الناقد السينمائي من وجهة نظر شخصية جداً

أروي تاج الدين 05 مارس 2022 النقد السينمائي

الكاتب : أروي تاج الدين


الناقد السينمائى من وجهة نظر شخصية جدا
أروى تاج الدين
لم يكن من أحلامى وأنا صغيرة أن أكون ناقدة سينمائية. تخيَّلت مثل الأطفال مِهَنًا أخرى تنوَّعَت حسبَ مراحلى العمرية، وما أثارته الشخصيات التى رأيتها فى الأفلام فى نفسى، وأُغرِمت بها، وأردت أن أكون مثلَها.
لطالما كنت مُغرَمة بالحكايات التى تُعرَض على الشاشة منذ صغرى، وكانت أمتع لحظات حياتى وأكثرها سِحرا تلك التى أقضيها فى مشاهدة فيلم، مُغرَمةً لدرجة مشاهدتها من ثقب باب الغرفة التى كان بها التليڤزيون فى بيتنا، حينما كان ممنوعا أن نشاهده أثناء الدراسة والامتحانات.
أتذكَّر أيضا كيف كنت أنتظر بفارغ الصبر شراء أبى للجرائد اليومية والأسبوعية حتى ألتهِمَ صفحات الفن والسينما، وأقرأ ريڤيوهات الأفلام والمقالات النقدية التى كُتبت عنها.
كنت أشاهد الأفلام وأتحدَّث عنها مع أبى، عمَّا أحببته، وما لم يعجبنى؛ كيف كان هذا فيلما ملهما، وكيف كان أداء الممثل رائعا، أو فاترا، ولم يجعلنى أتعاطف مع الشخصية.
ما كنت أعرف حينها أننى كنت أمارس النقد السينمائى دون أن أدرى. وعلى أثر هذه المشاهدات والمناقشات، أهدانى أبى، وأنا فى الصف الثالث الإعدادى أو الأول الثانوى لا أذكر تحديدا، كتابين اشتراهما لى من سور الأزبكية هما: (كيف تُخرج الأفلام للهواة) تأليف (تونى روز)، و(الإحساس السينمائى) لـ (سيرجى إيزنشتين). ثم بدأ يشترى لى كتب السيناريو ظَنا منه أننى سأمتهن كتابته يوما ما، نظرا لاهتمامى بكتابة التمثيليات والمسرحيات المدرسية.
ما أريد أن أصل إليه من هذه المقدمة الشخصية، أن الناقد السينمائى بالأساس هو شخص وقع فى حب السينما كفَنٍّ، وفِتنة العالم السحرى الذى يراه لمدة ساعتين تقريبا على الشاشة، ودفعه الشغف إلى أن يعرف عن قواعده ويتعلَّم لغته ليعمِّق فهمه به، ولا تزيده المشاهدة والمعرفة إلا نَهَما للأنواع والمدارس السينمائية كافَّة. لا يقف الأمر عند هذا الحد، لكنه أيضا شخص يمتلك قدرات تحليلية، يستطيع من خلالها تفنيد جماليات الفيلم ومعرفة أسباب القوة والضعف فيه.
حينما أُخبِرُ أحدا، لا يدرك حقا ماهيَّة عمل الناقد، أننى ناقدة سينمائية، فالردُّ البديهىُّ الذى يقفز من بين شفتيه أنها (شغلانة لطيفة)، ظَنا منه أن الذى يمارس هذه المهنة هو شخص يشاهد الأفلام ويكتب عنها كيفما اتفق، أو أنها هواية تمارَس لشغل الفراغ، لكونها تتمحوَر حول نوع من أنواع التسلية بالنسبة له! لا يعى أن هناك عِلْما وأصولا لهذا العمل، وأن كثيرا من الجهد يُبذَل فى سبيل إتقان هذه المهنة، فَضلا عن المجهود العقلى والعصبى لفِعل الكتابة فى حد ذاته.
وإلى جانب هذه الفئة، هناك آخرون يظنُّون أن الناقد السينمائى هو شخص لا عمل له، يريد إفساد المتعة على المشاهدين، أو مهاجمة صانعى الأفلام دون داع. وهى قاعدة يشترك فيها الجمهور وعدد لا بأس به من صنَّاع الأفلام التى تُحقِّق شعبية وقتيَّة، لأسبابٍ لا عَلاقة بكونها تحمل قيمة فنية أو أنها جيِّدة الصنع، ويطويها النسيان مع انتهاء عرضها. هذا فضلا عن انتشار فئة أخرى أصبحت تمارس النقد دون أى نوع من أنواع العلم والثقافة، واستطاعوا تكوين قاعدة جماهيرية خاصَّة بهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعى؛ الأمر الذى أدَّى إلى اختلاط الغث بالثمين، وإحداث ارتباك وتشوُّش لدى الجمهور غير الواعى بالسينما ولغتها.
المقومات والأصول
بعيدا عن التعريفات التى اجتهد المنظرون فى وضعها لماهيَّة الناقد السينمائى ومهمته وأدواته، وعلى أمل أن تصل هذه الكلمات إلى هذه الفئات التى لا تُدرِك حقيقة عمل الناقد السينمائى، فإن هذه المهنة، برغم أنها تبدو لهم على السطح (عَمَلا مُسلِّيا)، إلا أنها تتطلَّب الكثير؛ فمهمة الناقد لا تقتصر فقط على الكتابة عن مَحاسن ومساوئ الفيلم؛ فهى أبسطُ مهامِّه وأيسرُها؛ لكنه مهتمٌّ أيضا بالتأريخ للوسيط، واكتشاف الاتجاهات الجديدة فى السينما، ووضع النظريات، والترويج للثقافة السينمائية، ودعم الصناعة، وغيرها من المهام التى التصقت بشكل وثيق به منذ نشأة السينما فى العالم.
وحتى يتمكَّن من هذه المهامِّ ويؤدِّيها على الوجه الأكمل، يجب عليه ممارسة المشاهدة المستمرة التى تصل أحيانا إلى أربعة أو خمسة أفلام فى اليوم فى أوقات المهرجانات، أو عند كتابة بحث أو دراسة أكثر عمقا عن نمط معين أو اتجاه أو مدرسة سينمائية ما، هذا فضلا عن أنه مُطالَب بهذه المشاهدة؛ حتى وإن لم يكن ذلك من أجل الكتابة، فمن أجل أن يكون مُلِما بالتطوُّرات التى تطرأ على هذا الفن المنتشر فى شتَّى بقاع الدنيا، واستكشاف كل جديد، ووضع جواهره الدفينة تحت مِجهَر محبِّى السينما، خاصةً إذا كانت أفلاما من بلاد لا تسترعى انتباههم، أو تلك التى لا تعتمد على الإنتاج الضخم والتطوُّر التكنولوجى فى جذب الجمهور مثل أفلام هوليوود والأفلام التجارية التى تستطيع التسويق لنفسها بسهولة.
حقيقى أن الناقد السينمائى هو شخصٌ مُغرَم بالسينما وجمالياتها، ويستمتع بالمشاهدة وممارسة الاستكشاف والتأمُّل والتحليل، لكنه أيضا مُطالَب بمشاهدة الأفلام غير جيِّدة الصنع، أو التى لا تحمل قِيَما جمالية تُرضِى ذائقته وتُشبِع متعته الشخصية فى المشاهدة والكتابة عنها، لتنبيه صنَّاع العمل إلى الأخطاء التى يقعون فيها، وحتى يفهم الجمهور كيف يمكنه التفريق بين العمل المُتقَن وما يمكن أن يكون فيلما جيدا لكنه يحمل بعض مواطن الضعف، وبين الرديء.
السينما هى سابع الفنون التى استوعبت بداخلها الفنون الأخرى مثل الموسيقى والأدب والمسرح والفن التشكيلى، وبالتالى يجب على الناقد أن يكون على درايةٍ جيدةٍ بها، حتى يمكنه تحليل عناصر الفيلم، وشَرْح كيف أن تضافرها مَعا أدَّى إلى إبراز وتأكيد المعنى الذى أراد المخرج توصيله، أو أن هناك خللا فى أحد هذه العناصر جعل الفيلم عملا غيرَ مكتمِل. بالإضافة إلى ذلك فهو مُطالَب أيضا بدراسة عناصر الوسيط الذى يكتب عنه؛ فيجب أن يدرس الإخراج والسيناريو والمونتاج والتمثيل. وليس بالضرورة أن يلتحق بأحد المعاهد والكليات التى تقوم بتدريس هذه المهارات، ولكن يجب عليه قراءة الكتب التى تشرح أصولها وقواعدها، ومتابعة كل تطوُّر يطرأ عليها.
يجب أن يكون أيضا قارئا نَهِما، ليس فيما يتعلَّق بالوسيط الفنى فقط بشكل مباشر، ولكن فى شتَّى فروع الثقافة والمعرفة الأخرى قدرَ الإمكان، خاصةً فى الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتاريخ والأدب، حتى يكون تحليله ورؤيته أكثر قوة وتماسكا وعمقا، بالإضافة إلى أن الدراسات السينمائية أصبحت تتداخل مع العلوم الإنسانية الأخرى بشكل كبير.
هموم ومتاعب
كل مهنة مثلما تحمل فى جوانبها متعة شخصية وإرضاء للذات عند ممارستها، فهى أيضا لها جانبٌ مُضنٍ ومُحبِط؛ ليس بسبب كثرة المشاهدات والقراءة والدراسة المستمرة، ولكن لأنها مهنة تُمارَس فى مجتمع لا يُعير اهتماما للثقافة والفنون عموما، والثقافة السينمائية خاصةً، فتشعر كأنك جزيرة منعزلة فى وسط المحيط، تَأمُل أن يخطو على أرضها أحد. وهذا ليس بالجديد؛ فهو أمر يعانى منه النقد السينمائى فى مصر منذ أكثر من مائة عام. ولكن مع وجود وسائل التواصل الاجتماعى التى أتاحت لجميع مشاهدى الأفلام أن يكونوا نقَّادا، وانتشار الكثيرين من فاقدى الثقافة والعلم بفن السينما، ووصولهم إلى عدد كبير من الجمهور، زادت الهوَّة بين النقاد الحقيقيين والجمهور.
يعانى أيضا كثيرٌ من النقاد، خاصةً الشباب، من محدودية مساحة النشر على الصعيدين المصرى والعربى؛ وأقصِد بهذه المحدوديةِ صِغَرَ المساحةِ المتاحةِ للمقالات النقدية فى الصحف والمجلات التى تهتم بتخصيص مساحة للنقد السينمائى، بالإضافة إلى اعتمادها على أسماء شهيرة وكبيرة، تضمن لها توزيعا جيِّدا، فى ظل انحسار الإقبال على الصحافة الورقية فى العالم، وقلة المجلات المتخصصة. كما يواجه النقاد أيضا عوائقَ أخرى فى النشر على المواقع الإلكترونية القليلة التى تهتم بالثقافة السينمائية، أهمها الاهتمام فقط بالأفلام أو الموضوعات التى تتوافق مع (الترند)، حتى تستطيع تحقيق عدد قراءات جيد يفيد (ترافيك) الموقع، وبالتالى يجد الناقد نفسه محصورا فى الكتابة عن الأفلام التجارية فى الأغلب، بينما هناك أفلام وقضايا أخرى تحتاج إلى تسليط الضوء عليها. ولا أشجِّع كثيرا إنشاءَ المدوَّنات والكتابة المجانية على الفيسبوك، إلا لمن يكتب كهواية، أو فى مقتبل اقتحام الناقد للمجال، من أجل اختبار إمكانياته وصقلها؛ فالنقد مهنة فى الأساس، ومصدر رزق لصاحبها، وهناك كثيرون يعتمدون عليها فى إعاشتهم مثل أىِّ مهنةٍ أخرى فى العالم.
هذا فضلا عن عوائقَ فنيةٍ كثيرةٍ تقف حائلا فى وجه عمل الناقد، مثل قِلَّة توافر المصادر والمراجع من الكتب والترجمات، وعدم وجود أرشيڤ للسينما المصرية يستند إليه فى أبحاثه وكتابته.
أن يكون الشخص ناقدا سينمائيا حقا، ليس معناه أن يكون مشهورا على وسائل التواصل الاجتماعى، ويلتقط صورا مع المشاهير والفنانين، وهو لا يمارس عملا سهلا أو هواية أو مهنة مُسلِّية، حسب مفهوم سالفى الذكر، رغم متعتها؛ لكنه إنسان شغوف بهذا الفن، مُولَع بدراستِه وفكِّ طلاسمه وفَهم ما يكمُن خلفَ هذا العالم الفاتن، وامتلك القدرة على تحليل عناصره، فأراد أن يَرَى من حوله جمالَه وسحرَه مثلما يراه، وفى سبيل ذلك يبذل كثيرا من الوقت والمجهود فى المشاهدة والبحث والدراسة.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات