مغامرة “ينابيع الشمس” تنتصر على الزمن وعلى الهزيمة

مي التلمساني 09 يناير 2017 السينما التسجيلية في مصر الحقيقة والجمال

الكاتب : مي التلمساني
استعادة كلاسيكيات السينما التسجيلية المصرية في سياق تاريخ السينما الحالي، بكل ما يعانيه من نقص في التفاصيل والحقائق والأرقام ناهيك عن غياب المقاربات النقدية الأساسية والمؤسسة، مهمة شاقة وممتعة في آن واحد لمن يرغب في فهم وتحليل بعض الأفلام وتأصيل بعض التيارات في سياقها الاجتماعي والتاريخي والفني الخاص. فكرة الاستعادة في ذاتها واسترجاع ما نعرف لاكتشاف ما لا نعرف فكرة شديدة الجاذبية خاصة حين ترتبط بلحظات مضيئة من تاريخ السينما، كانت فيها الدولة على سبيل المثال فاعلا إيجابيا في عملية الانتاج السينمائي، وكان بوسعها استقدام مخرجين أجانب لعمل أفلام عن مصر كما هو الحال في فيلم “ينابيع الشمس” من إخراج المخرج النيوزيلندي الكندي المتمصر جون فيني ومن تصوير الفنان حسن التلمساني.


يعد الفيلم واحدا من تلك العلامات السينمائية التي نستعيدها اليوم بقدر من الحنين، مدفوعين بالرغبة في إعادة اكتشاف طموحات الفيلم والعاملين فيه الفنية والانسانية، وإعادة الاعتبار لنوع من السينما الوثائقية الكلاسيكية ظل حيا وملهما إلى اليوم رغم مرور ما يقرب من خمسين عاما على صناعته.
من هذا المنظور أيضا تسعى قراءة الفيلم لرد الاعتبار لفترة الستينيات التي شهدت أهم أشكال النهضة الثقافية في مصر في القرن الماضي وسعت لتجاوز الحدود القومية والإقليمية والانفتاح على عالم أكثر رحابة وثراء. وعلى الرغم من ارتفاع الحس الوطني وطغيانه على شتى مناحي الانتاج الثقافي والاجتماعي، فقد تم استقدام مخرج أجنبي لعمل أهم فيلم تسجيلي عن النيل بدعوة من الحكومة المصرية، وتجاوز الفيلم نفسه حدود مصر ليتم تصويره في إثيوبيا وأوغندا والسودان فضلا عن مصر، وتم تبادل الخبرات على مستوى فريق العمل من مصريين وأجانب وبدعم من مؤسسة أجنبية وطنية (المؤسسة القومية الكندية) لمؤسسة السينما المصرية. يتواكب صنع الفيلم مع انشاء السد العالي أحد صروح الفترة الناصرية كما يتقاطع مع هزيمة 1967 وإن لم يتم الإشارة إليها صراحة، لكن خروجه للنور في 1969 (أو 1968 وفقا لجون فيني)، يأتي بمثابة تحرير للخيال المصري من أسر الهزيمة، ومن منظورنا اليوم يحقق للفترة الناصرية رغم كل مساوئها انتصارا صغيرا وممتد الأثر شارك في صنعه الفيلم الوثائقي باعتباره وثيقة تعليمية وعلمية، استكشافية وأنثروبولوجية في الوقت ذاته.
في تلك الفترة التي واكبت سطوع نجم الفيلم الوثائقي في مصر عقب ثورة 1952 وبدعم منها، بدت أسئلة المخرجين الكلاسيكيين أسئلة فنية واجتماعية في آن واحد، تحمل رسالة تنويرية بكل ما تحمله الصفة من نخبوية، وتؤدي دورا عضويا يربطها بالهموم الفنية الكبرى وبقضايا التحرر الفكري والوطني معا. تتشابه وتلتقي في هذا المجال محاولات شادي عبد السلام وتوفيق صالح وصلاح أبو سيف لتقديم “سينما مصرية” ذات خصوصية قومية، وانشغال رواد الفيلم التسجيلي أمثال صلاح التهامي وسعد نديم وعبد القادر التلمساني بمشكلات اجتماعية وإصلاحية وبمحاولة توثيق اللحظة الراهنة وربط تاريخ مصر الحديث بمنابع الثقافة والحضارة المصرية القديمة. كان هدف هؤلاء المخرجين الرواد دعائيا وتربويا، وفي اعتقادي أن دعم الدولة المؤسسي متمثلا في المؤسسة المصرية العامة للسينما وفي المركز القومي للأفلام التسجيلية، على الرغم من الفشل الإداري الذي أصاب هذه المؤسسات في مقتل، كان له أكبر الأثر في ترسيخ قواعد الفيلم التسجيلي الكلاسيكي وفتح آفاقه على المغامرة والاكتشاف جنبا إلى جنب مع البحث العلمي الموثق ومد قنوات التواصل بين شتى أطراف المجتمع وربط المتفرج بقضايا الوحدة الوطنية وطموحات النهضة الشاملة. تلك الرؤية العامة للثقافة هي التي أنتجت فيلما حيا وملهما مثل “ينابيع الشمس” وهي التي تنقصنا منذ عقود وتلقي بكل العبء على المخرجين المعاصرين عوضا عن شركات الانتاج والتوزيع، للنهوض بصناعة الفيلم التسجيلي في مصر، هذا مع التحفظ الكامل على كلمة “صناعة”.

مغامرو السينما الوثائقية
لماذا نشاهد السينما الكلاسيكية، وماذا يمثل الفيلم الوثائقي الكلاسيكي للمشاهد في القرن الواحد والعشرين؟ ما الذي تعنيه لنا اليوم (في قلب ثورة الديجيتال) سينما الرواد الأوائل التي تأسست منذ عشرات القرن العشرين واستمرت حتى بروز تيار سينما الحقيقة في ستينيات القرن الماضي؟ هل تعاني السينما الوثائقية الكلاسيكية تراجعا من حيث حجم المشاهدة أم أنها تعود إلينا من خلال استلهام المخرجين المعاصرين لتقاليد السينما القديمة وتجدد الحوار مع وضد تلك التقاليد؟ هل تتماهى السينما الكلاسيكية مع أصول وفروع وخطاب السينما القومية أم أنها تنفرد بملامح ثقافية وتجريبية عابرة للقوميات؟
يطرح سؤال السينما الوثائقية نفسه بقوة على مخرجي اليوم كما طرح نفسه في الماضي على كبار المخرجين التسجيليين في مغامرتهم مع الفن في علاقته الوثيقة والجدلية بواقع المكان والأشخاص منذ قدم المخرج الأمريكي الرائد روبرت فلاهيرتي فيلمه الطويل الأول “نانوك الشمال” (1922) الذي يعد بمثابة مغامرة بصرية نادرة يتتبع من خلالها أسرة نانوك وهو صياد رحال من سكان الشمال وصراعه مع الطبيعة من أجل البقاء. يذكر أيضا أن المخرج الروسي تزيجا فيرتوف قدم صورة مغايرة للعالم بواسطة آلة التصوير في فيلم يعد علامة من علامات السينما الوثائقية العالمية هو فيلم “رجل يحمل كاميرا” (1929) وهو أنشودة فريدة للحركة وللصورة بل وللكاميرا نفسها التي اعتبرها أقدر من العين على التقاط واقع الحياة والأشياء. أما المخرج الهولندي جوريس ايفنز فقد قدم في فيلمه التجريبي الرائع “مطر” (1929) جولة حرة تحت الأمطار نقل فيها بشاعرية فياضة ملامح من حياة الناس والمدن في هولندا وكرر الشيء نفسه في آخر أفلامه “حكاية الريح” (1988) حيث يتتبع رحلة الريح في ربوع الصين، هائما بين الواقع والخيال، مازجا بين التوثيق الطبيعي والأساطير القديمة. وفي فترة الثمانينيات، برز اسم المخرج الأمريكي جودفري ريجيو صاحب “ثلاثية كاتسي” (1983- 2002) والمخرج والمصور رون فريكي صاحب فيلم “بركة” (1992) الذي رصد حياة البشر وعلاقتهم بالمكان وبالطبيعة والديانات المختلفة في العالم. نماذج المخرج التسجيلي المغامر أو المستكشف كثيرة وعديدة، سواء كان موضوع استكشافه مدينة بعينها أو قارات العالم أجمع، وسواء انطلق العمل من منظور فني تجريبي موجه لأقلية من المتفرجين أو من منظور تقليدي موجه للأغلبية.
عبر هذا التاريخ الطويل من المغامرة والاستكشاف لم تكن إمكانات السينما على نفس القدر من التطور والتعقيد الذي نشهده اليوم، وبدا هذا التيار من السينما الوثائقية الأكثر إثارة بمثابة مغامرة تقنية أيضا يقوم بها مخرجون توطنوا على تحديات الطبيعة وحولوها لموضوع للتأمل والتصوير والتحليل رغم فقر الإمكانات وصعوبة الحركة والتنقل. تنضوي مغامرة جون فيني وحسن التلمساني في فيلم “ينابيع الشمس” تحت هذا اللواء، على الرغم من تكليفهما بالمهمة من قبل الحكومة المصرية، وعلى الرغم من استمرار الإعداد والتصوير والمونتاج قرابة الست سنوات، منذ جاء جون فيني إلى مصر في عام 1963 وحتى خروج الفيلم إلى النور في عام 1969.
أية مجازفة تلك التي قادت مخرجا نيوزيلانديا كنديا للمجيء إلى مصر في عصر كان الغرب ينظر فيه لمصر بارتياب وتوجس نتيجة لسياسات عبد الناصر القومية والإقليمية، وما الذي دفع فيني لاختيار العيش بين مصر وموطنه الأصلي نيوزيلاندا حتى وفاته عام 2006؟! يتساءل جون فيني في كتابه “تصوير مصر: أربعون عاما وراء الكاميرا” (2005): “ما الذي يدفع المرء للتوق لزيارة الأراضي البعيدة؟” ويجيب: “ربما لأننا في القلب، مازلنا كالبدو الرحل نشرع في رحلة لا نتخيل قط القيام بها قبل الشروع فيها.” وربما يجيب الفيلم عن السؤال بصورة غير مباشرة، حيث يأتي باعتباره وثيقة حب غير مشروط للنيل وللمدن الواقعة على ضفافه وللميثولوجيا التي صاحبت تاريخه وتاريخ الشعوب التي نهلت من خيراته. وربما استطاعت أفلام جون فيني الكندية السابقة على مجيئه لمصر أن تضفي قدرا من الضوء يفسر قبوله لهذه المهمة من ناحية ويربط بين حياته السابقة وحياته التالية برباط الفن والالتزام الإنساني من ناحية أخرى. لقد شارك فيني في شبابه في الحرب العالمية الثانية، فر من سنغافورة في قلب المعارك وشارك في عملية الإنزال في نورماندي وهي المعركة الفاصلة التي انتصرت فيها قوات الحلفاء على الجيش النازي في يونيو 1944. ثم في فترة ما بعد الحرب، ما بين عامي 1947 و1954 أخرج فيني أفلاما تسجيلية في موطنه الأصلي نيوزيلاندا من بينها “أسطورة نهر وانجنوي” وفيلم “جو حار” قبل أن ينتقل للعيش في كندا، حيث أخرج بين عامي 1954 و1963 عددا من الأفلام القصيرة أهمها ما قدمه عن حياة الشعوب الشمالية (الانويت) وفنونهم، لعل أهمها فيلم “الحجر الحي” (1958) عن فن النحت وفيلم “كينوجواك: فنانة من الاسكيمو” (1963) وكلاهما تم ترشيحه لأوسكار أفضل فيلم وثائقي قصير.
يقول فيني في معرض ذكرياته عن “ينابيع الشمس” وخاصة عن آخر فيضان للنيل قام بتصويره: “قبل اثني وأربعين عاما، في يونيو 1964، غادرنا القاهرة أنا وطاقم الفيلم المصري المكون من أربعة رجال لتصوير آخر فيضان للنيل بالسينما سكوب. بدأنا الرحلة من إثيوبيا وتابعنا مسيرنا لنحو 3200 ميل. لم يحدث أن تم تصوير الفيضان من قبل ولذا يعتبر فيلم “ينابيع الشمس” بمثابة السجل الوحيد لهذا الحدث الهام. غادرنا مصر تحت قيظ الشمس ورأينا كيف انتظر الناس بفارغ الصبر في كل مدينة وبلدة وقرية آخر فيضانات النيل. في حر أسوان القائظ، كان آلاف العمال يعملون ليل نهار لاستكمال ستة أنفاق عملاقة في الوقت المناسب كانت ستحمل ماء الفيضان بأمان لما وراء سد أسوان العالي ولم يكن قد اكتمل بناؤه بعد. لقد بني السد ليخلق بحرا كبيرا خلفه من شأنه أن يحفظ فيضانات النيل في المستقبل وبدلا من ري الأرض مرة واحدة في السنة، سيتم الري من مياه النيل المخزنة وراء السد الجديد على مدار العام وانتاج الكهرباء أيضا كجزء من الصفقة. ولكن على الرغم من عجائب التكنولوجيا المتمثلة في بناء السد عام 1964، ظل السؤال القديم يلح علينا: هل سيكون هناك ماء كثير؟ أم قليل؟ هل ستكون كمية الماء كافية؟ كانت مصر كلها في الانتظار.” (مجلة أرامكو، مايو - يونيو 2006) .

عين المغامر، عين الكاميرا
كان اختيار حسن التلمساني لتصوير الفيلم الأشهر في تاريخ السينما الوثائقية المصرية اختيارا مدروسا ومتوقعا، فقد شارك حسن التلمساني صديقه المخرج صلاح التهامي تصوير سلسلة أفلام “سباق مع الزمن” و”مذكرات مهندس” (1962-1970) عن مراحل بناء السد العالي، وكانت من انتاج الهيئة العامة للاستعلامات. كما أخرج فيلما قصيرا بعنوان “يا نيل” عام 1963 من انتاج المكتب العربي للسينما وفيه يصور فيضان النيل ومظاهر الحياة والاحتفال بالفيضان في صعيد مصر. كانت عين الكاميرا التي يقف وراءها حسن التلمساني عينا على الواقع وعينا على التشكيل والشعر والضوء والظلال، هي عين الفنان التشكيلي الذي بدأ حياته الفنية رساما سيرياليا ولكن سرعان ما اجتذبته كاميرا التصوير فعبر من خلالها، وفي صمت المتبتل الذي لا يعادله سوى صمت الرهبان، عن جماليات الطبيعة وحركة الإنسان فيها مستفيدا من حساسية كبيرة لتأثيرات الضوء الطبيعي على المشهد الوثائقي وضرورة امتزاج اللقطات العامة باللقطات القريبة أو المكبرة لخلق ذلك التناغم المقصود بين عين الإنسان التي ترى الكليات وبين عين الكاميرا اللاقطة للتفاصيل. أما في المشاهد القليلة التي تدخل فيها الكاميرا مكانا مغلقا، لتصوير جدارية في معبد أبي سمبل أو قناع توت عنخ آمون في متحف القاهرة، فقد عمد المصور لاستخدام قوة الإضاءة المركزة على موضوع التصوير فيما ترك كل ما حولها يسبح في الظلام.
يقول حسن التلمساني عن “ينابيع الشمس” : “في فترة الستينيات ، حين كنت أصور الفيلم التسجيلي الطويل “ينابيع الشمس” من اخراج المخرج الكندي الكبير جون فيني كنت أعيش أسعد أيام حياتي، فقد صورنا حياة جميع الشعوب التي تعيش على ضفاف النيل، من منابعه في منطقة بحيرة فيكتوريا في قلب إفريقيا حتى مصباته في البحر المتوسط. وأثناء التصوير وجدت في شخصية هذا المخرج فنانا يحسن الرؤية ويهتم بالصورة. وكان يحدثني عن المنظر، وعن الإضاءة فيه وعن الأشكال التي تكونه. كان حديثه غاية في الحساسية والجمالية ذات المستوى الرفيع. ولقد أتاح لي أن أقوم بالتجارب العديدة أثناء التصوير، مثل التصوير في الفجر مثلا أو بعد الغروب، وإعادة اللقطات التي لا أرضي عنها مرات ومرات حتى اصل إلى المستوى الذي يرضيني كفنان يحرص على الدقة والإتقان” (عن كتاب “تجارب في السينما التسجيلية المصرية”).
يتميز أسلوب التلمساني في تصوير هذا الفيلم بملمحين يكملان بعضهما البعض: الملمح الأول يحتفي بتصوير حركة الطبيعة السابحة في الأضواء، سواء في الصباح الباكر، تحت أتون الشمس، أو قبيل الغروب إذ لا تخلو لقطة واحدة من حركة، سواء كانت حركة تدفق المياه في النهر الهادئ أو انهمارها في شلالات هادرة، حركة السحب في السماء أو حركة الريح عبر الأشجار وأثناء الزوابع والأمطار الكثيفة، وحتى حركة الحيوانات على ضفاف النهر وفي قلبه أو حركة السواقي والمراكب ذات الأشرعة. فيما يحتفي الملمح الثاني بحركة الإنسان في الطبيعة، حركة الفلاح المصري وهو يرفع بالشادوف مياه النهر لري الأرض الزراعية، وحركة صانع الفخار الذي يصنع القدور للسواقي، والمراكبية وهم يصارعون الجنادل في أعالي نيل الصعيد، والفلاحين وهم يزرعون ويعزفون الموسيقى في جنة الحبشة البكر، وحركة الأم وهي تحمم طفلها على شاطئ بحيرة فيكتوريا، وأهالي قبائل الدنكا في السوق في أوغندا، وسكان الصحراء يأتون للتجارة في الخرطوم، وحتى حركة المطارات التي تعج بالبشر من إثيوبيا إلى القاهرة، والعمال والمهندسين الذين يعكفون على العمل في السد العالي، وعمليات تهجير النوبيين من قراهم مصحوبة بمشاهد صامتة أقرب للجنائزية للقرى بعد هجرها، وعمليات رفع معبد أبو سمبل لمنطقة أعلى من منسوب الماء لإنقاذه من الغرق، وانتظار الفلاح على أرض قاحلة لحظة فيضان النيل ومشاهد جمع القطن في دلتا مصر. الحركة هي قانون الحياة وقانون النهر الساري، وهي مصدر التشويق والتدفق والثراء الذي يميز الفيلم رغم طوله الذي يتجاوز 83 دقيقة.
كل هذا الثراء والتنوع في شريط الصورة يصاحبه شريط صوت معقد لا يقل عن شريط الصورة تنوعا. كتب التعليق عدد من الكتاب الأجانب حاولوا أن يمزجوا بين حقائق التاريخ والجغرافيا وبين شعرية اللغة الأسطورية التي تشير لحضارات الشعوب المقيمة على ضفاف النيل. باللغة العربية، تمت قراءة التعليق بأصوات متعددة وشارك في قراءته الممثل مما أضفى على الفيلم حيوية خاصة عادة ما تغيب عن شريط الصوت في الفيلم الوثائقي التقليدي، واكتسبت مؤثرات الصوت أيضا بعدا خاصا لأهميتها في تصوير حالات النهر وتحولات الطبيعة. وأضيفت إلى هذا وذاك موسيقى الشعوب التي تحيا على ضفاف النهر، وغنائها بلغات متنوعة، مع إدخال موسيقى الجاز في مشهد الفيضان قبيل نهاية الفيلم وكان قد تم تصوير المشهد في ملهى ليلي في إثيوبيا للدلالة على عصرية اللحظة الراهنة وتشابك ينابيع الثقافة والحضارة عبر الأزمنة وعبر الحدود أيضا. شريط الصوت باللغة العربية لكن المؤثرات بلغة الكون والموسيقى بلغة العالم.

حاضر “ينابيع الشمس”
على الرغم من تكلفة الفيلم الباهظة (يشير المخرج هاشم النحاس في مقال له عن حسن التلمساني إلى أن الميزانية بلغت مئة الف جنيها مصريا وكانت تعادل في ذلك الحين ميزانية المركز القومي للأفلام التسجيلية والقصيرة بالكامل)، فقد عرض الفيلم في عدد محدود من قاعات العرض، وقيل أنه واجه مشكلات جمة بسبب الخلاف على التوزيع أدت لاندثاره، حتى أعيد اكتشافه من جديد عام 2001 عندما ضمته اليونيسكو لسجلها المعنون “ذاكرة العالم” واعتبرته “واحدا من أهم الأفلام عن نهر النيل... قدم للشاشة ولأول مرة في التاريخ منابع النيل الأبيض والنيل الأزرق وعجائبهما.” ثم عرض الفيلم مجددا في عام 2009 ضمن فاعليات مهرجان الاسماعيلية للأفلام التسجيلية في إطار تكريم المصور الفنان حسن التلمساني وبمناسبة مرور أربعين عاما على انتاج الفيلم، وتوالت العروض فيما بعد من تنظيم صندوق التنمية الثقافية ولاقت صدى في الإعلام المصري أعاد الاعتبار ولو متأخرا لواحد من أهم كلاسيكيات السينما التسجيلية في مصر.
لقد اختار جون فيني الإقامة في مصر بعد عرض الفيلم، وراح حاملا كاميرا التصوير الفوتوغرافي ليواصل اكتشافاته وأسفاره ناقلا صورا من الحياة في مصر وفي العالم العربي بعد أن انضم في بداية السبعينيات لمحرري مجلة أرامكو السعودية حيث نشر العديد من التحقيقات المصورة قبل أن يضمنها كتابه الصادر عن الجامعة الأمريكية في القاهرة عام 2005. احترف فيني التصوير والكتابة على مدى أكثر من أربعين عاما قضاها بين مصر ونيوزيلندا والمعروف أنه أسلم يومياته عن فيلم “ينابيع الشمس” لأرشيف الفيلم والصوتيات بنيوزيلندا وهي اليوميات التي لو أتيح لنا قراءتها اليوم لاكتشفنا جانبا خفيا من جوانب السينما التسجيلية في مصر، في مرحلة انفتاحها على الآخر وانفتاح الآخر عليها، ولتعرفنا بشكل أفضل على طبيعة العلاقة بين جون فيني العاشق لمصر ولنيلها وبين فريق العمل في الفيلم وعلى رأسهم حسن التلمساني.
يقول صوت الحكواتي في بداية الفيلم : “شربنا من هذا النهر لستة آلاف عام ولازلنا نبحث عن منبعه الخفي. هل ينبع من الشرق كما يقول البعض أم من جبال القمر؟ يقول البعض إن النهر ينبع من الجنة والبعض الآخر يقول إنه يتدفق من سحابة فوق أرض الحبشة ويقول آخرون إنه يتدفق من ينابيع الشمس. ولكن من يصدق تلك الأقاويل؟” كانت تجربة جون فيني وحسن التلمساني الغنية محاولة للإجابة عن سؤال يبدو في جوهره بسيطا وسعيا علميا لدحض “الأقاويل” بالصوت والصورة، وكانت أيضا عنوانا لتوقهما للمغامرة والتجريب، ومحاولتهما الدؤوب على اختلاف الثقافات التي نشأ فيها كل منهما للاحتفاء بالطبيعة وبالإنسان وقهر مشاعر الهزيمة التي ولدتها الحروب الضارية في زمنهما باستخدام سلاحي المعرفة والأسطورة معا، الوثيقة المصورة والشعر الممزوج بالحكايات والموسيقى جنبا إلى جنب. ربما لهذه الأسباب مجتمعة يظل “ينابيع الشمس” حيا اليوم، ويشي حاضره بمستقبل ممتد كواحد من كلاسيكيات السينما الوثائقية في مصر والعالم.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات