حالات الموت والبعث المتعددة للنقد السينمائي

عمر أبو حمر 05 مارس 2022 النقد السينمائي

الكاتب : عمر أبو حمر


حالات الموت والبعث المتعددة للنقد السينمائي
تأليف: كارى ريكى
ترجمة: عمر أبو حمر

وُلدت (كارى ريكى) فى لوس أنجلوس عام 1952، وحصلت على عدة درجات أكاديمية من جامعة كاليفورنيا سان دييجو. انتقلت إلى نيويورك لتكتب كناقدة فنية بمجلات (آرت فورام) و(آرت إن أمريكا). كتبت كارى كناقدة سينمائية بـ (ڤيلدج ڤويس) و(فيلم كومنت)، بالإضافة إلى كتابتها عمودا بمجلة (مدموازيل). انتقلت بعد ذلك للكتابة بـ (فيلادلفيا إنكويرر) لمدة تقارب 26 عاما، لتقوم بمراجعة العديد من الأفلام، وتحاور أهم صنَّاع السينما. قامت (كارى) بالتدريس بمؤسسة شيكاجو للفنون وجامعة بنسلڤانيا.

شهدت فترة عملى التى قاربت 26 عاما كناقدة سينمائية بصحيفة (فيلادلفيا إنكويرر) تحولاتٍ كبرى بصناعة السينما وطريقة عرض الأفلام ونقدها. فبينما قررت صناعة السينما الهجرة من الخام إلى الديجيتال، تعدَّدَت أساليبُ عرض الأفلام ونقدها بدلًا من الاعتماد على أسلوب واحد متجانس.
أنا أيضا قرَّرت الهجرة من صحيفة (إنكويرر) إلى الحقول التى ربما لا تكون أكثر ازدهارا، ولكنها تعطينى الفرصة للتأقلم مع التغيرات المحيطة. صحيح أننى ما زلت أكتب نقدا سينمائيا؛ ولكننى اكتفيت بكتابة ستة مقالات شهريا بدلا من عشرين مقالا.
لا يوجد وقت أفضل من اللحظة الراهنة لطرح أفكارى المتعلقة بحالة النقد السينمائى؛ لذا قررت أن أعمل كطبيبة ترغب بقياس ضغط الدم والحرارة للمريض، لعلها تجد تشخيصا دقيقا للحالة.
بالنسبة لى وللكثير من الزملاء، كانت السنوات الخمس السابقة هى فترة الحداد المستبق؛ لوجود العديد من الدلائل التى تشير إلى أننا أمام الموت الأخير للنقد.
يرى الناقد السينمائى روجر مور، الذى تمَّت إقالته من جريدة (أورلاندو سينتنيل) قبل عيد الشكر بعد فترة عمل طويلة ليبدأ عمله مع (إم سى تى) - يرى أن النقاد لم يتم وضعهم بحقل واحد، بل أجبروا على التجول بحقول مختلفة لتوفير المعيشة من العمل الذى أحبوه. ربما تكون وجهة نظر مور هى الأكثر تفاؤلا بين زملائه.
على صعيد آخر، يذكر مدير أحد الاستوديوهات أن تعبير "الفيلم الأكثر إضحاكا خلال العقد الحالي"، الذى يستخدمه بعض الهواة على مواقع الإنترنت لوصف فيلم كوميدى، يصبح أكثر تداولا وشعبية من تعبير "الحالة الكوميدية فى الفيلم تعيد إلى الأذهان فكاهة بريستون ستارجس" الذى يكتبه ناقد أكثر وعيا بعمله.
ومع ذلك، فإن فكرة أن ما نعيشه الآن هو العصر المظلم بالنسبة للنقد السينمائى وأن الممارسين الجيدين للنقد قد اعتكفوا بأديرة الدراسات الأكاديمية، هى فكرة مثيرة للسخرية؛ لأننى فى كل مرة أسمع فيها عن وفاة النقد، يطل علينا من تحت سطح الأرض من يثبت العكس.
فى عام 1981، نشرت جريدة (نيويوركر) مقالا لـ (باولين كايل) بعنوان (لماذا الأفلام رديئة؟)، ركزت فيه (كايل) على كيف أن التركيز على إيرادات الأفلام سيقضى على النقد السينمائى نهائيا؛ وهو ما أيَّدَه الكثير من النقاد.
فى تلك الفترة تحديدا، كان برنامج (إنترتاينمنت تونايت) يَعرِض بشكل أسبوعى تقريرا عن الأفلام الأكثر إيراداتٍ؛ ويتعامل التقرير مع تلك الأفلام على أنها الأفلام الوحيدة التى تستحق المشاهدة. ولكن على الرغم من ذلك، لم يفنَ النقد السينمائى، حتى مع نجاح البرامج الترفيهية فى الترويج للأفلام التجارية، متجاهلين آراءَ النقاد.
فى عام 1991، اتهم (ريتشارد كورليس) فى مقال بعنوان (جميع أصابع الاتهام) برنامج (سيسكل وإبِرت آت ذا موڤيز) بأنه المسئول عن تفريغ النقد السينمائى من المضمون، وجعله أكثر سطحية. وعلى الرغم من ذلك، ظل النقد السينمائى حاضرا بقوة، كما ظل حضور أعمال (إبِرت) طاغيا.
فى عام 1998، نشر كتاب يحمل عنوان (أزمة النقد)، شارك فيه الكاتب (جيم هوبرمان) بمقال بعنوان (ناقد الغد واليوم). يشير الكاتب إلى تسليع منظومة النقد السينمائى، بينما وصف من يعارضون عمل النقاد بمشجعى كرة القدم الأمريكية أصحاب الدخول الضئيلة.
بالانتقال إلى عام 2012، وتحديدا إلى حوار دار مع (روجر إبرت) من خلال البريد الإلكتروني، ذكر (إبرت) أنه لا يوجد عصر للنقد السينمائى أفضل من العصر الحالي، ولكن لا يوجد عصر يوجد به هذا العدد من النقاد العاطلين أو النقاد الذين يتقاضون أجورا زهيدة كهذا العصر. إذا، فالمعضلة التى تحدث عنها (إبِرت) تكمن فى وجود منافذ كثيرة، ولكنها تفتقد العائد المادى الجيد.
بعد ظهور المواقع الإلكترونية المتخصصة فى نقد الأفلام، أصبح من السهل أن تقرأ عددا كبيرا من الآراء المختلفة حول كل فيلم. والكثير من النقاد الذين التحقوا بتلك المواقع كانوا فى الأصل نقادا يكتبون لصحف ورقية وتنشر أعمالهم أسبوعيا أو يوميا.
بالإضافة إلى تعدد وسَعَة اطلاع الكتاب بالمدونات الخاصة بنقد الأفلام، لا يعبأ هؤلاء الكتاب بالعقبات التقليدية أمام كتاب الصحف، كالمساحة المخصصة للمقال. فبإمكانك أن تقرأ مقالا على إحدى تلك المدونات عن تأملات خاصة بالفيلم أو المخرج أو الممثل أو التصوير السينمائى أو حتى دور الكاميرا المحمولة. وكل ما تحتاجه لقراءة كل ذلك هو ضغطة زر.
أحد التطورات العظيمة المتعلقة بالنقد السينمائى المتاح على الإنترنت هو لجوء بعض النقاد، كـ (مات زيلر سيتز) على سبيل المثال، إلى استخدام بعض المقاطع من الأفلام لمناقشة المعادل البصرى للفيلم، وهو ما ينقل النقد لبعد مختلف. هذا لا ينفى وجود جانب سلبى فى النقد الفورى الذى يقدَّم من خلال المدونات؛ فالإنترنت هى التسونامى الذى يتحدَّى أشجع المتصفحين.
(هوبرمان)، الذى أقيل من صحيفة (ڤيلدج ڤويس) بعد رحلة عمل دامت ثلاثين عاما، يوضح إيجابيات وسلبيات النمط الجديد للنقد قائلا: "لا أرى أن إلغاء إضفاء الطابع المهنى على مراجعة الأفلام أو الصحافة أمر جيد، على الرغم من أننى أرى توسع الإنترنت صحيا لثقافة الأفلام. أليست مفارقة؟ة.
ولكنها ليست مفارقة للمؤرخة (جينين باسينجر)، التى ترى أن مناقشة الأفلام على الإنترنت مجانية للجميع، مما يجعل المناقشة أكثر سلاسة حتى بين حشد ضخم.
(شون مينز)، الناقد بصحيفة (سالت لاك سيتى تريبيون)، يتناول النقطة التى طرحتها جينين من زاوية أخرى ليقول: "النقد السينمائى دائما فى تغير مستمر. هناك وفرة من الآراء العميقة التى تتناول الأفلام؛ ولكن هناك أيضا ما لا يتجاوز الترويج لعمل فنى ما أو الكلام الخالى من المضمون أو الحماس المبالغ فيه من بعض الجماهير. صحيح أن الجدل ذاته كان موجودا فى عصر ما قبل الإنترنت، ولكن ما يميز العصر السابق هو تمتع الكثير من النقاد بمميزات مادية أكثر من خلال عملهم".
(فيليب لوبات)، وهو أحد كتاب ومحررى كتاب مكتبة نقاد السينما الأمريكيين (إفشاءً للسر: لى مقال نشر بنفس الكتاب)، يرى أن نقد السينما بدأ كنشاط للهواة؛ والقليلون فقط هم من تقاضوا أجورا، أما البقية فتقاضوا أجورا رمزية أو لا شيء على الإطلاق. لقد كان ببساطة مجالا مخصصا للشغوفين بالمهنة.
وبالنظر إلى تويتر والمدونات، لن تجد أن طبيعة المجال اختلفت كثيرا.
منذ الثمانينيات، تجاهلت برامج (إنترتاينمنت تونايت) و(أكسس هوليوود) النقد السينمائى، لتقوم بالتركيز على النجوم وأفلامهم، جاذبة دولارات الإعلانات فى اتجاه التسلية. ولكن على العكس ظلت المقالات الموجودة على الإنترنت غير متأثرة بأموال الاعلانات كما هو الحال فى بعض الصحف الأسبوعية.
يذكر المؤلف (كين دكتور) فى كتابه (اقتصاد الصحف) أن صناعة الإعلام تحولت من نموذج إعلانى إلى نموذج تعاقدى؛ فالمواقع تزداد ثراءً من تحميل المحتوى، أو تأجير المحتوى، أو بيع التذاكر.
بهذا الأسلوب، يستطيع رواد أفلام السينما إيجاد الأفلام التى يرغبون بمشاهدتها. ولكن كيف سيجدون الأفلام التى لا يعرفون أنهم يرغبون فى مشاهدتها؟ بالتأكيد ليس كل الناس مهووسين بقراءة نقد الفيلم الموجود على مدونات الإنترنت.
فى رأيى، إن سدَّ تلك الفجوة يأتى من إيصال المستهلك بالأفلام التى يفضل رؤيتها كما تفعل أنظمة التوصية الخاصة بنتفليكس وأمازون. بالتأكيد ليس هذا هو النقد السينمائي. لكنها الطريقة المناسبة لإيصال الأفلام غير المعروفة أو الغامضة للجمهور الذى سيقدرها (وهو أحد المنتجات الثانوية للنقد السينمائي)؛ بل هى وسيلة لدعم المساعى النقدية لدى الكتَّاب. ربما يكون ذلك مجرد تغيير فى تطور النقد السينمائى.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات