الفيلم الوثائقي الذاتي: نُثار سينمائي في البدء كان التوثيق

داليا السجينى 09 يناير 2017 السينما التسجيلية في مصر الحقيقة والجمال

الكاتب : داليا السجينى
في البدء كان التوثيق... يأتينا هذا الانطباع حين نطالع برنامج العرض الجماهيري الأول الذي نظمه الأخوان لوميير Lumière بتذاكر مدفوعة الأجر، في 28 ديسمبر عام 1895 في الصالون الهندي في Grand Café بباريس، والذي تضمن عشرة أفلام سينمائية قصيرة صورها وأخرجها لوي لوميير Louis Lumière . بدت أغلب الأفلام المعروضة كتوثيق لما عُرف في فن التصوير منذ القرن الخامس عشر في أوروبا بـ “مشاهد من الحياة اليومية”. تنقل هذه المشاهد “لحظات” أرادت الذات المصورة حفظها قبل انقضائها، أحداث جرت في ثلاثة عوالم مختلفة، تُشكل في مجملها مدارات حركة الذات المصورة-المخرجة اليومية: الأماكن العامة، محيط العمل ومحيط العائلة.


وأتوقف من بينها أمام فيلم “الطعام (طعام الطفل)” Le Repas (de bébé) حيث يظهر الأخ الأكبر أوجوست لوميير Auguste Lumière جالسا بصحبة زوجته وطفلتهما أندريه على مائدة، ويقوم بإطعام الأخيرة. إذن، يتناول هذا الفيلم مشهدا من الحياة اليومية في أسرة الأخ أوجوست، أي مشهدا من الحياة اليومية لعائلة مصورهما ومخرجهما لوي لوميير. لاحقا، سيقوم هواة بتصوير مشاهد شبيهة فيما سيُعرف بـ “الڤيديوهات المنزلية” (home movies)، كما سيقوم مخرجون بصناعة أفلام مماثلة، بعضها أكثر تعقيدا، سيُطلق عليها منظرو السينما الوثائقية الذاتية في تسعينيات القرن الماضي “الفيلم العائلي” (Le film de famille)، الذي يُعتبر السلف الأكبر لما سيُعرف بعد عقود بالفيلم الوثائقي الذاتي، أي أن جذور الأخير ارتبطت حرفيا بلحظة نشأة السينما. لعلي لا بالغ إذا قلت: في البدء كان جزء من التوثيق ذاتيا.

في مقال سابق بعنوان “السيرة الذاتية: بين الأدب والسينما” ، كنت قد أشرت إلى بعض التحولات الهامة التي شهدها الأدب الذاتي في الغرب، وتحديدا الأدب الفرنسي الذاتي، منذ منتصف السبعينات في القرن العشرين، والتي تزامنت مع صعود “موجة” من الأفلام الوثائقية الذاتية في الغرب، في الثلث الأخير من القرن العشرين. ويبدو استلهام السينما الوثائقية الذاتية لأشكال سردية من بعض الأنواع الأدبية الذاتية غير التخيلية التي تنتمي إلى ما يعرف بـ “الأدب الذاتي” (سيرة ذاتية سينمائية بمفهومها التقليدي، يوميات سينمائية، أوتوپورتريه أو بورتريه ذاتي سينمائي، خطابات سينمائية، إلخ) كأحد تجليات أنماط العلاقة التاريخية بين وسيطي الأدب والسينما. إذا كان الفيلم الوثائقي الذاتي قد استغرق أعواما طويلة حتى بدأ يظهر بصورة متواترة في الغرب منذ سبعينيات القرن العشرين، فيبدو أنه استغرق زمنا أطول قبل أن يبدأ مخرجون من بلدان الشرق الأوسط في القيام بعمل أفلام مشابهة –خاصة وأن السينما بدأت في مصر أيضا وثائقية، حين أصدر المخرج محمد بيومي جريدة “آمون” السينمائية، وخصص العدد الأول منها لتصوير استقبال الزعيم المصري سعد زغلول في القاهرة بعد عودته من منفاه في جزيرة سيشيل في سبتمبر 1923. وإن كنت لا أستطيع بعد أن أحدد تاريخ ظهور أولى هذه التجارب لمخرجين عرب – نظرا لافتقاد الدول العربية المنتجة لصناعة السينما لوجود أرشيڤ وسينماتيك جامعيَن وحافظَن لتراثها السينمائي –، إلا أنه من المؤكد أن عدد الأفلام الوثائقية الذاتية التي خرجت إلى النور منذ بداية الألفية الثالثة يتجاوز عدد أي أعمال مماثلة قد تكون أُنتجت خلال القرن العشرين.

ما يبدو لافتا هو تلك النقلة النوعية الذي طرأت على انتاج هذا النسق السينمائي كأحد روافد السينما الوثائقية في مصر منذ ثورة 25 يناير 2011. فخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، من بين بضعة أفلام وثائقية ذاتية ظهرت تراتبيا لمخرجين من فلسطين، سوريا، مصر، ولبنان، نجد فيلما واحدا لمخرجة مصرية: “سلطة بلدي” لنادية كامل (2007). أما بعد ثورة يناير 2011، فمن بين ما يقرب من حوالي الخمسة عشر فيلما، كان نصيب مصر وحدها ما لا يقل عن سبعة أفلام – كما انضم إلى مضمار صناع الأفلام الوثائقية الذاتية مخرجون من سوريا ومن العراق. منذ ذلك التاريخ، لا يكاد يمر عام دون أن يخرج للنور فيلم وثائقي ذاتي لمخرجة أو لمخرج، أذكر على سبيل المثال لا الحصر: “مولود في ٢٥ يناير” لأحمد رشوان (2011)، “العذراء، والأقباط وأنا” لنمير عبد المسيح (2012)، “محمد ينجو من الماء” لصفاء فتحي (2013)، “جاي الزمان” لدينا محمد حمزة (2014)، “موج” لأحمد نور (2014)، “النسور الصغيرة” لمحمد رشاد (2016)، و”هدية من الماضي” لكوثر يونس (2016). أخذت هذه التجارب المتناثرة في التجمع شيئا فشيئا حتى شكل تراكم ذراتها ما يشبه “نثار” من سرديات سينمائية ذاتية غير تخيلية، بكل ما تحيل إليه هذه الاستعارة من معان: فنحن بإزاء “تشكيل ضبابي” من ممارسات سمعية-بصرية وثائقية لـ “حكاية الذات”، تكونت ذراته منذ عهد قريب – وحديثي هنا تحديدا عن المنتج الفيلمي المصري–، وترجع “ضبابيّته” إلى أن سماته الفنية لازالت موضع تحوّل وتجدد وتبدل دائمين –وهو من أحد مصادر خصوصيته وجاذبيته–، ومن ثَمَّ فإن المرء أثناء تتبعه لحركته الهادئة وتشكيليّته المتغيرة، لا يمكن له أن يتوقع ما إذا كانت ذرات هذا الـ “نثار” ستظل على حالها، أم سيزداد تكاثفها على نحو يغير من المساحة التي تحتلها ومن ثم من موقعها في عالم السينما الوثائقية، أم ستزداد تناثرا.

يحمل هذا المنتج السينمائي عددا من الملامح لا يتسع المجال لمناقشتها مجتمعة، لذا أتوقف في الجزء الأول من هذا المقال عند أحد هذه الملامح، ألا وهو موضوع الفيلم، الذي يؤسس أنطولوچيا لنسقين رئيسين من الأفلام الوثائقية الذاتية: من جهة، الفيلم الذاتي الشخصي (الذي يضم اليوميات الفيلمية، السيرة الذاتية السينمائية، إلخ.)، ومن جهة أخرى “الفيلم العائلي” الأقدم تاريخيا، كما يترتب عليه التباين بين طبيعة المنطق السردي الخاص لكل من الأفلام داخل هذين النسقين. وفي الجزء الثاني من المقال، أنتقل إلى أمثلة من بعض الأفلام المصرية الثمانية –دون إغفال أهمية الإنتاج السينمائي الوثائقي الذاتي لمخرجين من دول عربية أخرى الذي يحتاج تناوله لمساحة أكبر. وربما ينبغي أن أوضح أن حديثي في السطور القادمة لا يندرج تحت تحليل الخطاب السينمائي في السينما الوثائقية الذاتية في مصر، وإنما تحت تحليل بعض النصوص الفيلمية في الأعمال التي ذكرتها، إذ أعتقد أنه قبل تناول السينما الوثائقية الذاتية المصرية كظاهرة أشمل، من المهم تعريف القارئ بصورة أفضل بتلك الصيغة الخاصة غير التخيلية من الأفلام الذاتية.

موضوع الفيلم: المخرج أم عائلته؟
لعل أبرز ما يُميز الفيلم الوثائقي الذاتي هو أن مرجعية الشخوص والأماكن والأزمنة التي تدور حولها و/أو فيها أحداثه ليست واقعية فحسب، كما هو الحال في جل الأفلام الوثائقية، بل إنها كذلك ذاتية، إذ أن مؤلفه ومخرجه – بل ومصوره أيضا في كثير من الأحيان – هو موضوعه في الوقت ذاته. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الصيغة غير التخيلية من الفيلم الوثائقي الذاتي لا تعتمد على إعادة تمثيل مشاهد من أحداث حقيقية مر بها المخرج، سواء كان ذلك عبر استعانة الأخير بنفس “أبطالها” الحقيقيين أو بغيرهم، مثلما فعل ناني موريتَي Nanni Moretti في فيلم “يومياتي العزيزة” Caro Diario (1994)، الذي يتضمن أجزاء كاملة يعيد فيها موريثًي تمثيل دوره في الواقع أمام أصدقاء له يلعبون أدوار أشخاص حقيقيين. وكأي منتج ثقافي، يحمل الفيلم الوثائقي موقف مخرجه من موضوع القضية التي يشتبك معها فيه، موقفا يتشكل عبر اختياراته للعناصر المكونة للمادة السمعية-البصرية المصوَّرة من ناحية، وعبر التعليق (الصوتي) الذي يصاحب هذه المادة الفيلمية آتيا من خارج الحيز الفيلمي من ناحية أخرى. وهو ما ينسحب أيضا على الفيلم الوثائقي الذاتي الذي يحمل هو الآخر رؤية صانعه بشأن علاقته بذاته وبالعالم (موضوع فيلمه)، بَيْدَ أن منطق البناء السمعي-البصري المُشَكِّل لهذا التصور يختلف من حيث ارتكازه على ازدواجية ذات مخرجه الذي يلعب دورين في آن واحد: فمن ناحية هو صانع الفيلم (المؤلف-المخرج) (sujet)، ومن ناحية أخرى هو موضوع الفيلم (objet). لا يعني هذا أنه من السهل رسم خطوط فاصلة بين هذين الـ “كيانين” اللذين يشكلان معا، وبشكل متواز ومتقاطع، مكونات المنتج سمعي-بصري الوثائقي، ذلك المنتج الذي تتكون ذات المخرج نفسها أثناء صناعته، عبر مادية وسيطه (أو وسائطه) من جهة، وعبر مادية جسد المخرج الحاضر في فيلمه من جهة أخرى. وبذلك، فالفيلم الوثائقي الذاتي لا يُمثل قطيعة مع السينما الروائية الذاتية فحسب، وإنما كذلك يبدو كحالة استثنائية داخل عالم السينما الوثائقية.

أن يكون مؤلف ومخرج الفيلم الوثائقي هو موضوعه، ذلك يعني أن يقدم فيه معالجة سينمائية لعدد من التيمات الشهيرة المتعلقة بتكوينه النفسي والمعرفي وبممارسته الفنية والتي تعتبر من محاور أغلب المشاريع السينمائية – والأدبية – الذاتية (تاريخ العائلة، الميلاد، ذكريات الطفولة والمراهقة، العلاقة بالأسرة أصدقاء الطفولة، الدراسة، الشغف بالسينما، القصص العاطفية، بداية تشكُل الوعي الذاتي، القناعات الدينية، الانحيازات السياسية، موضوعات لمشاريع أفلام، تحديات العمل الإبداعي، العلاقات بفنانين ومثقفين معاصرين، إلخ.). وقد يعني ذلك أيضا تناوله لتيمات متعلقة بجوانب حميمية من حياته (العلاقات الجنسية، الذكريات والخيالات الإيروسية، تأملات لشكل الجسد و/أو جسد الآخر، تتبع تحولات شكل الجسد بسبب التقدم في العمر أو المرض، إلخ.). إذن، للـ “آخر”، وتحديدا لأفراد من العائلة، مكانة خاصة في الفيلم الوثائقي الذاتي، بوصف الأخيرة أحد مكونات علاقة المخرج بذاته وبالعالم. أما أن يتمحور فيلم وثائقي ذاتي المرجعية حول عائلة مخرجه فهذا يعني أن الأخيرة هي موضوع الفيلم وأننا بصدد “فيلم عن عائلي”، الذي ينتمي إلى عالم السينما الوثائقية الذاتية بمفهومها الواسع، ويتقاطع مع اليوميات السينمائية في بعض من جمالياتها، إلا أن علاقة ذات المؤلف-المخرج بموضوع كل من الفيلمين تتمايز.

ربما يتعين علينا مراجعة دلالات مفهوم “الحميمية” في المنتج الذاتي أيا كان وسيطه. قد يكون تذكُّر كيف اصطلح النقاد ومنظرو الأدب الفرنسيين على تسمية اليوميات الأدبية بـ « journal intime » مفيدا في توضيح hلفروق الدقيقة بين دلالات “الحميمي”، “الشخصي”، “الخاص”. في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ثار جدل في فرنسا بين المتخصصين حول تسمية هذا النوع من الكتابات الذاتية حيث أن كلمة « journal » تعني بالفرنسية “جريدة”. لذا كان يلزم إضافة صفة إلى هذا الاسم لبيان ماهية هذا الشكل الأدبي الذي يتناول كاتبه فيه جوانب من حياته اليومية الخاصة، ولتوضيح الفرق بينه وبين المطبوع الصحفي اليومي – وهو مُشْكِل لغوي لم تقابله اللغة الإنجليزية نظرا لاحتوائها على لفظين مختلفين دالين على هذين المنتجين: « diary » و « newspaper ». فاقترح البعض إضافة صفة “شخصي” « personnel »، واقترح البعض الآخر استخدام “حميمي” « intime »، وهي التسمية التي شاع استخدامها، على الأرجح لأن “الحميمي” يدل على درجة أْعمق من التوغل في الجوانب شديدة الحسيّة والحساسية من حياة الفرد عن ما قد يتضمنه “الشخصي” – الذي بات يستخدم كـ “مرادف” لـ “حميمي” للإشارة إلى “الأدب الذاتي/الشخصي” « littérature intime/personnelle » أو “الكتابات الذاتية/الشخصية” « écrits intimes/personnels » بمفهومها الواسع. وحين ظهر “المعادل” السينمائي لليوميات الأدبية، اصطلح النقاد على تسميته « journal filmé »، وهو ما يعني حرفيا “يوميات مصوُّرة”، إلا أن من الأدق تسميته “يوميات سينمائية” لتفادى الخلط في ذهن القارئ بين وسيطي السينما والتصوير.

ولإيضاح الفروق بين “الخاص”، و”الشخصي”، و”الحميمي”، أستحضر على سبيل المثال إثنين من أفلام لوي لوميير الأولى: “خروج العاملات من مصنع لوميير بليون” Sortie des ouvrières de l’usine Lumière à Lyon و”طعام الطفل”. يعتبر المخرج الفرنسي يان بوڤيه Yann Beauvais أن الفيلم الأول يتناول أحد المشاهد العائلية واليومية، وأن الثاني يدور حول مشهد ذات طابع حميم . بينما أعتقد أن “خروج العاملات من مصنع لوميير” مشهد من الحياة اليومية وأن “طعام الطفل” مشهد من الحياة العائلية لمخرجه. ذلك لأنه على الرغم من أن الحدث في الفيلم الأول يدور في مكان مِلْك لعائلة مصوره ومخرجه (مصنع العائلة)، إلا أن هذا الحدث لا يتعلق بشخوص ينتمون من بعيد أو من قريب إلى دائرة عائلة المخرج، فعاملات المصنع لسن كمن يعملون على سبيل المثال في منزل العائلة أو في محيطه (مدبرة المنزل، الطاهي/ة، جليسة الأطفال، البستاني، السائق، إلخ.)، والذين يبدون كـ “جزء” منها بحكم تواجدهم شبه المستمر فيه/في محيطه. أما الفيلم الثاني، فهو يتناول نشاط يومي يقوم به أفراد عائلة المخرج، نشاط من الممكن ممارسته في مكان عام، كما أن هيئة “أبطاله” والمكان الذين يجلسون فيه لا يحويان أي قدر من الحميمية، فالكاميرا لا تظهرهم بملابس النوم أو في غرفة طفلتهما. بعبارة أخرى، مشهد “خروج العاملات من مصنع لوميير” هو مشهد قد يراه مؤلف ومخرج فيلم وثائقي ذاتي ما جدير بالتسجيل كنموذج من تفاصيل اليومي، في حين أن “طعام الطفل” هو نموذج لبعض المشاهد التي تشكل “الفيلم العائلي”.
في دراسة حول العلاقة بين “الفيلم العائلي” و”اليوميات السينمائية”، يوضح روچيه أودان Roger Odin، أحد أهم منظري الفيلم العائلي في فرنسا، عدة أوجه شبه بين هذين النوعين، فمثلا من الناحية الشكلية يهتم مصوراهما بتسجيل لقطات من اليومي، متشظية، متقطعة، بلا رابط ظاهر بينها، دون أن تكون لديهما تصور نهائي عن مصير المادة الفيلمية الغزيرة التي يقومان بتسجيلها. على الرغم من ذلك، يؤكد أودان على أنه « سيكون من الخطأ استخلاص أن الفيلم العائلي هو نوع من درجة صفر لليوميات السينمائية، وأن اليوميات السينمائية ليست سوى تطوير وتعميق لملامح كانت خفية في الفيلم العائلي. » (ص. 1950) لذلك، فبالرغم من أن جذورها التاريخية اليوميات السينمائية تمتد في الفيلم العائلي، إلا أنهما يتمايزان على مستوى الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها كل من النوعين، وتحديدا من ناحية “المنطق التواصلي” لكل منهما:
« إن اليوميات [السينمائية] بالتعريف هي تعبير عن ذاتٍ ما. وبذلك يُمكن صياغة عقد قراءة [الفيلم] على النحو التالي: ينبغي قراءة جميع صور الفيلم باعتبارها تحدثكم عني.
وفي المقابل، تكمن مشكلة فيلم العائلة في كونه يتحاشى أن تتم قراءته كتَمَظْهُر لذات ما.
[...]
إن المؤلف الحقيقي للفيلم العائلي هو المؤسسة العائلية. وعلى النقيض من ذلك، فاتخاذ المرء القرار بتصوير يومياته، يعني ترشحه للتعبير عن فرديته، ومن ثمَّ قيامه بعمل قطيعة جذرية مع المنطق التواصلي للفيلم العائلي. » (ص. 1949)
ويلفت أودان الانتباه إلى أنه نتيجة لهذه المفارقة الأونطولوچية، فالتشابه بين التيمات المتعلقة بـ “الخاص” التي يتناولها كلا النوعين المعنيين لا يعني تماثل الخاص فيهما. في الفيلم العائلي حيث لا مجال لـ “الشخصي”، يحيل الخاص إلى لحظات من تجمعات عائلية في مناسبات خاصة سعيدة (ميلاد، زواج، أعياد، رحلات...)، يُصور خلالها مخرج الفيلم صورا نمطية بعلم، بل وبموافقة أعضاء العائلة، لذلك يرى أودان أننا بصدد « خاص تمت مَأْسَسَتُه » من قبل العائلة. (ص. 1949) أما في اليوميات السينمائية، « باعتبارها انتاج لذات ما »، فتتمحور موضوعاتها حول « الخاص الأكثر تغلغلا في الجانب الشخصي » من وجود مؤلف ومخرج الفيلم (ص. 1949). وضمن هذا الإطار، فإن العلاقة بالجسد هي أحد مكونات اليوميات السينمائية التي قد يصل تجلياتها سينمائيا إلى اهتمام الذات المؤلفة-المخرجة بتفصيل أجزاء الجسد بصريا، لاسيما أجزاءه الحميمة، وأحيانا تضمين فيلمه مقاطع من ممارساته الجنسية. (ص. 1948) والأمر لا يتوقف عند البعد المادي لوجود المخرج، حيث تتجاوز تأملاته حدود التفاصيل الشكلية للجسد لتتضمن تأملات في شعوره بـ « ثقل الحياة »، « السأم »، « الوحدة »، « الشيخوخة »، « محاولات الانتحار »، « المرض »، بل وانتهاء حياة المخرج خلال تصويره يومياته. لذلك يخلص أودان إلى أن صور الذات في اليوميات السينمائية تتناقض مع « الصور المبهجة » في الفيلم العائلي. (ص. 1949)
إذن، فحضور فرد/أفراد من العائلة هو مكون أصيل للفيلم العائلي ولليوميات السينمائية على حد سواء –وربما غيرها من الأفلام الوثائقية الذاتية التي تتخذ من ذات مخرجها موضوعا لها مثل السيرة الذاتية السينمائية –، ولكن ما يؤسس لكل نوع هو المكانة التي تحتلها العائلة تراتبيا من بين تيمات الفيلم الذاتي. بعبارة أخرى، حين تمثل العائلة محور النص الفيلمي فنحن بصدد فيلم عائلي، أما حين تبدو كواحدة من بين تيمات أخرى يتناولها الفيلم وتدور في فلك يحتل مركزه المخرج، فنحن أمام فيلم شخصي، أي عن الذات المخرجة، بصرف النظر عن مدى حميمية التيمات التي يتناولها المخرج ومعالجته السينمائية لها.
في ضوء ما سبق، ماذا يخبرنا كمشاهدين “عقد الفيلم” في الأعمال السينمائية الوثائقية الذاتية المصرية عن العلاقة بين المخرج-المؤلف-الراوي وموضوع فيلمه، بحيث يتسنى لنا تحديد ما إذا كان الأخير يمثل شخصية الفيلم الرئيسية على مستوى المحكي أم فرد آخر من عائلته؟ وما هي دلالات هذه الخيارات؟

عقد الفيلم الذاتي: الشخصي والعائلي
بين اليومي والتاريخي
ليس من اليسير عمل تصنيف دقيق للأفلام الوثائقية الذاتية، المصرية وغير المصرية على حد سواء، حيث يبدو العديد منهم عابر للأنواع، وأعتقد أنه قبل (بل وربما الأهم من) الانشغال بتصنيف هذه الأفلام، يتعين محاولة قراءة كل منها من خلال تتبع ديناميكيته الداخلية ولغته وأدواته الخاصة. وقبل أن أتوقف عند أول هذه الأفلام “سلطة بلدي” لنادية كامل، سأمر سريعا على بعض الأفلام الوثائقية الذاتية التي أُنتجت بعد ثورة يناير، لا سيما وأنني لن أتمكن من مناقشتها في السطور المتبقية. لذلك سأحاول تقديم صورة عامة عن تعدد أشكال العلاقة بين المخرج وموضوع فيلمه فيها.
إذا تأملنا عناوين هذه الأفلام، بوصف العنوان أحد عناصر “عقد الفيلم”، سنجد أن معظمها لا يحمل دلالات واضحة على مرجعيتها الذاتية، ربما سوى “العذراء، والأقباط وأنا” لنمير عبد المسيح، حيث يرشد ضمير المتكلم المشاهد إلى حضور ذات مخرج الفيلم فيه، ليس بوصفه مؤلفه ومخرجه فحسب، بل وكذلك لكونه جزءا من موضوعه. في حين تحمل عناوين بقية الأفلام إشارات إلى التيمات التي تتناولها –وهو ما يستخلصه المتلقي أثناء أو عقب مشاهدته الفيلم– وليس إلى ذاتية مرجعيتها. في المقابل، في الدقائق الأولى من أغلب هذه الأفلام، ينثر المخرجون إشارات تكشف للمتلقي أن الفيلم الذي بدأ للتو في مشاهدته فيلم وثائقي ذاتي، مثل تطابق هويات مؤلفه وراويه وفي أغلب الأحيان شخصيته المحورية، وهو أحد شروط “ميثاق السيرة الذاتية”. يتم ذلك سمعيا عبر مادية صوت المخرج الراوي الذي يتحدث مستخدما ضمير المتكلِم، أو سمعيا-بصريا عبر ظهور المخرج في المجال البصري بما يُتيح للمشاهد الربط بين صوته ومحتوى حديثه وصورته.

بقي للمشاهد أن يتعرف على ما يهيئه على المستوى المعرفي للدخول إلى العالم الفيلمي: ألا وهو موضوعه، الذي يُعد من مكونات “عقد الفيلم” و”ميثاق السيرة الذاتية”. ثمة تنوع لافت بين مخرجي الأفلام الثمانية، إذ ينتمون إلى ثلاثة أو أربعة أجيال، كما أن أفلامهم الوثائقية الذاتية تأتي في مواقع متباينة في الفيلموغرافيا الخاصة بكل منهم. على سبيل المثال، تسبق “مولود في 25 يناير” لأحمد رشوان (2011) قائمة من أفلام المخرج الوثائقية –والروائية– الطويلة –والقصيرة–، بينما تُعتبر أفلام “سلطة بلدي” (2007) لنادية كامل، “العذراء، الأقباط وأنا” (2014) لنمير عبد المسيح، “النسور الصغيرة” (2016) لمحمد رشاد، و”هدية من الماضي” لكوثر يونس (2016)، الأفلام الوثائقية الطويلة الأولى لمخرجيها. علي الرغم من ذلك، إذا نحينا جانبا النموذج السردي الخاص بكلٍ من هذه الأفلام –وهو النموذج الذي تشكل آلياته بالطبع العلاقة بين زمن الفيلم (زمن السرد وزمن الحكاية) والزمن الواقعي، ومن ثَم تصيغ العلاقة بين الذات المصوِرة والحدث المصوَر–، وأخذنا في الاعتبار موضوع كلٍ منها فحسب، فسنجد –وبكثير من الاختزال– أنها تتمحور حول ثلاثة موضوعات عامة: “سلطة بلدي” يتناول سيرة عائلة ؛ والسبعة أفلام الأخرى تندرج تحت موضوعي تقاطع الشخصي والعائلي مع التاريخي/الديني/الاجتماعي، والعلاقة بالأب مع/دون الاشتباك مع التاريخي. وحين أقول “التاريخي”، أقصد ثورة يناير 2011 التي تشكل كلحظة تاريخية مفصلية أحد ملامح الخلفية السياسية لبعض (أو لكل) أحداث خمسة من الأفلام الوثائقية الذاتية السبعة التي ظهرت بعدها، أي أن الثورة تشغل مساحات متفاوتة في هذه الأفلام تتراوح ما بين الإشارة السريعة لأثرها على وجود المخرج، واحتلالها خلفية المشهد السياسي بالكامل، بل وتَمَثُّلها كأحد تيمات الفيلم الأساسية.
من ناحية، يشترك كل من “مولود في ٢٥ يناير” لأحمد رشوان (2011) و”موج” لأحمد نور (2014) في قيام مخرج كل منهما بتناول تعاطيه الذاتي مع لحظة تاريخية استثنائية بحجم ثورة يناير، ومعاصرة أحداثها، بل والمشاركة في فعاليتها. ويتشابهان أيضا في خلق محطات داخل النسيج السردي الاستيعادي الفيلمي، تعتمد على ربط أحداِث عائلية (ميلاد الابن/ابن الأخت) بأحداث سياسية هامة متزامنة. ولكن في “موج”، تتقاطع سيرة مدينة السويس، بوصفها مكان منشأ وإقامة المخرج، مع مراحل من سيرة المخرج. ومن ناحية أخرى، بالرغم من اختلاف موضوعي”العذراء، والأقباط وأنا” لنمير عبد المسيح (2012) و”محمد ينجو من الماء” لصفاء فتحي (2013)، إلا أنهما يتشابهان في اشتباك مخرج كل منهما مع قضية عامة تمسه على المستوي الشخصي. فنمير عبد المسيح يتأمل من منظور علماني قضية ذات طابع ديني إذ يحاول فهم سر اعتقاد مواطنين مسيحيين في صحة الأخبار التي تتحدث عن معجزات مثل ظهور العذراء فوق أسطح الكنائس. كذلك، تتعرض صفاء فتحي لقضية ذات بعد اجتماعي حيث توثق للفترة الأخيرة التي قضاها أخوها المصاب بالفشل الكلوي في معاناة بسبب تردي مستوى الخدمات الطبية التي تقدم لمن هم في مثل حالته، والتي أدت إلى وفاته لاسيما وأنه رفض استغلال احتياج “المتبرع” بكليته له في مقابل المال. في الفيلمين الأخيرين، يبدو تناول الهم الشخصي للفرد مدخلا لتعرضه لقضية تمس حياة الكثيرين ومن ثم تصبح هما جماعيا. في الأفلام الأربعة السابقة، يدرك المشاهد حضور الذات المخرجة كمؤلفة وراوية لفيلم يتمركز حول تقاطع الشأن الشخصي و/أو العائلي مع الشأن الجماعي سواء تماس ذلك مع لحظة تاريخية محددة أو مع سياق تاريخي ممتد، مع طقس أو معتقد ديني داخل جماعة دينية، أو مع واقع اجتماعي متعلق بسياسات نظام تحول الألم الفردي إلى ألم جماعي. ومن ثمَّ، يبدو منطقيا انسحاب الجانب الشخصي بدرجة ما لصالح القضية العامة.
أما في “جاي الزمان” لدينا محمد حمزة (2014)، “النسور الصغيرة” لمحمد رشاد (2016)، و”هدية من الماضي” لكوثر يونس (2016)، فنحن أمام أفلام وثائقية ذاتية تتمركز حول والد المخرج/ة و/أو علاقة الأخير/ة به. بيد أن مخرجي الأفلام الثلاثة يقدمون ثلاثة تجليات متباينة لهذا الموضوع تختلف جذريا من ناحية دافع تصوير الفيلم، مولدات الحكاية، والبنية السردية، واللغة السينمائية. في “جاي الزمان” لدينا محمد حمزة، تقرر المخرجة عمل فيلم عن والدها بعد وفاته في محاولة منها لتجاوز صدمة فقده، فتتبع آثار والدها في مكتبه، علاقتها به، وعلاقة أختها به، في محطات من مسيرته الفنية، إلخ. وفي “النسور الصغيرة” لمحمد رشاد، يتناول المخرج علاقته المتأزمة بوالده العامل البسيط، عبر قيامه برحلة من الحاضر إلى الماضي، ليس عبر الإبحار في “عالم” والده المحدود فحسب، بل وكذلك عبر زيارة عالم اثنين من مناضلي السبعينات من اليسار. في نهاية الرحلة، يعيد المخرج تشكيل علاقته مه والده. وأخيرا في “هدية من الماضي” لكوثر يونس، تتبع المخرجة مواحل الرحلة التي تقوم بها مع والدها إلى إيطاليا لتبحث معه عمن كانت حبيبته قبل ثلاثة وثلاثين عاماً.

“سلطة بلدي”: عائلة من الحكايات
كاميرا ڤيديو، مخرجة مصرية، طفل دون العاشرة (ابن الأخت)، أبوان ماركسيان (نائلة وسعد كامل) وتاريخ من النضال السياسي، أم متعددة الجذور العرقية والدينية، صور فوتوغرافية عائلية ومهنية بالأبيض والأسود، وثائق ميلاد باللغة العربية تحمل
أسماءً غربية، قصص حب عابرة للديانات، وثائق تغيير اسم وملة، أقارب في مدن متباعدة، أصدقاء ونسباء خلف جدار العزل، أقارب في مدينة الاحتلال، حدود جغرافية، جغرافيا سياسية، سياسة الحواجز، أسلاك شائكة، موضوعات شائكة... خمسة أعوام من التصوير، ومائة عام من الحكايات.
يندرج فيلم “سلطة بلدي” تحت فئة الفيلم العائلي، الذي هو قريب من الأفلام الوثائقية الذاتية، إذ يتناول سيرة عائلة مؤلفته ومخرجته، نادية كامل، كما يحمل إلى حدٍ ما بعض السمات الشكلية للأفلام العائلية (صور مهتزة، كادرات لصور غير مكتملة، زوايا تصوير غير معتادة، تكوينات غريبة، حركة متصلة للكاميرا دون قطع لإظهار أكثر من شخص داخل لقطة، تداخل أصوات تأتي من داخل ومن خارج المجال البصري...). لكنه مع ذلك لا يبدو كمنتج سينمائي « بلا ذيل ولا رأس، بلا بداية ولا نهاية » مثل فيلم عائلي يقوم بإخراجه هاوٍ عن أفراد من عائلته، أو عن أحداث مرتبطة بتاريخ هذه العائلة، حيث تتوجه فيه “أنا” (المخرج) إلى “مجموعة” (العائلة)، ولا تخرج مشاهدته عن دوائر العائلة. جوهر الاختلاف بين “سلطة بلدي” والفيلم العائلي التقليدي هو وجود بناء سردي له ينطلق من لحظة خلفت أثرها على مخرجته، فجاءت سديته كرد فعل لتلك اللحظة.

(1)
منذ دقائق الفيلم الأولى، تعبر المخرجة والراوية الرئيسية بصوتها آتيا من خارج الحيز الفيلمي عن همٍ شخصي، وسرعان ما يتكشف للمشاهد أن هذا الهم هو ما سيتحول إلى دافع ذاتي للمخرجة لتصوير الفيلم. ينطلق السرد من لحظة شعور الأخيرة بـ “خطورة” أن يتشكَّل وعي ابن اختها الطفل “نبيل” تأثرا بالخطاب الديني السائد لدى العديد من أئمة المساجد، الذي سمعه الطفل من إمام المسجد الذي أدى فيه صلاة العيد للمرة الأولى، والذي ينتهي بالدعاء إلى الله لإنقاذ « الأمة الإسلامية » من « الأعداء الذين يتربصون بها » (من غير المسلمين)، خطاب اعتادت المخرجة على سماعه يتردد على لسان أناس آخرين « من كل دين ومن كل ملة »، خطاب يعتبر الآخر، المغاير، والغريب، عدوًا. يصاحب صوت المخرجة-الراوية لقطات متعاقبة تظهر رجالا مسلمين يؤدون صلاة العيد، ثم جموعا من النساء والرجال بعد أداء الصلاة وهم يملأون شوارع القاهرة، وبطبيعة الحال يبدو المشهد لأفراد ذوي هوية واحدة (كل النساء مرتديات الحجاب). يستدعي شعور المخرجة بالقلق من تداعيات هيمنة الفكر الذي يعتبر الآخر مصدر تهديد، نماذج أخرى لتقبل الآخر، بل ولإقامة علاقات إنسانية وثيقة وممتدة على مدى عقود من الزمن مع الآخر. من أين تأتيها هذه النماذج؟ من الحكايات، تلك التي دأبت جدة المخرجة على قصِّها عليها في طفولتها، حكايات نشأة عائلتها من تآلف أشخاص من أصول عرقية وديانات متباينة. يبدو الأمر وكأن المخرجة تجد في الحفاظ على تلك الحكايات واستمرارية تناقلها من جيل لآخر داخل عائلتها وخارجها ضربا من ضروب “مقاومة” الخطاب الداعي لانغلاق أفراد كل جماعة (دينية/عرقية/إلخ.) على ذاتهم. وتأتي كلمات بصوت مخرجته في بداية الفيلم ملخصة للنموذج السردي الذي ستتبعه: تعدد الحكايات داخل حكاية جامعة من جهة، وموضحة للدافع وراء قرارها ببدء العمل في الفيلم من جهة أخرى:
« قلبي انقبض.
افتكرت أن أنا لما كنت قد نبيل، جدتي كانت بتحكي لي الحواديت، حواديت الأغراب اللي اتقابلوا، وبعدين حبوا بعض، وبعدين بقوا جدودي وأمي وأبويا... لو الحواديت دي ما اتحكتش، هتفطس في القبور...
فأخدت الكاميرا وبدأت أستقبل فيلم. »
إذن، تستحضر الذات المخرجة بصوتها كراوية من ذاكرتها صورة غير مادية من تجربتها الذاتية كطفلة: جدتها وهي تقص عليها الحكايات. ثم تقوم في اللقطة التالية بإعادة انتاج هذا النموذج الحكائي التقليدي الذي يعتمد عليه السرد الفيلمي والذي يعيد الحكايات إلى الحياة، ولكن هذه المرة عبر مادية جسدي الجدة “نائلة كامل” والحفيد “نبيل” ومادية وسائط الصور الفوتوغرافية والوثائق الرسمية وكاميرا الڤيديو التي تسجل الصور والأصوات. وتتوالى مشاهد الجدة الراوية الثانوية للحفيد كوحدة بصرية ستتكرر بأشكال متنوعة، حين يبدأ أفراد آخرون من العائلة (من مدن في مصر، إيطاليا، فلسطين، وتحت الاحتلال الإسرائيلي) بدورهم بإضافة أو إكمال أجزاء من الحكايات، بحيث يبدو مولد السرد الفيلمي هو إعادة الحكايات القديمة لحفظها من السقوط في النسيان برحيل أبطالها، أو قاصيها.
ومن الناحية البصرية، قبل بدء أول مشهد من حكاية الحكايات (لقطة 3)، في لقطة قصيرة للغاية ولكنها مؤسسة لعلاقة المخرجة بالفيلم العائلي الذي يتتبع سيرة عائلتها، تسجل الذات المخرجة اللحظة التي أخذت فيها الكاميرا لتبدأ في صناعة فيلمها. يأتي صوتها كراوية رئيسية من خارج الحيز الفيلمي، ويصاحبه ظهور خاطف لصورتها المادية، إذ يظهر جزء من جذعها في مقدمة لقطة قريبة، بينما تنعكس في خلفيته صورة يدها الممسكة بالكاميرا الخاصة بها في مرايا خزانة ملابس (لقطة 1)، في حجرة ممتلئة بأوراق وصناديق صغيرة تبدو كمساحة مخصصة للعمل داخل المنزل، ونسمعها تقول: « وبدأت أستقبل فيلم. ». ثم يظهر “نبيل” في لقطة متوسطة نراها عبر كاميرا ذاتية تقف خلفها المخرجة، وقد بدأت بالفعل في « استقبال فيلم »، فيسمعها المشاهد تجيب بصوتها من خارج المجال البصري على سؤال الطفل، موجهةً إياه بحمل الصورتين الفوتوغرافيتين اللتين يمسكهما إلى الجدة لكي تختار واحدة منهما (لقطة 2). بعد ذلك، تظهر الجدة جالسة أمام طاولة على سطحها مجموعة من الصور الفوتوغرافية، وقد أمسكت بإحدى الصور (لقطة 3) لتبدأ الرحلة من الحاضر الحكائي السمعي-البصري، في غرفة المعيشة بالقاهرة في بداية القرن الواحد والعشرين، وبحضور الابنة المخرجة والزوج والحفيد، للإبحار في الماضي المحكيّ سمعيا على لسان من عاصروه وبصريا عبر الوسيط الفوتوغرافي، ليس كأثر باقٍ وشاهد على الحكايات بعد رحيل أبطالها فحسب، بل وكذلك كوسيط مادي مولد للفعل الحكائي. لذلك تعتبر اللقطتان السابقتان (1 -2) جزء من عقد الفيلم إذ تبدو الذات المخرجة وكأنها تقدم فيهما سمعيا وبصريا دورها في تأليف ووضع البناء السردي لفيلمها العائلي.

(2)
على مدى أكثر من ساعة ونصف وهي مدة الفيلم، لا تبدو الذات المؤلفة-المخرجة فردا من العائلة يقف خلف الكاميرا ليسجل حكايات سيرة عائلتها فحسب، بل وكذلك تبدو كذات مشاركة في مولدات الحكي (عبر الأسئلة التي تطرحها على والدتها، وعبر الوسيط الفوتوغرافي الذي تستدعيه في جلسات غزل الحكايات، ووسيط الڤبديو الذي تستخدمه في السرد البصري)، كما تبدو أيضا ذات فاعلة بشكل مؤثر في مجرى الأحداث على المستوى الحكائي وعلى مستوى المحكي في الفيلم.
بعد جلسة الحكي الأولي، تظهر لقطة مقربة جدا لورقة من دفتر دونت عليها الجدة بخطها قائمة بأجزاء عائلتها وعائلة زوجها المختلفة والأماكن التي يقيمون بها (لقطة 4). تبدو الورقة كوسيط يجمع على سطحه شتات من تفرقوا من أفراد العائلة الكبيرة، ولم يعد يمكن أن يجمعهم في حيز واحد سوى عالم الذاكرة الافتراضي، والذي تُنتج في الذكريات قبل وأثناء الحكايات الشفاهية. فيما بعد، سيصبح الفيلم ذاته كوسيط امتدادا لهذه الورقة حيث استطاع أن يجمع في مادته السمعية-البصرية صور وأصوات من لازالوا على قيد الحياة وصور فوتوغرافية وڤيديو لمن غادرا عالمنا. ومن الجدير أن أشير أن في لقطة مقربة جدا لجزء من الورقة، يمكن قراءة السؤال الذي لم تطرحه ا”نائلة كامل” عبر مادية صوتها، واكتفت في بادئ الأمر بطرحه خطيا بتدوينه، فأضافت بعد أسماء أقاربها في تل أبيب سؤالا وجوابا: « ممكن؟ مش ممكن الآن. (لقطة 5).
ثمة تحول فيما بدا وكأنه هدف الفيلم: حكي الحكايات، وفيما بدا وكأنه النموذج الحكائي الذي سيتتبعه الفيلم: تجلس الجدة لتقص على حفيدها حكايات الآباء والأجداد. إذ يجد المشاهد أمامه “هدفا” جديدا: اصطحاب الجدة حفيدها وأفراد أسرتها للقاء بعض أقاربها في إيطاليا، فيبدو الأمر كما لو أن انغماس الجدة في الفعل الحكائي الاستيعادي منذ بداية الفيلم قد ولَّد ليها هذه الرغبة، والتي يبدو تحقيقها في السياق الفيلمي سهلا لدرجة أن المشاهد لا يرى من الاستعداد لها سوى لقطات للأسرة وهي متجهة إلى المطار وبعض اللقطات لهم في صالة المغادرة وداخل الطائرة، بينما تعبر الجدة بصوتها عن تلك الرغبة:
« في حدود اللي أقدر عليه، مش عاوزة أسيب الوقت يفوت، ومش عاوزة أقول: بكرة. يعني دلوقتي دلوقتي، عايشة في ذهني إني أخد نبيل إيطاليا، مع كل الناس اللي بحبهم. »
ومن ثمَّ يجد المشاهد نموذجا حكائيا جديدا حيث يظهر في الفيلم رواه آخرون، من إيطاليا، من فلسطين، يجلس كل منهم ليروي جزءا من الحكايات من زاوية جديدة، ولكنهم لا يحكونها لـ “نبيل”، إنما لنادية كامل ذاتها، وهم ينظرون إليها عبر الكاميرا الذاتية التي تقف خلفها، مستمعة في صمت في أغلب الأحيان، وطارحة بعض الأسئلة على محدثيها في بعض الأحيان.
وعندما تمتد رغبة الجدة في لقاء أفراد عائلتها لتشمل أقارب لها هاجروا منذ نصف قرن إلى تل أبيب واستقروا بها، يبدأ السرد الفيلمي في تتبع تطلعها في حاضر السرد إلى لقاء أقاربها في مستقبل قريب، أقاربها الذين ظلوا لمدة خمسين عاما جزءا من الماضي المحكي، قبل أن يعيدهم لقاؤها بهم إلى عالم حكايات العائلة. في سياق سياسي شديد الحساسية لمجرد فكرة وجود أقارب للأم في إسرائيل، بل والإعلان عن رغبتها غي السفر للقائهم، لا تكتفي المخرجة بالوقوف خلف الكاميرا الذاتية لعرض المواقف المتباينة لبعض الأطراف، والتعبير سمعيا-بصريا عن موقفها، بل تتحرك في السياق الفيلمي بين موقعيها: خلف الكاميرا (كذات مؤلفة-مخرجة تقوم بمعالجة سينمائية لأحداث تاريخ عائلتها الماضية)، وأمام الكاميرا (كذات الابنة المشاركة في أحداث قصة عائلتها في اللحظة الحاضرة، المتزامنة مع زمن السرد الحاضر وزمن التصوير). يتجلى تفاعل الذات المخرجة مع إشكالية رغبة الأم في السفر إلى تل أبيب عبر أربعة طرائق سردية سمعية-بصرية. (1) فمن ناحية تتابع المخرجة بالكاميرا استعداد الأم وتخطيطها للرحلة (في سلسلة من اللقطات، تظهر الأخيرة وهي تراجع خرائط فلسطين بعد الاحتلال ؛ تفكر في الصعوبات المتوقعة ؛ تتخيل مشاعرها عند لقاء ابنة عمها ؛ تقترح على أشخاص مقربين من العائلة من أصول فلسطينية مرافقتها في الرحلة مثل المصورة الفوتوغرافية رندة شعث ؛ تستمع إلى رأي من صديقة فلسطينية تشجعها على القيام بالرحلة والسعي جديا لزيارة خان يونس، مجسدة بذلك رأي معارض للموقف الشعبي المصري الرافض للتطبيع، إلخ.). (2) كما تقدم المخرجة دعمها لوالدتها من خلف الكاميرا الذاتية عبر لقائها ببعض الأقارب الذين نراهم في لقطات متوسطة تسجل ردود أفعالهم وآرائهم بخصوص هذا الشأن، كما تشاركهم الحديث بصوتها من خارج المجال البصري مبديةً تفهمها لتحفظات كل طرف. (3) ومن ناحية أخرى، تغادر المخرجة مؤقتا موقعها خلف الكاميرا كمؤلفة وراوية رئيسية للفيلم لتظهر في سياق الفيلم العائلي كأحد أفراد الأسرة، وكمحركة للأحداث باتجاه تنفيذ رغبة الأم، فتبدو في أكثر من لقطة متوسطة جالسة تتشاور مع والديها بشأن صعوبة اتخاذ القرار، ووجوب البدء في اتخاذ الاجراءات اللازمة لتنفيذه. (لقطة 6) (4) وحين تعود إلى مكانها خلف الكاميرا، تقوم الذات المخرجة بدور الراوي العليم إذ تتطرق للمرة الأولى في الفيلم إلى مشاعر والدتها، فعبر سلسة من اللقطات المتوسطة، والمقربة، والمقربة جدا، تتابع المخرجة قيام والدتها بالأنشطة المنزلية اليومية، وفي ذات الوقت انشغالها بمراجعة مقالاتها التي عبرت فيها على مدى أعوام عن موقفها الداعم للقضية الفلسطينية، وتصاحب هذه اللقطات بصوتها شارحة ما تعتقد بأنه يؤرق والدتها ومستعرضة جانبا مما دفعته والدتها في الماضي كثمن لنضالها السياسي (لقطة 7-8):
« بيتهيألي كده أنا عارفة إيه اللي تاعبها.. صحيح فيه خوف اتراكم مع السنين، لكن فيه حاجة أصعب من الخوف ده. [...] ماما دي دخلت السجن تلات مرات، وقضت سبع سنين من عمرها فيه عشان شيوعية. فأظن كده أنها خايفة تكون بتتخلى عن الفلسطينيين. »
أما خلال زيارة أقارب الأم في تل أبيب، تظل المخرجة خلف الكاميرا الذاتية التي يرى المشاهد من خلالها اللقاءات الأسرية بعد أن صار الحدث المحوري المحكي هو اللقاء المتأخر، فيختفي حينئذ الفارق بين زمن السرد وزمن الحكاية. وحين يتخلل اللقاءات حكي شفاهي استيعادي لأحداث من الماضي على لسان الأشخاص الذين تجمعهم بالأم ذكريات مشتركة، يتم ذلك عبر مادية أجسادهم الحاضرة في لحظة السرد، وعبر مادية الوسيط الفوتوغرافي كأثر، فتصبح تلك اللحظة فصلا جديدا لم يكن في الحسبان، أُضيف إلى حكايات العائلة، وأضافته المخرجة إلى حكايات الفيلم، حكايات جديدة سرعان ما ستتحول إلى ذكريات حديثة.
على الرغم من اشتباكه مع قضية سياسية قد تثير مشاعر الألم أو الغضب لدى قطاع من المناهضين لقوات الاحتلال الإسرائيلي والمعارضين للتطبيع مع دولة إسرائيل، إلا أن هذا الاشتباك يبدو في السياق الفيلمي طبيعيا نظرا للتنوع الشديد لجذور هذه العائلة العرقية والدينية. وعلى الرغم من أن “راوية الحكايات” فيه هي الصحفية والمناضلة اليسارية والنسوية “نائلة كامل” (ماري روزنتال)، زوجة الصحفي والكاتب والمناضل اليساري “سعد كامل”، إلا أن “سلطة بلدي” يتميز كفيلم عائلي بأن مخرجته ومؤلفته ظلت متتبعة خيط حكايات اللقاء والحب والزواج التي جمعت بين أفراد من عدة أجيال عائلتها من جنسيات وديانات مختلفة، ولم تقحم في العالم الفيلمي قضايا وشخصيات من خارج دوائر العائلة، وخاصة من دوائر المشتغلين بالسياسة. فالمشاهد يستشعر أثر التاريخي على الشخصي والعائلي ولا يراه سوى في خلفية الأحداث. أما ما يحتل مقدمة المشهد هو حكايات العائلة وتفاصيل عابرة في الحياة اليومية للعائلة. إذ تملأ العالم الفيلمي بصريا تجلياتها لأجواء البيت الحميمية: ظهور الأبوين بملابس النوم، زجاجات الدواء والأكواب الفارغة الموضوعة على أسطح المناضد الصغيرة، أكوان من الأوراق والأغراض المتكدسة في أركان الحجرات، لقطات في المطبخ القديم بأوانيه التي تركت سنوات استخدامها أثرها عليها، ومشاهد اعداد الطعام وتناول الطعام، بكل ما يحمل مشاركة الطهي من ألفة وبهجة، وما تحمله مشاركة أحدهم الطعام من حميمية. لذلك أرى أن علاوة على كون عنوان الفيلم يحمل استعارة عن الخلط والمزج بين عناصر متباينة داخل منتج جامع لا يمحو مع ذلك الخصائص الشكلية لمكوناته، فهذا العنوان يحمل قدرا من الألفة التي تستحضر أجواء طعام البيت.
ثمة مفارقة لافتة في الانتاج الوثائقي الذاتي في السينما المصرية، فعلى الرغم من أن الفيلم العائلي هو الجد الأكبر للفيلم الوثائقي الذاتي، وعلى الرغم من هيمنة ثقافة الجماعة على حرية الفرد، إلا أن حجم إنتاج الأفلام الشخصية الوثائقية الذاتية في مصر يفوق عدد الأفلام العائلية. هل احتياج المخرج لعمل فيلم شخصي هو رغبة واعية منه كفرد في تشكيل ذاته بعيدا عن سطوة العائلة؟ هل إبحاره منفردا في عالمه الشخصي أقل وطأة من دخوله إلى عالم العائلة؟
نشرت لقطات من الفيلم بموافقة مخرجته ومنتجته نادية كامل.

هوامش
موضوع هذا المقال جزء من دراسة للكاتبة عن السينما الوثائقية الذاتية في مصر والبلدان العربية، مازالت قيد البحث.
يُمكن مشاهدة هذه الأفلام القصيرة العشرة على موقع معهد لوميير Institut Lumière من خلال الرابط التالي: www.institut-lumiere.org/musee/les-freres-lumiere-et-leurs-inventions/premiere-seance.html
مجلة “الفيلم”، “السينما والأدب”، العدد العاشر، مارس 2017، ص. 26-29.
من مقال لـ: Yann Beauvais et Michel Bouhours, « Le Je à la caméra »، المنشور في: Le je filmé, Éditions du Centre Pompidou, Paris, 1995، ص. 1991.
من مقال لـ:Roger Odin, « Du film de famille au journal filmé » ، المنشور في المرجع السابق؛ هذا المقطع والمقاطع التالية من ترجمة الكاتبة.
من مقال لـ: Annick Peigné-Guly, « Dans la famille Lumière, je demande film »، المنشور في: Images documentaires, n° 21, 2e trimestre, 1995، ص. 35.

 
 
 

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات