الكاتب : أمنية عادل
أحمد الحضرى.. المؤرِّخ المُحِب للسينما
أمنية عادل
"عندما تولَّى عمادةَ المعهد العالى للسينما (1967 - 1968)، فوجئ بأن الطلبة لا يَدرسون وَفق مناهج أو مقرَّرات محدَّدة، وأنه لا توجد مراجع عربية يمكن الاستعانة بها لاستيعاب ما يَدرسون. ومنذ هذه اللحظة، توجَّه إلى تغطية هذا الجانب المَعرِفى المفقود فى ثقافتنا العربية، وترجم الحضرى 14 كتابا، وألَّف 6 كتب".
هكذا تحدَّث المخرج والناقد هاشم النحاس عن رفيقه أحد رواد النقد السينمائى فى العالم العربى الناقد والمؤرخ السينمائى أحمد الحضرى، وَفقَ حديث خاص دار بينهما. أحمد الحضرى الذى تولَّى العديد من المناصب، وقدَّم للمكتبة العربية العديدَ من الكتب الخاصَّة بالنقد السينمائى والتقنيات السينمائية مثل: الإخراج السينمائى والمونتاج وتوجيه الممثل، وكذلك سلسلة تاريخ السينما فى مصر التى صدر جزؤُها الأول عن (نادى سينما القاهرة).
تاريخ طويل مليء بالمعرفة والثقافة وحب السينما، عاش من خلاله (أحمد زكى الحضرى)، الذى بدأ مهندسا، وانتهى كرائد من رواد النقد السينمائى.
بالنظر إلى تاريخ ومسيرة أحمد الحضرى مع السينما التى عشقها، نلاحظ أنه بدأها قبل تعامله المباشر مع التصوير أو الإخراج، وحتى كتابة النقد؛ إذ بدأ مع مشروع تخرُّجه فى كلية الفنون الجميلة؛ حيث أقدم على تصميم مبنى ستوديو سينمائى، وذلك فى عام 1948، وكان المشروع مُلهِما ومُختلِفا عن التصاميم المعتاد عليها الطلاب.
اقتنى الحضرى مع أصدقائه آلة تصوير سينمائى 9.5 ملم ماركة (باتيه)، والهدف هو تصوير أنفسهم أثناء لعب الكرة. هناك عَلاقة عميقة جمعت بين الحضرى وهذا الفن الوليد، حيث السينما.
وُلِدَ أحمد الحضرى فى 26 أكتوبر عام 1926، وحصل على بكالوريوس الفنون الجميلة العليا قسم العمارة عام 1948. فى العام نفسه، كانت السينما فى عامها الثالث والخمسين، وتُعتبر فنا وليدا مقارنةً بالفنون الستة الأخرى التى ارتبطت بالتاريخ على مداره.
السينما والحضرى
حداثة فن السينما، فى ذلك الوقت، كانت إيجابية بصورة كبيرة لمحبى هذا الفن الجديد، والراغبين فى التعاطى معه بشكل مباشر. ورغم سفر أحمد الحضرى إلى لندن لدراسة المساحة استكمالا لدراسته للهندسة والعمارة، إلا أن السينما جذبته بدورها، خاصةً مع موهبته الأقرب (التصوير). أحب الحضرى توثيق لحظاته فى لندن أثناء البعثة، وكان اختياره آلة تصوير ماركة (بل آند هول) وآلة عرض 8 ملم.
حينما أنهى الحضرى دراسته فى بعثة المساحة بلندن عام 1955، لم يكن معهد السينما فى لندن قد أُنشِئ بعد؛ لهذا انتسب إلى دراسات النقد السينمائى، وفى الوقت نفسه أصبح عضوا بجمعية السينما فى الجامعة، وكان التحوُّل.
(تحوُّل) هو اسم الفيلم الذى ساهم الحضرى فى تصويره عن قصة (المسخ) لكافكا، وكان اللقاء الأول مع التقنيات السينمائية. وحصل الفيلم على جائزة فى مسابقة للأفلام التجريبية فى بلجيكا، ومن ثم كان فيلم (مَعًا)، ومغامرة جديدة مع الكاميرا 35 ملم. بعد تجربة فيلم (معًا)، تلقى الحضرى عرضا من إحدى شركات السينما فى الهند، ليقوم بتصوير أفلام سينمائية هناك، لكنه تنازل عن هذه الفرصة لعمله كمهندس فى مصر، ورغبته فى المساهمة فى السينما المصرية.
ندوة الفيلم المختار
أسس الأديب المصرى الكبير يحيى حقى، الذى كان يشغل منصب مدير مصلحة الفنون فى وزارة الإرشاد القومى، خلال خمسينيات القرن العشرين، ما عُرِفَ وقتَ ذلك بـ (ندوة الفيلم المختار). وتُعتبر تلك الندوة هى باكورة التذوُّق والنقد السينمائى فى مصر. فى ذلك الوقت، كان الحضرى قد عاد إلى مصر، والتحق بالعمل كضابط مهندس، إلى جانب مشاركته فى (ندوة الفيلم المختار)، والكتابة بمجلة (المجلة) التى ترأَّس يحيى حقى تحريرها. المُلاحَظ أن كتابات الحضرى فى مجلة المجلة كانت أشبه بدراسات ومداخل عن فن السينما والتقنيات السينمائية المختلفة؛ على سبيل المثال، (الكادر المتغيِّر)، وكذلك أعلام السينما أمثال (جريفث - شارلى شابلن - روبرت فلاهرتى - إيزنشتاين)، وغيرهم.
استفاد الحضرى من دراسته فى لندن والنقد السينمائى، والتعامل المباشر مع التقنيات السينمائية، حيث السيناريو والإخراج السينمائى والتمثيل للسينما؛ حتى إنه قدم مقالات أكثر تخصُّصا، مثل كيفية تحويل الفكرة السينمائية إلى سيناريو وهكذا. هذا التركيز على الجوانب السينمائية المختلفة جعل من كتابات الحضرى مَرجِعا للقرَّاء لا يقتصر على النقد الفكرى أو المضمون، ولكن التقنيات المُستخدَمة فى صناعة السينما، وكذلك منح كتاباته رؤية شمولية لصناعة السينما.
كان الحضرى نشيطا بشكلٍ كبيرٍ كتابِيا، وكذلك على صعيد النشاط السينمائى. ومع مطلع 1960، وتوقُّف (ندوة الفيلم المختار) فى 1959، بعد نقل يحيى حقى من موقعه، سعى الحضرى لتأسيس جمعية الفيلم التى أصبحت حاضرة على أرض الواقع عام 1961 بمتحف العلوم (جراج البستان حاليا بباب اللوق)، والتى تولى رئاستها حتى مطلع 1972.
لم تقف الجمعية عند عرض الأفلام ومناقشتها فحسب، بل قدَّمت أيضا إنتاجاتٍ لأفلام الهواة، وذلك فى عام 1966، مع فيلم (بداية) الذى قام الحضرى فيه بالتصوير والمونتاج، وعاونه فى ذلك (سعيد شيمى) و(محمود عبد السميع). كما عاد الحضرى إلى التصوير أيضا لفيلم من إنتاج الجمعية عام 1971، وهو فيلم (حصان الطين) للمخرجة عطيات الأبنودى. شهد الفيلم كواليس عديدة، وأُعيد تصويره ثلاث مرات، وكانت الأخيرة من تصوير مدير التصوير محمود عبد السميع، وتشاركا معا فى مهمة التصوير على تتر الفيلم.
نادى سينما القاهرة
عام 1968 هو تاريخ تولِّى الحضرى لعمادة معهد السينما، وكذلك تولِّى منصب الإشراف على إدارة نوادى السينما بوزارة الثقافة. وفى عام 1969، أسس (نادى سينما القاهرة) الذى اشتهر بنشرته التى صاحبت كل لقاء، التى شارك فيها العديد من النقاد: (سامى السلامونى - سمير فريد - رؤوف توفيق - رفيق الصبَّان - يوسف شريف رزق الله - أمير العمرى)، وغيرهم من الأسماء المشاركة.
السينما هى جُلُّ ما اهتمَّ به وتشارك عليه محبو ومتذوقو ونقَّاد فنانى السينما فى هذا النادى الذى كان كمنارة للقراء والجمهور، ولا سيما مع نشرة النادى التى كانت مرجعا مهما مع تقسيمها الملتزم لتقديم معلومات عن الفيلم، وتقديم تتابع له، ومن ثم مقال نقدى مُلِم عن الفيلم، ولقاء مع مخرجه، سواء لفيلم مصرى، أو تقديم حوار مترجم مع صنَّاعه، أو تعريف بعالم صناع الأفلام، إلى جانب التمهيد للعرض القادم. هذا هو التسلسل الذى نهجته نشرة النادى على مدار ما يجاوز ربع القرن.
تاريخ السينما المصرية هو المهم الذى حاول نقاد السينما بنادى سينما القاهرة توثيقه بمبادرة من الناقدة خيرية البشلاوى خلال اجتماع النادى فى يناير 1987، وذلك بعد مرور 60 عاما على تقديم أول فيلم مصرى فى نوڤمبر 1927. وتم تعديل الفكرة لتصبح رصد تاريخ السينما فى مصر على أجزاء، كان أولها (تاريخ السينما فى مصر من 1896 إلى 1930) الصادر عن نادى السينما بالقاهرة، وذلك فى أبريل 1989، من تأليف أحمد الحضرى.
كما قدم جُزأَه الثانى الذى صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2007، وكان التأريخ على يد الحضرى بداية من 1931 إلى آخر 1940. وهناك جُزءان (ثالث ورابع)، لكن لم يتم نشرُهما رغم الجهود. بالنظر إلى كتاب (تاريخ السينما فى مصر)، اعتمد الحضرى على وثائق عديدة لخروج الكتب فى صور تأريخية لا تعتمد فقط على الرصد أو تقديم تحليل للأفلام ومستواها الفنى.
بالعودة إلى نادى سينما القاهرة ونشاطه الذى بدأ مع أواخر الستينيات، استفاد النادى من عمل الحضرى، رئيس النادى، وعلاقاته الواسعة، وتمثيله كعضو فى لجان تحكيم دولية، وزياراته المستمرَّة إلى الدول المختلفة والاستوديوهات العالمية، وكذلك تولِّيه منصبَ الرقابة على المصنَّفات الفنية عام 1969؛ المنصب الذى لم يستمر فيه طويلا.
بصورة عامة، قدرة الحضرى على توسُّعه وإثراء نشاط النادى، واستحضاره لأفلام من مختلِف الدول، وكذلك مشاركة فريق قوى ومطَّلِع على الحركة السينمائية العالمية.
تفرُّغ الدينامو
"فى أحد أيام عام 1986، ذهبت إلى مركز الثقافة السينمائية لتجديد اشتراك (نادى سينما القاهرة)؛ وما إن دخلت المركز، حتى وجدت المؤرخ السينمائى الكبير أحمد الحضرى يحمل صينية عليها (بنبون)، ويدور بها على المكاتب والواقفين بالمركز وهو فى منتهى السعادة. وعندما استفسرت عن السبب، قال الحضرى موجِّها كلامه إلى الجميع: «النهارده يا ولاد طلعت على المعاش». اندهشت أن هناك من يفرح لخروجه من المكان، ولكن الحقيقة أن هذا السلوك يناسب تماما حالة أحمد الحضرى".
هكذا تحدَّث الناقد حسام حافظ عن الحضرى ورغبته فى التفرُّغ للعمل السينمائى والنقد والتأريخ. وقد ذكر مكتشفه الكاتب يحيى حقى بأنه كان (دينامو جمعية الفيلم). وقال الناقد سامى السلامونى أنه قدَّم للنقَّاد جائزة كبرى بتأسيس مركز الثقافة السينمائية القابع فى 36 شارع شريف، والذى كان يسعى إلى تحويله لِمَا يُشبه (معهد الفيلم البريطانى) الذى تعلَّم فيه شخصيا فى لندن.
ورغم عدم حدوث ذلك بصورة كبيرة، إلا أن نشرات نادى سينما القاهرة ظلت نافذة هامة قائمة على معايير قراءة الأفلام وتحليلها وَفقا للمعايير النقدية، وتحليل جوانب الفيلم، وإثراء الصناعة والتذوق لهذا الفن المرئى. شارك الحضرى وغيره من النقاد فى كتابة النقد وترجمة المقالات عن الإصدارات الأجنبية، إلى جانب إتاحة الفرصة لصنَّاع الأفلام أمثال: (محمد خان - خيرى بشارة - على عبد الخالق) وغيرهم، للتعبير عن رؤيتهم فى بعض الأفلام أو الحركات.
مثَّلَت النشرة مجلة سينمائية كاملة؛ حيث تقدِّم محتوى فنيا أشبه بدراسة للأفلام المعروضة، وتقديم للجوانب التقنية المختلفة المشكِّلة للصورة السينمائية، كالمونتاج والتصوير، ليستفيد منها طلاب المعهد وصنَّاع الأفلام والجمهور العادى أيضا، إلى جانب توفير تغطية صحفية لأهم الأحداث السينمائية كالمهرجانات العالمية والمحلية المختلفة.
تصريحات وأماني
"أتمنى عرض أفلام مصرية ذات مستوى. وقد حاولت عرض فيلم (شيء من الخوف)، ولكن الشركة رفضت إعارته. وحين وافقت، كان الفيلم قد عُرِض فى دور العرض. ومع ذلك، فنحن مستعدُّون لعرض أفلام جديدة، أما الأفلام القديمة فهى تذاع على التليڤزيون".
كان هذا جانبا من حديث أحمد الحضرى عام 1969 عن نشاط النادى الذى كان يعتمد على التقديم لعضويته. ويتَّضح من خلاله محاولة النادى جذب مُنتِجى الأفلام للتعاون معهم وعرض الأفلام فى النادى. خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، كان النادى نقطة انطلاق لعددٍ من الأفلام لسعيد مرزوق ومحمد خان وخيرى بشارة وغيرهم من صنَّاع السينما الراغبين فى خلق حالة نقدية لأفلامهم، إلى جانب العروض التجارية.
بعد تفرُّغه للثقافة السينمائية، شكَّل الدفاعُ عن نادى سينما القاهرة جانِبا من مجهود الحضرى على مدار السنوات، كما ترأَّس الجمعية المصرية لكتَّاب ونقَّاد السينما، وكذلك ترأَّس مهرجان الإسكندرية السينمائى الدولى الذى صرَّح بخصوصه قائلا: "إن مهرجان الإسكندرية لن يَعرِض غير الأفلام المتميِّزة فنيا، ولو أدَّى ذلك إلى عرضِ عددٍ محدودٍ من الأفلام"؛ وذلك خلال تصريحات أدلى بها فى يونيو 1988.
خلال فترة التسعينيات، كان الحضرى، الذى أرَّخ للسينما المصرية منذ بدايتها، يرى أن أزمة السينما فى ذلك الوقت هى أزمة إنتاج، ولكنها أزمة مؤقَّتة تتمثَّل فى انكماش المنتج خوفا من الفشل أو عدم استرداد الأموال. كما دعا إلى تعاون المنتجين معا لإنتاج أعمال ضخمة.
عام 1994، تم تكريم أحمد الحضرى من قِبَل مهرجان جمعية الفيلم للسينما المصرية، خلال دورة المهرجان العشرين؛ كما مُنِح جائزة الريادة فى الثقافة السينمائية والترجمة والنقد السينمائى؛ كونه أحد مؤسسى جمعية الفيلم؛ إلى جانب تكريمه كمؤرِّخ للسينما، وأحد روَّاد الثقافة السينمائية عام 2015.
فى 1 يناير 2017، انتهت مسيرة أحمد الحضرى، مؤرِّخ السينما ورائد الثقافة السينمائية المصرية، مؤسس جمعية الفيلم ونادى سينما القاهرة، الذى عانى من الضرائب وصعوبات البقاء، ومع هذا صدرت من خلاله 1350 نشرة أسبوعية أصبحت كنموذج فريد فى النقد السينمائى.
يمكن تعديد منجزات الحضرى وإضافاته للسينما المصرية، ولكن بتوثيق هذه التجربة بنشرات تتناقلها الأجيال وصناع السينما وجمهور الفن السابع.
مصادر ومراجع:
- أحمد الحضرى، الأب المؤسس للثقافة السينمائية، كتاب السينما، صادر عن الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، العدد الأول أكتوبر 2015.
- عن النقد السينمائى فى السبعينيات، مطبوعات مهرجان الإسماعيلية السينمائى الدولى الحادى والعشرين للأفلام التسجيلية والقصير، 2019.
- أهم مائة فيلم فى السينما المصرية، إصدار مركز الفنون مكتبة الإسكندرية عن مئوية السينما المصرية (1907 - 2007).
- تاريخ السينما فى مصر، الجزء الأول، من بداية 1896 إلى 1930، تأليف أحمد الحضرى، مطبوعات نادى السينما بالقاهرة.
- أحمد الحضرى رائد الثقافة السينمائية، تأليف: محمد عبد الفتاح، إصدار المهرجان القومى للسينما المصرية.
- أرشيڤ نشرات نادى سينما القاهرة.
- حوار مع أحمد الحضرى (رئيس نادى السينما) بعنوان (هل تنتشر أندية السينما فى كل المحافظات؟) المنشور فى جريدة المساء 6/6/1969.
- حوار مع أحمد الحضرى بجريدة الجمهورية 20/6/1988.
- حوار مع أحمد الحضرى، جريدة الأهرام 13/7/1995.
- مقال (المصوِّر من مصر والمخرجة جرسونة من إيطاليا)، مجلة الكواكب 4/9/1956.
- ملف أحمد الحضرى بمركز الثقافة السينمائية.
-"رصد جماهير السينما، شبكة الشاشات العربية المستقلة (ناس) بالتعاون مع مجلة الفيلم، تحرير نور الصافوري، ٢٠١٨.