إننا تسجيليين مقاربة بين جيلي 67 و2011

رامي عبد الرازق 09 يناير 2017 السينما التسجيلية في مصر الحقيقة والجمال

الكاتب : رامي عبد الرازق
بعد عام 1967 اتصل بي المخرج صلاح التهامي عندما اصبح الرجل الثاني في مركز الافلام التسجيلية وعرض علي الانضمام إلى المركز والعمل معه بشكل رسمي، وكان أول أحتكاك عملي لي كمساعد مخرج في فيلم بعنوان”الجمهور يلعب”عن مباراة بين فريقي الأهلي والاسماعيلي في مدينة الأسماعيلية.


لكن ما حدث ان نشبت مشاجرة في الملعب، وتحولت تلك المشاجرة إلى موضوع للفيلم وليس المباراة، لا أتذكر الأن من كان صاحب هذا الأقتراح بتحويل موضوع الفيلم من المباراة للمشاجرة، ولكن كان رأي صلاح التهامي (إننا تسجيليين)، وسنصور ما يحدث أيا كان، وكان لهذه الواقعة وتلك الجملة أثرا في خبراتي التسجيلية لاحقا.

المخرج هاشم النحاس
(هاشم النحاس وأفلامه عن الأنسان)
انطلاقا من هذا الشعار الذي كان له اكبر الأثر في رحلة واحد من الأباء الروحيين الحقيقيين للسينما التسجيلية في مصر(هاشم النحاس) يمكن الوقوف على عدد من العناصر ذات الحضور المرتبط بالتسجيلية كموقف فني وشعوري وفكري وليس فقط كنوع سينمائي له لغته الخاصة وذلك في تجارب عدد من ممثلي جيل المخرجين الشباب في السينما التسجيلية المصرية.
هذا الجيل الشاب الذي قياسا على الاجيال التي سبقته خاصة الأجيال المؤسسة لصناعة الفيلم التسجيلي في مصر - جيل سعد نديم وصلاح التهامي يليه جيل هاشم النحاس وأحمد راشد وعطيات الأبنودي وسميحة الغنيمي- هو الجيل الذي اجتاحته الثورة التكنولوجية ومنحته موجات التطور التقني السريعة والمتلاحقة دفعة قوية كان من الصعب على كثير منهم ان يحافظ على توازنه خلالها.
وبالعودة إلى التعريف الأصيل للسينما التسجيلية “بأن الفيلم التسجيلي هو العمل المنجز انطلاقا من مادة محددة تشتمل على لقطات مصورة قريبة من التجربة المعاشة” وبالتالي فإن الوسيط التقني –الذي شهد تلك الثورة- والمستخدم في التصوير ونعني به هنا “الديجيتال”الذي يتم ممارسة (التسجيلية) من خلاله اصبح مختلفا وخاطفا تماما أو كما يقول الناقد المصري امير العمري في درساته عن نقد الفيلم التسجيلي :
“أصبحت الكاميرات الرقمية”الديجيتال”التي تختزن الصور في ذاكرتها...الوسيلة السائدة اليوم أمام صناع الفيلم التسجيلي، ليس فقط بسبب رخص أسعارها، بل بسبب صغر حجمها وسهولة حملها وبالتالي القدرة على اقتحام العديد من الأماكن المزدحمة التي قد يشكل التصوير فيها مخاطرة ما، أو الأماكن الضيقة المرتفعة، أو غير ذلك من المواقف التي تشتعل فجأة بالأحداث المعقدة...لم يعد ينفع أن ينصب السينمائي كاميرا سينمائية واضحة كبيرة فوق حامل على الملأ ثم يقوم مساعدوه بضبط الإضاءة ووضع عداسات الضوء المناسبة، ثم استخدام العدسة المناسبة أكثر للحدث وضبط بؤرتها والتحكم في حجم اللقطة..إلخ فقد يكون الحدث قد بدأ وانتهى بينما المخرج ومساعدوه مازالوا يعدون العدة لتصويره!”
هذه هي اولى الملاحظات الأساسية في محاولة قراءة واستعياب انطلاقة هذا الجيل نحو ارض التسجيلية الرحبة، فالبعض تصور ان مجرد امتلاكه لاداة التصوير السهلة والمتاحة والرخيصة أن تصوير بعض اللقطات وانجاز مونتاج بدائي كفيل بأن يصنع فيلما تسجيليا منطلقا من حدث سياسي أو اجتماعي أو تجربة ذاتية دون مراعاة ان الحقيقة التسجيلية تتخذ شكلا مغايرا يتجاوز فكرة تسجيل الواقع ورصد الحقيقة إلى وجهة النظر في الواقع ذاته ومعنى الحقيقة وهو ما يلخصه الناقد الكبير سمير فريد في حديثه عن السينما التسجيلية :
“في السينما التسجيلية يجب أن نضع كلمة حقائق بين قوسين عن عمد لأن كون الصورة حقيقية أي تصور حدث حقيقي لا يعني أنها حقيقة، فالحدث الحقيقي يصور من زاوية تصوير معينة في إضاءة معينة واستخدامه في فيلم يعني استخدامه للتعبير عن وجهة نظر محددة بل أن الحدث المصور في اطار الجريدة الأخبارية ايضا يعبر عن وجهة نظر لان صانع الجريدة يختار هذا الحدث من بين احداث متعددة وقعت في نفس الوقت وربما في نفس المكان وطالما هناك اختيار فليست هناك حقيقة مجردة”
ولكن ليس معنى هذا ان الجيل الجديد من التسجيلين اخفق في صياغة معادلاته وطرح حساسيته التسجيلية الخاصة، بل على العكس ثمة الكثير من الدماء الجديدة التي استطاعت ان تعثر على صوتها الخاص في صناعة الفيلم التسجيلي مستغلة موجة التقدم التقني التي اشرنا إليها، وفي مقابل عشرات الأخفاقات والتجارب المتواضعة ثمة علامات ساطعة شكلت ملامح الجيل الحالي من التسجيلين الشباب.

67 /2011
كان استغراق جيل هاشم النحاس في محاولة فهم ودراسة الشخصية المصرية هو جزء من احساسه بالرد على هزيمة 67 التي كانت ولا تزال اكبر صدمة اصابت هذا الجيل بأكلمه، حين بدأ مشروع افلامه عن الأنسان المصري (النيل ارزاق، البئر، الناس والبحيرة، شوا ابو أحمد، توشكى) كان ما يشغله في تلك الفترة هو تمجيد هذا الانسان الذي يستحق كل التقدير الحضاري، ولكنه لاحقا اكتشفت السر على حد تعبير الناقد سيد سعيد (تأليه البني ادم المصري) كرد متواضع على روح الهزيمة التي سكنت أفكار ومشاعر هذا الجيل.
بعد هزيمة 67 اتجهت السينما التسجيلية في مصر إلى عدة اتجاهات، كلها كانت رد فعل على ما حدث في يونيو، ليس فقط على مستوى الجبهة ولكن في مصر كلها، اولى هذه الأتجاهات هو ان اكثر من مخرج قرر الأشتراك في حرب الأستنزاف وتصويرها كنوع من المقاومة المباشرة، أما الثاني فهو الأتجاه الذي رأى ان التطهر من الهزيمة يستدعي الرجوع إلى دراسة الماضي بكل نجاحاته وامجاده، فعاد البعض إلى الحقبة الفرعونية كسمير عوف في مجمل أعماله، وعاد أخرين إلى الحقبة الأسلامية كمرجعية للنهوض مثل المخرج حسين الطيب الذي انجز نحو 20 فيلما عن المساجد الشهيرة. أما بالنسبة للنحاس فقد كان الأمر مختلفا حيث أعتبر ان الأنسان نفسه هو السؤال!
هل هو قابل للهزيمة أم لا؟ وكانت إجابته الخاصة من خلال مجموعة أفلامه هو ان هذا الانسان غير قابل لأن يهزم لانه من المهارة والذكاء ما يجعله يستمر في حياته ويبني ما تهدم من جديد بغض النظر عن الهزيمة.
في مقابل هزيمة 67 نجد ان الجيل الشاب من التسجيليين المصريين قد انصهر على مستويات كثيرة من خلال تجربة الأحتكاك المباشر بحدث سياسي لا يقل ضخامة وزلزلة على مستويات كثيرة ونعني به ثورة 25 يناير 2011 مع الاخذ في الأعتبار الفروق الموضوعية بين الهزيمة العسكرية والثورة الشعبية، ولكن المقاربة هنا هي مقاربة تخص تعرض كلا الجيلين إلى هزة ضخمة على المستوى السياسي والأجتماعي بل والأنساني، ونضيف على ذلك أن جيل يناير 2011 يختلف عن جيل يونيو 67 في أن الحرب حدث نخبوي يتعرض له فئة معينة من الشعب خلال مساحة جغرافية محددة وهي ما يطلق عليها الجبهة اما الثورة فهي حراك شعبي يشمل كل الفئات تقريبا وليس له نطاق جغرافي معين فالدولة كلها هي نطاقه وإن تم اختصاره رمزيا في بقعة اساسية حملت دلالات الحدث بأكلمه وهي (ميدان التحرير).
وبالحديث عن ثورة يناير كحدث سياسي فارق بالنسبة لجيل التسجيليين الشباب نتوقف امام بعض التجارب التي يمكن أن نرصد من خلالها كيف استطاع الجيل الشاب استيعاب الحدث كجزء من تطور صناعة الفيلم التسجيلي في مصر.

تسجيلية الميدان
انتجت ثورة يناير ما يعرف بالوثيقة المصورة قبل أن تنتج افلامها الخاصة، او بمعنى اخر ان الوثيقة التسجيلية هي التي انتجت الفيلم وليس العكس، فالكثير من صناع السينما التسجيلية الشباب ذهبوا إلى الميدان للمشاركة في الحدث دون ان يكون ثمة نية محددة للتسجيل او صناعة الأفلام، فالتوثيق يحتاج إلى دراية وشئ من اليقين وكلاهما كان غائبا عن الكل تقريبا، لا احد كان يدرك حجم الحدث ولا ابعاده. الكل ذهب ليشارك/يصور كما اتفق، البعض انتج من وراء هذه المشاركة تجارب ذات قيمة والبعض الاخر كانت افرازاته التسجيلية اقرب للانفعال اللحظي الذي لم يلبث أن تجاوزته المادة الهائلة التي سجلتها كاميرات المحطات الفضائية.
ثمة ثلاثة انواع لطبيعة الصورو التسجيلية التي تم رصدها اثناء الثورة والتي تحولت فيما بعد إلى “المادة المحددة” التي شكلت المتن الرئيسي للأفلام التسجيلية التي انتجها هذا الجيل عن الحدث السياسي.
النوع الاول: الوثيقة التسجيلية التي التقطتها عبر المصادفة كاميرات التليفونات المحمولة والكاميرات الخاصة لأشخاص ليسوا من صناع الأفلام ولكنهم حاولوا تسجيل اللحظة للاحتفاظ بها في ارشيفهم الخاص او تحميلها على مواقع الانترنت كنوع من المقاومة وتعرية الواقع.
هذا النوع من الوثائق اصبح من الصعب التعرف على الشخص الذي قام بتسجيله او توثيقه بعد حجم التداول الهائل للوثيقة عبر شبكة الأنترنت بل واعتباره ارشيف عام تم استخدامه في عشرات الافلام الوثائقية والمواد التليفزيونية التي تحدثت عن الثورة.
ومن اشهر تلك اللقطات الوثائقية على سبيل المثال لا الحصر: لقطة الشاب الذي يتحدى خرطوم الماء المنطلق من سيارة فض الشغب، لقطة رش المتظاهرين بالماء فوق كوبري قصر النيل, لقطة مقتل احد المتظاهرين بالسويس، لقطة دهس سيارة السفارة الأمريكية المسرعة لعدد من المتظاهرين، لقطة دهس عربة مصفحة لاحد المتظاهرين اسفل كوبري الجلاء، وبالطبع اللقطة الشهيرة لعملية اقتحام الجمال للميدان ومواجهة المتظاهرين لأحد راكبي الأحصنة في”موقعة الجمل”وانزاله من فوق الحصان وضربه.
وللاسف فإن اعتبار هذه اللقطات جزء من الأرشيف العام المتاح للجميع او ما يعرف بفكرة”تحرير الوثيقة من سيطرة صانعها”جعلها تصبح تيمة كلاسيكية او نمطية في الكثير من الأفلام التسجيلية واستطاعت فقط افلام قليلة أن تنجو من فخ استخدامها المكرر والمفتعل.
النوع الثاني: الوثيقة المصورة التي سجلتها كاميرات صناع الافلام والسينمائيين الذين شاركوا او تواجدوا في الميدان اثناء وبعد الحدث.
هذا النوع هو الاكثر تمثيلا لفكرة إنتاج الوثيقة التسجيلية لفيلمها وليس انتاج الفيلم لوثيقته الخاصة، حيث ان اغلب صناع الأفلام الشباب الذين اهتموا بالمشاركة عبر تصوير الحدث وتوثيقه اعتمدوا فيما بعد على المواد التي قاموا بتصويرها كمتن اساسي لصناعة افلامهم الوثائقية عن الثورة كل من وجهة نظره.
النوع الثالث: هي الوثيقة التي سجلها شخص اخر معلوم غير المخرج اثناء الاحداث بحكم طبيعة عمله(مصور صحفي او تليفزيوني)او تواجده في الاماكن التي شهدت المواجهات والوقائع الساخنة وقام المخرجين بأستخدام تلك الوثيقة كمتن اساسي في افلامهم او كجزء من المتن وليس مجرد ارشيف او مادة مساعدة وهو ما نراه جليا في تجربة المخرج تامر عزت في الجزء الاول من فيلم”الطيب والشرس والسياسي” عندما قام بتوظيف الصور التي التقطتها احد المصورين الصحفيين اثناء الصورة وصنع منها المتن الرئيسي لفيلمه “الطيب” عبر التركيز على الوثيقة المصورة وتكبيرها ودراستها وتحليل مشتملاتها.
هنا نتوقف أمام رصد العناصر المشتركة بين اغلب أفلام جيل الشباب عن ثورة يناير وهي:
1 - ان قرائتها لم تتحدد سوى بعد انتهاء الحدث نفسه اي اكتمال الثمانية عشر يوما للثورة بتنحي الرئيس مبارك وهو ما نجده على سبيل المثال في افلام مثل “نصف ثورة” لكريم الحكيم وعمر الشرقاوي، ومولود في الخامس والعشرين من يناير لاحمد رشوان، وانا والاجندة لنيفين شلبي، فأغلب هذه المواد كانت مجرد ارشيف خاص بالمخرج لم يتم التعامل معه على اعتبار انه يمكن ان يشكل نواة او متن لفيلم تسجيلي إلا عندما اتخذ الحدث شكل الثورة وأتخذت الاحداث تطورها المذهل والمفاجئ.
2 - أنها تتنوع ما بين لقطات توثق وجهة نظر المخرج لما يحدث وقتما كان وأينما كان دون تخطيط منه او تتبع لمعلومة او شخص بعينه وانما مجرد جزء من حالة المشاركة/النضالية التي تحدثنا عنها او هي لقطات تم التقاطها له في الميدان وسط الحدث من خلال وجهة نظر اشخاص اخرين لكن كان هو محورها وبالتالي سعى للحصول عليها لضمها إلى ارشيفه مثلما فعل المخرج أحمد رشوان في فيلمه مولود في الخامس والعشرين من يناير، او هي لقطات قام المخرج بتصويرها لنفسه بنفسه كجزء من عملية قراءة الحدث عبر الذات.
3 - عدد قليل جدا من الوثائق المصورة التي التقطت خلال احداث الثورة من قبل صناع الأفلام جاءت بشكل عالى الجودة تقينا أو محدد الزوايا والاحجام بصريا بل أن اغلب المادة المصورة والتي كانت نواة الافلام جاءت حركة الكاميرا خلالها اقرب لحركة الكاميرا التي تصور الاخبار أو “الهارد نيوز/ HARD NEWS” بالتعبير الانجليزي، حيث الكاميرا غير مستقرة والكادرات مهتزة والأضاءة شحيحة والقطعات المونتاجية حادة وغير منقمة ولا يوجد اهتمام بالتكوين أو الخط الوهمي او النور والظل، بل أنه في بعض الأحيان قامت الكاميرا بالتصوير دون دراية من المخرج او انتباه لما تقوم بتصويره!
وسوف نجد ان المخرجة نيفين شلبي على سبيل المثال قد قامت ببناء جزء كبير من فيلمها”انا والأجندة”على لقطات التقطتها الكاميرا بنفسها وليس بتوجيه من المخرجة ولم تتبين نيفين نفسها طبيعة المادة المصورة ومساحتها وحجمها إلا بعد ان قامت بتفريغ الذاكرة ومن هنا تولد لديها الشعور بوجود نواة تصلح لصناعة فيلم وثائقي عن احداث الثورة واتخذت من فكرة “الاجندة الخارجية” التي انتشرت كمصطلح في الأعلام الرسمي يشير إلى العمالة والخيانة اللذان كانا يوصف بهم ثوار الميدان اتخذت منها زاوية لتحليل الوضع السياسي بالميدان وقت الاحداث.
لقد استطاعت بعض تجارب جيل الشباب عن الحدث السياسي ان يقوموا بعملية التحول الفنية التي استخدمت معادلة تحول الصورة عبر الاتصال بصورة اخرى حيث ان وجود الوثيقة التسجيلية محررة في الفراغ الذهني للمبدع جعل ثمة شعور بأنها يمكن أن تجد طريقها لتصبح في اضافتها لصورة/وثيقة أخرى متنا هاما يشكل في النهاية فيلما يعكس رؤية المخرج للاحداث.
دعونا ننظر على سبيل المثال إلى لقطة/وثيقة رش المتظاهرين بالماء فوق كوبري قصر النيل في فيلم “الطيب والشرس والسياسي” وتحديدا في الجزء الخاص “بالشرس” إخراج آيتين أمين، حيث قامت المخرجة بعمل لقاء مطول مع احد ضباط الامن المركزي الذين كانوا مكلفين بمنع اقتحام المتظاهرين للميدان في الايام الاولى للحدث أي من الخامس والعشرين حتى الثامن والعشرين المعروف بجمعة الغضب، هذه الوثيقة المسجلة عادة ما تستخدم للتدليل على مدى عنف الشرطة في مواجهة المتظاهرين ولكن المخرجة هنا استخدمتها كمادة مصورة مصاحبة لرأي الضابط الذي صرح بأن الخطأ لم يكن خطأ الشرطة ولكن المتظاهرين الذين اصطفوا فوق الكوبري لاداء الصلاة أمام خراطيم المياه بينما ميدان التحرير ليس هو اتجاه القبلة!
لقد استطاعت المخرجة هنا بأضفتها هذه الوثيقة النمطية والشهيرة جدا إلى حديث الضابط أن تستخرج منه وجهة نظره المخفية داخل عقله الباطن وهو أنه يرى ان الشرطة كانت على حق فيما فعلته مع المتظاهرين فوق الكوبري في ذلك اليوم.
هذه فيما يخص استخدام النوع الاول من الوثائق الشهيرة مجهولة المصدربشكل يبتعد قليلا عن استخداماتها النمطية اعتمادا على مبدأ تحررها المطلق، أما استخدام النوع الثاني وهو المادة التي صورها المخرج بنفسه فنستطيع أن نرصد حضوره من خلال واحدة من ابرز تجارب هذا الجيل وهو فيلم”نصف ثورة” لكريم الحكيم وعمر الشرقاوي، في هذا الفيلم اعتمد كلا المخرجين على المادة اللذان قاما بتصويرها منذ ليلة 23 يناير ولمدة احد عشر يوما حتى غادروا القاهرة يوم 6 فبراير أي قبل التنحي بخمسة أيام فقط، هذه المادة/الوثيقة التي صورت ليس فقط بحكم ان شقة المخرجين تقع في منطقة وسط البلد بالقرب من التحرير ولكن بأرادة كاملة منهم في توثيق وتسجيل الحدث عبر المشاركة والنزول للشارع والميدان مع المتظاهرين، وقد استخدم المخرجين المادة التي قاموا بتصويرها حتى تلك التي لها مواد ارشيفية يمكن الحصول عليها من الانترنت مثل خطاب مبارك يوم 1 فبراير حيث قاموا بأدراج الخطاب المصور من شاشة كومبيوتر تنقل التليفزيون الأرضي، نصف ثورة هو مثال لتوظيف المخرجين الشباب للوثية التسجيلية التي افرزت فيلما كاملا بالأعتماد على ذاتها وليس على أي وثائق اخرى من الأرشيف العام للثورة أو من وثائق مصورة من قبل مخرجين اخرين.
فالرؤية الذاتية الممتزوجة بوجهة النظر السياسية لشخصيات الفيلم التي هي اسرة المخرجين واصدقائهم جعلت التحول الفني يتحقق بشكل متكامل من خلال اتصال الوثائق المتعددة التي صورها المخرجين في الشارع والبيت والميدان-رغم تنافرهم الظاهري- مع بعضهم ليخرجوا لنا في النهاية احد انضج التجارب التي قدمت عن الثورة من خلال عملية توثيق عشوائية فرضتها ظروف الحدث الطارئة والغير ممنطقة. وهو التحول القائم على نظرية المخرج الفرنسي روبير بريسون “على الصورة أن تتحول عبر الاتصال بصور أخرى، كما لون يتصل بلون/ بألوان اخرى، ليس الازرق بالازرق نفسه في جانب الاخضر، الاصفر، الأحمر...فما من فن دون تُحول”
وقد بلورت رؤية المخرجين الذاتية اسباب عدم استعانتهم بأي مادة خارج المواد الخاصة بهم حتى من تلك اللقطات الشهيرة والوثائق العامة لارشيف الثورة، فالرؤية هنا هي رؤية من الداخل، لا من داخل الحدث فقط، ولكن من داخل الذات ايضا.
أما المخرج المصري تامر عزت وهو احد المخرجين التسجيليين اصحاب التجارب المميزة(كل شئ حيبقى تمام ومكان اسمه الوطن) اختار أن يصنع فيلما عن شخصية تقوم بالمشاركة عبر توثيق وتصوير الحدث وهي شخصية المصور الصحفي الشاب الذي عاد من الخارج للمشاركة في الثورة فوجد نفسه في خضم عملية توثيق هائلة لم يكن مخطط لها.
في فيلمه “الطيب” احد اجزاء ثلاثية”الطيب والشرس والسياسي” يعكس اختيار تامر عزت ايمانه بفكرة الصورة/الوثيقة كمخرج يعمل في مجال السينما التسجيلية واعتبر المصور الصحفي الذي يشارك من خلال عملية التوثيق بالصورة هو أحد”الطيبين” الذي يشير إليهم العنوان.
هنا اعتمد تامر على النوع الثالث من الوثيقة الذي ذكرناه من قبل وهو الوثيقة المصورة التي سجلها شخص معلوم غير المخرج فالهمت المخرج أن ينطلق منها في تجربته الفيلمية.
وربما يعتبر البعض ان ما فعله”تامر عزت”هو ذاته الذي يفعله اي مخرج يقوم بالأستعانة بلقطات أو صور ارشيفية من الأرشيف العام للحدث او الخاص بشخص ولكن الامر هنا يختلف فتامر انطلق من مجموعة الصور التي صورها هذا المصور الشاب ليصنع عملية توثيق لفكرة التوثيق في حد ذاتها، فلم يقم تامر بمجرد عرض الصور التي التقطاها المصور الشاب على الشاشة وإنما قام بعرضها على شاشة عرض سينمائية كبيرة من خلال”بروجيكتور” قام بتكبير الصورة عشرات المرات بينما قام المصور الشاب صاحب الصور بالوقوف امام الشاشة وشرع في تذكر الحدث ثم عملية تسجيله وتصويره ثم تحليل مشتملات كل صورة/وثيقة.
بل ان تامر حصل على صور يظهر فيها المصور الشاب وهو يقوم بعملية التصوير اثناء معركة الجمل على سبيل المثال فأصبح لدينا فكرة الدوائر الانهائية المتداخلة حيث ان افق الحدث/الثورة فتح الباب امام فكرة لانهائية الوثيقة اي ان الموثق او الشخص الذي يقوم بالتسجيل ثمة من يقوم بتوثيقه في نفس الوقت!
وتأتي اهمية النظر إلى فيلم “الطيب” باعتباره نموذجا معبرا عن واحدة من ملامح السينما التسجيلية الشابة وهي فكرة اطلاق التجربة للوثيقة التسجيلية واطلاق الوثيقة التسجيلية للفيلم، وقد اعتبر المخرج أن احد زاويا النظر إلى الحدث/الثورة هي زاوية افراز الثورة لعملية توثيقها، وهو افراز فريد من نوعه يمكن ان يضع ثورة يناير كنقطة تطور حقيقية في تاريخ السينما التسجيلية للأسباب الأتية:
أولا: الثورة بدأت من خلال دعاوى على الواقع الأفتراضي للانترنت والتي لعب فيها الديجيتال دور اساسي ورئيسي سواء لحشد المتظاهرين او رصد الاحداث المتلاحقة للايام الدامية الاولى لتحفيز الناس على النزول والتصدى للقمع الأمني.
ثانيا : استخدام فكرة التوثيق البصري كشكل اساسي من اشكال المشاركة حتى بالنسبة لغير السينمائيين حيث افرزت الثورة آلاف المقاطع واللقطات والمشاهد شديدة القوة والتأثير والفنية تم التقطاها بالصدفة او من خلال فطرية التعامل مع الحدث والكاميرا سواء كانت كاميرا هاتف محمول او كاميرا ديجيتال من كاميرات الهواة.
ثالثا: استطاعت الثورة ان تحرر الوثيقة المصورة من خلال اعادة الأستخدام او التوظيف للوثيقة دون أن يكون حتى للشخص الذي قام بتسجيلها او توثيقها اي سيطرة عليها شكلا ومضمونا.
رابعا: اصبحت الوثائق المصور للثورة بشكلها المميز كحركة الكاميرا العنيفة والكادرات المهتزة والاصوات المتداخلة او التصوير العشوائي الغير مفهوم جزء من الثقافة البصرية المصرية سواء على مستوى الأفلام التسجيلية او الروائية حيث ظهرت العديد من التجارب الروائية التي لجأت لاستخدام اسلوبية الوثيقة الثورية المصورة كنوع من الأيهام بواقعية الحدث الدرامي بالاضافة إلى الدلالات الكثيرة التي يطرحها هذا الاسلوب والتي كانت بعيدة كل البعد عن السينما المصرية الروائية التي عادة ما كانت تميل إلى الشكل التقليدي في التصوير النابع من الجماليات الكلاسيكية لحركة وأسلوبية كاميرا ال35 مم وليست القادم من عصر الديجيتال.

تسجيلية المعايشة
يقول المخرج هاشم لنحاس في معرض حديثه عن تجربته مع السينما التسجيلية :
يمكن أن نتوقف أمام ثلاثة خلاصات أساسية فيما يتعلق بالمنهج الذي يشكل جانبا من ملامح تجربتي
أولا: تصوير الناس على الصورة التي يحبوا ان يظهروا بها دون مساس بعنصر المصداقية او الجنوح ناحية التصنع والأدعاء. والحصول منهم على قدر من الرضا امام الكاميرا حتى بدون لقاء مباشر.
ثانيا: محاولة القفز فوق فخاخ الأيهام السياحي لان كل البيئات التي تعاملت معها لها هذا البريق السياحي الجذاب والممتع والسهل في تتبعه وتصويره.
ثالثا: الفصل بين عنصري التسجيلي فيما يخص الرؤيا والأنثربولوجي فيما يخص التوثيق والتورط في التراث بمفهومه التاريخي وليس الانساني الحي.
هذه الخلاصات الثلاث هي ثلاث درجات من الحساسية التي ترسخت بشكل واعي أو لا واعي في ذهني ومشاعري ، وهي بالنسبة لي الأن بعد هذه الرحلة الطويلة، وعقب التأمل الهادئ فيها يمكن اعتبارها ثلاثة نصائح اسوقها لأجيال التسجيليين الشباب الذين يرغبون في دراسة تجارب الأجيال التي سبقوهم مع الأخذ في الاعتبار عنصر الميول الذاتية والمرجعية الخاصة بكل مخرج وأسلوب إدارته او تعامله ونظرته إلى أفلامه.
هذه الخلاصات الثلاث يمكن ان نلمحها متجسدة على مستويات كثيرة ضمن واحدة من تجارب السينمائيين الشباب فيما بعد 2011 ونعنى بها تجربة المخرج الشاب محمود سليمان “أبدا لم نكن اطفالا” 2015.
يبدو عنوان التجربة “أبدا لم نكن اطفالا” يحمل قدرا من الملحمية المكتسبة من صيغة (تسجيلية المعايشة) التي اتخذها المخرج كموقف فني واخراجي في تعرضه للقراءة الأجتماعية والسياسية الهامة التي يقدمها عبر فيلمه، فعقب فيلمه الاول “يعيشون بيننا” الذي انجزه عام 2003 عن حياة المرأة المعيلة التي تتكسب من مهنة مشتقة من الحدادة (جلي السكاكين والسواطير والمقصات) وصراعها ضد زوج قاسي يمثل مؤامرة اجتماعية وسياسية مكتملة الأركان على انوثتها وانسانيتها وروحها، يعود سليمان ليتتبع الجيل الثاني الذي كان هدف المرأة في اللقاء التسجيلي الاول معها قبل 12 عاما- الفارق الزمني بين الفيلمين- ان تنجو به من فخ التردي الأجتماعي والأنساني التقليدي الذي ينتظرهم.
ثلاثة ابناء ذكور انضمت إليهم انثى وحيدة جاءت نتيجة اغتصاب ابيها لأمها خلال فترة انفصالهم غير الرسمي- حيث يرفض الزوج أن يطلق الزوجة كي يظل مهيمنا بشكل ما على حياتها وحياة اطفالها الذين كبروا وصاروا مراهقين عزل من التعليم والمهنة والرعاية الأسرية والروحية المفترضة لنموهم الصحي والنفسي والذهني الطبيعي كأفراد صالحين في مجتمع حديث.
يبدأ سليمان فيلمه بمشاهد من تجربته الأولى عن نادية بطلة “يعيشون بيننا” واطفالها الثلاث وكأنه جسر زمني اقرب للفلاش باك لكي يتهيأ المتلقي الذي شاهد الفيلم السابق أو لم يشاهده لأستكمال رحلة هذه المرأة مع ابنائها، وعند نقطة مكانية معينة – هي المكان الذي اعتادت نادية أن تستريح فيه مع ابنائها عبر رحلتها المكوكية اليومية ما بين المدارس والعمل- يحدث الأنتقال الزمني مونتاجيا لنجد انفسنا عقب ثمانية سنوات وبالتحديد 2011 ، هذا العام الفارق بالنسبة للمجتمع المصري بمختلف شرائحه الأجتماعية التي تمثل نادية واولادها الشريحة الأكبر فيه والتي تعاني من كل فاقات العوز الاجتماعي والنفسي والسياسي والانساني التي تعاني منها الطبقات الدنيا في مصر قبل وبعد يناير 2011.
في التجربة الاولى كانت نادية ام الأطفال تتحدث في مونولوج داخلي يتعارض او يتسق مع اللقطات التي نشاهدها لها وهي تسعى على رزقها المادي والمعنوي، اما هنا فالأصوات الداخلية تصمت تماما ويصبح البوح امام الكاميرا بشكل كامل هو قالب الحكي الأساسي وقد اعتمد سليمان في سرده لحكاية الجيل الثاني على ثلاثة عناصر مهمة ضمن سياق المعايشة التسجيلية :
أولا المونتاج : فمع كل هذا البوح لا يتوقف السرد عند حدود ما يقال أمام الكامير بل يبدو المونتاج هو جوهر عملية السرد ونقصد به أن تتابع المشاهد واللقطات وعلاقتها ببعض-تقديمها وتأخيرا وسببا ونتيجة-هو عنصر أساسي وليس فقط حكي الشخصيات عن واقعها - والموجود بكثافة بصريا- وكذلك ليس التعليق الخارجي- المستبعد تماما- او حتى الكتابة على الشاشة وهو من العناصر الموجودة في شكل لوحات ما بين فصول الفيلم المختلفة.
ثانيا تصاعد الحكايات زمنيا : حيث يتحرك سليمان في خطوط تتقاطع بين الأبناء الأربعة بدءا من الفرد الجديد الذي لم يكن قد انضم للعائلة في الفيلم الأول وهي الفتاة الصغيرة التي يبدأ الفيلم وعمرها لا يتعد العشر سنوات ثم يرصدها إلى ان يصبح عمرها 15 عاما ويتم خطبتها لابن عمها وهو نفس العمر الذي باحت الأم انها تزوجت فيه من زوجها الذي كان كارثة عمرها بأكلمه، لتصبح الفتاة صورة جديدة من امها بينما تحاول الام ان تنفي ذلك عن ابنتها لكن نظرة الفتاة إلى الكاميرا يوم خطبتها ونظرتها إلى طابور المدرسة الصباحي الذي حرمت منه بينما تعمل مع امها في تنظيف مراحيض المدرسة هاتين النظرتني كفيلتين بفضح التكرار المآساوي لحكاية الأم في صورة البنت رغم نفي الام العاجز والزائف.
ثالثا حضور ذات المخرج كمحفز للحكي : حيث في مقابل التواري الكامل في التجربة السابقة خلف الكاميرا يبدو حضور سليمان صوتيا بشكل واضح خلال الكثير من فصول الفيلم خاصة في لحظات البوح سواء كمتلقي ظاهر له او كمحفز بالأسئلة التي نسمعها من خارج الكادر، صحيح ان هذا الحضور قد يحسب من البعض على انه اقرب للحوار التليفزيوني ولكن مع كثافة لحظات الشكوى والفضفضة يبدو اداة اساسية في تحريك سياق البوح خاصة ان الشخصيات تصمت احيانا كثيرة أو تجيب بجمل قصيرة غير مشبعة أو غامضة او مناورة مما كان سيستدعي قفزات مونتاجية كثيرة في محاولة حجب تحفيزات المخرج بالأسئلة والأستفسارات ولكن سليمان يتخلى عن سحر (المخرج الشبح) ويكسر (الايهام التسجيلي) الذي غالبا ما يحجب المخرج عن حواس المتلقي ويتجرأ على سؤال شخصياته دون (تكلف مونتاجي) لكي يحفز طاقات المشاعر والكلام لديهم.
لا تغيب وجوه الأبناء الأربعة عن عين المتلقي في اغلب المشاهد في لقطات باحجام مختلفة لكن يغلب الحجم المتوسط والكبير على الكثير من مشاهدهم وكأن المخرج يضمن لنا – ولهم- ان تكون خلفيتهم دوما واضحة المعالم ونقصد بالخلفيات الشوارع والاماكن التي يعملون بها والمنازل التي يقيمون فيها حتى في مشاهد البوح الطويلة التي نرى فيها الأبن الاكبر والاوسط يظل ثمة حضور للبيئة المكانية حولهم سواء كانت تلك البيئة هي مكان العمل أو الأقامة المؤقتة.
هذا القصد من ابراز الخلفية هو جزء من عملية تشريحية لتلك الطبقات التي تمثل اسرة نادية وابنائها نموذجا لها، انهم ليسوا حالات خاصة أو نادرة معزلة داخل لقطات قريبة وكادرات تحاصر وجوههم التي بدت من كثرة الهوم والمتاعب وكأنهم (ابدا لم يكونوا اطفالا) ولكنهم جزء من النسيج الاجتماعي المصري بقاعدته الهرمية الاكبر عددا والأكثر معاناة رغم تغير الاوضاع السياسية منذ يناير 2011 حتى الان بل ان التغير الابرز سياسيا بالنسبة للعائلة هو تبلور عملية اخصاء الحلم والمشاركة اللذان تشكلا خلال فعاليات الثمانية عشر يوما الشهيرة هذا الاخصاء السياسي بدا واضحا في عزوف نادية وابنائها عن المشاركة في أي حدث عقب ذلك وخلال سنوات الحراك بكل تداعيتها بل ان ذروته تتكثف في المكالمة الصوتية الاخيرة التي نسمع فيها الأبن الأكبر ولا نراه بينما يحادث المخرج ويبوح له بأن اختناقه الروحي والمعنوي والمادي قد بلغ مداه حتى انه يفكر بالسفر للانضمام إلى داعش كي يوظف طاقة الهدم والقتل التي يشعر بها تجاه المجتمع في سياق ربما يصل به إلى هدف أو غاية ما بدلا من الحياة المعدمة والعدمية التي يعيشها الأن.
العفوية التسجيلية
مع اختلاف الأجيال وبدون اي مقارنات جانبية تظل قضية علاقة المصريين بالدين أحد اخطر وأهم القضايا التي شغلت السينمائيين طويلا خاصة مع تحول الدين لاحد التابوهات الثلاثة الرئيسية إلى جانب الجنس والسياسة.
من ابرز تجارب السينما التسجيلية الشابة في مصر فيلم”العذراء والأقباط وأنا” 2012 للمخرج نمير عبد المسيح، فهو ليس فيلما عن الدين ولا يبحث وراء قضية دينية ولكنه فيلم سياسي ذو ملامح انثربولوجية هامة تجسد قضية سياسية ومجتمعية خطيرة تخص المجتمع المصري وهي انه كيف من السهل استغلال الوازع الديني لدى الشعوب من اجل اغراض سياسية ايا كان هدفها.
وهو ما تزامن وقت تصوير وإنتاج الفيلم مع صعود جماعة الأخوان المسلمين إلى الحكم عقب يناير 2011 بكل مشتملات هذا الصعود وعلاقته باستغلال الدين لصالح المكاسب السياسية.
يمكن ان نعتبر أن هذا الفيلم ينطلق من مبدأ العفوية التسجيلية او التصاعد العفوي للفيلم، فبعد أن يفشل نمير في القاهرة في العثور على اي دليل”مادي”ملموس لتجلي العذراء منطلقا من الحادثة الشهيرة عام68 يقرر السفر إلى الصعيد لتعميق البحث والعودة للجذور ومن المعروف أن نسبة الأقباط في الصعيد أكبر منها في الوجه البحري كما يعتبر المصريين الأقباط هم امتداد العرق القبطي/الفرعوني/المصري الذي امتد بعد الفتح الأسلامي لمصر.
ولكن لماذا اختار المخرج تحديدا عام 68 لينطلق منه في بحثه عن ظاهره تجلي العذراء وما الذي ذكره بهذه الحادثة الأن ؟ التصور السابق لفكرة التصاعد العفوي للفيلم تدعمه النقطة التي انطلق منها نمير وهي الظهور الأشهر للعذراء عام 68 بالقاهرة وذلك بعد نكسة يونيو 67 حيث كانت الدولة الناصرية تبحث عن عناصر يمكن أن تلهي الناس وتوحدهم في نفس الوقت، وتعيد لهم الأيمان بأنفسهم ووطنهم المهزوم ايمانا منها بأن الدين افيون الشعوب وان المصريين شعب عاطفي دينيا وان شعر بأن”السماء” تدعمه وتتجلى له يمكن أن يقاوم حالة الأنكسار والكفر بكل شئ التي حدثت عقب نكسة يونيو وقد حدث بالتوازي مع مسألة الظهور الشهيرة أن اشاع البعض أن شعرات من ذقن الرسول قد ظهرت لبعض الأشخاص الذين ختموا القرآن مرات عديدة.
إذن يمكن أن نفترض بالنظر إلى واقع الحال بالنسبة للمجتمع المصري فيما بعد 2011 والذي يتجاوز في هزته السياسية والمعنوية والشعبية ما حدث عام 67 بأن إنطلاق نمير من ظهور عام68 ليس فقط واقعه ظهور العذراء انذاك ولكنه تلك المقاربة غير المباشرة بين حال الشعب والدولة عقب 67 وعقب 2011 على حد سواء – وصولا إلى 2012 تحديدا عام صعود الأخوان-
وقد فضل المخرج الذهاب إلى الصعيد حيث التأثر الديني اكبر لأن عناصر كثيرة ممن تسيطر على الشعب المصري عامة وتجعله اسير الأفكار الدينية تتجلى بشكل كبير في الصعيد حيث الأمية والفقر وتواضع المستويات التعليمية وغياب عناصر المدينة الحديثة فالصعيد في النهاية ليس القاهرة.
ويبدأ”نمير”زيارته للصعيد بلقاء مع شاب يقوم بدق وشم العذراء على ذراعه وتسجل الكاميرا عملية دق الوشم قبل اللقاء وهي تفصيلة اخراجية وبصرية جيدة واثبات ضمني لما سوف يتم تفصيله بعد ذلك في لقاء الشاب حيث نراه يتحدث بوجد شديد عن ان انه اراد دق وشم العذراء على جسده لتصبح جزء منه فهو يشعر بها قريبة من روحه وأنها ترعاه وتقوده, ثم يكشف لنا الشاب عن ذراعه الأخر لنراه قد دق عليه وشم للشهيد ماري جرجس وعندما يسأله نمير عن سر هذا الوشم يقول له انه يشعر برغبة في ان يصبح شهيدا ذات يوم مثل الشهيد ماري جرجس الذي عذب وقتل سبع مرات ثم بعث من جديد, هنا تتقاطع بشدة ودون تدخل من المخرج علاقة العاطفة الدينية بالاسطور الشعبية والتي تصب في الوجدان الجمعي للمصريين وبنظرة أوسع فأننا نجد أن التوحد الشعوري مع ماري جرجس لا فرق بينه وبين التوسل إلى الله بسيد شباب أهل الجنة “الشهيد الحسين”عند المسلمين المصريين رغم أن أكثرهم من السنة فالفيلم يتحدث في النهاية عن “عموم المصريين” وليس فقط عن الأقباط منهم.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات