الكاتب : ترجمة: أحمد زغلول الشيطي
بعد مائة عام من السينما، تبدو كما لو كانت تمتلك شكل دورة الحياة: الميلاد الحتمي، التراكم الثابت للأمجاد ثم بداية عقد من الهبوط المزري الذي يصعب تجنبه، هذا لا يعني أنه لا يمكنك التطلع بعد الآن إلى أفلام جديدة تستطيع احترامها، لكن لا يجب أن تكون هذه الأفلام مجرد استثناءات فقط - وهذا صحيح بخصوص التحققات العظيمة في أي فن، ينبغي على هذه الأفلام أن تكون اختراقات مؤكدة للمعايير والممارسات التي تحكم صناعة السينما الآن في كل مكان في العالم الرأسمالي، أو ما سوف يكون رأسماليًّا، أي يمكنك القول في كل مكان، غير أن الأفلام العادية التي صنعت ببساطة من أجل الترفيه، أي لأغراض تجارية، هي غبية على نحو مذهل، الغالبية العظمى تفشل بطريقة ساخرة وبشكل فاضح في اجتذاب جماهيرها المستهدفة، بينما غاية الفيلم العظيم الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن يكون إنجازًا فريدًا في نوعه، نجد أن السينما التجارية قد استقرت على سياسة أفلام الإنتاج الضخم، المشتقة من تجارب سابقة، أو الاستناد على فن الخلط وإعادة الدمج الوقح، على أمل استنساخ نجاحات الماضي، لقد بشرت السينما يومًا أنها فن القرن العشرين، على أنها تبدو الآن مع قرب إغلاق القرن عدديًّا، لتكون فنًّا منحطًّا.
ربما لم تكن السينما هي التي انتهت، لكن فقط الولع بالسينما Cinephilia اسم لنوع محدد للغاية من الحب ألهمته السينما، كل فن ينتج المتعصبين له، غير أن الحب الذي أوحت به السينما كان استثنائيًّا. لقد ولِدت بإيمان راسخ أن السينما كانت فنًا لا يشبه أي شيء آخر: حديثًا بشكل جوهري، متميزًا، سهل الوصول إليه، شاعريًّا وغامضًا، مثيرًا وأخلاقيًّا، كان كل ذلك في نفس الوقت، كان للسينما رسل (مثل الدين) كحملة صليبية، لأجل الشغوفين بالسينما Cinephiles غطت الأفلام كل شيء، كانت السينما - على حد سواء - كتابًا للفن، وكتابًا للحياة.
كما لاحظ الكثير من الناس، كانت بداية صناعة السينما منذ مائة عام مضت بداية مريحة، تقريبًا، في العام 1895 صُنع نوعان من الأفلام، صيغتان لما يمكن أن تبدو عليه السينما لتبرز: نَسْخ الحياة الواقعية كما هي (الأخَوان لوميير) والسينما كاختراع، حيلة، وهم، خيال (جورج ميليه)، لم يكن هذا تعارضًا حقيقيًّا. بيت القصيد بالنسبة إلى أولئك المشاهدين الأوائل هو النسخ الفائق للواقع الأكثر عادية - صور "الأخَوان لوميير"، وصول القطار إلى محطة «لاسيوتات» - كانت خبرة عظيمة، بدأت السينما بالعجائب، وكان العجب في القدرة على نسخ الحقيقة الواقعية بشكل فوري، إن السينما بالكامل هي في هذه المحاولة لإبقاء الإحساس بالعجب وإعادة ابتكاره.
كل شيء في السينما يبدأ بتلك اللحظة، قبل 100 عام، حين دخل القطار إلى المحطة، حمل الناس الأفلام إلى داخلهم، فقط، عندما صرخوا جراء الإثارة، محاولين فعليًّا تفادي القطار حين بدا أنه يتحرك باتجاههم، قبل أن يفرغ ظهور التليفزيون دور العرض أمكنك أن تتعلم (أو تحاول أن تتعلم) من خلال الزيارة الأسبوعية للسينما كيف تمشي، وتدخن، وتقبِّل، وتقاتل، وتحزن، أعطتك الأفلام أسرارًا حول كيف يمكنك أن تكون جذابًا، على سبيل المثال: مظهر جيد أن ترتدي معطف مطر حتى عندما لا يكون هناك مطر.
ولكن أيًّا كان ما أخذته إلى البيت، هو فقط جزء من الخبرة الأكبر لإغراق نفسك في حيوات لم تكن لك، الرغبة في فقدان ذاتك في حياة الآخرين .. تواجهها، هذا أكثر اتساعًا، وأكثر شمولًا من الرغبة المجسدة في تجربة الفيلم، كان حتى أكبر مما هيأت نفسك له، وكان هو تجربة الاستسلام، لتكون محمولًا على ما يجري على الشاشة - أنت أردت أن يتم اختطافك من قبل الفيلم - ولتكون مختطفًا يعني أن تكون مأخوذًا بالحضور الفيزيائي للصورة، الخبرة في «الذهاب إلى السينما» هي جزء من ذلك، لتشاهد فيلمًا عظيمًا فقط على التليفزيون لا يعني أنك حقًّا شاهدت هذا الفيلم، لا يتعلق الأمر فقط بالسؤال حول أبعاد الصورة: التباين بين صورة أكبر حجمًا منك في السينما، والصورة صغيرة الحجم في صندوق بالمنزل.
شروط إعارة الانتباه في البيئة المنزلية تنطوي على عدم احترام جذري للفيلم، الآن لم يعد للفيلم حجم قياسي، ومن ثم يمكن للشاشات المنزلية أن تكون كبيرة بحجم حائط غرفة المعيشة أو غرفة النوم، لكنك تبقى في غرفة المعيشة أو غرفة النوم، ليتم اختطافك، ينبغي عليك أن تكون في دار العرض، جالسًا في الظلام بين مجهولين غربا، لن يستعيد أي مقدار من الندم الطقوس التي تلاشت - الإثارة والتأمل - في قاعة السينما المظلمة.
إن إنتاج السينما لصور العنف، والتلاعب غير المبدئي بالصور (القطع الأسرع، والأكثر سرعة) لتجعلها أكثر جذبًا للاهتمام، أيضًا أنتجت سينما فارغة، خفيفة الوزن، لا تستلزم الاهتمام الكامل لأي شخص، تظهر الصور الآن في أي حجم وبتنوع في الأسطح: على الشاشة في المسرح، وعلى حائط الديسكو، والشاشات الكبيرة في الساحات الرياضية، لقد قوض بثبات الوجود الحر للصور المتحركة المعايير التي امتلكها الناس يومًا من أجل السينما كفن، والسينما كترفيه شعبي.
في السنوات الأولى، لم يكن هناك فارق بين كل من هذين الشكلين - وكل أفلام عصر السينما الصامتة - من روائع فويلاد، وديفيد جريفيث، ودزيجا فيرتوف، وبابست، ومورنو، وكنج فيدور إلى أكثر صيغ الميلودراما والكوميدي شهرة - التي تتميز بمستوى جودة فارق بالمقارنة مع أكثر الأفلام التالية للمرحلة.
مع مجيء الصوت، فقدت الصورة الكثير من تألقها وشاعريتها، وضاقت المعايير التجارية، هذه هي الطريقة في صناعة الأفلام - نظام هوليوود - هيمنت على صناعة الأفلام حوالي 25 سنة (تقريبًا من 1930-1955) أكثر المخرجين أصالة مثل إريك فون ستروهايم، وأورسون ويلز وغيرهما هُزموا بواسطة النظام، وأخيرًا لجأوا إلى منفى فني في أوروبا - حيث تقريبًا معيار الجودة نفسها - نظام الهزيمة، وبميزانيات أقل. في فرنسا وحدها، كان يوجد رقم كبير من الأفلام الفاتنة، صنعت طوال هذه الحقبة، تاليًا، في منتصف الخمسينيات، بدأت الأفكار الطليعية في الانتشار من جديد، وتجذرت كمثل أعلى في السينما كصنعة رائدة، وذلك بواسطة الأفلام الإيطالية زمن ما بعد الحرب مباشرة، عدد رائع، مبتكر، عميق، من الأفلام صنع بأعلى مستويات الجودة.
خلال مئة عام من تاريخ السينما، كانت لحظة مميزة هي الذهاب إلى السينمات، التفكير في الأفلام. أصبح التحدث حول الأفلام شغفًا بين طلاب الجامعة، والشباب عامة. أنت وقعت في الحب ليس فقط مع الممثلين، ولكن أيضًا مع السينما ذاتها. الشغف بالسينما Cinephilia أصبح ظاهرًا لأول مرة في الخمسينيات بفرنسا: كان منتداها مجلة الفيلم الأسطورية كراسات السينما Cahiers du Cinema (وقد تبعتها مجلات مشابهة، ومتقدة الحماس في ألمانيا، وإيطاليا، وبريطانيا العظمى، والسويد، وكندا). حالما انتشرت محافلها خلال أوروبا والأمريكتين كان هناك الكثير من أرشيفات الأفلام Cinematheques ونوادٍ متخصصة في الأفلام التي تنتمي إلى الماضي، وكذلك في استعادة أفلام المخرجين وفق تسلسلها الزمني، كانت الستينيات وأوائل السبعينيات عصر حُمى الذهاب إلى السينما، وكان المولعون بالسينما يأملون دائمًا بالعثور على مقعد قريب قدر الإمكان من الشاشة الكبيرة، كان منتصف الصف الثالث هو دائمًا المكان المثالي، «لا يمكن للمرء أن يعيش بدون روسيليني» هكذا صرحت شخصية في فيلم «بيرتولوتشي» «قبل الثورة» وهي تعني ذلك.
ثمة خمسة عشر عامًا، كانت تظهر خلالها روائع جديدة كل شهر. على أي نحو تبدو المرحلة الآن؟ بدون أي شك، هناك دائمًا صراع بين السينما كصناعة، والسينما كفن .. السينما كروتين، والسينما كتجريب .. لكن الصراع لم يكن ليعني استحالة صنع أفلام مدهشة، أحيانًا داخل، وأحيان أخرى خارج تيار السينما السائدة، الآن رجحت كفة الميزان على نحو قاطع لصالح السينما كصناعة، السينما العظيمة في الستينيات والسبعينيات تم التنكر لها تمامًا، سابقًا، في السبعينيات، هوليود كانت تقوم بانتحال واستدعاء وحتى ابتذال الابتكارات في طريقة السرد والمونتاج في الأفلام الأوروبية الناجحة، وكذلك دائمًا الابتكارات في السينما الأمريكية الهامشية، المستقلة .. إذن، حلت نكبة ارتفاع تكاليف الإنتاج في الثمانينيات، الأمر الذي ضمن إعادة فرض معايير الصناعة في جميع أنحاء العالم فيما يتعلق بصنع الأفلام وتوزيعها على نحو قسري إلى حد بعيد، هذه المرة حقًّا على نطاق عالمي، ارتفاع تكاليف الإنتاج استوجب أن يكسب الفيلم الكثير من المال على الفور، في الشهر الأول من صدوره، إذا كان من المنتظر أن يكون الفيلم مربحًا على الإطلاق، الاتجاه العام كان تفضيل الأفلام المثيرة شديدة الرواجBlockbuster على أفلام الميزانيات المنخفضة، على الرغم من أن أغلب الأفلام ذات التمويل المرتفع قد لاقت الفشل، بينما كان هناك القليل من الأفلام «الصغيرة» قد فاجأت الجميع بجاذبيتها، صار وقت عرض الأفلام في قاعات السينما أقصر فأقصر (مثل العمر الافتراضي لعرض الكتب الجديدة على الرف المخصص بمحال الكتب)، تم إعداد الكثير من الأفلام لتذهب مباشرة إلى الفيديو، دور السينما واصلت الإغلاق - الكثير من المدن لم تعد تمتلك حتى دارًا واحدة - كما تحولت الأفلام أساسًا إلى واحدة من مجموعة متنوعة من العادات التي تشكل وسائل الترفيه المنزلي.
في هذا البلد، ينخفض مستوى توقع الجودة، ويتضخم مستوى توقع الربح، ما يجعل من المستحيل عمليًّا على مخرجين أمريكيين طموحين فنيًّا، مثل «فرانسيس فورد كوبولا» و«بول شريدر» أن يعملا وفقًا لأفضل مستوياتهما، بالخارج، يمكن رؤية النتيجة في الاكتئاب كمصيرٍ لبعضٍ من أعظم المخرجين في العقود الأخيرة، ما هو المكان الذي يليق اليوم بمتمرد مثل «هانز يورغن سيبربرج» الذي توقف تمامًا عن صنع الأفلام، أو لأجل العظيم «جودار» الذي يصنع الآن أفلامًا عن تاريخ الفيلم بواسطة الفيديو؟ تأمل بعض الحالات الأخرى، كان لتدويل التمويل أثر كارثي على «أندريه تاركوفسكي» في آخر فيلمين في مسيرته المذهلة و(المختصرة بشكل فاجعٍ) وكيف سيجد «ألكسندر سوكوروف» المال ليواصل صناعة أفلامه الرفيعة تحت الشروط الفظة للرأسمالية الروسية؟
كما هو متوقع، خبا حب السينما، لكن لا يزال الناس يحبون الذهاب إليها، ولا يزال بعض الناس يهتمون بها ويتوقعون أشياءً مميزة، وضرورية من الفيلم، كذلك الأفلام الرائعة لا زالت تُصنع، مايك لي «عارٍ»، جياني أميليو«لأمريكا»، فريد كلمن «مصير»، لكن من الصعب أن تجد المزيد، على الأقل بين الشباب، الشغف المميز بحب الأفلام ليس، ببساطة، حبًّا لها، بل ذوق معين (يرتكز على شهية كبيرة في المشاهدة وإعادة المشاهدة، كثيرًا قدر الإمكان، لأفلام الماضي المجيد للسينما).
الولع بالسينما Cinephilia نفسه صار عرضة للهجوم، كشيء طريف، مهجور، ومغتر، هذا الولع ذاته يوحي أن الأفلام هي خبرات سحرية، فريدة، لا تتكرر، ويخبرنا أن الطبعة الهوليودية من فيلم جودار «لاهث» لا يمكن أن يكون لها نفس جودة النسخة الأصلية، لا يمتلك الشغف بالسينما أي دور في عصر التصنيع المفرط hyper industrial للأفلام، لأن هذا الشغف لا يمكنه أن يساعد، من خلال المدى الواسع والانتقائي لتطلعه، بواسطة رعايته فكرة الفيلم كغاية جمالية في المقام الأول، أيضًا لا يمكن لهذا الولع أن يساعد بتحريض من هم خارج دائرة صناعة السينما، مثل الكاتب والرسام، هي الرغبة في صنع الأفلام، وهذه بدقة، هي الفكرة التي هُزمت.
إذا مات الولع بالسينما، فإن الأفلام ستكون قد ماتت أيضًا، بما فيها الأفلام شديدة الجودة، ومع المضي قدمًا، إذا كان ممكنًا إحياء السينما، فسيكون ذلك فقط من خلال ميلاد نوع جديد من حب السينما.
* روائي ومترجم
نشر بمجلة التايم الأمريكية 25 فبراير 1996 بعنوان The Decay of Cinema