«الرجل الذي فقد ظله» بين الفيلم والرواية

مرام صبح 05 يناير 2019 كمال الشيخ الهارب من ظلة

الكاتب : مرام صبح
اللص والكلاب، شيء في صدري، بئر الحرمان، ميرامار، وغيرها روايات لأدباء لهم مكانتهم في العالم العربي وما زالت حتى الآن حديث القراء، نظرا لمحتواها المهم وأحداثها الشيقة وحبكتها المميزة.


جذبت هذه الروايات المخرج كمال الشيخ كأنها مغناطيس فاختارها وقام بإعادة كتابتها مع كتاب مختلفين لكي تصبح نصًا سينمائيًا.

في البدء كانت الرواية
في عام 1968 قام الشيخ بإخراج فيلمه الثالث والعشرين (الرجل الذي فقد ظله) عن رواية تحمل نفس الاسم للأديب المصري فتحي غانم الذي أثرى المكتبة المصرية بما يقرب من اثنين وعشرين رواية خلال مسيرته الأدبية، تحولت بعضها إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية مثل (الجبل، تلك الأيام، زينب والعرش، بنت من شبرا).
تعتبر (الرجل الذي فقد ظله) من الروايات الاجتماعية، عدد صفحاتها تقريبا 800 صفحة، كتبها غانم بأسلوب فني جديد مختلف عما هو سائد في تلك الفترة، متبنيًا وجهة نظر أربع شخصيات في أربعة أجزاء (مبروكة، سامية، محمد ناجي، يوسف السيوفي) تسرد هذه الشخصيات نفس الأحداث لكن من وجهه نظرها، الرواية تسرد قصة الصحفي الانتهازي (يوسف السيوفي) الذي داس على أجساد وأحلام كل من حوله من أجل الوصول إلى أعلى المناصب حتى إنه فقد كل شيء حتى ظله، ويقال إن هذه الشخصية واقعية مما أدى الى فصل غانم من موقع عمله آنداك.
الرواية أشبه بفيلم سينمائي يجبرك على عدم تحريك بصرك عن الشاشة حتى نهايته، سرد أدق التفاصيل، رسم الشخصيات بدقة، تسلسلت الأحداث بأسلوب مذهل.

ثم جاء الفيلم
رائد السينما التشويقية أو هتشكوك العرب هذه الألقاب وغيرها لم يحظ بها الشيخ بالمصادفة أو بالمجاملة.
لديه أسلوب تشويقي درامي انفرد به عن باقي جيله، واستطاع أن يوظفه بذكاء في أفلامه وأن يحافظ عليه طوال مسيرته، وأصبح صفة من صفات أسلوبه المميز.
يجتهد الشيخ في كتابة نصوص أفلامه مع المؤلفين بحيث قد يستغرق مدة زمنية أطول مما كان مخططًا، أو يلجأ إلى تغيير المؤلف في سبيل الحصول على سيناريو غنيّ مفصل، يهتم بأبسط التفاصيل، ويحدد بدقة عالية معالم كل لقطة.
استعان الشيخ بالسيناريست علي الزرقاني في كتابة سيناريو فيلم (الرجل الذي فقد ظله) بسبب ما يجمعهما من انسجام واتفاق إذ استعان الشيخ بالزرقاني عدة مرات خلال رحلته الإخراجية: في كتابة سيناريو أول أفلامه المنزل رقم 13 الذي أخرجه عام 1952 وفيلم "حب ودموع" عام 1955 وفيلم "حياة أو موت" عام 1954 وفيلم "أرض السلام" عام 1957 وفيلم "حبي الوحيد" عام 1960، بالإضافة إلى أن الشيخ قام بإخراج فيلمين من تأليف الزرقاني هما "مؤامرة" عام 1953 و"تجار الموت" عام 1957.

سرد الأحداث
قام الشيخ والزرقاني بسرد أحداث القصة في الفيلم من وجهة نظر شخصية واحدة وهي يوسف السيوفي الذي قام بدوره الممثل (كمال الشناوي)، بدأ الشيخ والزرقاني السرد عندما كان يوسف طالبًا جامعيًا في آخر سنة دراسية له حتى لحظة وصوله إلى السرايا.
أما في الرواية فتسرد كل من (مبروكة، سامية، محمد ناجي، يوسف السيوفي) تفاصيلَ من حياتهم والأحداث نفسها التي جمعتهم مع يوسف
(الشخصية المحورية)، وكرر الشيخ أسلوب السرد هذا في فيلمه ميرامار عام 1969 الذي اقتبس نصه عن رواية لنجيب محفوظ.

تغييرات وتعديلات
نلاحظ أن الشيخ والزرقاني قاما بالتعديل على أحداث الرواية الأصلية، مثلا العلاقة التي جمعت مبروكة التي قامت بدورها الممثلة (ماجدة) بعوض المكوجي لم نشاهد أحداثها كما سردتها الرواية، اكتفى الشيخ والزرقاني بذكر الأحداث في حوار دار بين مبروكة والسيدة الكبيرة.
وأيضا موت والدة (يوسف السيوفي) لم نشاهد موتها وجنازتها التي سردتها الرواية ولكن من خلال أحداث الفيلم عرفنا أن يوسف ووالده يعيشان وحدهما في شقة بعد موت والدته، وأيضا في الفيلم علمنا أن محمد ناجي وسامية تزوجا فقط، بينما ذكرت الرواية أسباب الزواج وسردت أحداث ما بعد سفره إلى باريس.
وهذه التعديلات ناسبت إيقاع الفيلم لأنه لو تم ذكر كل تلك الأحداث التي سردتها الرواية لزادت عدد المشاهد وأصبح الإيقاع بطيئًا ومملًا للمشاهد.

الشخصيات في الفيلم
برغم أن كمال الشيخ يبتعد في هذا الفيلم عن أسلوبه المعتاد القائم على الإثارة والغموض والمطاردة، إلا أنه حافظ على العنصر التشويقي في البناء الدرامي لشخصية الصحفي الانتهازي (يوسف السيوفي).

الصحفي الانتهازي
اختار الشيخ الممثل كمال الشناوي لكي يقوم بدور يوسف لأن ملامحه تتناسب مع الشخصية والأحداث التي مرت به، ففي الفيلم شاهدنا يوسف، طالبًا بالحقوق في السنة الأخيرة شغوفًا بالأدب والكتابة يرتدى نفس الملابس في أغلب الأوقات، يتردد على سراي راتب باشا الذي تربطه علاقة صداقة قديمة مع ابنهم حكمت تلميذ والده عبد الحميد السيوفي أستاذ الجغرافيا الفقير الذي قام بدوره الممثل (عماد حمدي) بالإضافة إلى صلة قرابة بينهما. يقع يوسف في حب سعاد التي قامت بدورها الممثلة (سهير فخري) وتزوجت غيره لأنه ابن لعائلة فقيرة ثم تتوالى الأحداث حتى تتغير شخصية يوسف إلى شخص يحتقر الحرمان الذي عاش فيه، متسلق، انتهازي، يستغل أية فرصة ولو على حساب أهله وأصدقائه ومن يحب في سبيل الصعود إلى الأعلى حتى إنه فقد نفسه.
نلاحظ أن الشيخ والزرقاني لم يعدّلا شخصية يوسف، فكان بناء الشخصية مطابقًا للرواية.

مبروكة
فتاة بسيطة وجميلة تعمل خادمة في سراي راتب باشا كانت تحلم بالزواج من ابنهم حكمت المنجذب إلى جسدها الجميل، وبعد وفاة زوجته، قام الأستاذ عبد الحميد بجلبها إلى البيت لكي تخدمه هو وابنه يوسف، تزوجت من العجوز عبد الحميد السيوفي بعد أن حملت منه.
نلاحظ أن الشيخ والزرقاني قاما بتعديلات على الشخصية فكانت في الرواية لديها أم جلبتها إلى السراى للعمل وورد أنها كانت تعمل في بيت دعارة لكي تعيش هي وابنها إبراهيم ذلك بعد وفاة زوجها عبد الحميد وتخلي يوسف عنها، أما الفيلم فأظهرها يتيمة وليس لديها أحد، بالإضافة إلى عملها في خياطة المناديل لتعيل ابنها.

سامية:
فتاة طموح تحلم أن تصبح ممثلة مشهورة، تعرفت بيوسف وكانت له الحبيبة والسند، ولكنه استغلها وصعد على أكتافها، وعندما أصبحت عبئًا على مستقبله تخلى عنها.
نلاحظ أن الشيخ والزرقاني لم يجريا تعديلات على شخصية سامية فجاءت مثل الرواية، فقط تم اختصار الأحداث التي مرت بها الشخصية.

محمد ناجي:
الصحفي القوي الذي يملك النفوذ، احتضن يوسف بعدما رأى أنه يصلح لمهنة الصحافة، قام بتوظيفه بالجريدة وتقديم المساعدة له، وبعد ذلك انقلب يوسف عليه ليطرده خارج الجريدة. نلاحظ أن الشيخ وعلي الزرقاني لم يعدلا الشخصية فجاءت مثل الرواية مع اختصار الأحداث.

الأماكن:
اختار الشيخ أماكن تصوير الفيلم كما تم وصفها في الرواية، مثلًا شقة عبد الحميد السيوفي (الصالون وغرفة نوم عبد الحميد، وغرفة نوم يوسف وتفاصيلها) وأيضا مكتب شوقي بالجريدة، وكذلك شقة محمد ناجي.
الموسيقى التصويرية: بعدما صنع الموسيقى التصورية لفيلم اللص والكلاب (1962) وفيلم حياة أو موت (1954) عاد الشيخ ليختار (أندريا رايدر) مرة أخرى لكي يصنع الموسيقى التصويرية لهذا الفيلم، والتي تجبرك على التوقف عندها وسماعها أكثر من مرة، فهي تضع المشاهد داخل شعور كل شخصية في الفيلم، مثلًا مشاعر الحب عندما التقى يوسف بسعاد في السرايا وأفصح عن حبه لها، ومشاعر قلق يوسف في آخر مشهد ما بين احتقاره لماضيه وتخليه عن أهله، وبين التفكير في المرحلة الجديدة، ففي المشهد الذي جمعه بمبروكة عند باب الجريدة .. موسيقى تتغلغل بداخل المشاهد كسرطان كي تصل إلى غايتها.

التعليق الصوتي: استخدم كمال الشيخ التعليق الصوتي في هذا الفيلم، فمثلا في المشهد الذي كان يوسف ينظر فيه إلى والده هو جثة في القهوة يصحبه تعليق صوتي لما يفكر به، وأيضا في آخر مشهد هناك تعليق صوتي بما يفكر به، وبهذا التعليق استطاع الشيح أن ينقل للمشاهد مشاعر وأفكار الشخصية.

المؤثرات الصوتية: استخدم الشيخ بعض المؤثرات الصوتية، مثلا صوت انفجارات الحرب بحيث يعيش المشاهد مع الأجواء الخاصة بهذه المرحلة في مصر.

أداء الممثلين: لا شك أن أداء الممثلين في هذا الفيلم كان ملفتًا للانتباه، شاهدنا الممثلة ماجدة لبست دور الخادمة مبروكة كأنه ثوب لها لقدرتها على التحكم بلغتها الجسدية فظهرت لنا فتاة مشاكسة جذابة، وأيضا الممثل علي جوهر الذي قام بدور (محمد ناجي) الذي كان مذهلًا في توظيف نبرة صوته التي من خلالها أثبت للمشاهد أنه الصحفي القوي، أما كمال الشناوي فتماهى مع يوسف ليبدو الشخص الانتهازي، يتصيد أية فرصة بعيونه لكي يستغله بكل قوته.

المجتمع الطبقي
طرح الشيخ في هذا الفيلم قضية الطبقية التي كانت تعاني منها مصر في تلك الفترة، الطبقية هي سبب معاناة يوسف السيوفي، من الواضح أن الشيخ كان مهتما بهذه القضية فقد طرحها في فيلمه "اللص والكلاب" عام 1961 البطل سعيد مهران، كان يسرق لكي يصبح من الأغنياء، وأيضا في فيلمه ميرامار عام 1969عندما اختار سرحان البحيري الزواج بعلية المدرّسة لكي ترفع من مكانته الاجتماعية.

النهاية
أنهى الشيخ الفيلم بمشهد نسمع يوسف يخطط للمستقبل وكيف يريد أن يستغل ماضيه ليركب الموجة القادمة، أما النهاية في الرواية فقد سمعنا أفكار يوسف ماذا يخطط بعد وفاة محمد ناجي هل يذهب الى سامية أم مبروكة؟
أخيرًا قال الشيخ في إحدى المرات (أهم الأعمال السينمائية هي التي تلتزم بالنص الأدبي) لا شك أن الشيخ والزرقاني نجحا في نقل الرواية إلى فيلم سينمائي، مع الحفاظ على النص الأصلي للرواية، ونقل لنا الأحداث التي كانت تعيشها مصر بتلك الفترة: الحرب، الغارات، الفقر، وطبقية المجتمع، وكيف أن الإنسان في سبيل الصعود إلى الأعلى يتخلى عن أهله ومبادئه.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات