ معينٍ ليس فى صالح الناقد، الذى عليه أن يتعامل بموضوعية واحترام مع مختلف الأساليب والمناهج الفنية، دون أن يفقد انتماءه أو حماسه للاتجاه الذى يتبنَّاه؛ فالفيلم التجريبى، أو الطليعى، ليس بالضرورة جيدا لمجرد أنه تجريبى؛ والفيلم التقليدى لا يجب إدانته لمجرد انتمائه لأسلوب قد يكون التزام الفنان وإيمانه به وحماسه له وسيلته لتحقيق إبداع حقيقى، يستحق التقدير، أو على الأقل لا يلزم تسخيفه من معارضى الاتجاه الذى يسلكه.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات