كمال الشيخ.. وعالم نجيب محفوظ

جميلة ويفي 05 يناير 2019 كمال الشيخ الهارب من ظلة

الكاتب : جميلة ويفي
بين عشرات الأفلام التى قدمها المخرج الكبير كمال الشيخ، منذ بداية تاريخه السينمائى كمخرج عام 1952 بفيلمه الشهير (المنزل رقم 13) إلى فيلمه الأخير (قاهر الزمن ) عام 1987 ــ استوقفنى فيلمان من أهم أفلامه فى نظرى، ليس فقط لأهميتهما السينمائية، ولا لأنهما مأخوذان عن روايتين لأديبنا الكبير نجيب محفوط، بل لأن كمال الشيخ استطاع فى هاتين التجربتين أن يضيف لعالم نجيب محفوظ وأن يختلف كثيرا عن رؤى غيره من مخرجى السينما الكبار الذين قدموا عالم نجيب محفوظ على الشاشة الفضية مثل: صلاح ابو سيف، حسن الامام، وحسام الدين مصطفى.


، و لقد كان التعاون بين كمال الشيخ و نجيب محفوظ من خلال ثلاثة افلام الأول فيلم اللص و الكلاب عام 1962 ــ والثانى فيلم ميرامار عام 1969 ــ أما التجربة الثالثة لم تكن مأخوذة عن رواية لنجيب محفوظ بل كان فيلم بئر الحرمان عام 1969 المأخوذ عن رواية للكاتب إحسان عبد القدوس، ولكن أضاف نجيب محفوظ رؤية سينمائية مختلفة للرواية و كتب اسمه على الفيلم الإعداد السينمائي نجيب محفوظ.

اللص و الكلاب ( طابع بوليسى و حس تشويق ) :
لقد أخذ المخرج كمال الشيخ رواية اللص و الكلاب إلى عالمه القائم على التشويق والحس البوليسى، فمنذ الوهلة الأولى ودون أى تمهيد سوف يضعك مباشرة فى قلب الحكاية دون استهلال مسبق، ففى اللقطة الأولى من الفيلم نرى سعيد مهران فى السيارة بجانب عليش صديقه الذى سوف يخونه بعد ذلك، تحت بيت سعيد، بينما زوجة سعيد تنظر إلى عليش، ثم المشهد الثانى بمنزل سعيد، حيث يقومون بالاتفاق على عملية السرقة التى تسهلها لهم زوجة سعيد التى تعمل خادمة، و هنا تنكشف علاقة زوجة سعيد بعليش عندما يمضى سعيد بينما تنظر هى لعليش وتتحدث إليه بحميمية و تقول له (خد بالك من نفسك)، فيكشف المخرج من الوهلة الاولى عن طبيعة العلاقات والحادث الرئيسى الذى سوف يكون سببا فى تحريك جميع احداث الفيلم، وتتوالى الأحداث فى إطار من التشويق والإيقاع المتدفق السريع الذى تقوم الموسيقى التصويرية (لأندريا رايدر) بخدمته كتيرا، فيتدفق الإيقاع دون تمهل أو تأمل على غرار الأفلام ذات الطابع البوليسى الذى اعتاد وأصبح كمال الشيخ استاذا بها، ولكن الوضع هنا اختلف عن باقى أفلام كمال الشيخ ذات الطابع البوليسى، فرواية نجيب محفوظ بلا شك تدور حول سعيد مهران الذى أطلق عليه السفاح فى حقبة الستينيات، وقام بارتكاب جرائم قتل، لكن نجيب محفوظ لم يكتب مجرد رواية بوليسية عن سفاح شهير! فالرواية تضع المجتمع بسلطته ومؤساساته داخل قفص الاتهام مكان سعيد، بل تضع القدر أيضا فى رؤية وجودية للعالم و للكون، هذة النظرة الوجودية التى تميل للعدمية فى أحيان كثيرة قد عكسها نجيب محفوظ فى أكثر من عمل روائى لديه على سبيل المثال (الطريق)، فهذة الرؤية ترى أن الانسان يمضى نحو قدر محتوم يبحث دائما طوال الرحلة عن الخلاص لكن يد القدر الغاشمة فى أغلب الأحيان ما تودى به إلى هلاكه مهما حاول النجاة، مثلما أودى القدر والظروف التى تمثلت فى الظلم وعدم العدل الاجتماعى بهلاك سعيد مهران .. فلقد حافظ كمال الشيخ بصفته المخرج ومشتركا ايضا فى كتابة السيناريو للفيلم مع السيناريست ( صبرى عزت ) على هذه الرؤية والمضمون الاساسى للرواية دون اى خلل، لكنه جعل ذلك داخل إطار من التشويق كما سبق و ذكرت، فجعل دافع الانتقام هو المحرك لجميع أحداث الفيلم منذ رغبة سعيد فى الانتقام من زوجته وعليش إلى رغبته فى الانتقام من رؤوف علوان، كما خدمت علاقته ( بنور) فتاة الليل، هذا الطابع البوليسى للفيلم، فقد كانت نور التى لعبت دورها (شادية) ببراعة محركا لهذا الخيط الرئيسى للانتقام، فهى فى البداية أثناء زيارتها لسعيد بالسجن لتخبره بخيانة عليش له، ثم بعد ذلك تساعده فى سرقة سيارة احدى زبائنها ميسورى الحال لكى يقوم بتنفيذ اولى جرائم قتله، وعندما يصبح إيقاع الفيلم على وتر مشدود يقوم المخرج بعمل أريحية للمشاهد Relief فتأتى مشاهد غرام نور وسعيد وتقوم بعمل هذه الاريحية ليشتد الإيقاع مرة أخرى ويتوتر.
كما كان لمرض نور استخدام درامى بوليسى أيضا يزيد من التوتر، فيمهد السيناريست لمرض نور منذ النصف الثانى من الفيلم إلى أن يأتى المشهد الذى يشتد فيه الألم بها فيذهب سعيد ليجلب لها الدواء و يكون ذهابه هذا سببا رئيسيا يؤدى إلى سقوطه و الإمساك به من الشرطة بعد ذلك.

فقر متأنق..
يدين نجيب محفوظ المجتمع والظلم الاجتماعى الذى كان سببا رئيسيا فى ارتكاب سعيد لجرائمه، لقد قدم لنا المخرج كمال الشيخ هذه الرؤية لكن بشكل متأنق، فرؤيته للفقر بعيدة عن الشكل الواقعى مثلا الذى عكسه المخرج صلاح ابو سيف لرواية( بداية و نهاية) لنجيب محفوظ التى كانت رؤيته اكثر واقعية ذات طابع يسارى متفقة مع ميول صلاح ابو سيف الأيديولوجية، أما المخرج كمال الشيخ لم يستغرق كثيرا فى مظاهر الفقر و لم يعكس هذا فى الديكور او الملابس للشخصيات، فقدم منزل سعيد او منزل نور على طراز بيوت مصر القديمة ذات الاثاث والشبابيك الأرابيسك التى تعكس أشعة من النور تضفى جمالا على المكان، ولم يستخدم الكتابة على الجدران أو يقدم جدرانا مشققة أو مليئة بالتصدعات، مثلما قدم صلاح ابو سيف ببداية و نهاية، لكن قدم كمال الشيخ صوره متأنقة، فقدم ملابس نور بشكل كاشف للجسد بطبيعة الحال يتفق مع مهنتها كعاهرة، لكنه يظل بعيدا عن شكل العاهرة الفقيرة التى قدمها مخرجون آخرون من عالم نجيب محفوظ مثل (ريرى) بالسمان والخريف، إخراج حسام الدين مصطفى أو (نفيسة ) ببداية و نهاية اخراج صلاح ابو سيف، لا نسطيع أن نقول إن هذا التأنق جاء منافيا للمحتوى الدرامى للعمل بل إنه يعكس رؤية خاصة لعالم كمال الشيخ، لم يكن هذا التأنق مقتصرا فقط على الديكور و الملابس بل كان منعكسا طوال الوقت من خلال التوازن التام داخل عناصر الكادر السينمائى، فكان التشكيل داخل الكادر يميل فى أغلب الأحوال إلى التوازن يصل أحيانا إلى (السيميترية) مع رسم مساحات من الظل و النور من خلال الضوء دون تحميل الإضاءة بغرض ذات دلالة او إشارة لشىء ما أو رمز، مثل أغلب مشاهد الزنزانة التى بها سعيد والتى خلق مدير التصوير (كمال كريم) مع المخرج كمال الشيخ طابعا تعبيريا من خلال خلق مساحات تشكيلية من النور و الظل داخلها أعطت طابعا جماليا بعيدا عن فكرة الدلالات أو المعانى الدرامية المباشرة.

الفيلم الأسود
نستطيع أن نطلق على فيلم اللص و الكلاب أحد أفلام الفيلم الاسود أو الفيلم نوار (NOIR)، وهو نوع من الافلام كان منتشرا بأمريكا فى ذلك الوقت، وقد تأثر به المخرج كمال الشيخ فى أكثر من عمل له، فهناك عدة عناصر أساسية للفيلم الأسود (NOIR) بفيلم اللص و الكلاب.

العنصر الأول الأظلام
وهو عنصر أساسى داخل الفيلم الأسود، وهو سبب إطلاق هذا المصطلح على هذه النوعية من الأفلام، فيميل فيلم اللص والكلاب أغلب الوقت للإظلام وخلق التباينيات الحادة بين الظل والنور، كما ذكرنا فى السابق.



العنصرالثانى.. (العاهرة)

وهى عنصر أساسى فى الفيلم الأسود، وفى الغالب تقوم بمساعدة البطل فى تحقيق جريمته أو غرضه، من المؤكد أن نور لم تكن مجرد عاهرة تقليدية داخل رواية اللص و الكلاب لكن استخدام كمال الشيخ لها ساعده فى إضفاء هذا الطابع البوليسى .

حس وجودى على لسان الشخصيات
لقد ذكرنا سابقا ان رواية اللص و الكلاب تحمل حسا فلسفيا وجوديا يميل إلى العدمية، ولقد عكس ذلك المخرج كمال الشيخ دون الاستغراق فى هذا الطابع الفلسفى، بل اكتفى بأن يعكس هذه الرؤية الفلسفية من خلال الحوار على لسان الشخصيات سواء سعيد، نور وأحيانا رؤوف علوان، مثل عندما يقول سعيد (محدش فينا عارف مين فينا الصياد! الحرامى ولا الكلاب!) أو على لسان نور ــ و التى تحمل فى شخصيتها إيمانا برغم عملها كعاهرة و ظروفها الصعبة ايضا ــ فتصيح لسعيد بالمشهد الأخير وهى تطلب منه أن يسلم نفسه قائلة: (خلى عندك إيمان يا سعيد) فيرد سعيد: (إيمان بمين ؟! بمحكمة رؤوف علوان؟!)، فمن الجمل الحوارية إلى نهاية الفيلم أيضا التى لم تختلف عن نهاية الرواية والتى تعكس بطبيعة الحال رؤية نجيب محفوظ لهذا الظلم الكونى والقدر المحتوم الذى يقع بسعيد نحو الهلاك، برغم رغبة سعيد فى النجاة، وينتصر الشر الممثل فى رؤوف علوان الصحفى الأفاق مع الوجه الآخر له السلطة الفاسدة.

ميرامار
بين اللص و الكلاب وميرامار الكثير من العوامل المشتركة، فبطبيعة الحال كلاهما مأخوذان عن رواية لنجيب محفوظ وكلاهما إخراج كمال الشيخ، فشخصية ( زهرة ) التى جسدتها شادية، الفتاة النازحة من الريف إلى الإسكندرية بعد ثورة يوليو 1952 لكى تعمل ببنسيون ميرامار، تراها من الوهلة الاولى فى اكثر الاماكن دلالة على زخم وزحام المدينة (التورماى) فتحمل زهرة فى طياتها مثل سعيد مهران الرغبة فى تغيير ظروفها الصعبة، فكلاهما نازح من الريف إلى المدينة وكلاهما قابل المثقف اليسارى الافاق، فرؤوف علوان لا يختلف كثيرا عن سرحان البحيرى، ولكن زهرة لم تلق نفس مصير سعيد.
لا نستطيع أن نطلق على فيلم ميرامار فيلما بوليسيا أو تشويقيا برغم عدم خلو الفيلم من الجريمة، فالجريمة هى العنصر الاساسى بأفلام كمال الشيخ، والجريمة هنا تلعب دورا كبيرا بالفيلم، لكن لا نستطيع أن نقول إنها الخط الأساسى للفيلم وهى جريمة سرقة سرحان للمصنع، و هناك جريمة اخرى ايضا وهى جريمة قتل سرحان الذى يبدو قتلا فى البداية و يعترف الماركسى (منصور باهى ) بقتله، لكن يتضح فى النهاية أن سرحان قد انتحر!، ولكن الموضوع هنا ليس جريمة قتل او انتحار إنما عن طريق هذه الجريمة يريد نجيب محفوظ والفيلم أن يعكسا هزيمة ذلك اليسارى الذى لا يقدر على شىء سوى أن يركل سرحان بضعة ركلات فشلت حتى أن تؤدى إلى موته، ما يعكس البعد السياسى للفيلم والرواية، و هى هزيمة اليسار بعد ثورة 1952، لم يقم السيناريست ممدوح الليثى الذى قام بكتابة سيناريو الفيلم بتغيير شىء من الرواية إلا شيئا واحدا أعتبره ليس هينا أو بسيطا، وهو الذي جعل من شخصية (طلبة رضوان) الاقطاعى السابق الذى أخذت الثورة جميع أملاكه والذى لعب دوره يوسف وهبى ، جعل الفيلم من هذه الشخصية شخصية اساسية نرى الاحداث و باقى الشخصيات عند تقديمهم لأول مرة من وجهة نظره ومن خلال تعليقاته اللاذعة التى تميل إلى خفة الدم والسخرية، على عكس الرواية التى كانت تروى طوال الوقت من خلال شخصية (عامر) الوفدى القادم من جيل ثورة 1919 والتى تنتصر لها الرواية، بينما تدين بشكل لاذع ثورة 1952، والذى لعب دور عامر بالفيلم الممثل الكبير عماد حمدى، فجعله أحيانا شريكا لطلبه التعليقات على باقى الشخصيات، لكن جاء هذا على غير الرواية، ولم يكن هذا عفويا، فلقد أراد كمال الشيخ مع السيناريست ممدوح الليثى أن يقوما بانتقاد ثورة 1952، لكن لغرض مختلف عن غرض الرواية، فرؤية الفيلم تميل للطبقية الى حد كبير ذات نظره يمينية لم يظهر ذلك فقط فى إبراز دور طلبة رضوان بل نهاية الفيلم والتى تختتم بآية قرآنية على لسان (عامر) (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تقسطوا الميزان)، والإشارة هنا بالآية إلى الميزان الطبقى الذى يفصل الطبقات وينتصر لعدم التداخل بين الطبقات، فتمضى زهرة مع بائع الجرائد الذى هو من طبقتها وبيئتها لتكمل حياتها، بينما يقرأ (عامر) هذه الآية.

لم تسقط زهرة مثلما سقط سعيد مهران، فزهرة فتاه طموح، تريد تغيير الظروف لكنها لم تخطئ ولم ترتكب جرائم، و بالتالى رأى نجيب محفوظ أنها لابد ألا تلقى نفس المصير، كما أن زهرة لا تحمل فى طياتها هذا الغضب الدفين تجاه المجتمع أو القدر، ولا تملك هذا الحس العدمى الذى كان يملكه سعيد، فلم ينجح المجتمع فى تحويل زهرة لضحية مثلما فعل بسعيد مهران.

"بئر الحرمان" و تعاون آخر بين كمال الشيخ ونجيب محفوظ
قدم المخرج كمال الشيخ فيلم (بئر الحرمان) المأخوذ عن رواية الكاتب إحسان عبد القدوس، وقام بكتابة سيناريو الفيلم السيناريست يوسف فرانسيس، كما قام الاديب الكبير نجيب محفوظ بإضافة رؤيته الخاصة للفيلم، وقام بالإعداد السينمائى له. فلم يكتف نجيب محفوظ برؤية إحسان عبد القدوس النفسية بل أضاف رؤيته التى أيضا تدين المجتمع والظروف التى لعبت دورا كبيرا فى تحويل ناهد بطلة الفيلم، التى لعبت دورها سعاد حسنى، إلى مريضة نفسية، فوضع أصابع الاتهام إلى والديها وإلى التربية الخاطئة والمجتمع الذى ساهم فى إظهار هذا الجانب المظلم لناهد.
وعلى عادة كمال الشيخ وضع هذه الرؤية داخل إطار من التشويق و الإثارة، برغم تناوله هنا موضوعا يطلق عليه (موضوعا نفسيا)، فاستخدم القطع السريع والموسيقى الزاعقة أغلب الاوقات، وجعلنا نحن كمشاهدين نعرف ما تمر به ناهد وأن ناهد هى ميرفت، ولكن اضطرابها النفسى يجعلها تسقط فى علاقات عابرة عبثية فى المساء داخل إطار شخصية (ميرفت)، بينما تستيقظ صباحا وتصبح ناهد الفتاه المتحفظة الخجول.. لقد جنب المخرج كمال الشيخ مع كاتب السيناريو يوسف فرانسيس معرفة ناهد بأمر مرضها طوال الفيلم لخدمة هذا الحس التشويقى، لجعل المتفرج مشدودا متسائلا منتظرا معرفة ناهد بأمر مرضها!

ولقد استخدم كمال الشيخ أيضا الموسيقى ذات الطابع النفسى والتى تميل إلى الغرابة والغموض عند دخول ناهد لشخصية ميرفت، ما أضاف طابعا من التشويق والغموض، بالإضافة إلى الطابع النفسى الأساسى للفيلم.


التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات