رواد السينما التسجيلية... جوريس ايڤنز .. رائد السينما التسجيلية الهولندية

ترجمة بدر الرفاعي 09 يناير 2017 السينما التسجيلية في مصر الحقيقة والجمال

الكاتب : ترجمة بدر الرفاعي
بدأ هذا الفنان رحلته الفنية في عالم السينما التسجيلية أواخر عشرينات القرن العشرين، بمفرده وبكاميرا 35 مللي محمولة. ويعود إليه الفضل في إعادة تحديد معنى الفيلم التسجيلي، من شريط للصورة إلى عمل متكامل تتابع فيه الصور المجردة لتعطي إيحاء دراميا. والآن، وبعد مرور ما يقرب من ثلاثين عاما على وفاته، نجد أنفسنا بحاجة إلى تسليط الضوء مرة أخرى على إنجازه الذي تجاوز الخمسين فيلما وعلى رحلاته التي امتدت من أوروبا إلى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، غطى خلالها كفاح الإنسان ضد الطبيعة، ومعاناته وحربه ضد الاستغلال والفقر ومن أجل بناء المستقبل.


ولد جورج انطون ايڤنز (1898 ـ 1989) في بلدة نيجميجان الهولندية القريبة من الحدود الألمانية. كان والده يمتلك سلسلة من محلات التصوير الفوتوغرافي. وحتى يتمكن من الالتحاق بمشروعات أسرته، درس الاقتصاد في روتردام والكيمياء الضوئية في برلين والكاميرا في درسدن والعدسات في جينا. وعندما عاد إلى أمستردام لإدارة أحد محال والده، كانت المدينة تشهد حالة من الانتعاش الثقافي، لكن الأفلام التجريبية غابت عن المشهد هناك. لذلك، قام مع مجموعة من أصدقائه بتأسيس جمعية أطلقوا عليها Filmliga لعرض الأفلام التي لا تعرض في هولندا لأسباب فنية وسياسية. وكان من بين ما عرضته الجمعية فيلمي “استراحة” (1924) لوالتر روتمان وهانز ريشتر ورينيه كلير، و”المحارة ورجل الدين” (1928) لجرمين دولاك، إلى جانب أفلام لالكسندر دوفزينكو وسيرجي اينشتاين والبرتو كافالكانتي وغيرهم. والأهم، أن عمله بالجمعية أتاح له فرصة الالتقاء شخصيا بعدد من هؤلاء المخرجين.
بفضل نشأته في أسرة من المصورين الفوتوغرافيين، جاءت المحاولات الأولى لإيفنز في وقت مبكر للغاية (1912)، لكن محاولاته الجدية جاءت بعد مشاهدته للأفلام الرائدة التي عرضتها الجمعية وخبرته في بيع كاميرات محلات والده. وخلال عامي 1927 و 1928، شرع في عدة تجارب لاستكشاف تقنيات التصوير، إلى جانب التفكير في أفلام روائية، لكن هذه المحاولات لم تتجاوز حيز التجريب.
كان فيلمه الأول الكامل محاولة للبحث عن لغة بصرية. ويقوم “الجسر” (1928) على التحليل المنهجي لحركات جسر للسكك الحديدية في روتردام، يتحرك إلى أعلى وأسفل ليسمح للسفن بالعبور. والفيلم يعلن عن نفسه منذ البداية، بتقديم ثلاث منظورات للمشهد ذاته، كما هو الحال في الرسم الفني. يبدأ الفيلم باستعراض الجسر من كل الزوايا، ومن أعلى وأسفل أبراجه، وكذلك القضبان وأجهزة الرفع. وإلى جانب هذا التجريد الميكانيكي نجد قصة: القطار يسرع نحو المدينة؛ عليه التوقف والانتظار حتى يُرفع الجسر؛ وعندما ينخفض الجسر، ينطلق مرة أخرى نحو هدفه. ويمكن قول الشيء نفسه على فيلمه “المطر” (1929). على المستوى البصري، نشهد استكشافا مجردا لسقوط الماء على الماء، حيث نشاهد هطول المطر على القنوات وأغطية السيارات في شوارع امستردام المبللة. وكما كان الحال بالنسبة لـ “الجسر”، استغرق التصوير عدة شهور. وبينما كان هدفه من “الجسر” التحليل المجرد، قدم في “المطر” تجربة معاشة لعاصفة ممطرة، وهذا ما يقربه عن سابقه إلى السينما التسجيلية.
كان لتجربة جمعية السينما Filmliga الفضل في إدراك ايڤنز وزملائه للإمكانيات التي يمكن أن تتيحها السينما، دون الالتزام بالأعراف والتقسيمات الفنية. وأصبحوا يميزون جيدا بين الجيد والردئ من الإنتاج السينمائي. وفي عالم تقدم فيه الجريدة السينمائية مصورا يقف على مسافة بعيدة من الحدث، أدركوا أن من الأفضل أن يستخدم الفيلم التسجيلي اللقطات المقربة، مع التحرك مع الحركة، كما في الفيلم الروائي. ولم يشذ ايڤنز عن هذه الرؤية، ويمكننا اعتبار أفلامه الأولى استجابات سينمائية كاملة لمواقف بعينها. يمكننا أن نرى هذا في فيلمه الروائي “تكسر الأمواج” (1929)، حيث تتحول زوايا الكاميرا المؤثرة إلى عاشقين يسيران وسط غرود الرمال، ويلتقط مشاهد لقرويين في طريقهم إلى الكنيسة يوم الأحد، ثم ينتقل بالكاميرا إلى البحر ليتابع صيادا يحاول الانتحار بعد أن سلبه مرابي القرية خطيبته. ويعتبر هذا الفيلم بداية توجه ايفنز نحو الموضوعات الاجتماعية، والذي سيتطور إلى شهادة على الفقر في فيلمه المفقود “درنث الفقيرة” (1929).
على أثر النجاح الذي حققه فيلماه “الجسر” و”المطر”، حصل ايفنز على تمويل من نقابة عمال البناء الهولنديين وشركات في هولاندا وخارجها لصنع أفلامه. وقد أتم عمله عبر تأسيس وحدة إنتاج داخل شركة أبيه، وتكوين فريق عمل من بين أصدقائه. وضم هذا الفريق هيلين فان دونجن وجون فرنهوت. صنع ايفنز لاتحاد العمال الهولندي سلسلة من الأفلام بعنوان “نحن نبني” (1930)، تهدف إلى الترويج لعمل النقابة، والاحتفاء بأعمال بناة هولاندا، وبث الشعور بالتضامن بين أعضائها. وتتناول بعض هذه الأفلام طرق البناء، مثل صب الخرسانة لإقامة أسطح المباني أو إزالة الأنقاض، بينما يصور بعضها الآخر الأنشطة التي تدور في مقر النقابة، أو استعراض العمارة الهولندية. كما أنها تضمنت مشاهد صادمة للعمال المعوزين وهم يقفون صفا لتلقي إعانات النقابة.
من بين هذه الأفلام يبرز فيلم “أعمال زويدرزي” الذي يشرح الطرق التي اتبعتها هولندا لاستصلاح أراضي بحيرة شاسعة في شمال البلاد، من بناء سدود وشفط المياه لخلق مساحات جديدة صالحة للزراعة. إنه توثيق تاريخي مهم للعمل اليدوي الشاق في ذلك الحين، خاصة مشهد العمال وهم يصنعون طوفا ضخما من الخشب ويغرقونه في عرض البحر المكشوف بمئات الصخور التي تحملها الصنادل. ومرة أخرى، ينهي ايڤنز استعراضه التجريدي لهذه العمليات بقصة تصور السباق من أجل إغلاق أحد قطاعات السد ونضال الإنسان وآلاته في مواجهة البحر.
كان جل اهتمام ايفنز وهو يعمل في “نحن نبني” هو تسيد العامل وتعبير الكاميرا عن وجهة نظره. وقد اهتم بالتفاصيل اهتماما بالغا، حيث صور العمال وهم يعملون وهم يتناولون طعامهم، وهم ينامون، ثم وهم يتركون أدوات العمل ويرحلون. والصورة عنده تعكس تعاطفه الشديد مع موضوعه.
ويعتبر فيلم “راديو فيليبس” (1931) من أهم الأعمال التي أنجزها في تلك المرحلة. وهو يصور مراحل العمل في مصنع فيليبس، من نفخ الزجاج لعمل الصمامات إلى تجميع جهاز الراديو، وحتى معامل الأبحاث والطباعة. وعنوانه الفرنسي، “سيمفونية صناعية”، يعد أكثر تعبيرا عن محتواه. كما أن شريط صوت الفيلم يصنع سيمفونية تجمع بين ضوضاء العمل والموسيقى والبث الإذاعي والصور المجردة. وقد حظيت أفلامه الأولى هذه ـ خاصة “الجسر” و”المطر” و”راديو فيليبس” ـ بسمعة نقدية طيبة بفضل لغتها السينمائية المتميزة وروح الابتكار، مما جعل مؤرخو السينما يضعونها في مصاف الأفلام التسجيلية الرائدة.
وسط هذه الفترة من الانهماك غير المعتاد في العمل السينمائي، ذهب ايڤنز إلى الاتحاد السوفيتي بدعوة من المخرج بودوفكين. وعرض أفلامه بأكثر من مكان بالبلاد، وحظي باهتمام مشاهدي أعماله من العمال، واستمع إلى تعليقاتهم وانتقاداتهم. وأصبح على قناعة بأن فرصه في الاتحاد السوفيتي أكبر من تلك التي توفرها له أوروبا وشركة أبيه. وهكذا وعد بالعودة إلى هذا البلد مرة أخرى وعمل فيلم في أقرب فرصة. وقد أوفى بوعده بفيلمه “أغنية الأبطال” (1932)، الذي يعرض لقصة بناء فرن جديد للصهر في مدينة ماجنيتوجورسك الصناعية بمنطقة أورال. وكانت المرة الأولى التي يستعين فيها ايفنز بممثل. لكن الفيلم قوبل بعاصفة من النقد في موسكو لأنه لم يلتزم بالواقعية الاشتراكية، وتأخر عرضه.
مع ذلك، كان على قناعة بأن الاتحاد السوفيتي هو المكان الأنسب لإنجاز أعماله. وعاد إلى أوروبا لإنتاج نسخة أكثر راديكالية حول استصلاح الأراضي في زويدرزي. وبدلا من الاحتفاء بالمشروع والجهود التي أنجزته، انتقد فيلم “الأرض الجديدة” (1933) فكرة استصلاح المزيد من الأراضي وإنتاج المزيد من المحاصيل في وقت يعاني فيه السوق العالمي التخمة.
بعد أن صار راديكاليا، اتجه ايفنز لتوثيق إضراب عمال المناجم في منطقة بوريناج البلجيكية. كان الإضراب قد انتهى، لكن ايفنز قام، بمشاركة المخرج البلجيكي هنري ستورك، بتوثيق الظروف المعيشية للعمال والضغوط التي يتعرضون لها من جانب شركات التعدين. وقد قام المخرجان بإعادة تصوير بعض أحداث الإضراب، مثل تجمعات الشوارع وفضها. وقد دافع ايفنز عن تصرفه هذا بأنها كانت حقيقية وكان لابد من تصويرها. من أشهر هذه الوقائع التي أعيد تصويرها مسيرة يقودها رجل يحمل صورة مصنوعة منزليا لكارل ماركس. وعند بدء التصوير، أخذ المارة يتدفقون لتحية الصورة بقبضات مرفوعة، أو للانضمام للمسيرة، التي حضرت الشرطة لفضها في النهاية.
وفي فيلمه “بوريناج” (1934)، جاهد ايڤنز ، على حد قوله، من أجل كبح جماليات أفلامه السابقة. فقد استبعد أي اقتران مبهج للضوء والظل، وبذل قصارى جهده لإظهار الواقع البائس لعمال المناجم كما رآه. لكن، ورغما عنه، نرى نوعا من الجمال السينمائي خاصة في مشاهد النهاية، حيث يظهر عمال المناجم، الذين يفتقرون إلى المال لتوفير فحم للتدفئة، وهم يبحثون عن الأخشاب وسط أكوام الخَبَث.
وفاءً بوعده، عاد ايڤنز إلى الاتحاد السوفيتي، لكن الأمور لم تسر بالصورة المرجوة. وهناك، قام بعمل نسخة معدلة من “بوريناج”، وهي عبارة عن قصة يرويها عمال المناجم البلجيكيون الزائرون لعمال المناجم السوفيت. ويتضمن الفيلم لقطات تعكس الحياة الطيبة وظروف العمل الجيدة التي ينعم بها عمال المناجم السوفيت. لكن كل جهوده لإنجاز مشروعات جديدة باءت بالفشل بسبب البيروقراطية السوفيتية. وفي سعيه للبحث عن مخرج، أقنع ستوديو موسكو بإرساله إلى الولايات المتحدة. كانت خطته هي إعطاء المحاضرات وعمل اتصالات وتعلم تقنيات جديدة، وفي حال اتفق على مشروع لإنتاج فيلم يمكنه البقاء هناك.
وتمثل المشروع في فيلم “الأرض الإسبانية” (1937)، وكان القصد منه مساعدة منظمي حملات جمع التبرعات لإرسال سيارات إسعاف لمصابي الحرب الأهلية الإسبانية. وسافر ايڤنز وجون فرنهوت إلى إسبانيا، وقاما بتصوير الاشتباكات بين الجمهوريين والوطنييين حول مدريد وآثار القصف الجوي. واختار ايڤنز أن يضمن فيلمه قصة إنسانية مشوقة، تدور حول جندي شاب من قرية قريبة من مدريد، وقت ري المحاصيل لتوفير الغذاء للمدينة المحاصرة. إلا أن هذا لم يكن ناجحا تماما، حيث وجد طاقم الفيلم صعوبة في العثور على الجندي مرة ثانية لاستكمال الفيلم بعد أن توجه إلى الجبهة، لكن قصة الري، والناس الذين يستصلحون الأرض، تلك المهمة التي كانت من مهام الأرستوقراطية فيما سبق، تعد نقيضا لمشاهد المدينة المتجهمة. ويربط بين مشاهد الفيلم تعليقات بصوت إرنست همنجواي، الذي رافق ايفنز أثناء تصوير الفيلم.
يهتم ايڤنز في أعماله بعلاقة الإنسان بالأرض والماء والري، بل أن بعض النقاد يرون أنه الموضوع الرئيسي في أعماله. ويرونه أقرب إلى شاعر من شعراء الطبيعة منه إلى صانع فيلم سياسي. على أن الأرض والمياه كثيرا ما كانت موضوعا سياسيا عند ايڤنز، كما رأينا في “الأرض الإسبانية”، حيث يراهما جزءا من الصراع. أما الموضوع الثاني الذي يظهر في “الأرض الإسبانية” للمرة الأولى فهو الحرب وتغطيتها وسط النيران، والموت القادم من السماء.
إن هذه الأفلام الثلاثة ـ الأرض الجديدة، وبوريناج، والأرض الإسبانية ـ تشكل أساس سمعة ايڤنز كسينمائي مناضل. إنها تمثل استجابة سينمائية كاملة لمسألة سياسية، تجمع بين عناصر الجدال التسجيلي، والريبورتاج، ومونتاج للقطات، وقصة موجودة سلفا. هي تقارير من الجبهة، بالمعنى المادي والسياسي على حد سواء. وتعود سمعتها الراسخة إلى قدرتها على الوصول إلى الجمهور (من حيث اللغة والتوزيع).
ونظرا للنجاح الذي حققه “الأرض الإسبانية”، حاول ايڤنز وفرنهوت تكرار التجربة بتصوير فيلم عن كفاح الصينيين ضد الغزو الياباني. لكن الجيش الوطني لم يسمح للغربيين من الاقتراب من خطوط جبهتهم، وعاد ايڤنز إلى الولايات المتحدة خالي الوفاض. وأدرك في النهاية أن العمل في هوليوود أكثر صعوبة بكثير عن ستوديوهات موسكو. أما أهم نجاحاته في المرحلة الأمريكية فكان “السلطة والأرض” (1941)، وهو يدور حول كهربة الريف في الولايات المتحدة. وينجح ايڤنز أخيرا في عمل فيلم يجسده أبطاله الحقيقيون في الواقع، أسرة باركنسون المجدة من اوهايو. وعند التصوير، كانت الكهرباء قد دخلت منازل أسرة باركنسون، لكن ايفنز جعلهم يعيدون تمثيل حياتهم القاسية قبل دخول الكهرباء في الجزء الأول من الفيلم. أما الجزء الثاني فيصور كيف دخلت عائلة باركنسون وجيرانها إلى شبكة الكهرباء.
ويعد الفيلم دعائيا إلى حد كبير. فهو يغوص في أعماق قيم العائلة الأمريكية حول العمل الجاد والاعتماد على النفس، ما جعله يحظى بسمعة نقدية قوية في الولايات المتحدة. وحظي خطه السياسي بالترجيب من جانب النقاد الأمريكيين. إنه تعبير واضح عن قدرة ايڤنز على تصوير الثقافة السياسية في الواقع الذي يعمل فيه.
مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، عينت الحكومة الهولندية ايڤنز مفوضا بجزر الهند الشرقية الهولندية. وصار مسئولا عن تصوير عملية تحرير إندونيسيا من اليابانيين والقوى الاستعمارية، وتأسيس وحدة للإنتاج السينمائي. وقبل ايڤنز بالمهمة وسافر إلى أستراليا انتظارا لتوقف القتال. وهناك علم أن الباب قد أغلق أمام عودته إلى الولايات المتحدة مرة أخرى بسبب عدم رضاء الحكومة الأمريكية عن صلاته بالشيوعيين. وبعد انتهائه من فيلم “إندونيسيا تناديكم” (1946)، أعلنت هولندا أنه شخص غير مرحب به. كانت أوقات صعبة، لكنه كان لا يزال يحتفظ بعلاقات قوية بالاتحاد السوفيتي. وبرغم تعاطفه العقائدي، أدرك أن العمل في موسكو مستحيل. وكان عليه البحث في عواصم الكتلة الشرقية الأخرى ـ براغ أولا، ثم وارسو ومن بعدها برلين الشرقية ـ عن حل وسط. وانصبت محاولاته على الحصول على منح من هيئات الأقمار الصناعية التابعة للأممية الشيوعية. كان يريد بهذا أن ينأى بنفسه عن السياسة السوفيتية التي وجد صعوبة في العمل بمقتضاها.
كانت أولى محاولاته للعمل مباشرة مع حكومات أوروبا الشرقية محبطة. وفي “السنوات الأولى” (1949)، كان عليه أن يصور في أربع دول لإبراز كيف يقيمون مستقبلا اشتراكيا جديدا. لكن الحكومة البلغارية وجدت أن صورة مزارعي التبغ بدائية للغاية وتستدعي إدخال تغييرات ملموسة عليها، بينما جاء استبعاد يوغوسلافيا من الأسرة السوفيتية في 1948 ليستبعد مساهمتها في المشروع. وكان حظه أوفر مع هيئات الأقمار الصناعية، حيث قام بتغطية حركة السلام في فيلم “سينتصر السلام” (1951)؛ وحركة الشباب في “انتصار الصداقة” (1952)؛ والنقابات في “أغنية الأنهار” (1954) و”جولة السلام 1952” (1952). وكانت الأفلام المعدة للاستهلاك الخارجي تركز على التعاون وروح الرفاقية، بينما كانت المعدة للكتلة الشرقية أشد قوة في عدائها للأمركة وتمجيدها لستالين. وتمثل أفلام هذه الفترة، التي نادرا ما كانت تعرض في الغرب ومرفوضة سياسيا من قبل النقاد الغربيين، فجوة في أعمال ايفنز الاستقصائية. لكنها مع ذلك تتضمن تطوره اللاحق في معالجة الأشرطة الإخبارية والجوانب الروائية. والقسم المتعلق ببولندا في فيلم “السنوات الأولى”، على سبيل المثال، محاولة أكثر نجاحا لفيلم “أغنية الأبطال”، بينما كان القسم البلغاري إعادة صياغة لـ “السلطة والأرض” مع موضوع الري في “الأرض الإسبانية”.
أما القلة من النقاد الغربيين الذين شاهدوا الأفلام الأخرى فقد رأوا فيها مزيجا من الخطب والمشاهد، الأمر الذي دعا البعض إلى مقارنة ايفنز بليني ريفنستال. وبهذا المعنى، تصبح أعماله شهادات واضحة على ثقافة سياسية محكومة بصرامة. فنحن لسنا بحاجة إلى فيلم تسجيلي مستقل ليبلغنا بما يحدث، إذ يكفي أن يعلن الصوت أن “ستالين هو أفضل صديق لألمانيا”. وهنا، ينبغي القول إن ايڤنز لم يكن مسرورا بمشروعاته التي أنجزها بمساعدة الكتلة الشرقية، أو بالمكانة التي صنعها لنفسه في ظل الاتحاد السوفيتي. وفي 1956، انتقل إلى باريس، بينما احتفظ بصلاته بالكيانات القوية في الكتلة الشرقية. وسيخبرنا فيما بعد أن سبب انتقاله هو استعادته جواز سفره الهولندي الذي كان قد سُحب منه بعد مشاكل تغطيته الوضع في إندونيسيا.
أتاح ظهور حركات سياسية جديدة حول العالم في الخمسينات والستينات لايڤنز فرصا جديدة لعمل أفلامه بالطريقة التي تعجبه. وبالتصوير في أماكن جديدة مثل أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، تحرر كثيرا من سيطرة كيانات السلطة في الكتلة السوفيتية، وإن كان لا زال بحاجة إلى دعمها. وقد تمكن من الحصول على تسهيلات من الدول التي كان يصور فيها، فاستعان بطلبة السينما، وتولت الحكومات المضيفة توفير الغذاء والإقامة والانتقالات. كما كان بإمكانه عادة الاعتماد على منتج فرنسي اجتذبه مزج ايڤنز بين الفن والسياسة، إلى جانب الاستفادة من الدعم الذي تقدمه الحكومة للأفلام القصيرة عالية الجودة. وبفضل التوزيع الواسع الذي حظيت به أفلامه، أصبح ايڤنز يُعرف بالمخرج “العالمي”.
على أن أهم ما شهدته هذه الفترة هو ظهور ما يعتبر نموذج النضج الشخصي الذي يجسده ايفنز. فهو يتناول بشاعرية موضوعات سياسية، وعادة ما يمزج بين الوعي الاجتماعي واستكشاف العناصر أو موقع جغرافي بعينه. ويتتبع فيلم “السين يلتقي بباريس” (1957) رحلة النهر في المدينة. والفيلم، الذي صُور بالأبيض والأسود، وغالبا من فوق قارب، يعطيك الإحساس بالحركة الدائمة، حيث تسجل الكاميرا لقطات لأشخاص يعملون على القوارب أو على ضفاف النهر. وهو يذكِّر، باهتمامه بالإيماءات والملامس، وقصه لرحلة القارب خلال المدينة، بأفلام ايفنز التسجيلية الصامتة المبكرة. وقد قام بالتعليق على أحداث الفيلم الشاعر جاك بريفير.
في 1963، قام ايڤنز بعمل فيلمه “فالباريزو” الذي يستكشف أحد موانئ شيلي بمصاحبة تعليق لكريس ماركر. ومرة أخرى، تلعب الحركة الدور الرئيسي، حيث تتحرك الكاميرا صعودا وهبوطا مع السلالم والمصاعد التي تربط بين تلال البلدة المنفصلة. وهو يستعرض الوحدات الاجتماعية وصعوبة جلب الماء إلى أعلى البلدات وأكثرها فقرا، والرياح التي تضرب جوانب التل. ويركز التعليق السياسي على ماضي شيلي الاستعماري أكثر من تركيزه على الحاضر. وفي 1961، قدم ايڤنز فيلما ـ تقريرا عن جولة قام بها في أعقاب الثورة الكوبية. وفي نفس الرحلة، أخرج فيلما عن ميليشيا الشعب بعنوان “شعب مسلح”.
في أفلام الستينات، يظهر مرة أخرى اهتمام ايفنز بالتجريب السينمائي. وبتمويل من شركة الغاز الوطنية الإيطالية، قدم “إيطاليا ليست بلدا فقيرا” (1961)، الذي يتضمن ملامح من الواقعية الجديدة. وفي “الميسترال” (1965)، يتتبع ايفنز هذه الرياح الأسطورية في جنوب فرنسا، في محاولة لتصوير غير المرئي. ومرة أخرى يقحم قصة، رحلة إلى الفصول، على ما يمكن اعتباره عملا تجريديا محضا، ولم يحقق الفيلم ذلك النجاح الذي رأيناه في أعماله الأولى. كما يمكننا اعتبار “يوروبورت روتردام” (1966) استكشافا لدور الفيلم التسجيلي في عصر التلفزيون.
وهناك فيلمان غير عاديين من أفلام هذه الفترة يستحقان قدرا أكبر من الاهتمام. في 1956-1957، عاد ايفنز إلى الصين حيث قام بإخراج فيلمه “قبل الربيع” (1958). ويحتار المرء في تحديد من لعب الدور الأكبر في صنع هذا الفيلم: ايفنز أم طلاب السينما الذين عملوا معه؟ وفي نفس الرحلة، أخرج فيلمه “600 مليون معكم” (1958)، وهو فيلم قصير جدا لمظاهرة احتجاج في بكين على سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط. طابور لا ينتهي من المتظاهرين يمر أمام السفارة البريطانية، يعبرون عن احتجاجهم، يلوحون بأوراق ويصرخون في الوجهين الحجريين لاثنين من المسئولين البريطانيين تصادف وجودهما أمام البوابة. وسرعان ما غطت الأوراق الجدران والرصيف، وسط تصاعد غضب الصينيين. وهي مظاهرة تشبه تلك المناوئة للعولمة التي شاهدناها لاحقا.
في 1960، قام بإخراج فيلم “نانجيلا غدا”، بتكليف من ما سيعرف بحكومة مالي وجرى تصويره هناك عشية الاستقلال. وهو يدور حول شاب يعيش في العاصمة باماكو يقع بالخطأ في يد الشرطة التي تقوم بإرساله إلى أحد معسكرات التدريب الزراعية. وكان المخرج الوحيد هو العودة إلى قريته حيث انشغل شيئا فشيئا في الاستقلال القادم والتحديث المنشود. والفيلم يعبر بشدة عن المزاج القومي بحيث لا يزال يعتبر الفيلم الأول للسينما المالية.
وسط هذا التنوع الكبير من المشروعات، انجذب ايڤنز للحرب الفيتنامية. وقام بزيارة أولية إلى البلاد في 1964، ثم عاد إليها بعد عام ليصنع فيلما احتجاجيا قصيرا، هو “السماء المنذرة” (1966). وشارك في حملات في باريس ضد الحرب وحاول جمع هبات من المعدات لدعم صناعة السينما الفيتنامية الفقيرة. كما شارك في الفيلم الجماعي “بعيدا عن فيتنام (1967)، وكان المخرج الوحيد الذي عمل في فيتنام. ومن هناك، انتقل إلى الجبهة ليمارس عمله تحت القصف الأمريكي. وفي “المتوازي السابع عشر” (1968)، يستخدم ايڤنز للمرة الأولى كاميرا 16 مللي خفيفة والصوت المتزامن، وإن ظل يقيم بناءه على شخصيات رئيسية، مخضعا الواقع للكاميرا. وجاءت النتيجة شهادة قوية، بالأبيض والأسود، على الحياة في قرى الجيش الفيتنامي تحت الأرض، والزراعة بين الفجوات التي صنعتها القذائف، ومراقبة القنابل القادمة. كما نشاهد في الفيلم الفيتناميين وهم يطوفون القرية يعرضون طيارا أمريكيا أسيرا أُسقطت طائرته، والأطفال وهم يهتفون بالإنجليزية “ارفعوا أيديكم”.
كان فيلم “الشعب وبنادقه” (1968- 69) محاولة من ايڤنز لمد جبهة التصوير إلى لاوس، لكن صحته كانت تتدهور فترك كثير من الأعمال لمساعديه. وعندما عاد إلى باريس، كانت الحركة السينمائية الراديكالية التي ظهرت بعد ثورة مايو 1968 قد اكتسحت مساعديه وقام بإنجاز العمليات النهائية للفيلم فريق من الماويين. وقد أسهمت الصورة النهائية الراديكالية للفيلم في دخول ايفنز عقد السبعينات بوصفه من أبطال ما بعد 1968، لا كسوفيتي عجوز. وكانت الصين وجهته التالية، حيث قام بتصوير سلسلة ضخمة من الأشرطة التسجيلية، اجتمع معظمها تحت عنوان “كيف حرك يوكونج الجبال” (1967). وقد لجأ إلى تقنيات “السينما المباشرة” لاستعراض الحياة بعد الثورة الثقافية، ويعد هذا الفيلم الأقرب من حيث الممارسة والمظهر إلى الرؤية الحديثة للفيلم التسجيلي. وربما لهذا السبب، تعرض الفيلم لانتقادات غير معتادة لبنيته وانحيازه للموقف الرسمي. وكما هو الحال بالنسبة لأفلام الكتلة الشرقية التي أخرجها ايڤنز، نجد الموضوعات والعناصر الدائمة لأعماله وشعب يسعى إلى بناء طريقة حياة جديدة.
كذلك كانت الصين ساحة فيلمه الأخير، “حكاية الريح” (1988). وهو شهادة شخصية غير معتادة عن هواجسه الشاعرية لا السياسية، قامت بإنجاز معظمه مارسيلين لوريدان ايفنز، زوجته ومساعدته منذ الأفلام الفيتنامية. ويحكي الفيلم قصة مخرج كبير السن يتطلع إلى تصوير الرياح في الصحراء المنغولية، وأثناء انتظاره على حافة غُرد، يستعرض الحياة التي أتت به إلى هنا. وتختلط ذكريات الطفولة بفنتازيات الشخصيات الأسطورية الصينية، مع لقطات لايفنز المسن في لقاء مع أطفال وفنانين. وأكثر المشاهد جاذبية تلك التي تظهره في مفاوضات مطولة مع مدير متحف جيش تراكوتا. ولما أصبح عاجزا عن ممارسة العمل بطريقته، قام مساعدوه بشراء عدد كبير من مجسمات تماثيل الجنود، وصور المشهد وسط هذه المجسمات، مع إضافة فرقة من الراقصين ترتدي أزياء جيش تراكوتا.
في 1989، توفي جوريس ايفنز في باريس، بعد أيام من مشاركته في الاحتجاجات على مذبحة ميدان تياننمن، مخلفا تراثا فنيا ذاخرا وحصيلة من الخبرات والتجارب الفنية والإنسانية للأجيال الجديدة من صانعي السينما التسجيلية.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات