الكاتب : مني يسري
واقع النقد السينمائى العربى
الجمود والتصلب أمام ثورات التجديد والحداثة
منى يسرى – القاهرة
يلعب النقد السينمائى دورَ الوساطة بين الجمهور والفيلم، فيُخرج المُشاهِدَ والمُحِبَّ من حالة المُشاهَدة الانطباعية السَّطحية، إلى رحاب التفسير والتحليل، ويُظهِر للمشاهد وصانع الفيلم مكامنَ الجيّد والسيّئ فى العمل؛ من هنا تبدأ مهمة الناقد، كحلقة الوصل بين عنصرى نجاح الفيلم السينمائى أو فشله (صانع العمل والجمهور)، كما يذهب بالسينما - كصناعة - لِمَا هو أبعد من ذلك، فيصبح الناقد والنقد - كحركة فنية لها أسس نظرية - أهمَّ أعمدة تشكيل الذائقة السينمائية الجماهيرية؛ تُشكل مظاهر التطوُّر الفنى فى المجتمع، وتَرسُم بدقةٍ معالمَ السينما وحَراكَها فى دولة ما.
بَيْدَ أنَّ اللبس الحاصل بين النقد كعلمٍ له أسسه وقواعده، وبين الصحافة الفنية كأحد فروع الكتابة الصحفية، وأيضا مراجعات الأفلام التى لا تتطلب من المهارات والقراءات ما يتطلبه عمل الناقد المحترف، جعل النقد السينمائى عرضة لخلل بنيوى، وجمود فى عملية التنظير السينمائى، التى شهدت ثورة وتغيرا جذريا منذ سبعينيات القرن الماضى على الصعيد العالمى. ولعلَّ فقر المكتبة العربية، وانحصار القراءات النقدية فى عدد محدود للغاية من المراجع والكتب، هو ما تسبَّب فى حالة الجمود النظرى التى يشهدها حقل النقد السينمائى العربى، على الرغم من المراحل المزدهرة التى شهدها خلال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم.
تزامن مع هذا الجمود تراجع كبير للسينما العربية، بعد مرحلة ازدهار وتنبؤات بالصعود والتجلى، دفعت الباحثين للإذعان بأن تصلب النقد السينمائى أحد أهم العوامل التى دفعت السينما العربية للتخلف عن ركب التطور والتحديث.
1- النقد السينمائى.. رهانات الواقع وآمال المستقبل:
يُعرّف الناقد السينمائى المغربى (محمد بنعزيز)، النقد السينمائى، بفن القول عن الفن. ربما يتفق مع هذا التعريف أغلب النقاد العرب، لكن ما لا يتفق معه هو واقع النقد العربى، الذى أصابه التحجُّر بعد أكثر من 125 عاما من دخول السينما إلى الشرق عبر مصر. ولن يختلف النقد عن سواه من العلوم والفنون التى تخلفت وأصابها العطب، حيث التعليم السيئ هو مربط الفرس. وقد انتقد الناقد المجرى بيلا بالاش، قبل أكثر من نصفِ قرنٍ، ما تعانيه السينما كفن من الإلمام بأساسياتها، وكيف أدى الانهيار فى الثقافة العامة، إلى إهمال فن السينما، على الرغم من كثرة الأكاديميات المتخصصة فى فن السينما، لكننا هنا بصدد الحديث عن ثقافة جماهيرية سينمائية، تخلق من الأجيال الجديدة كوادر قادرة على الغوص فى بحر السينما، سواءً أكانوا نقادا متخصصين، أم صناعا للسينما، أم جمهورا واعيا، قادرا على الترقى بالذوق العام، واختيار ما يتم تقديمه على الشاشة. هذا الجمهور الممتلك لذائقة سينمائية منقحة، هو من يكتب تاريخ السينما فى مجتمعه.
هنا يعمل الناقد الممتلك لأدوات التحليل، والمدرك الجيد لأساسيات التذوق السينمائى، كحلقة وسيطة بين الجمهور الذوَّاق، وبين صانع الفيلم المحترف. وبحسب الكاتب الصحفى والناقد محمود عبد الشكور، الذى صاغ فى كتابه (سينمانيا)، العناصر الأربعة للكتابة النقدية المتكاملة، المكونة للناقد المتمكن من أدواته، وهى: (العرض - التحليل وتفكيك العناصر - المقارنة - الحكم)، لكن استسهال النقد كفن اقتصر على العرض، دون أن يكون لصاحبه أدوات معرفية، ومخزون ثقافى من الأدب والموسيقى والفن التشكيلى وعلم السينما من السيناريو والتصوير والمونتاج والإخراج، هو ما جعل النقد مجرد سرد مبنى على الذائقة الشخصية لمُشاهد الفيلم، لا يخرج من طور المدرسة الانفعالية أو (الانطباعية)، التى عفى عليها الزمن، ثُم ينصب نفسه فى كثيرٍ من الأحيان ناقدا. لذلك يرى الناقد اللبنانى، ورئيس قسم السينما بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، الدكتور مالك خورى، أن النقد العربى فى حالة من التجمُّد الفكرى والنظرى والمنهجى، منذ مراحل النقد والتنظير، وذلك لِمَا قبل حقبة السبعينيات من القرن العشرين، وأنه ليس إلا استمرارا لمنهجية النقد الانطباعى الذى كان مهيمنا عبر توجُّهات الجندر، وسينما المؤلف، والمدارس الأولى للواقعية، والواقعية الجديدة، والموجات السينمائية الأوروبية وأقرانها.
يرى خورى فى معرض حديثه لـ (مجلة الفيلم): "أن هذه الأطر النظرية وتطبيقاتها وامتداداتها، ما زالت تهيمن على كتابات الشباب، كما المخضرمين من نقادنا. وهذا ناتج عن كسل واضح فى القراءة، وقلة الترجمة للأعمال الكثيرة، التى تعكس المراحل العديدة التى شهدها التنظير السينمائى فى العالم خلال العقود الخمسة الماضية. وما يزيد المشكلة تفاقما هو قلة من يقرءون باللغتين الفرنسية والإنجليزية. فاللغة الثانية اليوم لا غنى عنها لأى كاتب أو باحث سينمائى جيد. والمكتبة العربية لا تحتوى على أكثر من 5 إلى 10%، مما ظهر من تنظيرات وكتابات خلال العقود الخمسة الماضية. كما أن المواد الأكثر مفصلية فى تاريخ التنظير السينمائى ظهرت فى جزء كبير جدا منها فى الجورنالات الأكاديمية مثل: (كاييه دو سينما)، (سكرين)، (جمب كات)، و(جورنال دراسات السينما والميديا)، وغيرها الكثير. هذه تقريبا غير مسموع بها عندنا، حتى بين طلاب وأساتذة أهم المعاهد السينمائية عندنا".
يضيف خورى: "ما زالت أكاديميات النقد العربى تُدرّس آندريه بازان وآندرو ساريس؛ وعلى أهميتهم، لكنهم بمعزل عن الزلازل النظرية التى حدثت فى السبعينيات، ثم الثمانينيات، ثم التسعينيات، ثم فى حقبتى الألفية الجديدة. حتى عندما يناقشون غودارد و(الموجة السينمائية الجديدة)، فإنهم يناقشونها بسطحية، وبمعزل عن عمقها النظرى فى بريشت وآلتوسير وميتز. أما تنظيرات مدارس فرانكفورت، وبيرمينغهام، ثم جيميسون، ونظريات (ما بعد الكولونيالية) ونظرية (الكوير)، ونظريات المشاهدة والتلقى مع ستايغر وجوديث باتلر وغيرهم، فهى لم تصل بعد إلى مؤسساتنا ونقادنا. والأكثر فداحةً، أن بعض نقادنا اليوم، يقيّم السينما من منطلق (نظافتها) و(وساختها)! هؤلاء يعيشون على كوكب آخر".
لا تقوم صناعة السينما وعملية الإبداع، على كاهل تقنيين محترفين، دون خلفية تاريخية ونظرية عميقة لهم. لكن السينما - كما نعرفها اليوم - كانت دائما تجدد نفسها، وتعبق بالحياة فى خضم النقاشات الجمالية والسياسية والنظرية الحادة التى كان صنَّاعها فى صلبها.
ويؤكد خورى، أن سينمائيّينا اليوم بحاجة لتوسيع آفاقهم (الما بعد تقنية)، و(ما بعد شغف النجومية) التى تكبلهم وتكبح إبداعهم وتحجمه. أما النقاد عندنا، فيساهمون، عبر الضحالة الفكرية لما يقدمه معظمهم، فى تكريس حالة المراوحة الإبداعية للسينما وللسينمائيين عندنا. وعلى الرغم من هذا الواقع المظلم، يتفاءل خورى، موضحا أن النقد السينمائى فى العالم العربى يعيش بداية مرحلة تحوُّل. فمع حالة الهبوط فى المستوى والمراوحة والانغلاق التى يعكسها الواقع للكتابة النقدية فى صحفنا ومجلاتنا، هناك أيضا بوادر وأوجه متعددة وهامة لعملية تجديد يمثلها قطاعٌ متنامٍ، وإن كان محدودا جدا فى الوقت الراهن، يكتب فى عدد من الدول العربية. كما أن هناك مزيدا من التفاعل النظرى والأكاديمى الذى يوسعه، ولو ببطء. كذلك عودة بعض من الأكاديميين وكذلك طلاب السينما المتخصصين بالخارج إلى الدول العربية. كلها مؤشرات تدعو للتفاؤل، حيثُ المراوحة لا تصمد بوجه حركة التاريخ والعالم.
2- الناقد والفيلم.. تشوُّه ذائقة المُشاهد:
يبتعد النقد، الذى يَعنى فى مفهومه العام الكتابة عن الفيلم، كونه مجرد سرد للأحداث، إذ يحرم القارئ من متعة الاستكشاف والنقد الشخصى الانطباعى، الذى يبحث عنه كل مُشاهد ومحب شغوف بالسينما. بينما يكمن النقد ودوره فى تحليل الفيلم من وجهة نظر الناقد القارئ والمثقف المتذوق العارف بالسينما. وتظل متعة النقد فى استكشاف جوانب عديدة ولا نهائية للفيلم الواحد، يكتب عنها كل ناقد من منظوره الشخصى المبنى على علم ودراية، بل وإلمام، ليس فقط بالسينما وعلومها، بل بالموسيقى والأدب والفن التشكيلى. فالتحليل السينمائى يحدث فقط بتفوُّق العقل، وكل جزء تجرى دراسته ما زال ينبض بالحياة، حيث إن التحليل ما يزال يرى كل جزء متصل بخط حياة الكل؛ فالمدخل التحليلى يجعلنا نرى ونفهم كل جزء ومساهمته وطاقته الحيوية فى الكل النابض الديناميكى.
ولأن الإمكانيات المطلوبة لصناعة فيلم ليست بالأمر اليسير، فإن عملية التحليل السينمائى لن تكون كذلك بالتأكيد؛ فالفيلم فى حالته الطبيعية هو الاستمرار، ولا يمكن أن نجمّد تدفُّقه فى الزمان والمكان، وهو ما يزيد من صعوبة عملية الكتابة فى قالبها النقدى التحليلى. ربما كان هذا دافعا خلف انقسام حركة النقد العربى إلى موجة كلاسيكية، وموجة حداثية مُغرِقة فى تواجدها على مواقع التواصل الاجتماعى، حسبما تتطلب مقتضيات العصر، وهو ما يراه الناقد العراقى مهدى عباس، الذى قسم النقاد إلى شقين: أولهما مدرسة النقد الكلاسيكى، التى يستخدم روادها الأدوات والشروط الكلاسيكية فى النقد، مع مصطلحات يصعب أحيانا فهمها، من قِبَل هواة السينما؛ وهؤلاء لم يعد يقرأ لهم سوى مجموعة من جيلهم. وينفى عباس وجود قراء لمقالات السينما الكلاسيكية، حتى من بين صفوف دارسى السينما والهواة؛ فهذا الجيل غير مستعد لقراءة بضع صفحات تعج بمصطلحات أكل عليها الزمن وشرب، وَفق رأيه.
لا شك فى أن التداخل الموجود بين نظرية الفيلم والنقد السينمائى، يُصعّب المهمة أمام النقاد وكتاب السينما؛ فنظرية الفيلم هى دراسة الفيلم وكيف تعمل عناصره العديدة معا لتقديم رؤية الفنان. وتأخذ نظرية الفيلم مقاربة أكاديمية لشرح جوهر السينما، وكيف أنه مرآة للجمهور، بل والعالم بأسرِه. وهنا تفترق نظرية الفيلم عن النقد السينمائى الذى يتضمَّن تقييم فعالية السرد السينمائى، وكذلك تاريخ الفيلم الذى يستكشف تطور السينما بمرور الوقت. هنا يعرّف عباس عن الشق الثانى من نقاد السينما، أو من يسمون أنفسهم بهذه الصفة؛ هُم من يحاولون مواكبة العصر، ويتفهمون الطبيعة النفسية للقارئ المعاصر، فيقدمون نقدا مبسطا مكثفا، ويعرّفون قراءَهم على عوالم جديدة من السينما، التى لم تعد قاصرة على ما تقدّمه أوروبا والولايات المتحدة، بل هناك سينما آسيوية وأفريقية ولاتينية متطورة.
يُسند إلى الناقد كذلك، دور الجذب والتبسيط الذى يقود القارئ نحو المعرفة والتثقيف؛ فعليه أن يجذب القارئ بلغة سهلة مفهومة، وهى مهمة ليست باليسيرة فى السينما العربية، التى يرى عباس أن البعض صار يتعالى عليها، ويقارنها دائما بسينما أخرى، ويجعلها قياسا لكل مقارنة، بينما السينما العربية اليوم اتسعت وتطورت وظهرت سينما جميلة، ليس فى مصر فقط، بل وفى دول الخليج والمغرب العربى والعراق وسوريا وفلسطين والأردن. هذه السينما تحتاج إلى تنوير ودعم من قِبَل النقاد العرب. وبما أننا فى عصر الإنترنت والفيسبوك، وكل أنواع الإعلام الإلكترونى متاحة، فقد ينجذب القرَّاء لشخص لا يملِك أدوات الناقد الكلاسيكية؛ لذا يتوجَّب على النقاد العرب عدم الوقوف مكتوفى الأيدى، وصنع جسور من التواصل مع الجمهور، تعيد للناقد دوره، وترتقى بالذائقة السينمائية للجماهير العربية.
لخَّص عالم الاجتماع، والناقد السينمائى الفرنسى الراحل (كريستيان ميتز)، تجربته فى حقل السينما بسؤاله: "جميعنا يفهم الأفلام، لكن كيف يتسنَّى لنا شرحها؟"، وهى المعضلة الرئيسية لدارسى السينما وكتَّابها، والتى لن يتجاوزها سوى من امتلك أدوات التحليل، وتسلَّح بمخزون ثقافى، يمكّنه من الإجابة على السؤال. لكن النقد الذى يجمع بين العلم والفن، لا تقوم له قائمة بذاته أو بالجهود الفردية؛ فهو حركة فنية وثقافية، تعززها الأكاديميات، التى تضبط المنهج العلمى للدارسين، وتشرف على إخراج كوادر تلقت القدر الجيد من التعليم، وبناء الخلفية المعرفية، التى ستعززها القراءة والمطالعة فيما بعد.
بلغت هذه الحركة الفنية أوج مجدها فى حقبة الستينيات، بحسب ما يرصد كتاب شخصيات وأفلام من عصر السينما، للناقد الدكتور أمير العمرى، حيث يتناول ما أفرزته حقبة الستينيات، وقت أن أخذت الدولة على عاتقها السينما، كهَمّ فنى ووطنى. ويتطرق العمرى كذلك، لجيل الستينيات والسبعينيات، الذى حمل هم التغيير والتطوير، وكيف تأثر هذا الجيل بالتجارب السينمائية فى أمريكا اللاتينية ودول أوروبا. لكن جيل النقاد فى الستينيات كان الأسعد حالا، بحسب رأيه، حيث كانت الدولة أكثر ترحيبا بالنقد السينمائى، تشجع على وجود تيارات من المثقفين، بحكم مسئوليتها عن السينما من خلال القطاع العام، ويستدل على ذلك بإنشاء الدولة معهدا خاصا بالسيناريو. صحيح أنها أغلقته لاحقا واكتفت به كقسم داخل المعهد العالى للسينما، لكنها استقدمت كبار أساتذة السينما فى العالم للتدريس للطلاب، حتى إن رائد الواقعية الجديدة (روبرتو روسيللينى) جاء إلى القاهرة لكى يؤسس وحدة تجريبية للإنتاج السينمائى.
3 - الناقد والمبدع.. تزاوُج الفن بالنظرية:
يستطيع أى إنسان أن يُدلى برأيه ويحكم على ما شاهده؛ لكن الناقد فقط هو من يستطيع تقديم حيثيات متماسكة ليدلل على صواب هذا الحكم؛ فالأمر ليس عشوائية أو (فذلكة)، لكنه حصيلة معارف واسعة، وتعليم نظرى، واطّلاع واسع. وكلما اتسع هذا الاطّلاع، تطور الناقد فى رؤيته التحليلية للنص، واستطاع سبر أغوار اللغة السينمائية. فالفيلم لغة، كأى لغة نتعلمها، لها خصائصها وقواعدها، والناقد هو المترجم، ولا يمكن أن يحوز أحدٌ صفةَ (مترجم)، ما لم يتعلم اللغة التى يُترجِم عنها، يتقنها ويتواصل بها مع أهلها. هنا يتواصل الناقد مع المبدع كصانع لهذه اللغة، ويشكلان معا حوارا مع الجمهور، يتطور هذا الحوار بتطور الزمن، ويتمكن الفنان عبره من تطوير أدواته، وتشد أنظار المشاهدين نحو عمل لم يكونوا ليترجموا طلاسمه، لولا أن وضع الناقد أناملهم على طريق قراءة اللغة كصورة حية، وهو ما حدث مع العشرات، بل المئات، من تراث السينما العربية والعالمية، على سبيل المثال فيلم (باب الحديد)، الذى احتل قائمة أهم مائة فيلم فى تاريخ السينما، برغم الفشل الجماهيرى الذى لاقاه الفيلم فور عرضه. ولولا أن تلقَّفته أيادى النقاد والباحثين، وسبروا أغوار اللغة الخاصة التى نسجها يوسف شاهين فى بداية شبابه، لذهب (باب الحديد) أدراج الرياح.
وكما (باب الحديد)، كان فيلم (المومياء) لشادى عبد السلام، الذى تحمَّس لإنتاجه الإيطالى العظيم (روبرتو روسيللينى)، بعد قدومه إلى مصر، ليصبح أهم فيلم فى تاريخ السينما العربية؛ ثم تحفة رضوان الكاشف (عرق البلح)، الذى لم يلق حظه من الاحتفاء الجماهيرى، إلا بعد سنوات من عرضه، بعدما استفاض النقاد وكشفوا أهمية هذه التحفة السينمائية التى وضعت صاحبها الراحل فى مصاف أهم مخرجى السينما المصرية، على الرغم من إنتاجه قليل العدد. وبينما يأخذ الناقدُ الجماهيرَ إلى منطقة أكثر رحابة لفهم اللغة السينمائية، فهو يقوم بذات الدور مع المبدع، مع الفارق فى العَلاقة التكاملية التى تربط بينهما، ويتمخض عنها حركة ديناميكية ضرورية فى سيرورة الإبداع وعجلة التاريخ الفنى التى يتحكَّم فيها المبدع والناقد من جهة، والمناخ العام والبيئة الفنية من جهة أخرى.
قدمت المخرجة المصرية هالة القوصى فيلمها (زهرة الصبار)، عام 2017، بعد سنوات أمضتها فى دراسة الفنون البصرية، وهو ما أثرى العمل على المستوى البصرى بشكلٍ لم يأتِ على حساب المحتوى والحبكة التى تميزت بالاختلاف عن القالب السينمائى الكلاسيكى المعهود فى السينما المصرية. لذلك ترى هالة أن النقد السينمائى محورى فى تطويرها كفنانة. وفى حديثها لمجلة الفيلم، قالت: "لعب النقد الفنى دورا كبيرا فى تشكيل رؤيتى كفنانة بصرية؛ فأنا قارئة نهمة لنقد الفنون البصرية والأدب والموسيقى والمسرح والسينما. ويجب فى هذا المقام أن أفرق بين المقالات النقدية المتعمّقة فى أغوار العمل الفنى، وبين النصوص الوصفية التى تقدّم نفسها على أنها نقد. فى تجربتى الشخصية كمتلقية، لا أرى الناقد على أنه وسيط بينى وبين العمل الفنى، وكمخرجة هو ليس وسيطا بينى وبين المُشاهد؛ فالسينما للمُشاهد فى المقام الأول. وهذا لا يعنى أن الناقد ليس له دور، ولكن دور الناقد أسمى من دور الوسيط؛ فهو رفيق رحلة متأمل، ودليل خبير، ومتذوق يستطيع بتناوله للفيلم أن يُثرى تجربة المشاهدة، ويبسط أبعادا أرحب، تؤطر الفيلم فى سياقه الفنى والاجتماعى، وتبرز لغته السينمائية".
4 - الفيلم بين قبضتى الصحافة والنقد:
يستهدف النقدُ، كأهدافٍ أوليةٍ، الفهمَ الأفضلَ لتجاوبنا مع الفيلم، وإقناع الآخرين بما نحب ولا نحب فيه، مع التدليل على ذلك، وكذلك إيجاد الصلات بين الفيلم ومناحٍ ثقافية أخرى. فى هذه الأهداف، يتداخل ما هو صحفى لا يتطلب سوى مهارات الكتابة، وما هو نقدى، له متطلبات أكبر وأكثر تعقيدا، وهو ما يوضحه الناقد السينمائى والكاتب الصحفى (حسام حافظ)، الذى يرى أن الصحافة الفنية نوع من الصحافة المتخصصة، التى تهتم بالفنون عامة مثل المسرح والسينما والأغانى والمسلسلات وعروض الأوبرا، وتنشر أنواعا كثيرة من المادة الصحفية، مثل الخبر والحوار والتحقيق وتغطية الأحداث الفنية والحفلات، بالإضافة إلى المقالات النقدية للفنون المختلفة. وتوجد الصحافة الفنية فى صفحات الفنون داخل الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية العامة، أو فى المجلات المتخصصة مثل مجلة الكواكب أو أخبار النجوم.
بينما النقد السينمائى، حسبما يوضح حافظ فى حديثه مع مجلة الفيلم: "شكل من أشكال الكتابة الصحفية، تخاطب القارئ غير المتخصص فى صورة مقال بقلم الناقد يتناول من خلاله الفيلم وكافة عناصره بالنقد والتحليل، ويتم نشر هذا المقال داخل صفحات الفن أو فى المجلات الفنية المتخصصة، وأحيانا فى مجلة متخصصة فى النقد السينمائى، مثل مجلة الفيلم، ومجلة عالم السينما التى كانت تصدرها جمعية نقاد السينما المصريين، أو مجلة الفن السابع التى كان يصدرها الفنان محمود حميدة، أو مجلة السينما التى كان يصدرها الناقد قصى صالح الدرويش".
فالفرق بين الصحافة الفنية والنقد السينمائى هو الفرق بين ڤاترينة المحل والبضائع المعروضة فيها. الصحافة الفنية ڤاترينة كبيرة تقدم كل أنواع البضائع بصورة جماهيرية جذابة لكل أنواع المستهلكين، بينما النقد السينمائى هو نوع واحد من البضائع يعتمد على قارئ مدرك لخصوصية النقد السينمائى، ولديه من الشغف والحب ما يدفعه إلى قراءة ألف كلمة عن فيلم لم يشاهده، أو 2500 كلمة عن فيلم شاهده ولم يعجبه، ولكنه يريد من الناقد أن يساعده فى تفكيك عناصر الفيلم، وفهم ما لم يدركه القارئ أثناء المشاهدة. وفى المقابل، من الضرورى للناقد أن يكون كاتبا جذابا وقادرا على إقناع المُشاهد بأهمية الاستمرار فى قراءة المقال، وأن يكون قادرا على كشف ما خَفِىَ على القارئ، ويعمل على إضاءة المحتوى الفكرى للفيلم، والإشارة إلى نقاط الضعف والقوة فى الفيلم، خاصة من الناحية الفنية، ولا ينسى أنه يخاطب القارئ، بمعنى أن يستخدم أبسط أساليب التعبير بعيدا عن المصطلحات الغامضة أو الصعبة على القارئ غير المتخصص.
يتشارك الناقد والصحافى الفنى فى أن كليهما لا يشاهد العمل الفنى لأجل مزاجه الخاص؛ فالأول يشاهده كى يكون مستشارا للقارئ، ويأخذ على عاتقه مهمة مواجهة القبيح والردىء، الذى لا يقل أهمية عن دور الناقد فى الإشادة بالجمال والاحتفاء بالإبداع، وهى مهمة بين الناقد والجمهور، لا يتشارك فيها الفنان. يضع الناقد والكاتب الصحفى محمود عبد الشكور أيديَنا على دور آخر للكتابة النقدية، بتوضيح دورها كحوار مزدوج مع النص أو العمل الفنى من جهة، ومع القارئ من جهة أخرى. ويشير عبد الشكور إلى الناقد المبدع بأنه ذاك الذى يرتقى بالعمل السينمائى، فيصنع نصا موازيا لِمَا يكتب عنه، ويطرح أسئلة أخرى، ويفك الأحجية أمام القارئ، وهو بذلك يمنح المُشاهِد آفاقا جديدة وقراءة مختلفة لنفس العمل، وأيضا يمنح العمل روحا جديدة، تطيل عمره، أو تذهب به إلى غياهب النسيان.
5 - السينما ونقَّادها فى الزمن الصعب:
تطرح أستاذة السيناريو بالمعهد العالى للسينما، الدكتورة ثناء هاشم، قيمة أخرى ومهمة إضافية على عاتق الناقد، تلخصها فى ضبط علاقة المبدع بفنه، وكذلك يشرك الناقد جمهور السينما فى محاولة تصنيف العمل الفنى. وتسترجع ثناء فى نقاشها مع مجلة الفيلم، محطات مضيئة فى مسيرة النقد السينمائى، قائلةً: "عاش النقد السينمائى أزهى عصوره فى الخمسينيات والستينيات، حين كان لدينا نشرات للسينما فى الأقاليم، وكذلك نوادى السينما فى كل ربوع مصر. فلا يمكن الاعتماد على هذا الحيز السينمائى الضيق الذى نعيشه منذ عقود، وننتظر منه أن يقدم حركة نقد قوية؛ فالنقد لا يقوم بذاته، بل هو حركة وعمل جماعى، حتى لو كان هناك مغردون خارج السرب، تبقى المحصلة النهائية لجهودهم الفردية ضئيلة جدا أمام ما يتطلبه النقد كفن وعلم، لا يمكن أن تقوم للسينما قائمة بدونه. فمع نهاية السبعينيات، بدأت نوادى السينما فى الإغلاق، وتوقفت نشرات السينما عن الطباعة، وبدأنا فى الاعتماد على الكتب، أو الكتابات المتفرقة فى الجرائد والمجلات، وهذا بالطبع ليس كافيا".
حَظِيَت مصر بتيارٍ هامّ من النقاد، على سبيل المثال وليس الحصر: (فتحى فرج، وسامى السلامونى، وصبحى شفيق، ورؤوف توفيق، وسمير فريد، ويوسف شريف رزق الله)، وما كان لهؤلاء أن يحتلوا تلك المكانة، لولا مقومات أساسية توفرت لهم، وبيئة فنية فى مصر استطاعت تجاوُز المركز، وطرق أبواب الهامش؛ فلم تكن السينما ومهرجاناتها حكرا على القاهرة. يحكى الناقد الراحل سمير فريد فى آخر لقاءاته الصحفية، كيف اقترح على رئيس هيئة الثقافة الجماهيرية سعد الدين وهبة، إقامة المهرجان القومى للأفلام الروائية، وذلك بعد عودته من المهرجان القومى للمجر عام 1969، وبالفعل تأسس المهرجان عام 1970، وبدأ دورته الأولى فى مدينة بلطيم، بناءً على اقتراح فريد، الذى كان معارضا لمركزية الثقافة. كان الانفتاح على العالم الخارجى، نقطة انطلاقة لهذا الجيل الذى أسس تيارا قويا للنقد، وهو ما تُبَرهن به ثناء هاشم على وضع النقد المعاصر، الذى صار حبيسا؛ لفقر المناهج التعليمية، وجفاف المكتبة العربية من مواكبة الثورات التى قامت عبر عقود مضت فى مدارس النقد، ونضوب حركة الترجمة؛ فلن يقدم ناقد على التفرغ لترجمة كتب، ما لم توفر له الدولة ومؤسساتها دخلا جيدا وحياة كريمة.
باتت حركة النقد العربى والمصرى خاصة، فى حاجة ماسة إلى مجددين، يقودون حركة علمية وفنية، قائمة على أسس منهجية ونظرية. ولن تقوم لهذه الحركة قائمة، طالما أدرجت السينما على قوائم السلع، وخضعت لمتطلبات السوق والعرض والطلب، وهى بذلك تُسقط عن الجماهير حقهم فى الارتقاء بذائقتهم الفنية، وتنزع من الناقد مهمة الارتقاء بالذوق العام؛ تجعل مِن الإبداع صناعة، ومِن السينما حرفة، ومِن مشاهدة الأفلام محض تسلية لملء أوقات الفراغ، فتحرم المجتمع من جنة السينما التى صارت رهن الإنتاج والتوزيع، بحثا عن أسهل طرق الربح وأسرعها.