الكاتب : أمنية عادل
عوالم السينما التسجيلية
بين ثورة 52 وهدوء الثمانينيات المزعوم
أمنية عادل
"إن الفيلم الوثائقى هو المعالَجة الخلَّاقة للحدث الواقعي". بهذه الكلماتِ مَهَّد المخرج والناقد الإنجليزى جون جريرسون John Grierson لمصطلحٍ ظلَّ هو الأبقى حتى يومنا هذا عن الفيلم الوثائقى. وبذلك، بعد مشاهدة فيلم موانا Moana للمخرج الأمريكى روبرت فلاهرتى Robert J. Flaherty الذى لُقِّب فيما بعد بأبى الفيلم الوثائقى، وانطلاقا من تعريف جريرسون، فإن الفيلم الوثائقى هو صورة من الواقع بسِمات فنية؛ فهى تصور الواقع والطبيعة والحياة بعيون فنية خلاقة، معتمدةً على العناصر الفنية للصورة السينمائية وشريط الصوت الذى يكمل حالة الإيهام السينمائى.
ينبثق الشريط الفيلمى من عالم الصورة والفوتوغرافيا؛ هذا العالم الذى استهلَّ التوثيقَ لكل ما هو واقعى. ومن أبرز روَّاد هذا العالم فى مصر المصور (أنطون ألبير)، الذى استمرَّت مسيرته فى جريدة الأهرام، منذ مطلع الخمسينيات، حيث التقطت كاميرته الصحفية العديد من اللقطات التى وثقت للواقع المصرى، وما شمله من أحداث ومتغيّرات، من بينها النوبة ورحلة بناء السد العالى وعالم الفراعنة الذى يغلف المعابد إلى جانب وجه مصر الاجتماعى والفنى؛ كل هذه العوالم كانت محط اهتمام عدسة ألبير. على صعيد متصل، اهتم صناع السينما فى تلك الفترة بعالم الواقع والتوثيق له.
شكَّل الفيلم الوثائقى محطة مهمة فى تاريخ السينما المصرية، ولا سيَّما فى مرحلة الخمسينيات وحتى سبعينيات القرن المنصرم. وأول فيلم وثائقى مصرى معتمد على قصة متصلة العناصر هو: (عودة سعد زغلول من المنفى)، لرائد السينما المصرى المخرج محمد بيومى، الذى تعاون فيه مع المصور الإيطالى الأصل مصرى الجنسية (ألڤيزى أورفانيلي)، وذلك فى عام 1923. خلال ذلك الوقت، أنشأ بيومى استوديو (آمون فيلم) الذى قدَّم من خلاله (جريدة آمون) التى وثق من خلالها مجريات الأحداث فى مصر.
الناقل المنتقِى
منذ ذلك الوقت وحتى ثورة يوليو 1952، استمرت جهود السينمائيين فى صنع سينما وثائقية مستقاة من الواقع، وخرجت تجارب فيلمية مثل (حديقة الحيوان) 1927، و(عودة الملك فؤاد من أوروبا) 1927، و(شركة المحلة للغزل والنسيج) 1928، و(مستشفى الجيزة الرمدى) 1928. وكما هو ملاحظ، غلب توثيق اللحظات الرسمية وإخضاع الفيلم الوثائقى للعب دور ناقل المعلومات للجمهور، كما فعل الإِخوان باثى Pathé Brothers فى أفلام الترويج للملكية البريطانية.
كان الغرض الأول والأساسى من صناعة الأفلام الوثائقية هى الدعاية والإعلام، والتعليم فى بعض الأحيان، وكانت من إنتاج استوديو مصر، إلى جانب مشاركات جهات حكومية ومؤسسات. ففى عام 1947، قدَّمَ المخرج كمال أبو العلا فيلما بعنوان (البحرية المصرية)، بتمويل من البحرية المصرية، إلى جانب (جريدة مصر السينمائية) التى كانت تسبق عروض الأفلام الروائية وشابهت فى محتواها نشرات الأخبار المعاصرة، وصاحبَها تعليق صوتى، إلى جانب موسيقى ملائمة للأحداث بمختلفها. ومع قيام ثورة 1952 والتأثر بتجربة الثورة الروسية التى اهتمت بالسينما وأولتها اهتماما خاصا، ترسَّخ هذا الفكر لدى القيادة المصرية، وتمَّت الاستعانة بالسينما كوسيلة للاتصال الجماهيرى، حيث تكونت مصلحة الاستعلامات العامة، وكذلك وحدة إنشاء للإنتاج السينمائى تتبع إدارة الشئون العامة بالقوات المسلحة عام 1953 بهدف إنتاج أفلام وثائقية عن الجيش ونشاطاته والدعاية للثورة الجديدة. وتركزت هذه الأفلام على توضيح قوة الجيش المصرى وجهوده على الأرض. ومن بين تلك الأفلام: (ساحة المعارك) إخراج كمال الشيخ 1953، و(كلية البوليس) إخراج محمد كريم 1954، و(جنود المظلات) إخراج عاطف سالم 1954، و(البوليس الحربي) إخراج سعد نديم 1954. وكما هو واضح من الأسماء، فإنها أفلام دعائية هدفها الأول الكشف عن همَّة الجنود ودورهم فى الأسلحة الأمنية المختلفة. وتشاركت تلك الأفلام فى سمات واحدة، وهى اللقطات الثابتة، والتعليق الصوتى، وكذلك شريط صوت قريب، نظرا لتركيز جميع الأفلام على موضوعات متقاربة.
شكلت فترة الخمسينيات من القرن المنصرم فترة انتقالية لمصر، ليس فقط على المستوى السياسى، وإنما الاجتماعى والاقتصادى أيضا؛ فمع الحروب التى مرت على مصر (1956، 1967، 1970، 1973) وتهجير النوبة وغرق معبد فيلة وبناء السد العالى وغيرها من الأحداث الهامة، ورغبة الدولة - فى ذلك الوقت - فى مخاطبة الجمهور، حيث بلغ إنتاج مصلحة الاستعلامات العامة ما يزيد عن 70 فيلما غلب عليها قصر المدة وتشاركت فى توضيح مقدرات البلاد، مثل (ثروتنا القومية) إخراج رمضان خليفة 1958 الذى قدم ثروة مصر فى القطن وزراعته وإنتاجها الوفير منه، وكذلك (نهضتنا الصناعية) للمخرج توفيق صالح 1959، ويشير الفيلم إلى الإنجاز الذى حققته المصانع المصرية فى مجال الصناعات الثقيلة، وغيرها من الأفلام التى مزجت بين الجانب الاقتصادى والاجتماعى والسياسى، لتلعب دور الموجه للرأى العام المصرى.
نظرة على الجنوب
قبل إنشاء المركز القومى للأفلام التسجيلية - الذى يعرف حاليا بالمركز القومى للسينما - كان للمؤسسة المصرية العامة للسينما نصيب كبير فى إنتاج الأفلام الوثائقية؛ فمثلا فيلم (أبو سمبل) من إخراج سعد نديم، ومدته 10 دقائق ويعتبر الجزء الخامس من سلسلة أفلام متتالية تحت عنوان (رحلة إلى النوبة)، يستعرض فيها سعد نديم، كسيناريست للأفلام ومخرج لها، وكذلك حسن التلمسانى كمصور ملامح النوبة والمعابد الفرعونية. واتسم هذا الفيلم باللقطات الطويلة التأملية لجدران المعابد صاحبتها موسيقى هادئة تناغمت مع وقار تلك الحضارة الصامتة على جدران المعابد، إلى جانب صوت رخيم يشرح حكايات الفراعنة وجماليات تلك النقوش أحادية البعد. رافق فيلم (أبو سمبل) 1961 ستة أفلام أخرى وهي: (من دندور إلى السبوع)، و(من عمدا إلى إبريم)، و(حياة السكان)، و(تراث الإنسانية)، و(فيلة)، و(كلابشة وبيت الوالى).
تنوَّعَت إنتاجات سعد نديم، الذى ترأس فيما بعد المركز القومى للأفلام التسجيلية، حيث قدم فيلم (معابد فيلة ) 1975، الذى تألف مع الأفلام المذكورة له سابقا فى تقنية مسار الفيلم؛ لكن ما ميز هذا الفيلم عن غيره هو لغة الخطاب والمخاطب؛ حيث اعتمد على حديث غفير المعابد إلى صبى من النوبة يُدعَى (سليم)، ويسرد له الغفير عن مكانة هذه المعابد وقيمتها التاريخية وانتمائه لها وامتنانه لبقائه بجانبها، كما يدعو (سليم) للاطلاع على هذا التاريخ الذى يفتح أذرعه للعالم سائحين وعلماء، رغم أن الصبى (سليم) لا يتفوَّه بكلمة واحدة على مدار أحداث الفيلم، إلا أنه يجسد أهالى النوبة والمهجَّرين الذين عانوا لعقود عدة من الفيضانات وبناء السد العالى ومن قبله سد أسوان والآن نقل المعابد؛ هذا الصبى الذى يعتبر شاهدا على أحداث صعَّبت حياته وحياة أهله، لكنه يتوحد مع تلك الحضارة. وينطوى الفيلم على رسالة هامة، وهى أن جموع المصريين مشاركون فى إنقاذ هذه المعابد، ويستطيعون التضحية فى سبيلها.
لم تتوقف التضحية عند هذه النقطة؛ حيث برزت وبقوة فى أفلام الدفاع عن الوطن والمقاومة التى جاءت كردّ على محاولات النيل من الداخل المصرى، ولا سيَّما مع انضمام مصر إلى حركة عدم الانحياز ومحاولاتها المستميتة لتشكيل جبهة عربية قوية تعتمد على القوة العسكرية والبشرية. وتمَّ إنتاج أفلام مثل (معاهدة الجلاء) إخراج كمال الشيخ 1954، و(فى منطقة قناة السويس) إخراج سعد نديم 1954، و(المناورة انتصار) إخراج كمال مدكور 1955، ويرصد الفيلم أول مناورة عسكرية للجيش المصرى بالذخيرة الحية بعد ثورة 1952، و(قناة السويس) إخراج رمضان خليفة 1956، الذى قارب فى تكوينه السينمائى (جريدة مصر السينمائية)، وكذلك فيلم (العار لأمريكا) لسعد نديم 1967، وغيرها من الأفلام. بعض تلك الأعمال كان يقدَّم بسردٍ باللغة الإنجليزية، فى رسالة من مصر إلى العالم.
مذكرات مخرج على ضفاف السد
فى مارس 1962، أطلق الرئيس جمال عبد الناصر بضرورة التوجُّه شهريا إلى منطقة بناء السد العالى لمتابعة تطوُّر العمل. ويُعتبر المخرج صلاح التهامى من أبرز مخرجى أفلام السد العالى، الذى قدم مجموعة أفلام (مذكرات مهندس) و(سباق مع الزمن)، وصاحبه فى تلك الأفلام أخوه المخرج فؤاد التهامى. ويتضح من العناوين المذكورة أنها أفلام تناولت رؤية العالمين بالسد وروحهم المعنوية وذلك لخلق ثقة جماهيرية وإيمان بالعمل الجماعى الذى يمثل روح الاشتراكية التى نهجتها الدولة فى تلك الفترة.
حملت تلك الأفلام رؤية إلى مواقف تاريخية ومراحل العمل داخل السد العالى، والانتقال من أسوان إلى مختلف مدن الصعيد لتسجيل امتدادات السد العالى وأثرها على تلك المدن وما طرأ عليها من تغيير وتطور؛ لهذا تم إنتاج أفلام عن كوم امبو ونجع حمادى وسوهاج.
مثَّل السد العالى طموحا وتحديا للقيادة المصرية فى وجه الاستعمار، ولا سيَّما أنه تلا العدوان الثلاثى 1956. ويذكر المخرج صلاح التهامى أن شعور الوطنية رافقه طوال فترة العمل على تلك الأفلام؛ حيث عايش مصر وهى فى طَوْر التطور واكتساب الخبرات فى مجالات متنوّعة، وكيف أثر ذلك على عمله كمخرج. ولم يترك السد رغم انتهاء بنائه؛ حيث انتقل إلى مناطق الإصلاح الزراعى التى وصلت إليها مياه السد، ومنها منطقة النوبارية قرب الإسكندرية، واستمر التصوير فى مناطق الإصلاح الزراعى وشق الترع وتنبيت الزراعة، رغم محدودية إمكانيات التصوير.
إذًا، سيطر الجنوب على أفلام الحضارة؛ فقد شكلت منطقة القناة بمختلف محافظاتها باكورة إنتاج ضخم ومستمر خلال العقدين، من الخمسينيات وحتى السبعينيات؛ حيث تمركزت بها قوى المقاومة. فمثلا فيلم (أغنية للسويس) إنتاج المركز القومى للأفلام التسجيلية، سيناريو وإخراج سامى المعداوى 1976، وقد شارك به داود عبد السيد كمساعد مخرج؛ مثل الفيلم حالة الحماسة الشعبية لساكنى السويس ورغبتهم فى دعم الجنود على الجبهة ولكن بطريقته الخاصة، من خلال نماذج متباينة، حيث الممرضة التى ترعَى الجنود والجرحى والمصابين، وتعاملها مع الجنود الأسرى الإسرائيلين، وتجربة التمريض مع هؤلاء الجنود، وكذلك الرجل الكفيف الذى يكوّن فرقة لغناء الأناشيد الحماسية التى تنشدها فرقة أولاد الأرض بالسويس، وصولا إلى موظفى شركة البترول الذين شكلوا جبهة مقاومة خلال فترة ما بعد حرب أكتوبر مباشرة.
تستمر الأغانى الحماسية على مدار الفيلم مكونة إيقاعا متجانسا مع الصورة التى تجسد مقاومة تلك المدينة، حتى ختام الفيلم مع مشهد راقص على نغمات أنشودة (أبدا ما هنبطل غنا، أبدا ما هنمل السلاح. لو حتى طالت مِية سنة، أبدا ما هنبطل كفاح)، تصاحبها لقطات للدبابات الإسرائيلية التى تم الاستيلاء عليها وقت الحرب، فى انتصار ضمنى، وسط سعادة الشعب المصرى بأطيافه وطبقاته الاجتماعية.
الجبهة على الشريط السينمائى المشتعل
يعتبر فيلم (جيوش الشمس) إخراج شادى عبدالسلام وإنتاج مركز الفيلم التجريبى - (جيوش الشمس) هو اسم الجيش المصرى منذ أكثر من 7000 عام، ويقع مقره فى سيناء أرض الزمرد - واحدا من الأفلام الهامة التى تناولت جهود الجيش المصرى فى فترة حرب 73 والعبور. غلب على الفيلم مشاهد الحرب والاستعداد للانخراط فى المعركة مع العدو، إلى جانب حوارات مع الجنود وانفعالاتهم وقت الحرب والمواجهة.
أما فيلم (بورسعيد 75) سيناريو وإخراج حسن رضا، فيقدم صورة مدينة بورسعيد بعد مرورها بالحرب وتأثرها بها، ومن ثم استمرار دوران عجلة الحياة والعمل والإنتاج؛ فهناك السينما والمقاهى والمواطنين الذين يشعرون بحلاوة الحياة بعد النصر. عبرت الصورة السينمائية عن هذه الحالة من خلال إضاءة متفائلة، رغم أنه فيلم يقدم بالأبيض والأسود، وكذلك شريط الصوت الذى يعكس تفاؤل المواطنين، والموسيقى المرحة الرشيقة التى تتلاءم مع روح المدينة المنتصرة. يقدم تعليق الممثل أحمد خميس حالة شعورية تجمع بين وقار المدينة والأمل فى غد منتظر مشرق. بصورة عامة، شكَّل فيلم (بورسعيد 75) وجها للأفلام الوثائقية التى احتفت بالشعب المصرى وانتصاره بعد عبور أكتوبر.
بلغت نسبة إنتاج الأفلام التسجيلية فى الفترة من 1952 إلى 1979: (1058 فيلما) من مختلف جهات الإنتاج الحكومية والمؤسساتية والخاصة، ومن بينها أفلام اجتماعية كانت معنيَّة برصد الحالة الاجتماعية وجهود الدولة فى هذا السياق، من بينها (التأمين الصحي) إخراج جمال سامى 1971، ويقدم الفيلم الخدمات الطبية التى تقدمها الدولة فى صورة نظام التأمين الصحى والعلاجات المختلفة التى يقدمها للجمهور المصرى. وأخرى متعلقة بالتنمية والصناعة، ومن بينها (صناعة الأدوية فى مصر) إخراج صلاح أبو سيف 1960، و(ثروتنا البترولية) سيناريو وإخراج إحسان فرغل 1955، و(الرى والصرف) 1956 لإحسان فرغل، وفيلم (فجر جديد) إخراج رمضان خليفة 1958، و(المعرض الصناعى) إخراج حسن رضا 1970، و(صناعة السيارات) إخراج عبد المنعم شكرى 1960، وغيرها من الأفلام التى قدمت مواكبة مصر ما بعد ثورة 1952 للثورة الصناعية العالمية، فضلا عن العناية بالأفلام التى تخص الزراعة وجوهر الدولة المصرية المعتمدة على نهر النيل الذى يمنح الحياة من خلال المحاصيل ونشاط المزارعين.
كما تم توظيف الحرب وروح المقاومة والعزيمة فى أفلام اجتماعية مثل (تحية لعمال أبو زعبل) سيناريو وإخراج صلاح التهامى عام 1971، حيث أظهر الفيلم أثر العدوان الإسرائيلى على العمال فى مصنع أبو زعبل، وشعور التحدى الذى تولد فى أرواحهم ودفعهم للإصرار على زيادة الإنتاج رغم صعوبات العمل والقصف الجوى من قِبَل العدو.
السينما تحتوى نكسة 67
شكل عام 1967 محطة فارقة فى تاريخ مصر؛ فقبل نكسة يونيو 1967 بشهر واحد، تم إنشاء المركز القومى للأفلام التسجيلية، الذى أثرى السينما الوثائقية بأفلام استعرضناها سابقا، رغم أن الأفلام تشابهت فى كثير من الأحيان من باب البناء الدرامى وعناصر السرد وحتى تقنيات التصوير والموسيقى. مع هذا، شكَّل إنتاج المركز القومى للأفلام التسجيلية نافذة لإنتاجات عديدة خلال عقد الستينيات والسبعينيات، كما تأثر هذا الإنتاج مع توقف المركز القومى للأفلام التسجيلية عن الإنتاج، وحلول التليڤزيون العربى محله، ممَّا قلل من فرص مخرجى السينما من مزاولة مهامهم الإخراجية وإبداعاتهم السينمائية، وغلب طابع التقرير التليڤزيونى على إنتاجات التليڤزيون العربى، وذلك مع عام 1976.
بالنظر إلى إنتاجات نهاية السبعينيات والمقارنة مع ما قدمته السينما الوثائقية سواء مع المركز القومى للأفلام التسجيلية أو المركز التجريبى للفيلم أو هيئة الاستعلامات والوزارات وحتى الإنتاجات المستقلة، نلحظ تغيرا فى لغة الخطاب وطبيعة تناول الموضوعات. فمثلا فيلم مثل (طبيب فى الأرياف) لخيرى بشارة 1975 يُشكّل إرهاصة لموجة جديدة فى الفيلم الوثائقى، رغم كونه من إنتاجات المركز القومى للأفلام التسجيلية، لكنه يحمل خطابا مغايرا يتمتع بالنقد المستتر للمؤسسة الطبية وعدم تكاتفها مع جهود الطبيب المستميتة للحد من تفشى الأمراض وشعوره بضرورة إكمال هذه المهمة الوطنية كونه طبيبا، فعليه أن يجمع بين العلم والإنسانية، ويظهر هذا فى حديثه ببداية الفيلم عن مفهومه لمهنة الطب ودوره المنوط به أن يقوم به فى تلك القرية البسيطة العمارية الشرقية بمحافظة المنيا.
كذلك فيلم (وصية رجل حكيم فى شئون القرية والتعليم) إخراج داود عبد السيد 1976، الذى حمل خطاب نقدى للمجتمع والمؤسسات التعليمية، وعبَّر صوت (جميل راتب)، بما يحمله من طبقات ونبرة رخيمة، عن حالة الانتفاضة التى يحاول الفيلم إحداثها لدى المشاهدين.
بصورة عامة، اتسمت هذه الأفلام أيضا بالإتقان على مستوى الصورة وتقنيات التصوير وتلاحم العناصر البصرية، كما هو حال السواد الأعظم من الأفلام الوثائقية التى تم إنتاجها منذ خمسينيات القرن المنصرم.
مساهمات
ساهمت مخرجات مثل أسماء البكرى وعطيات الأبنودى فى مسيرة السينما الوثائقية فى تلك الفترة. ومثَّل فيلم (سندوتش) إخراج عطيات الأبنودى 1975 روحا جديدة للفيلم الوثائقى المعتمد على الشاعرية من داخل القصة، غيرَ مستعين بالتعليق الصوتى؛ فالحكاية تشرح نفسها ولا تحتاج إلى تعليق أو تفسير، حيث العلاقة التكاملية التى يعيشها الريف، فى ذلك الوقت، رغم قسوة الحياة إلا أن الإنسان يتكاتف مع الحيوان الذى يرعاه فى دفع الحياة للأمام، من خلال صبى صغير يتناول سندوتشا من عيش البتَّاو ولبن الماعز؛ تلك الماعز التى تأكل حشوة هذا البتَّاو القاسى. تستعين الأبنودى بترتيل أنشودة شجية فى مقدمة الفيلم تمهد للحالة الشعورية التى تسيطر على المشاهد على مدار أحداث الفيلم القصير الذى لا تتجاوز مدته 11 دقيقة.
التوثيق بين عالمين
طالما شكَّل الإنسان محور الحياة. التوثيق والتسجيل يعتمد على العنصر البشرى، سواء كمشارك فى الطبيعة أو محرك لها. وشكلت النهضة الصناعية، التى روجت لها دعاية ثورة يوليو 52 من خلال أفلام عدة، جوانب هامة لتشكيل وعى الجمهور، ولا سيَّما فى مجتمع كان يقوم بالأساس على الزراعة والحياة من خلالها، مثل فيلم (نحن نزرع المداخن) إخراج صلاح التهامى عام 1974، الذى يصور جهود العمال فى إقامة الفرن الثالث للحديد والصلب، ويربط بين هذا الكفاح وكفاح المقاتلين على الجبهة وتحقيقهم انتصار أكتوبر 73.
يعتمد الفيلم على تقديم صورة متفائلة، وتوظيف لعناصر النار والحرارة لتعبر عن حالة الغليان والانصهار والدأب ليل نهار، التى يعيشها العمال والجنود على حد سواء، مستعينا بموسيقى تحفيزية خلاقة وحركة رشيقة للكاميرا.
فى المقابل، بالنظر إلى حال العمال فى فيلم (سوق الرجالة) إخراج حسام على 1990، يقدم الفيلم حال العمالة والصناعة فى مصر مع نشوب حرب الخليج الثانية وتدهور الأوضاع وعودة العديد من العمال المصريين إلى وطنهم، محمَّلين بأطلال ثروتهم المُرَادة. ويقدم الفيلم مرثية على حال العامل المصرى، والواقع الذى يعيشه، وكذلك أوضاع البلد بصورة عامة، ولا سيَّما مع التباين الشديد فى مستوى الطبقات الاجتماعية. وَظف عَلِى بلاغة الصورة الصامتة المتحركة التى لا تهدأ ولا تكلّ، وكذلك موسيقى أشبه بالإنذار، ويختم بنظرة استغاثة من طفل لأحد العمال ينتظر حياة أفضل. وتزامن هذا الفيلم مع حال المجتمع المصرى فى فترة التسعينيات والتخبط الذى شهده المجتمع وكذلك السينما.
استعانت السينما الوثائقية فى البداية بالتاريخ والحضارة الفرعونية، ومن ثم انتقلت إلى الواقع والتاريخ الحربى الزاخر، وحاولت زرع بريق أمل لمستقبل مستقر من خلال سواعد الجنود والعاملين لبناء الوطن، لكنها اصطدمت بواقع أقسى من تجميل الصورة السينمائية الخلاقة فى النهاية.
مراجع
• السينما والتاريخ، المجلد الأول، مجموعة مؤلفين، إصدارات مهرجان الإسماعيلية الدولى للأفلام التسجيلية والقصيرة، 2018.
• السينما التسجيلية فى مصر حتى آخر سنة 1980، تصدير: أحمد الحضرى، تقديم: أحمد كامل مرسى، إعداد: منى البندارى وميرڤت الإبيارى، المجلس الأعلى للثقافة، المركز القومى للسينما، 1981.
• تاريخ السينما التسجيلية فى مصر، ضياء مرعى، مكتبة الإسكندرية 2003.
• أفلام تسجيلية مصرية نالت جوائز عالمية، إعداد عبد القادر التلمسانى، وزارة الثقافة، الإدارة العامة للإعلام الخارجى 1998.
• معجم الفن السينمائى، أحمد كامل مرسى، مجدى وَهبة، وزارة الثقافة والإعلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1973.
• فن الشريط التسجيلى، محمد على الفرجانى، الدار العربية للكتاب، ليبيا - تونس.
• أسس الفيلم التسجيلى، اتجاهاته واستخداماته فى السينما والتلفزيون، د. منى سعيد الحديدى، د. سلوى إمام على، دار الفكر العربى، 2004.
• أرشيڤ المركز القومى للسينما.
• السينما التسجيلية الوثائقية فى مصر والعالم العربى، د. منى سعيد الحديدى، دار الفكر العربى، 1983.
• الفيلم التسجيلى، تعريفه - اتجاهاته - أسسه وقواعده، د. منى سعيد الحديدى، دار الفكر العربى، 1990.
• مستقبل السينما التسجيلية فى مصر، هاشم النحاس، إصدارات المهرجان القومى الثالث عشر للأفلام التسجيلية والقصيرة، المركز القومى للسينما، 1990.
• ملف السينما التسجيلية فى المهرجان القومى للأفلام التسجيلية والقصيرة (1970 - 1980)، إعداد على أبو شادى.
• تجارب فى السينما التسجيلية المصرية، محمد عبد الله، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984.
• الأرشيڤ البصرى للمركز القومى للسينما.