"شريط الصوت" في أفلامه بمثابة "حياة أو موت"

محمد عادل 05 يناير 2019 كمال الشيخ الهارب من ظلة

الكاتب : محمد عادل
تخيلت أنه من الجائز في بعض لقطات أفلامي التي يكون فيها التمثيل بدون حوار، وعن طريق التعبير بالوجه فقط، وقد يُصاحب هذه اللقطات صمت تام لمُدة دقيقة مثلاً أن يظن الجمهور – نظراً لقلة تذوقه الفني – أن الصوت قد تعطل بآلة السينما، ويصيحون ويهللون، ولذلك خشيت ألا أستطيع مُستقبلاً تقديم أحاسيس رقيقة في أفلامي"!. هكذا عبر المخرج الكبير الراحل "كمال الشيخ" – في التسعينيات – عن فكره الذي يمزج بين "الصوت" – أو "الصمت" - و"التمثيل" و"الإحساس" .. وأيضاً عن خوفه من "الجمهور" وقتها.


ما زال يُدرس لدينا عن السينما أنها "فن الصورة" بالأساس .. والحقيقة أن هذه المَقولة مغلوطة تماماً! .. السينما مُنذ أن بدأت – كما نعرف جميعاً - كانت "صامتة"، فكان يُصاحبها عازفون على الآلات الموسيقية مثلاً، بل إن السينما كانت تُحاكي المسرح في بدايتها، وهذا أدى لتطورات محدودة منها تطور الكوميديا الجسدية - كالتي قام بها "تشارلي شابلن" مثلاً - لكن حين "نطقت السينما"، وتطورت اللغة السينمائية، فهذا أدى لتطورات كبيرة جداً، وبظهور "الصوت" أدى هذا في الوقت نفسهِ إلى تكاسل بعض السينمائيين، فالبعض كان يرى أن "الصوت" سيجعله يُفسر ما يُريد توضيحه دون الحاجة لمُحاكاته بصرياً، كما رأى البعض الآخر أن "الصوت" أدى لتراجع في تطور لغة السينما عكس ما كان قبل الثلاثينيات والأربعينيات، فظهر أعداء للصوت، بل إن هناك من اعتبر الفيلم الناطق فناً مُختلفاً عن الفيلم الصامت كالمُنظر "بيلا بالاش" وكتابه "نظرية السينما"!.
معروف أن "كمال الشيخ" حاول كثيراً أن يبتعد عن تشبيهه بالمخرج الشهير "هيتشكوك" .. يقول "هيتشكوك": "الأفلام الصامتة هي الشكل الأنقى للسينما، وأعظم الأفلام هو الفيلم الذي إذا ألغيت عنه الصوت لم يفقد المُشاهد متعته أو يفقد تتابع القصة" .. و رغم هذا الرأي، فـ "هيتشكوك" كان يهتم بـ "شريط الصوت"! .. بدليل أنه تعاون مع كبار كُتاب القصة والسيناريو والحوار - مثل "كمال الشيخ" - وأيضاً كان هناك موسيقى لعمل أصوات الطيور فقط فى فيلمه الشهير The Birdsمثلاً!.
"كمال الشيخ" على العكس .. كان يُعلن رأيه علانية في أهمية "شريط الصوت" .. قال: "بعض السمات الأساسية في تفكيري السينمائي هو اهتمامي الكبير بالصورة، وليس معنى الصورة أن السينما – كما يقول البعض – صورة فقط، وإنما السينما صورة وحوار، أي صوت، لأننا نتعامل مع بعضنا البعض في الحياة بالحوار، لذا لا يُمكن التقليل من قيمته في السينما، وهو عنصر هام للغاية في أفلامي، لهذا فهو محسوب جداً، وبالرغم من هذا التوقيع، فإني أتحاشى الحوار كلما أمكن، كما أفعل في حياتي الخاصة، لأني أحب عند الحديث في أي موضوع أن أوجز".
لهذا إن دققنا في بعض أفلام "كمال الشيخ" سنجد اهتمامه وتوظيفه لـ "شريط الصوت" بشكل سينمائي .. "شريط الصوت" عُنصر مُكمل وأساسي في أفلامه .. مُعتمداً على عِدة عناصر لا غِنى عنها:
الحِوار:
منذ بداية عمل "كمال الشيخ" في الحقل السينمائي كـ "مونتير"، وقد كانت السينما السائدة في الثلاثينيات والأربعينيات في مصر تِلك التي تقحم الغناء والاستعراض والرقص فيها، حسبما كانت تقتضيه مُتطلبات التوزيع وشباك العرض آنذاك، وحتى في الأفلام العادية كان الأبطال يقومون بالغناء، لدرجة أن "فاتن حمامة" كانت تُغني بدوبلاج مُطربة أُخرى!.
كان "كمال الشيخ" رافضاً للأفلام الغنائية والاستعراضية، و رأيه لم يتغير حتى بعد مرور السنوات .. وهذا الرفض شمل أيضاً كما قال: "أفلام الكاراتيه، فأنا أرفضها لأنني لا أتصور أن أدخل السينما لأقضي ساعة ونصف حافلة بالضرب والوحشية فقط" .. وهو أيضاً لا يميل للكوميديا أو للميلودراما .. يقول: "لا تستهويني المُبالغات في الميلودراما، لأنني أحرص على مصداقية المعالجة وعدم الافتعال، أما أفلام الرعب فهي أسهل أنواع السينما وأقصرها عُمراً".
هذا كله يعود بالطبع إلى عمل "كمال الشيخ" في البداية كـ "مونتير" لأكثر من 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية قبل اتجاهه للإخراج، بل إنه حين قام بالإخراج أعاده "أنور وجدي" للمونتاج مُجدداً! .. المونتاج ساعده على أن يختار توجهه أو "صوته الخاص"، فأفلام "كمال الشيخ" كمُخرج إجمالاً لها أسلوب مُنضبط .. لا وجود لأي "ثرثرة" أو "إسهاب" .. لا وجود لكادر زائد أو جُملة حوار أطول مِمَّا يجب .. الإحساس على قدر الجُملة .. لا يميل إلى الاستعراض من أي نوع .. متأثر جداً بالمدرسة التعبيرية في الاضاءة.
"كمال الشيخ" أيضاً رفض وضع تصنيف "إثارة وتشويق" على أفلامهِ! .. عن هذا يقول: "أنا أرفض بطبيعتي مدلول كلمة إثارة لأنني لا أريد إثارة غرائز المُتفرج في الحدث المعروض أمامه منذ اللحظات الأولى حتى كلمة النهاية، وموضوعاتي غالباً ما أضعها في شكل تساؤل أو بحث عن مجهول سواء بالنسبة إلى المُتفرج أو البطل الذي يتعاطف معه المُتفرج، وهذا هو الشكل الأمثل للسينما عموماً، حيث يسعى الإنسان دائماً للكشف عن المجهول، وربما كانت هذه الطاقة في الإنسان من الأسباب الرئيسية لتقدم الجنس البشري".
هذا اللون أفلام "التشويق والإثارة" – و رغم تحفظ "كمال الشيخ" على "النوع" - فإنه لا يمتاز فقط بكل ما أشار له "الشيخ"، بل يزيد عليه عِناية شديدة في "التكثيف"، أي أن تُحكى القصة "بشكل مُحدد" على مُستوى "الصورة" و"الصوت" بِالتبعية، فالمعروف أن بعض المُخرجين يرون أن "الحوار" عامل مساعد لا أساسي، وذلك وفق الاتجاه السينمائي الذي حاول التخلص من قيود "الحوار" مثلا واختصاره لأكبر قدرٍ ممكن، والاعتماد على "الصورة" فقط للتعبير .. في الواقع كان اهتمام "الشيخ" بإيقاع اللقطة يدفعه - في كثير من الأحيان - إلى حذف الكثير مِن المَشاهد الحوارية التي لا تُساعد على تدفق الحدث، ولا تؤثر على دراميتهِ .. رغبته في "التكثيف بصرياً" أدت بهِ إلى الرغبة في "التكثيف الصوتي" أيضاً .. يقول "كمال الشيخ": "كونت مع السيناريست علي الزرقاني ثُنائياً استمر في العمل لسنواتٍ طويلة، فقد كان فياضاً في خياله، وكان كاتباً ممتازاً في الحِوار، وبالتأكيد ساهم معي في تكثيف العديد من مَشاهد الأفلام التي اعتمدت على أسلوب التشويق".
"الشيخ" هنا يؤكد على أهمية "الحوار" أو "الصوت" لأنه يُبنى عليهِ الكثير من الأشياء .. مثلاً يقول "كمال الشيخ": "أعتمد في إخراجي للأفلام على أن أضع نفسي مكان المُشاهد في كل لقطة، فالمُعالجة الخاطئة يؤديان إلى عدم الاحساس بالأداء، ويتوه الحوار من سمع المُشاهد".
قيمة "الحوار" تظهر في فيلم مثل "ميرامار" .. يبدأ الفيلم وينتهي عند بحر الإسكندرية .. "كمال الشيخ" يفتح ويُغلق القوس من ذات المكان .. وإن كان يختلف في أسلوبه في النصف الأول من الفيلم عن النصف الثاني .. في النصف الأول تتبع الكاميرا الشخصيات .. وكأنها تُلاحقها .. غير معني كثيراً بالأسلوب السينمائي قدر اعتنائه بإظهار شخصياتهِ المُتعددة وإعلاء قيمة "الحِوار" لبيان تركيباتهم .. وكأن "الحوار / الصوت" – بالأدق "صوت الشخصيات" – هو بطل الفيلم الحقيقي .. عكس النصف الثاني من أحداث الفيلم، والذي برز فيه أكثر "كمال الشيخ" سينمائياً (مشهد معرفة "سرحان البحيري / يوسف شعبان" من صديقه المهندس في مكالمة تليفونية أنهما "رايحين في داهية"، فالكاميرا تُصبح في وضع Out of focus مع قطع "فلاش باك" لذكريات "سرحان"، وما فعله سواء مع "زُهرة / شادية" أو آخرين والذي أوصله لمأزقه هذا).
كبير مُهندسي الصوت في هذا الفيلم هو "نصري عبد النور"، أما مُهندس الصوت فهو "جلال أمين" .. و"نصري عبد النور" هو أكثر من عمل معهم "كمال الشيخ"، سواء كمونتير بمجموع 20 فيلمًا أو كمُخرج بمجموع 11 فيلمًا .. والفيلموجرافيا الخاصة بـ "نصري عبد النور" تشمل عددًا كبيرًا من الأفلام يصل إلى 501 فيلم تقريباً، ويُعتبر رائداً من رواد صناعة السينما في مصر والوطن العربي، وقد شارك في كل الأفلام التي صُوِرتَ في أستوديو مصر في الفترة من عام 1957حتى عام 1979، كما شارك في بعض الأفلام العالمية مثل الإيطالي "الثأر"، كما حصل على العديد من جوائز وأشهرها شهادة تقدير من الرئيس الراحل "السادات" .. والجدير بالذِكر أن هنالك فيلمًا تسجيليًا لـ "الشيخ" بعنوان "حوار"، ومُدته سبع دقائق، يبدو منه اهتمام "كمال الشيخ" بـ "شريط الصوت" بدايةً من عنوان الفيلم "حوار" الذي يُشير إلى "الصوت" بشكلٍ ما.
الصمت:
"كمال الشيخ" بطبيعتهِ يميل للهدوء، فهو كان يرى أن ارتفاع صوت المُتحدث أو انخفاضه هو في حقيقة الأمر الترمومتر الذي يُمكننا من قياس مدى حضارة وثقافة شخص المُتحدث ذاتهِ، فكلما ارتفع صوت المُتحدث ارتفع مُعدل تخلفهِ على حد قولهِ!.
كان يكره "الأصوات المُرتفعة" في البلاتوه .. كان ينهر أي شخص يرفع صوته حتى وإن كان ذلك مع العُمال .. يُفضل العمل في "صمت" .. ولعل هذا سبب اهتمامه الشديد بفترات "الصمت" في "شريط الصوت" الخاص بأفلامهِ، فكأن أفلامهِ تُحاكيهِ هو شخصياً!.
"الصمت" عنصر مُشترك بين "الزمن" و"الصوت" في "اللغة السينمائية"، فهو عُنصر فاعل جداً في "الزمن" .. "الصمت" هو "الصوت المَطفي" .. "الصمت" الذي "يقول" .. دون "صوت" أو "كلمات" .. يقول بالنظرات .. الإشارات .. الإيماءات .. ولكي نفهم مسألة "الصمت" وعلاقته بـ "الصوت" و"الزمن" أكثر، يجب أن نعود إلى "العنصر التقني" في "اللغة السينمائية" والتي تنقسم إلى خمسة عناصر.
العنصر الأول هو "تناول الفكرة درامياً" .. والعنصر الثاني هو "الصورة" بمُشتملاتها كـ "المكان، الإضاءة، اللون.. إلخ" .. ثم يأتي العنصر الثالث وهو "الصوت"، والذي ينقسم إلى: "صوت المُمثل" أي "الحوار المباشر" أو Narration .. و"المؤثرات الصوتية"، والتي تنقسم بدورها إلى "المؤثرات المُتزامنة" أي "صوت مُلحق بصوت"، و"المؤثرات غير المُتزامنة" أي "الجو العام" مثل "البحر، الغابة، الصحراء .. إلخ" .. ثم يأتي "صوت الموسيقى"، وهو نوعان، أولهما "الموسيقى ذات مصدر في الصورة"، كأن يعزف أحد الموسيقى أو يغني مثلاً، وثانيهما "الموسيقى التي ليس لها مصدر في الصورة" كـ "الموسيقى التصويرية" .. والعنصر الرابع هو "الزمن" أو "البُعد الثالث"، والتي تتحقق في "الكتابة، التصوير، المونتاج" .. و"الزمن" يعني "الزمن الفِعلي" بجانب "الزمن الفِيلمي"، وينقسم إلى "إيقاع" و"تتابع" .. أما العنصر الخامس هو "الصمت" الذي أشرنا إليهِ سابقاً .
هذا الهدوء و"الصمت" انعكس على أفلامهِ – رغم قوة موضوعاتها – فأفلامُه هادئة، كما أن هناك هدوءًا عامًا في أداء مُمثليهِ، فنادراً ما نسمع في "شريط الصوت" انفعال مُمثل زائد عن الحد، فكل شيء لدى "الشيخ" مدروس بِدِقة، ويبدو أن أبطال أفلامه تأثروا بِشخصيتهِ هذهِ، وهذا ليس غريباً لكون مُخرج الفِيلم هو في حقيقة الأمر قائد أي عمل فني .. يقول "الشيخ": "أحد أصدقائي الذين كانوا يُتابعون أعمالي السينمائية في الستينيات كان قد لفت نظري لملاحظة كان يراها، وهي أنه كان يرى أن أداء المُمثلين في أفلامي هادئًا جِداً، ومن الضروري أن ترتفع أصواتهُم قليلاً، ولم يكُن ردي على صديقي سوى الرفض لإيماني بهذا الأُسلوب" .. والمُدهش فيما سبق أنه عندما عُرضَ فيلم "الليلة الأخيرة" في مهرجان كان عام 1964 أعلن النُقاد وقتها هناك تحفُظهم على أداء المُمثلين المصريين، مُتهمين إياهم بِالمُبالغة والحماس في الأداء! .. وكأن "الشيخ" موافق لهذا الرأي، فعِند سؤاله عن تقييمه لفيلمه الشهير "الليلة الأخيرة" في عام 1997 بعد مُشاهدته أكثر من مرة وتحقيق شُهرة كبيرة .. أجاب : "أرى في الفيلم بعض المُبالغة في الأداء، ولحرصي الشديد على أن يكون أداء الممثل طبيعياً 100 % مثل رفع الصوت، وعدم الاستعانة بتغيير في الحركة والصوت والأداء الوجهي، وشخصية المخرج تنعكس على الأداء، فلو كان عصبياً يظهر أداء الممثلين عصبياً، ولقد أعدت كتابة السيناريو أكثر من ست مرات حرصاً مني على عدم المبالغة"!.
الأداء التمثيلي الهادئ والصامت يُمثل بالنسبة لـ "الشيخ" أهمية قصوى – كما السيناريو والمكان – فهو نفسه كان يقوم بتوجيه مُمثليه بـ "الهمس" على حد قول الراحلة "مديحة يسري"، والتي أضافت: "كمال الشيخ في البلاتوه على عكس مُخرجي السينما، كُنا لا نسمع له صوتاً، حتى توجيهاته لنا كمُمثلين كان يهمس بها في أُذن المُمثل، فكان هادئ الطِباع إلى أقصى درجة".
القيمة الدرامية لـ"الصمت" تظهر في واحد من أقوى مَشاهد فيلم "غروب وشروق" .. يفتح "الطيار / إبراهيم خان" باب غُرفة "أعز أصدقائه / رشدي أباظة" ليجد "زوجته / سعاد حسني" في شقة الأخير! .. هنا يبدو وقع "الصمت" في نظرات الزوج لزوجته تقول الكثير – يُعززها موسيقى "أندريا رايدر" – والتي كانت مَبنية مُنذ البداية حينما عرفنا نحنُ المُشاهدين وقع ذهاب الطيار لشقة صديقه .. نحنُ نترقب لحظة المواجهة هذه بين الزوج و زوجتهِ .. وهنا "كمال الشيخ" يترك وقع الزمن الفِعلي في لحظة وصول الطيار أو الزوج، ثم اتجاهه لبناية صديقه، صعوده للشقة بِالمِصعد، وصوله للشقة .. إلخ .. حتى لحظة المواجهة الفِعلية .. انفعالات مواجهة الزوجة في ذلك الوضع أمام زوجها تحمل الكثير من الانفعالات المُركبة .. لحظة صامتة .. سريعة .. تلتمع في عيني الزوجة الدهشة والخجل والشعور بالخوف .. في مواجهة عيني الطيار أو الزوج التي يمتزج فيها الذهول وعدم التصديق والغضب الممزوج بالحُزن .. هنا تظهر قيمة "شريط الصوت"، والذي ليس دوره فقط ملء الفراغات أو المساحات الخالية، وإنما تعزيز حتى "الصمت" الذي يقول أكثر من خلال المواقف والنظرات.
عَمَلَ مهندس الصوت "حسن التوني" في هذا الفيلم، وقد عمل مع "كمال الشيخ" حينما كان مُخرجاً في فيلمين آخرين من أهم أفلامه "الرجل الذي فقد ظله" و"بئر الحرمان" .. و"حسن التوني" عمل في الكثير من الأفلام الهامة - بعيداً عن "الشيخ" - مثل"عودة أخطر رجل في العالم"، "أغنية على الممر"، و"حدوتة مصرية".
المكان:
في الوقت الذي كانت فيه السينما المصرية مسجونة بين جُدران الاستوديوهات، خرج "كمال الشيخ" لتصوير أفلامه في شوارع القاهرة المُزدحمة بالناس والمُشكلات و"الأصوات" .. أصوات المواصلات ستجدها عادةً في أفلامه .. كان يميل إلى التصوير في الأماكن الحقيقية كما كان يقول رغم أن أفلامه روائية وليست تسجيلية! .. مثلاً يقول: "واجهت كثيراً من المشكلات لتجمع الناس أثناء التصوير، فمثلاً في فيلم حياة أو موت، قضيت أياماً طويلة، وكل ما أستطيع تصويره لقطة أو لقطتان في اليوم الواحد".
تظهر قيمة شريط الصوت مُنذ لحظة بداية فيلم "حياة أو موت"، فنسمع تعليقاً صوتياً لشخص مجهول .. يقول المُعلق عبارة طويلة تبدأ بـ: "ما أكثر اللحظات في عُمر الزمن!" .. التعليق الصوتي متبوع بخلفية لساعة ضخمة (التتر يظهر بعد التعليق الصوتي على ذات اللقطة) .. والزمن - كما هو مُلاحظ - عُنصر أساسي مُكمل لـ "شريط الصوت" (العلاقة التي أشرنا إليها في البداية بين "الصمت" و"الزمن") .. بل إن الفيلم كُله يعتمد على عُنصر الزمن بشكلٍ من الأشكال ("الحِكمدار / يوسف وهبي" يستفسر من "الصيدلي / حسين رياض" عن توقيت خروج "الطفلة / ابنة عماد حمدي" من الصيدلية، ونَرى مَشاهد عديدة يتم فيها السؤال عن الوقت أو الزمن لمعرفة ما إذا كانت الطفلة وصلت للمنزل وأعطت لوالدها الدواء أم العكس؟).
الزمن هُنا مُكمل لـ "شريط الصوت"، لهذا ليس غريباً أن تستمر جُملة المُذيع الشهيرة: "على المواطن .. الدواء به سم قاتل" حتى وقتنا هذا، فهي مُرتبطة بالزمن (هل وصلت أم لم تصل الطفلة لتُعطي لوالدها الدواء؟) .. الجُملة ما زالت في أفواه الناس حتى اليوم لأنها على نحوٍ ما تُعبر عن أُمنياتهم في إنقاذ حياة مواطن بسيط يُشبههم (لاحظ معي أن الصيدلي والذي كان السبب في تركيب الدواء بصورة خاطئة يُحاول بلا كلل إنقاذ حياة هذا المواطن المجهول لأن ابنه – كما قال – تُوفي حديثاً، ولا يُريد لأي شخصٍ آخر أن يموت) .. هكذا يكون إحساس المواطن البسيط بالآخر الذي يُشبهه .. خاصةً في المصائب الكُبرى .. هنالك نوع من التكاتف بين المواطنين، لهذا فالجُملة في "شريط الصوت" ما زالت خالدة لأنها تُعبر عن ذات الفِكرة بِشكلٍ من الأشكال.
اعتناء فكرة "الصوت" الخاصة بهذا الفيلم تتضح أكثر من حديث "كمال الشيخ" عنه، فهو يُشبه الفيلم بأنها أزمة رجل خلال خمس ساعات .. مجرد "ريبورتاج" أو "تحقيق سينمائي" تماماً كـ"التحقيق الصحفي" على حد قولهِ .. لهذا نسمع صوت المُعلق في البداية كأنه افتتاحية "التحقيق"، فالافتتاحية لنكون نحن المُتفرجين شاهدين على مأساة هذا المواطن "أحمد إبراهيم / عماد حمدي" ومُتفاعلين معها، أي لدينا الرغبة في إنقاذ المواطن ليعيش في النهاية .. ويُذكر أن أحد صحفيي جريدة "اللوموند الفرنسية" كتب عن الفِيلم وقتها: "حياة أو موت بِداية لتأريخ السينما المصرية المُعاصرة والتي تُحاكي السينما الإيطالية".
مهندس الصوت في هذا الفيلم هو "نيفيو أورفانللي"، وهو الفيلم الوحيد الذي عمل فيه مع "كمال الشيخ"، حيث لم يسبق لهما التعاون - حتى و"الشيخ" كان مونتيراً! - و"أورفانللي" مهندس صوت مصري، قام بتسجيل الصوت لأكثر من 114 فيلمًا مصريًا في الفترة من عام 1947 حتى عام 1991، ومن أشهر الأفلام التي عمل بها عام 1963 فيلمي "رابعة العدوية" و"المجانين في نعيم".
الجدير بِالذِكر أن الواقعة نفسها تحققت بالفِعل، حيث إن التليفزيون المصري - وقتها كان رئيس التليفزيون "أمين بسيوني" - قد أذاع نداءً لطفلٍ يُدعى "مُهند" أخذ دواءً عن طريق الخطأ من صيدلي شعر بمسئوليتهِ! .. وعن هذا قال "كمال الشيخ": "لا أعرف هل لجوء الصيدلي للتليفزيون لإذاعة النداء جاء تأثُراً بالفيلم أم أنه محض صُدفة لا أكثر؟".
ويؤكد "كمال الشيخ" على تأثير "المدينة" بـ"أصواتها" وليس فقط "أضواءها" في أفلامهِ بالقول: "هناك عامل خاص ارتبط دائماً بأفلامي، ذلك أنها جميعاً بلا استثناء تدور أحداثها في المدينة، وكان هذا يفرض علي نوعاً آخر من الملامح التي تبتعد بالشخصية عن أن تكون من أهل الريف، بل امتد أيضاً إلى انطلاقي من مبدأ أن ثمة أمرين يراهما المُتفرج على الشاشة ويصنعان الشريط الذي يدور أمامه، الأول هو المكان، والثاني هو المُمثل، عِلماً بأن المُمثل هو على الدوام أهم من المكان، فالمكان لم يُوجد إلا من أجل تحرك المُمثل، ومصدر أهمية المكان يتأتى من أنه الحيز الضروري لحركة المُمثل،".
اختيار "شريط الصوت" مُرتبط بالمكان لدى "كمال الشيخ" .. المُخرج "أحمد النحاس"، والذي عمل مُساعداً أولاً لـ "كمال الشيخ" في أربعة أعمال هُم: "وثالثهم الشيطان"، "الهارب"، "الصعود إلى الهاوية"، و"الطاووس" حكى عن هذا بقولهِ: "أتذكر مشهدًا لسيدة تتلقى مُكالمة تليفون ولن تظهر من جديد، فقام كمال الشيخ بتأجير شقة خصيصاً لهذا المَشهد فقط، ويضع التليفون في مُنتصف الصالة حتى يستعرض الشقة ويُظهر شخصية المكان".
والجدير أن "الشيخ" قد اعترف في تسجيل امتد لثلاث ساعات مع "طارق الشناوي" لم يُذع في عام 2009 بأن فيلم "الصعود إلى الهاوية" لم يكُن من تأليف "صالح مُرسي" كما تُشير التترات، بل هو من تأليف "رأفت الميهي"! .. وهذهِ الواقعة هي ذاتها نفس الواقعة - وإن كان صرح بها "الشيخ" في أكثر من حوار - حينما قام بإعطاء "غروب وشروق" إلى "الميهي" أيضاً بدلاً من الشاعر والكاتب الكبير "عبد الرحمن الشرقاوي" .. عن هذا قال "الشيخ": "الأستاذ الشرقاوي شاعر وكاتب كبير، لكن كتابة السيناريو والحِوار موهبة أُخرى، فقد كتب الحوار فقط، ونسي أن يكتب السيناريو"! .. لهذا كان لـ "كمال الشيخ" مقولة هامة: "برأيي أن السيناريو يُمكن أن يُمزق ويُكتب من جديد، وإنما التصوير يُمكن أن يتم بالتليفون"!.
المونولوج الداخلي:
كثيراً ما يلجأ إليهِ "كمال الشيخ"، فمثلاً في فيلم "اللص والكلاب"، و رغم أن الفيلم يبدو قائماً على فِكرة مُطاردة القاتل من قبل البوليس .. إلا أن الصراع هنا يبدو واضحاً أنه بين الأفكار والاتجاهات .. صراع فكري .. معنوي .. نفسي .. مُستتر .. عقلي .. تصادُم الإرادات .. فمثلاً مَشهد المُحاكمة السَماوية لـ "سعيد مهران / شكري سرحان" أحد أفضل مَشاهد الفيلم، سنلاحظ أن "المونولوج داخلي"، مما يُظهر أهمية "شريط الصوت" هنا .. و ربما يعود هذا إلى أن التعامل مع النص الأدبي وتحويله سينمائياً كان شُغل "كمال الشيخ" الشاغل، فأحداث الرواية كانت تعتمد على "المونولوج"، ونظراً إلى عدم إمكانية تنفيذه سينمائياً بنفس الأسلوب، فقد حوله "الشيخ" إلى حوار عادي عن طريق صِياغة السيناريو والحوار مِن خِلال المصدر الأصلي، مع الالتزام التام بِهِ، وأحياناً كان يلجأ "الشيخ" إلى "نجيب محفوظ" لتفسير بعض ما استعصى عليه من أُمور، أو الجوانب التي تحمل أكثر من تفسير، والسبب كما قال "الشيخ": "العمل السينمائي ينبغي أن يكون ترجمة أمينة للنص الذي ينقِله".
"نصري عبد النور" في هذا الفيلم تعاون مع مُهندس الصوت "صُبحي الجمل"، وقد تعاون "الجمل" من قبل مع "عبد النور" كمُساعد صوت حينما كان "كمال الشيخ" مُونتيراً .. وقد عمل "صُبحي الجمل" كمهندس للصوت في 53 فيلمًا في تاريخ السينما المصرية، من أهمها "فيفا زلاطا" و"زوجتي والكلب".
وفِي فيلم "الليلة الأخيرة" لـ "الشيخ" تتعاظم قيمة "المونولوج الداخلي" لـ "نادية / فاتن حمامة" المُستمر طوال النصف الأول من الفيلم تقريباً .. هو أشبه بالصوت المحبوس .. المُختنق .. "نادية" - مثل "المونولج الداخلي" - سجينة شخصية "فوزية" شقيقتها .. العالم كله من حولها يُحاول أن يؤكد أنها "فوزية" .. و"صوتها الداخلي" يؤكد العكس .. يؤكد لها أنها "نادية"!.
بداية الفيلم بصوت "نادية" وهي تُحدث نفسها .. شعور بالغُربة ومرور زمن مفقود .. يصرخ "الصوت الداخلي" ليصير خارجياً أمام "الزوج / محمود مرسي"، والذي يُوهمها طوال الأحداث أنها إلى الجنون أقرب .. أليست السيكولوجيا في جوهرها النظري "صرخة / صوت" الفرد أمام الأيديولوجيا الجمعية ؟ .. صرخة "نادية" في جوهرها بعيدة كل البُعد عن الحقيقة العلمية أي "عِلم النفس" - والذي يُمثله الطبيب "أحمد مظهر" بشكلٍ ما - وتدفع العاطفة الأحداث – خاصةً من الطبيب – رغم عدم وجود أدلة لكونها "نادية"، فيندفع لتجميع الأدلة، وتنتهي الأحداث بانتصار "صوت نادية الداخلي"، فـ"نادية" تُثبت ذاتها، لكن نُبلها يجعلها تخضع وترضخ للأيدولوجيا الخاصة بـ "صوت المُجتمع" .. تقبل بأن تكون شقيقتها "فوزية" كما يُخبرها "المُجتمع" .. كل ذلك للحِفاظ على ابنة شقيقتها "فوزية" .. وتقول للطبيب في النهاية: "خللي نادية دي بيني وبينك".
"الصوت الداخلي" قد يأتي عند "كمال الشيخ" بأشكالٍ مُختلفة، ففي فيلم "الخائنة" نجد أن البداية تُظهر قيمة وأهمية "شريط الصوت"، فمنذُ التترات يُطالعنا "صوت التليفون"، والذي سيكون له قيمة هامة جداً، فهو الدال على "الشخصية المجهولة" التي تدفع "الزوجة / نادية لطفي "لخيانة" الزوج / محمود مرسي" بناءً على شك غير صحيح.
يُعمق من أهمية "شريط الصوت" معرفتنا بأن الزوجة تقوم بتصوير أفلام صامتة لأصدقائها في رحلاتهم، وفي بداية الفيلم تقوم الزوجة بعرض شريط مُصور للأصدقاء أمام زوجها، ونُصبح في فيلمٍ داخل الفيلم بصورةٍ ما، ونسمع تعليقات الاثنين - وكأنه Voice Over - يُقدمان الشخصيات وطبائعها، وهي الشخصيات الفرعية والتي سيكون لها أثر في دفع نهاية الأحداث لمأساويته.
وبِذكاءٍ شديد يتم تجهيل شخصية "صاحب المكالمات التليفونية" وهو هنا أشبه بـ"المونولوج الداخلي" المُعبر عن رغبة دفينة داخلية للزوجة لخيانة الزوج بشكلٍ ما .. وعن هذا يقول "كمال الشيخ": "حتى يُعمق فكرة فيلم الخائنة، فقد كانت هناك شخصية لم تظهر طوال الفيلم، وإنما كان يُسمع صوتها من خلال التليفون، والجمهور كان يُريد أن يعرف من هو هذا الشخص من خلال شخصيات الفيلم، والذي يدور صراعه حول قضية الخيانة، وبطلة الفيلم دُفِعت إلى ارتكاب هذه الخيانة، ليس مع شخصٍ معين، وإنما مع أي رجل، ولو كُنا أشرنا أو أظهرنا هذه الشخصية لانقلب الفيلم للبحث عن المجرم، ولأصبح فيلماً بوليسياً".
عمل مهندس الصوت "عزيز فاضل" في هذا الفيلم كـ "مُشرف فني ميكساج" (مُهندس الصوت في هذا الفيلم "كريكور" مذكور في بورتريه مُلحق بالعدد) .. وقد عمل "فاضل" مع "كمال الشيخ" كمُهندس صوت، سواء أكان "الشيخ" مونتيراً أو مُخرجاً .. "فاضل" كان له دور في 111 فيلمًا مصريًا كـ"الشيماء"، "نحن لا نزرع الشوك"، وغيرها .. كانت له أيضاً أدوار مُتعددة في تاريخ السينما المصرية، فمثلاً كان مُشرفاً فنياً في فيلمين شهيرين وهما "البوسطجي" و"شيء من الخوف" .. أيضاً كان مُسجلاً للموسيقى في عدد من الأفلام كفيلم "شاطئ الغرام" لـ "ليلى مراد".
وفي فيلم "لن أعترف" لـ "كمال الشيخ" تتكرر مسألة "صوت التليفون" هذه أيضاً، ففي تقديم الشخصية التي سيدور عليها مِحور الفيلم كله - وهي شخصية "المُبتز / صلاح منصور" – نجد أن تقديمه الأولي كان من خلال صوته فقط، وتحديداً أكثر اتصال هاتفي له مع "آمال / فاتن حمامة"، فهو لا يظهر كثيراً، لكن صوته المُبتز كفيل بأن يجعل حضورهُ في الفيلم لا يقل حتى بعد مقتلهِ.
الموسيقى والمؤثرات:
كان "الشيخ" يُعبر في مُذكراتهِ الخاصة عن إجابة لسؤال خاص به: "ما هو سِر عِشقي للسينما ؟" .. وكانت إجابته هو نفسه: "لأنها موسيقى مرئية".
يؤكد على هذا بقولهِ في عام 2000: "اكتشفت أن العِمارة فن هندسي موجود في الموسيقى والسينما، خاصةً في عملية التقطيع" .. وقد عمل "كمال الشيخ" في مونتاج أفلام للبعثات الفرنسية والإنجليزية التي كانت تُغطي أخبار الحرب – قبل اتجاههِ للإخراج – ومِن ضِمن الأفلام التي صنعها كان فيلماً قصيراً عن "مدغشقر"، وعندما استمع مُهندس الصوت للموسيقى التي قام "الشيخ" بتركيبها أبدى إعجابه على الفور بطريقة تركيب الموسيقى في الفيلم.
وفي فيلمهِ التسجيلي "سادة المعارك"، والذي أخرجه عام 1953 .. قال: "قوام الفكرة أن مُجنداً من الريف يلتحق بالجيش، ومن خلاله نرى ونتعرف على سلاحه، وكيف يُصبح هذا المُجند في آخر الأمر وقد تطور للأفضل لأنه في الجيش يتعلم ويتبع الأسلوب المُنظم، ويستمع للموسيقى، ويقوم بالكثير من الأنشطة الحضارية، أي أردت أن أقول إن الجيش لا يأخذ الشخص القروي ويُعلمه ضرب النار فحسب، وإنما هناك أمور حضارية أُخرى تعمل على تغييره" .. لاحظ اقتران تطور الفرد بالاستماع لـ"صوت الموسيقى" وليس "صوت ضرب النار" .. الفارق كبير بين الاثنين.
إذن ليس من الغريب أن الموسيقى في "شريط الصوت" لأفلام "كمال الشيخ" جاء مُميزاً، فكان يقول دائماً أنه من الشغوفين بالموسيقى بشدة، يتذوقها، يضعها في إطارها الصحيح ضمن عناصر لغته السينمائية من حيث بناء المشهد بقوانين وعلاقات ليتم التتابع والترابط الموضوعي والمنطقي للموضوع الدرامي مع استخدام المؤثرات السينمائية الأخرى كالإضاءة.
علاقة "كمال الشيخ" بالموسيقى كانت مُنذُ بداية عِشقهِ للسينما .. كان يستمع إلى موسيقى فرقة "البوليس"، والتي كانت تعزف موسيقاها أيام الخميس والجُمعة والأحد من كُل أُسبوع .. ومِن هُنا نستطيع فِهم اهتمامهِ وعِشقهِ لـ"الموسيقى الكلاسيكية"، والتي نشعر أنها تُغلف مُعظم أفلامهِ .. يقول "الشيخ": "عِشقي للموسيقى ساعدني على المونتاج والإخراج معاً، فعِشقي للموسيقى طبيعة مُتأصلة داخلي، عِلماً بأنني أقصد الموسيقى الكلاسيك، فليس لي أي علاقة بالموسيقى "بتاعتنا"، باستثناء محمد عبد الوهاب فقط لأنه مُتقدم جداً في ألحانه".
أفلامه كموسيقاه .. مثلهِ هو شخصياً .. "شيك"! .. وهو لم يتنازل أبداً عن هذا .. كان يقوم بالإخراج وهو يرتدي بذلة كاملة .. الكرافيت والصديري .. يستخرج من جيبٍ صغير في بنطلونهِ قلماً رصاصاً في حجم "عُقلة الصُباع" .. يجلس بين الديكور ليبدأ في عملية تقطيع المَشاهد .. يقف خلف الكاميرا .. يضع يده في جيب الصديري .. كان يحلو له أن "يُصفر" و"يُدندن" وهو يسير في الأستوديو وكأنه "قائد أوركسترا" وليس "مُخرجاً" .. أليست السينما كالموسيقى عنده ؟!.
"الشياكة" ليست فقط في "الفيلم" ذاتهِ .. بل حتى في "المَعنى من وراء الفِيلم"، حتى وإن بدا غير واضح أو مقصود كما فهمه الجمهور .. مثلاً عن فيلم "سيدة القصر" قال: "الفيلم كان يُجسد عِلاقة الملك فاروق بزوجتهِ فريدة، والتي هي بِمثابة واحدة من أفراد الشَعب المَصري البَسِيط، بالإضافة إلى الرجل الإيطالي الذي قام على تربية فاروق مُنذُ الصِغر، عِلماً بأن عُمر الشريف كان يُجسد شخصية الملك فاروق بثرائهِ الفاحش وعِلاقاتهِ النِسائية المُتعددة، والتي دفعتهُ دفعاً إلى إهمال أرضهِ، لولا أن التقى بفاتن حمامة أو الفتاة الفقيرة والتي ترمُز إلى شخصية فريدة، أضف إلى ذلك استيفان روستي والذي جسد بِبراعة مساوئ وفساد الرجل الإيطالي، والذي قام على تربية فاروق مُنذُ الصِغر لدرجة أن هذا الرجُل تسبب في إفساد العِلاقة بين فاروق و زوجتهِ".
لهذا ليس غريباً أن تحوز "فاتن حمامة" على ستة أفلام له مُقابل "سعاد حُسني" بثلاثة أفلام فقط .. "فاتن" تُعبر عن "الشياكة" من وجهة نظره .. لهذا تعجب في 2002 من الجدل الذي أثاره اختيار "فاتن حمامة" كنجمة للقرن في مهرجان الإسكندرية وقتها، حيث قال البعض إن الأحق بالاختيار هي "سعاد حسني" .. قال "الشيخ" وقتها: "فاتن ظاهرة فنية من الصعب أن تتكرر، وسعاد من المُمكن أن يتكرر مثلها، وأنا أقول ذلك دون أن أُقلل من من شأن أو موهبة سعاد"!.
"الهارب" واحد من أفضل أفلام "كمال الشيخ" - رغم عدم شهرته كباقي أفلامهِ - ويأتي عنصر الموسيقى التصويرية في "شريط الصوت" ليتم استخدامه بوعي شديد لتغليف مواقف الفيلم المُختلفة، فتارةً تكون مُوترة في موقف مواجهة "الهارب / حسين فهمي" لـ "رئيس التحرير / كمال الشناوي" برفقة فتاة الليل التي لعبتها "شادية" .. وتارةً رقيقة مع تصاعد عاطفة "الهارب" تجاه "فتاة الليل" أثناء رحلة هروبهما .. والإعداد الموسيقي للفيلم كان للموسيقار "طارق شرارة"، والمعروف عنه قيامه بالإعداد الموسيقي من الألحان العالمية كما قام بها في فيلم "إمبراطورية ميم" مثلاً.
يمتلك الموسيقار "طارق شرارة" - كما صرح - 40 ساعة و ربما أكثر مع المُخرج "كمال الشيخ"، وأبطال أفلامه، والمُنتجين، و زُملائه، والمُخرجين الكِبار .. وعن علاقة "الشيخ" بـ "الموسيقى"، يروي "شرارة": "كمال الشيخ مشهور عنه أنه بجانب اهتمامه بكل تفاصيل العمل السينمائي، فالموسيقى لها اهتمام خاص عنده، بل إنه قام بنفسهِ بالإعداد الموسيقي لعددٍ من أفلامهِ، وما ساعده على ذلك أنه بدأ مشواره السينمائي كمونتير، ومعروف أن المونتير ذو أهمية في توظيف موسيقى الفيلم، وفي أول تعامُل بيننا بعيداً عن الموسيقى اكتشفت أنه عاشق للتفاصيل بشكلٍ كبير، ودقيق في عملهِ لأقصى مدى، فهو لا يقبل الخطأ، والموسيقى تأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامه وتفكيره وذوقه".
يُضيف "شرارة": "كشف الشيخ لي في أحد أفلامهِ أنه تعاقد مع مؤلف موسيقي، وبعد أن تقاضى أجره وانتهى من عمله لم تنلْ الموسيقى استحسانه، فلم يتردد، وقام هو بنفسهِ بالإعداد لموسيقى الفيلم، و رغم كُل هذا لا أنكر أنه في بداية عملي معه، ومن كثرة تدخلهِ ومُناقشاتهِ و"نمكيتهِ"، كنت أشعر بالضِيق مِنه، خاصةً أنه عنيد والتعامُل معه يُسبب الازعاج، وأذكر أنه في أحد أيام العمل بالمونتاج أن خرجت إلى سطح الأستوديو هرباً من الضغط العصبي، ووجدت أمامي كمال الشيخ ورمسيس نجيب يجلسان أمام سور صغير، وفي هذهِ اللحظة جاءتني فِكرة شيطانية، أن أدفعه مِن أعلى السطح بسبب الغيظ من التعامُل معهُ بخلاف سلاسة التعامُل مع بركات"!.
و رغم ذلك لا يُنكر الموسيقار "طارق شرارة" أنه عندما عرض على "كمال الشيخ" إضافة جُمل موسيقية من تأليفه - بجوار الإعداد الموسيقي - في فيلم "الصعود إلى الهاوية"، فقد رحب جداً "الشيخ" بهذا الاقتراح، بل وشجعه على هذا .. وفي ذات الوقت لا يُنكر أن "النمكية" المُتأصلة في شخصية "الشيخ" عارضته حين طلب في أحد المَشاهد المؤثرة أن يكون "الصمت" بديلاً عن "الموسيقى"، وهو ما لم يقتنع بهِ "كمال الشيخ"، لكن شقيقه المونتير "سعيد الشيخ" انحاز لفكرة "شرارة"، والتي كانت هي الأفضل، فكسب "شرارة" بذلك رهاناً في كواليس الفِيلم!.
تظهر أهمية الموسيقى أيضاً لدى "الشيخ" كما في فيلم "الرجل الذي فقد ظله"، فموسيقى "أندريا رايدر" هي الأبرز في شريط الصوت مُنذ افتتاحية الفيلم، حيث نرى "يوسف / كمال الشناوي" يكتب في مذكراته الخاصة المُعنونة بـ "الحُب الأول" .. نسمع في ذات الوقت صوت ارتطام القنابل وانفجارها، وفي الوقت نفسه نسمع صوت "يوسف" كـ V.O لفترة وقائع عديدة خاصة بهِ .. التناقض بين صوتي القنابل وصوت "يوسف" الداخلي هو تناقض بين ما يحدث في العالم الخارجي وبين عالم "يوسف" الخاص .. كل هذا ممزوجاً بدقات البيانو وهي مُناقضة لدقات القنابل فوق الرؤوس وإن كانت تُشبهها!.
يعود توظيف "شريط الصوت" سردياً في مشهد سماع صوت القنابل مثلاً في نفس لحظة تحرش "والد يوسف / عماد حمدي" بالخادمة "مبروكة / ماجدة" ونجاحه في هذا، ويتم القطع بالتوازي بين الاثنين مع استمرار سماعنا لصوت القنابل .. أو في مشهد وفاة "والد يوسف"، نرى صرخات "مبروكة" المكتومة – دون أن نسمعها - في ذات لحظة الصوت الداخلي لـ "يوسف" المُعبر عن رغبته في الوصول لأعلى المناصب بأي طريقة تصل إلى آذاننا، كل ذلك ممزوجاً - كعادة الفيلم كله تقريباً - بالموسيقى.
الميكساج في هذا الفيلم لـ"حسن التوني"، أما مُهندس الصوت "نصري عبد النور"، وتسجيل الحِوار كان من خلال "جلال عبد الحميد" و"محمد سليمان" و"جليلة الحريري" .. ولم يعمل "جلال عبد الحميد" في 215 فيلمًا كمهندس للصوت، بل تعددت وظائفه في تنفيذ "شريط الصوت"، بل إنه اتجه للكتابة، حيث كتب قصة وسيناريو وحوار فيلم "وضاع الطريق" لـ"سماح أنور" و"حسن الأسمر" عام 1990!.
المؤثرات الصوتية - كالموسيقى - لا يُمكن أن تمر مرور الكِرام عِند "كمال الشيخ"، فمثلاً خلال توظيف المؤثرات الصوتية في فيلم "الصعود إلى الهاوية" أراد المونتير "سعيد الشيخ" أن يضع صوت رنات تليفون من المكتبة الصوتية الموجودة .. اعترض "كمال الشيخ"، وذلك لأن الفيلم تم تصويره في فرنسا، وهذا ليس صوت رنات التليفونات في فرنسا! .. وكان هنالك مَشهد آخر تم تصويره في محل "لافاييت" الشهير بفرنسا، حيث اعترض "كمال الشيخ" للمرة الثانية لأن الأصوات التي استخدمها المونتير "سعيد الشيخ" لا تليق بـ "لافاييت"، وأخذ يشرح "كمال الشيخ" أن المحل يُقدم إعلانات طوال الوقت بِالفِرنسية، وكانت النتيجة أنه طُلِبَ من السفارة المصرية في فرنسا تسجيل صوت التليفون في فرنسا، وأيضاً تسجيل أصوات داخل محل "لافاييت"!.
هذهِ العِناية الشديدة بالمؤثرات نُلاحظها في فيلم مِثل "على من نطلق الرصاص؟" .. اسم الفيلم يُشير لأهمية شريط الصوت أو المؤثرات "الرصاص" .. إلا أنه لا يكتفي فقط بصوت "الرصاص" الذي نسمعه في بداية الفيلم، والذي سينتج عنه الكثير، بل يُضيف إليهِ صوتاً آخر .. صوت النقرات .. والذي يخلق المزيد من التوتر .. منذ لحظة بداية الفيلم .. نقرات الآلة الكاتبة حين ينتظر "القاتل / محمود ياسين" في مكتب سكرتارية "المجني عليه / جميل راتب" قبل الشروع في قتله، ثم لحظة القتل، فيركض القاتل وفي يدهِ مُسدس ليُهدد به من يقترب منه .. صوت النقرات يتكرر .. هذه المرة هي صوت ركض "القاتل" على السُلم .. النقرات تتكرر .. هذه المرة في موسيقى "فؤاد الظاهري" .. تحديداً أثناء ترقب "زوجة القاتل / فردوس عبد الحميد" بجانب "زوجة المجني عليه / سعاد حسني" في غرفة الانتظار لمعرفة ما الذي ستُسفر عنه العملية الجراحية .. تبدو النقرات ظاهرة وغائبة في الوقت نفسه .. وللذكاء هي قادمة من العالم الطبيعي للشخصيات (صوت آلة الخياطة الخاصة بـ"أم زوجة المجني عليه" دلالة على فقر حال الأسرة / صوت الآلة الكاتبة في إحدى اللقطات الخاصة بذكريات "زوجة المجني عليه" عن القاتل قديماً حيث كانت تعمل كسكرتيرة قبل زواجها من "المجني عليه" نفسه .. إلخ) .. كلها تخلق "موداً" موتراً عاماً للفيلم لا يُمكن إغفاله أبداً.
المونتاج:
المونتير في السينما الصامتة - أي قبل ظهور "الصوت" - كان هو العنصر الأهم، حيث كان يُركب ما يشاء من المَشاهد لتخدم السياق .. وحتى مع اكتشاف "الصوت" وظهور دورهِ في الأفلام، كان الاعتماد على "المونتير" في بدايات السينما المصرية في ثلاثينات القرن الماضي – وقت عمل "كمال الشيخ" كمونتير - لإجراء عمليات التقطيع والربط لتوفير السياق الدرامي لقصة الفيلم من البداية إلى النهاية، حيث كان المونتاج يُستخدم في الماضي لإصلاح بعض العيوب في التصوير والقصة أيضاً .. أي أن لـ"المونتير" رؤية في "شريط الصوت" بشكلٍ كبير.
هناك نوع من المونتيريين يُطلق عليه "المونتير / المخرج" كـ"كمال الشيخ"، وهو الذي يفكر في المادة المُصورة وكأنه يعيد إخراجها من جديد، ويكون صاحب خِبرة عالية، واثقاً في نفسه، خاصةً أن قرار القطع النهائي يكون في يده دون أن يخاف أو يتراجع، فيقوم بحذف مَشاهد ويُضيف أخرى، مادام ذلك في صالح العمل، ويتوافر ذلك في الجيل الجديد، أما العباقرة القدامى كـ"سعيد الشيخ" – شقيق "كمال الشيخ" وعملا معاً في الكثير من الأعمال - فلا يتعاملون بمنطق العمل الفردي؛ لأنهم تعودوا أن يشاركوا المخرج والسيناريست في الرأي.
وفي السنوات الأخيرة اختلف دور المونتير، وتقلصت مساحة مُساهمتهِ في الفيلم، وأُسنِدَ "شريط الصوت" لـ"مهندس الصوت"، فأصبحت المقدمة مسؤولية الإنتاج ومساعد المخرج، حيث اقتصر دور المونتير بعدها على الجلوس على كرسي المخرج لمدة ساعات، بعدها يترك زمام الأمور للمخرج .
عمل "كمال الشيخ" كمخرج - ومونتير قبلها - جعلاه معنياً بـ"شريط الصوت" – كما سبق أن أشرنا - بالتالي كان "يضع يده"، بل ولديه "تصورات" و"رؤية" في عملية "شريط الصوت"، حتى مع وجود مُهندسين للصوت في الأفلام، فقد ساهم "الشيخ" في أفلام "أنور وجدي" - كما روى - وقت عمله كـ"مونتير" بصورة كاملة في "شريط الصوت" .. يقول "الشيخ": "كنت أساهم بصورة كاملة لتجسيد الشكل النهائي لاستعراضات أفلام أنور وجدي الغنائية، حيث كان أنور وجدي مُعتاداً على تصوير هذه الاستعراضات بشكلٍ كامل من زوايا مختلفة، وكانت مهمتي رسم تتابع اللقطات والديكوباج وشريط الصوت ليظهر الاستعراض في النهاية بإيقاعه المتدفق وملامحه السينمائية الخاصة".
وقد حكى الكاتب والمخرج الراحل "رأفت الميهي" عن عناية "الشيخ" بـ"شريط الصوت" .. قال: "تعلمت من كمال الشيخ إني "لما أشتغل مع مُنتج يبقى قلبي على فلوسه، مش داخل أعمل فيلم علشان أخرب بيته، و رأيت الشيخ وهو يحمل شرائط الماجنتيك تحت إبطهِ، وهو حريص عليها وكأنها ابنته، علشان يسجل بها الصوت، ولما يعطيه رمسيس نجيب علبة جديدة للصوت، يرفض ويقول: لا، خليها لتسجيل المزيكا، وبلاش تكاليف زيادة".
وبِما أن "المونتاج" لعبة "كمال الشيخ"، لهذا ليس غريباً أن نرى استخداماً مُبتكراً للمونتاج في فيلمهِ الأول "المنزل رقم 13" مع العناية بـ"شريط الصوت"، فيستخدم في هذا الفيلم مشهد "الفلاش باك" بصورة غير تقليدية، حيث إنه كان لا بُد من تفسير جزء من ماضي القصة، ففي المشهد الذي تذهب فيه "البطلة / فاتن حمامة" إلى "أم البطل / فردوس محمد" لتستوضحها عن بعض التفاصيل الخاصة باتهام "البطل / عماد حمدي" بالقتل، ومن المفروض أن تتذكر الأم ما حدث في ليلة معينة.
هنا لا يتبع "كمال الشيخ" الأُسلوب التقليدي في "الفلاش باك"، وإنما يجعل الكاميرا تتقدم نحو وجه الأم وهي تروي ما تتذكره عن تلك الليلة إلى أن قالت: "وكانت وقتها الساعة بتدق ثمانية" .. ثم يتبع ذلك تغيير الإضاءة من النهار إلى الليل، وتنتقل الأم من الحاضر إلى الماضي، مع استمرار صوتها Voice Over وهي تروي الأحداث، مع صوت الساعة المميز في "شريط الصوت" والتي تُشير لوقت عودة البطل من الخارج، وهي العلامة الفارقة في إثبات التُهمة على البطل أو العكس، وتندمج الأم في لحظة أحداث هذه الليلة التي تمثل الماضي ودليل براءة ابنها .. والجدير بِالذِكر أن المُطربة الراحلة "داليدا" قد ظهرت في هذا الفيلم بدور المُمرضة في مَشهدٍ واحد في عيادة الطبيب "محمود المليجي" على حد قول الفنان "سمير صبري"!.
"كمال الشيخ" بلا شك "سيد التفاصيل" .. لهذا ليس غريباً أنه بعد تكريمه من الدولة يتم تكليفه بإخراج فيلم عن الرئيس الراحل "السادات" بعنوان "يوم في حياة الرئيس" .. يستعرض فيهِ يوم الرئيس كاملاً .. منذ قيامهِ من النوم .. مُمارسة نشاطه الرئاسي .. وحياته العادية .. وأثناء التصوير كان الرئيس يجلس على مكتبهِ لتوقيع بعض الأوراق، وخلف الكاميرا كان "الشيخ" يهمس في أذن مُساعده - "أحمد النحاس" وقتها - بطريقتهِ المعتادة حين يطلب منه توجيه مُمثل: "قول للراجل ده ييجي شمال شوية" .. يرد عليهِ "النحاس": "وأنا مالي؟! قول له أنت!" .. وحضر "الشيخ" مع الرئيس أيضاً يوم استلام العريش، وفي كل مكان كان يذهب إليهِ الرئيس كان يجد "الشيخ" أمامه بالكاميرات، وكان كل ما يلتقي الرئيس بـ"الشيخ" وجهاً لوجه يقول له: "أنت مخرج جِن يا كمال .. أنت جِن"!.
"أكثر ما أكرهه التكرار .. التكرار"

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات