غروب وشروق ــ الهارب ــ على من نطلق الرصاص» ثلاثية كمال الشيخ ورأفت الميهي

فاطمة نبيل 05 يناير 2019 كمال الشيخ الهارب من ظلة

الكاتب : فاطمة نبيل
يروي الأستاذ الراحل "رأفت الميهي" خلال حوار له مع جريدة القاهرة في يناير عام 2004 عقب وفاة كمال الشيخ عن أول لقاء جمعهما، أن الشيخ كان قد شاهد تمثيلية تليفزيونية كتبها رأفت الميهي، وحينما سأل عن كاتبها، عرف إنه مخرج وكاتب جديد يعمل في المركز القومي للسينما، فجاءه يسعى "عندي سيناريو لفيلم جديد اسمه غروب وشروق عن قصة لجمال حماد عايزك تصلحه" ولما أعطاه نسخة السيناريو التي كتبها عبد الرحمن الشرقاوي، قرأه الميهي وأجاب الشيخ بصراحته المعهودة "بصراحة السيناريو عليه ملاحظات شديدة، ولابد من كتابته من جديد" فأعطاه الشيخ الإذن بالكتابة، وكتبه الميهي بالفعل بوجهة نظر أخرى وسلمه للشيخ في حضور المنتج حسن رمزي.


لكنه كما يروي في الحوار سالف الذكر قد تفاجأ أن السيناريو تم تسليمه إلى مؤسسة السينما باسم الشرقاوي، وشعر الشيخ بحجم غضب الميهي، فقدمه إلى رئيس المؤسسة وقتها عبد الحميد جودة السحار، ليعرّفه حسن رمزي قائلا "يا عبد الحميد بيه الشاب ده هو اللي كتب سيناريو غروب وشروق مش عبد الرحمن بيه الشرقاوي" فأطلق السحار ضحكة عالية ورد "يا سيدي محلولة .. الأستاذ الشرقاوي قرأ السيناريو وقال ده مش بتاعي ومش عاجبني وأعطاه للأستاذ نجيب محفوظ الذي قرأه وقال له ده أكتر من ممتاز، وأحيي اللي كتبه" وهكذا جاء الحل من السماء.
سوء التفاهم هذا الذي وقع بين الرجلين، وحكاه الميهي لاحقا بعد توطد الصداقة بينه وبين الشيخ بكل أريحية يلخص حالة التفاهم التي جمعت بين المخرج القادم من اليمين والمؤلف القادم من اليسار، فقد كان كمال الشيخ لا يخفي ميوله اليمينية التي كانت تضعه في خانة الرافضين لثورة يوليو 1952 بكل ما لها وعليها من تغييرات سياسية واجتماعية، بينما يقف الميهي موقف المدافع عن الثورة من منطلق يساري لا يخفى على أحد.
فكيف التقى اليميني واليساري ليقدما معا ثلاثية بديعة مثل "غروب وشروق" 1970، و"الهارب" 1974، و"على من نطلق الرصاص" 1975، هذا إلى جانب فيلم مأخوذ عن رواية لإحسان عبد القدوس هو "شيء في صدري" عام 1971.
يفسر الميهي هذا الأمر في حواره فيقول "إن كمال الشيخ كان رجلا متحضرا جدا حتى في خلافاته .. يأسرك بأدبه وترفعه وتقبله للخلاف، وأزعم أن هناك منطقة تصلح للالتقاء بين اليمين واليسار هي المنطقة الليبرالية، فيها التقينا وعلى أساسها تعاملنا .. واحترم كل منا توجهات الآخر، وضاعف الاحترام تلك الأواصر التي ربطتنا، وامتدت من أفلامنا المشتركة إلى قبولي مساعدته في تصليح سيناريوهات لم يكن لي علاقة بها مثل الصعود إلى الهاوية الذي أعدت كتابته بشرطين، ألا يضع اسمي على التيترات والثاني أن يجنبني أي تعامل مع المخابرات، وتكرر الأمر في فيلم بئر الحرمان حيث قمت بتصليح السيناريو بناء على طلبه وطلب شخصي من بطلته سعاد حسني".
الصداقة
صداقة عميقة كالتي ربطت بين الرجلين هي واحدة من أهم محاور فيلمين من أفلام الثلاثية، هم "غروب وشروق"، و"على من نطلق الرصاص" في الأول تكون الصداقة التي ربطت بين "عصام"، و"سمير" هي السبب في تلاقي مصيرهما كزوجين لمديحة ابنة "عزمي باشا"، ودافع لعصام للانتقام لصديقه الذي قتله الباشا، بينما كانت صداقة "عصام"، و"أمين" هي الأساس الذي أقام عليه كلاهما شخصيته الجديدة، وهي آخر ما تبقى لهما بعدما انهار كل شيء، أما في "على من نطلق الرصاص" فإن الصداقة التي جمعت "مصطفى حسين"، و"سامي عبد الرؤوف" هي السبب في أن يخفي مصطفى حبه لتهاني خشية إيذاء صديقه، وهي السبب أيضا في إصرار مصطفى حسين على الانتقام من "رشدي عبد الباقي" قاتل صديقه.
رحلة البطل
في كلٍّ من "غروب وشروق"، و"الهارب" يخوض البطل رحلة نفسية عميقة، مثله في ذلك مثل كل أبطال التراجيديا، حيث يُنتزع من عالمه الآمن ليجد نفسه في مواجهة قوى لا قبل له بها.
في "غروب وشروق" يكون قتل "سمير" هو الدافع رواء هجر عصام لهوه القديم، ليصبح عينا للتنظيم الوطني المتحالف مع الضباط الأحرار من أجل الإيقاع بعزمي باشا رئيس البوليس السياسي في رحلة يقوده فيها منتور ككل التراجيديات هو هنا الصحفي الوطني "أشرف البحيري"، أما في "الهارب" فإن البطل يُنتزع انتزاعا على غير إرادته، وبدون دليل يهديه، دون حتى أن يدرك لماذا تم الزج به في معركة لا يعلم أطرافها.
على الجانب الآخر في "على من نطلق الرصاص" يكون خصم البطل هو واحد من ضباط الجيش السابقين.
هذا الاختلاف في رؤية الميهي والشيخ بين الفيلم الأول ثم في الفيلمين الثاني والثالث، ربما هو الفارق بين فيلم من إنتاج عام 1970 مثل "غروب وشروق"، حين كان مثقفو مصر لايزالون مدينين بحريتها لتنظيم الضباط الأحرار، وبين عامي 1974 و1975 حيث التلميح الواضح أن ثورة يوليو كانت جزءً من المشكلة وليست الحل.
وفي ذلك نجد أن البطل في "الهارب"، و"على من نطلق الرصاص" يموت في نهاية الفيلم، سواء البطل الذي لا نعرف اسمه في الفيلم الأول، أو مصطفى حسين في الفيلم الثاني، حيث يقر الميهي والشيخ أن الحل الفردي غير ذي جدوى، وأن الحل في الثورة الشعبية للخلاص من الظلم، وليس القبض على الشرير، وأنه لا يكفي أن تحتفظ بنظافة اليد طالما كان المجتمع كله ملوثا، بل يجب عليك محاربة هذا الفساد.
وفي حواره السالف ذكره يروي الميهي قصة خروج فيلمه "الهارب" بهذا الشكل الذي جاء به فيقول "السيناريو الأصلي غير الذي ظهر في الفيلم، كان البطل عبارة عن معتقل سياسي له أفكار ثورية، وحدث في منتصف التصوير أن فوجئنا بفرمان من يوسف السباعي الذي كان مسافرًا للخارج ولما جاء تلقى تقريرا سيئا عن الفيلم يأمر بوقف تصويره .. قال مش عايز شيوعيين وكلام فارغ .. طب نعمل إيه؟! قال خلوا البطل تاجر مخدرات.
وكانت ورطة لابد أن نخرج منها، خاصة إنني تعلمت من كمال الشيخ أن أكون حريصا على فلوس المنتج، أمينا عليها، وكأنها فلوسي أنا .. وأعدت النظر في السيناريو، وقلت أعمل نوعا من الغموض حول الشخصية .. فعلت ذلك مضطرا حتى إنني كرهت الفيلم بعد ظهوره، لكنني بعد 13 عاما شاهدت الفيلم بصحبة كمال الشيخ في عرض له في معهد جوتة، واعتذرت للشيخ وليوسف السباعي لأنني شتمته وهاجمته بسبب الفيلم .. مع إنه جعلني ألجأ إلى الفن الحقيقي لأعبر عن آرائي بطرق غير مباشرة، وأظن أنها وصلت دون إفصاح"
الحب
جميع أبطال الثلاثية وقعوا في حب أشخاص لم يكن مقدرًا لهم أبدا أن يلتقوا بهم أو يحبوهم، وكلهم انفصلوا عن من أحبوهم بالكثير من الألم.
في "غروب وشروق" يقع زير النساء "عصام" في حب "مديحة" التي تزوجها فقط من أجل الانتقام لصديقه سمير منها ومن والدها عزمي باشا، وبعد الإطاحة بوالدها وسجنه تدرك مديحة أن عصام لم يتزوجها إلا كارها موتورا، فتنزوي.
وفي "الهارب" يجمع الحب بين السجين الهارب مجهول الاسم، وفتاة الليل مجهولة الاسم أيضا، كما يجمعها الظلم وخذلان المثققين وفي النهاية يفرقهما الموت.
أما في "على من نطلق الرصاص" فمشروع الزواج الذي يجمع "تهاني"، و"سامي عبد الرؤوف" ينتهي بسجن الأخير وقتله، وحب "مصطفى حسين" لها يفضي إلى رصاص يطلقه حسين على زوجها "رشدي" انتقاما من كل تخريب أحدثه في حياتهم، بينما تحب زوجة حسين زوجا لا يشعر بوجودها بعد ما انصرف بكل وجدانه لأخرى.
هذه النظرة السوداوية هي صميم رؤية الميهي والشيخ للحب في دولة بوليسية مثل الموجودة في الأفلام الثلاثة، حيث جميع القيم الجميلة مهدرة، والزواج ستار يسدله المجتمع على تعاسته، والخيانة الزوجية نتيجة طبيعية لتعاسة كهذه، أما مؤسسة الزواج فهي ككل مؤسسات الدولة خربة ينخرها السوس.
المرأة
نساء الميهي والشيخ مهزومات، لكنهما لا يدينونهن أخلاقيا، فهن نساء اضطرتهن ظروفهن الصعبة لفعل ما لا يرضين عنه، وهن ضحايا لذكور قاموا باستغلالهن أو السيطرة عليهن باسم الأبوة أو الحب.
في "غروب وشروق" تعاني "مديحة" من سيطرة والدها الكابوسية فتندفع في كل طريق باحثة عن المحبة علّها تجد الخلاص، لكن الاندفاع يقودها إلى أزواج بلا شخصية أمام والدها الجبّار، وعندما تجد الحب أخيرا تفقده مجددا بسبب والدها أيضا، أما فتاة الليل في "الهارب" فهي ضحية لمثقف أغواها باسم حديث بلا طائل عن حرية المرأة التي تنتهي بها إلى فراشه، وعلى الجانب الآخر فزوجته هي الأخرى ضحية لهذا المثقف الفاسد، حتى "تهاني" في "على من نطلق الرصاص" – وإن كانت أقواهن – فهي ضحية للمجتمع الذي يقودها للزواج من رجل أكبر من والدها من أجل الفيلا والسيارة الفارهة بعد أن ضاع الحب يوم قتل خطيبها.
في حوار له مع الناقد اللبناني "إبراهيم العريس" نشره ضمن كتابه "سينما الإنسان" والصادر عن منشورات وزارة الثقافة السورية يقول كمال الشيخ "منذ بداية تحولي من المونتاج إلى الإخراج أدركت أنه إذا كان للسينما أن تدافع عن قضية ما، فإن عليها أن تدافع عن قضية الإنسان، بأن تكون في حالة مشاكسة دائمة ضد كل ما هو فاسد وأعوج، إنما دون أن تجعل من نفسها نبراسَ وعظ أو درسا دائما للذين يريدون التغيير، لقد رغبت منذ البداية في أن تكون أفلامي مزيجا من المتعة ومن السؤال حول الشرط الإنساني. وأشعر اليوم إنني قد وفقت في تحقيق هذا في بعض الأحيان وعجزت عنه في أحيان أخرى، لكني في جميع الأحوال سعيت لأن تكون سينماي سينما ذات جدوى، غير مملة ومرتبطة ببيئتها."
السرد
يختار الميهي والشيخ في ثلاثيتهما تقنية الرجوع للخلف (فلاش باك) من أجل سرد يبدأ من أعلى نقطة درامية، في "غروب وشروق" يبدأ الفيلم بزواج "عصام"، و"مديحة" ليلة حريق القاهرة لنعرف تدريجيا خفايا هذا الزواج غير السعيد، أما "الهارب" فيبدأ بمشاهد للسجن، حيث يحتجز أحدهم الذي لا نعرف شخصه لكننا نشعر بتعاطف ما تجاهه، وفي "على من نطلق الرصاص" يثير الميهي والشيخ التساؤلات منذ بداية الفيلم عن من هو القاتل، ومن هو القتيل، ولماذا تمت هذه الجريمة وذلك بمصاحبة صوت سيارة إسعاف يبعث في نفس المتلقي عدم الراحة وكأنه نذير الخطر

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات