علي من نطلق الرصاص متعة ترقب ألم الاصطدام

نور الصافوري 05 يناير 2019 كمال الشيخ الهارب من ظلة

الكاتب : نور الصافوري
يفصلنا عن أول عرض لفيلم "على من نطلق الرصاص" أربعة وأربعون عاما. أخرجه كمال الشيخ في عام 1975 وألفه وأنتجه رأفت الميهي من خلال "استوديو 13" ولعب دور البطولة فيه سعاد حسني، ومحمود ياسين، وعزت العلايلي ومجدي وهبة وجميل راتب. أعدتُ مشاهدة الفيلم مؤخرا، ولفت انتباهي ما تبينه تجربة الفرجة التي يمر بها المشاهد عن تبعات التغيرات الاقتصادية والسياسية التي شهدتها مصر في السبعينات.


يقترح على أبو شادي في كتاب "وجوه وزوايا" تقسيم أفلام كمال الشيخ إلى مجموعتين: سينما الفرجة (من 1952 إلى 1962) وسينما الفرجة والفكر (من 1962 حتى 1987). بالنسبة له الأفلام التي اعتمدت على التشويق الدرامي من أجل إمتاع المشاهد(ة) لم تحمل نقدًا اجتماعيًا لأن صانعيها استغرقوا في آليات وتكنيكات السرد وحبك تجربة مشاهدة لذيذة، أما الأفلام التي اعتمدت على "الفكر" إلى جانب الفرجة - وهذا الفكر يأتي به بشكل أساسي كاتب السيناريو الماهر- استطاعت أن تقدم نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا. ربما في هذه الفصلة شيء من الجمود لأن في حبك تجربة الفرجة نفسها وعي اجتماعي، متعتنا من مشاهدة فيلم نتيجة لتراكم اجتماعي وثقافي وبالتالي فعل الفرجة ولذة المشاهدة يحملان رؤية للواقع الاجتماعي ويساهمان في تشكيله، والانشغال بهما لا يعني عدم الاكتراث بالبعد الاجتماعي للسينما، بل العكس. "على من نطلق الرصاص" مثال جيد يوضح ارتباط علاقة المشاهد(ة) بالشاشة - من خلال الفرجة - بعلاقة المشاهدين مع بعضهم، أي بالبعد الاجتماعي في تجربة الفرجة في السينما.

يبدأ "على من نطلق الرصاص" بلقطة يظهر فيها رجل يرتدي بدلة رمادية داخل كادر ضيق، يسير في شارع مزدحم، تتبعه الكاميرا وكأنها عين متلصصه تسير خلفه في ترقب. ثم تبتعد ويتسع الكادر ونرى الرجل يصعد سلالم مبنى ضخم ويختفي داخله. يظهر مرة أخرى وقد لحقت به الكاميرا واستأنفت متابعته من الخلف.

يسير في خطوات ثابتة باتجاه مكتب "رئيس مجلس الإدارة" ولا نرى وجهه إلا عندما تلتفت الكاميرا لتأخذ موقعًا في مواجهة الرجل مجهول الهوية. يخبرنا اسمه: "مصطفي حسين". ونرى ملامحه لأول مرة.

يبدو مصطفى ( محمود ياسين) من هيئته كباقي الموظفين في المكتب ممن ينتظرون لقاء المدير ولكن تعبيرات وجهه من خلال اللقطات الكلوز (القريبة) توحي بأن صبره قد نفذ ولا ينوي البقاء طويلا في انتظار دوره.

وبالفعل بعد دقائق قليلة يقتحم مصطفى مكتب رشدي عبد الباقي (جميل راتب)، ويفرغ رصاصة في صدره ثم يركض خارجًا إلى الشارع، فتصدمه سيارة تؤدي إلى إصابته وفقدانه الوعي.

عندما تسأله السكرتيرة قبل إطلاق الرصاص عن سبب طلبه مقابلة رشدي بيك، يخبرها بأنها "مسألة شخصية" دون إعطاء أي تفاصيل. تبدأ فيما يتبع ذلك عملية استقصائية، محورها المحقق عادل (عزت العلايلي) وكيل النيابة المسئول عن القضية، الذي ينبش في التفاصيل ليبين علاقة مصطفى برشدي والأسباب التي أدت إلى محاولة القتل.

يكشف "على من نطلق الرصاص" في متتالية اللقطات الأولى عن الموقع الذي يضع فيه المشاهد(ة) على مدار أحداثه وبالتالي نوع متعة الفرجة التي يصنعها الفيلم. يتعمد الفيلم إعطاء أقل المعلومات وجعل المشاهد(ة) يقتفي آثار أحداث قد انتهت ولكنه لا يعلم ملابساتها، وفي هذا الصدد يأتي المحقق عادل وسعيه لكشف ملابسات القضية وكأنه التمثيل على الشاشة لفعل المشاهد(ة) في هذا الفيلم. يجسد عادل موقع المشاهد(ة) الذي يدفعه فضوله إلى البحث (خلال مشاهدة الفيلم) من أجل كشف التفاصيل والوصول إلى الحقيقة. ولكن سريعًا ما يتبين أن عادل فاعل آخر داخل مسرحية أكبر يتابعها المشاهد(ة)، وليس البطل الذي يدفع الأحداث.

يفصح الفيلم عن معلومات للمشاهد(ة) يجهلها عادل. يحدث ذلك لأول مرة عندما يذهب عادل إلى بيت مصطفى برفقة بدرية (فردوس عبد الحميد). تكتشف الشرطة وجود صورة فوتوغرافية تجمع مصطفى بتهاني، زوجة رشدي عبد الباقي (سعاد حسني)، فيسأل عادل بدرية عما تعرفه بخصوص علاقة زوجها بتهاني. ترد بأن تهاني استغلت مصطفى وضحكت عليه كي يقتل لها زوجها فتخرج هي براءة ويدفع هو الثمن. ولكن تسرح بخيالها - المشاهد فقط يرى على الشاشة ذاكرة بدرية من خلال الفلاش باك - إلى نقاش دار مع مصطفي حين واجهته بتعلقه الجنوني بهذه السيدة التي تجهل هويتها ولكن تعلم أنه متيم بها بدرجة جعلته عاجزا عن التفكير في غيرها. يكتسب المشاهد معلومات أكثر مما يعلم المحقق عادل عن مصطفى واهتماماته وبالتالي ينتقل المشاهد(ة) تدريجيا من موقع الفضول، وهو موقع المحقق عادل، إلى موقع الترقب ويصبح قادرًا على استباق الأحداث وتوقعها. هنا اختلاف محوري.

بينما يعتمد الفضول على حجب معلومات وإفصاحها في أضيق الحدود، يعتمد الترقب على المعرفة التي تسبق الأحداث بحيث يستطيع المشاهد(ة) أن يتوقع الحدث قبل حدوثه. يكتب شارلز ديري أن " إذا كان بناء الفضول لدى المشاهد(ة) يعتمد على حجب المعلومات عنه/ا، فالتشويق (suspense) يتطلب كشف معلومات كافية للمشاهد كي يستطيع ترقب ما سوف يحدث". ارتبطت لذة المشاهدة في فيلم "على من نطلق الرصاص"، وأفلام كمال الشيخ بشكل عام، بالتشويق كبناء سردي ولكن أيضا يدفعنا كلام شارلز ديري للتساؤل عما نترقب في هذا الفيلم وبالتالي ما الذي نتشوق إليه.

نحن نترقب ونتشوق إلى الموت! موت مصطفى جراء حادث السيارة أو موت رشدي من طلقة الرصاص. وعندما نقابل بدرية لأول مرة يكشف الفيلم معلومات عن حياة تعيسة وعندما نقابل تهاني نعلم بأننا على وشك كشف ماض مرير مازالت أشباحه تطارد الحاضر. لذة المشاهدة هنا هي لذة مازوكية (masochistic) تجد في الإضرار والألم الجسدي والنفسي متعة. مصطفى نفسه وجد لذة في عذابه وفي موته، ألمه كان القربان الذي قدمه لتهاني حبيبته. لا يعتمد السرد التشويقي على المتعة المازوكية بالضرورة ولكن في هذه الحالة المازوكية تفسر لذة التشويق التي يستمتع بها المشاهد ونوع عقد اجتماعي يعتمد على الخضوع (submission).
تعريف المازوكية: الحصول على متعة من التعرض للألم الجسدي أو النفسي أو الاثنين معا ومتعتها مبنية على فعل الخضوع من خلال عقد ضمني يتفق عليه الطرفان. والمازوكية هي عملية توضح جانبًا من علاقة المشاهد بشاشة السينما في القاعة المظلمة حيث نخضع نحن أيضا كمشاهدات ومشاهدين إلى سحر البروجكتور.

كنت أتحدث إلى صديقة عن الفيلم وقالت لي أن "على من نطلق الرصاص" فيلم نوار (film noir) هناك خلافات حول كون النوار نوعية أفلام أم أسلوب أم جماليات صورة، وهذا لم يشغلني لأنه ربما يكون النوار كل ما سبق؛ فلا يعنيني هنا بالضرورة تصنيف الفيلم. ولكن ما شغلني بعد هذا الحديث هو تجربة المشاهدة التي تميز بها الفيلم النوار والتي غالبا ما تمزج متعة الفرجة بلذة مازوكية تماما مثل "على من نطلق الرصاص".

تكثفت إنتاجات الفيلم نوار في هوليود بعد الحرب العالمية الأولى لتظهر الجانب المظلم من الحلم الأمريكي حيث بات الكثيرون محبطين من سياسات اقتصادية توسع رقع اللامساواة في المجتمع. تكتب ميشيل أرون أنه بجانب الميلودراما، الفيلم نوار هو مساحة أخرى في تاريخ السينما نجد فيها البطل، ذكرًا غالبا، الذي يسعى إلى تدمير ذاته. تختار ميشيل في كتابها الذي يفند أنواعا مختلفة لمتعة مشاهدة الأفلام التركيز على الفيلم النوار في علاقته مع اللذة المازوكية وتكتب أن هناك عدة أسباب لاهتمامها بتحليل تجربة المشاهدة التي تميز بها الفيلم نوار، الاقتباس طويل ولكنه يضيء الطريق، تكتب ميشيل:

"أولاً، وقبل أي شيء، المزج في الفيلم نوار ما بين المثير جنسيا والخطير يجعله مثالا نموذجيا لاستغلال الفيلم التجاري لمتعة التأرجح بين ما يعطينا لذة وما يثير اشمئزازنا. ثانيا، الفيلم نوار بمثابة ملعب لعدد كبير من المنظِّرات والمنظِّرين في السينما ممن عززوا فهمنا للرابط ما بين التاريخ الاجتماعي الأمريكي، والأسلوب السينمائي، والسياسات الجنسية في السينما. في نظر لورا ملفي، على سبيل المثال، السيدة الساحرة التي تظهر دائما في الفيلم نوار (femme fatale) هي تجسيد لتوتر النظام الأبوي وأصبح الفيلم نوار هو مجال الدراسة الذي تختاره الأغلبية من أجل توضيح النموذج الكلاسيكي للمشاهدة {توضيح من كاتبة هذا المقال: النموذج الكلاسيكي للمشاهدة هو النموذج المبني على هذا التوتر داخل السلطة الأبوية} ...
ثالثا، من خلال استمرار وجود الفيلم نوار في تاريخ السينما وتطوره على مدار تراكم إنتاجاتها، وخاصة من خلال أساليب "جنسنة" (sexualization) العلاقة المركزية في الفيلم، يساهم الفيلم نوار في توضيح الدور الذي لعبته السينما في مداعبة، ونشر، مفاهيم حول الانحراف الاجتماعي/الجنسي. رابعًا، الديناميات الإيروتيكية التي تتشكل ما بين قطبين العلاقة المركزية في الفيلم وتأرجح آليات السرد ما بين فعل المشاهدة، والانتظار، والتوهم (fantasizing)، كل ذلك يضيف إلى تجربة المشاهدة، وليس فقط بالقياس، كثافة وقوة."

تستدعي ميشل انتباهنا للعلاقة بين مصطفى وتهاني التي تصير مفتاحا في قراءة تجربة مشاهدة الفيلم في علاقتها مع السلطات الاجتماعية المحيطة. هي علاقة تمزح ما بين الاشتهاء وتوهم ما هو بعيد المنال وسعي مصطفى وراء الموت - الإعدام - أو السجن المؤبد في أحسن الأحوال. يتتبع المشاهد رغبات الشخصيات التي تمتزج فيها الشهوة الرومانسية باللهث وراء تراكم ثروة في حالة تمزج كما تقول ميشيل ما بين "فعل المشاهدة، والانتظار، والتوهم". ما هو مثير في الأمر أن خطورة تهاني في هذا الفيلم لا تكمن في أنوثتها الفجة التي تسحر الرجال ومن ثم يخطون خطوات ثابتة باتجاه التهلكة بسبب المرأة المدمرة (وهذا trope أو عنصر متكرر في أفلام النوار الأمريكية من خلال شخصية الfemme fatale). خطورة تهاني تكمن في هوسها بالمال والثروة وسعيها إلى حياة مثل تلك التي تعيشها الطبقة البرجوازية ("شعبطتها بالناس اللي فوق" كما وصفها مصطفى). فهي تجذب نوعا معينا من الفساد: الثراء غير المشروع. مما يؤدي إلى الفضيحة في حالة رشدي عبد القادر (بسبب تهاني) أو تمرد وموت في حالة مصطفى حسين وصديق عمره سامي (مجدي وهبة).

تسترجع تهاني ذكريات فترة خطوبتها لسامي. في لقطة تظهر تهاني تسير ومعها مصطفى وسامي في شوارع وسط البلد. تقف أمام محل أثاث وتنظر إلى البضاعة المعروضة وتتنهد: "يا سلام لو الواحدة صحيت من النوم تلاقي عندها شقة فيها العفش ده."

فيرد عليها مصطفي بعد أن لمح سعر السفرة المعروضة: "ممكن، يادوبك كده مرتبك على مرتبها لمدة أربع خمس سنين."

فتضحك تهاني وتداعبه: "حضرتك ناسي العلاوات ولا إيه؟"

تلمح سيارة فارهة معروضة في محل سيارات قريب. في هذه اللقطة تظهر الكاميرا هوس تهاني بالبضائع الفخمة التي تحلم بشرائها وهوس مصطفى بتهاني ومن ثم استسلام مصطفى (وسامي) حيث يعلمون أن في حب تهاني فناء حتمي من جراء الإنهاك والضغط بسبب العمل المستمر كي يستطيعوا توفير الحياة التي تتمناها. الوهم أو الfantasy الذي تفصح عنه الصورة التي يأخذها مصطفى لتهاني وسامي بجانب السيارة هو وهم "امتلاك" السيدة الجميلة والسيارة الفارهة: في المجتمع الجديد تصبح السيدة الجميلة بضاعة لا يقدر على ثمنها إلا الغني تماما مثل السيارة الفارهة. وبالفعل يتمسك مصطفي بالصورة - يمتلكها ربما - ويحافظ عليها لسنوات حتى تصادرها الشرطة كأدلة في القضية.

تظهر تهاني ساحرة، يتمناها المشاهد(ة) مع مصطفي حين يحمل الكاميرا وينظر بعينه إلى تهاني التي تقف أمام الكاميرا. في هذه اللقطة يتبين الفرق بين سامي ومصطفى. مصطفي غير قادر على التأقلم مع العالم الجديد بعد انهيار الحلم الاشتراكي وهذا ما يزيد حبه لتهاني ألمًا لأن العالم يسير في اتجاه وحبيبته تسحبه مع التيار ولكنه غير قادر على المواكبة وكأن التهلكة لا مفر منها. هذا يجد صداه أيضا في تجربة المشاهد حيث يبدأ الفيلم بترقب الموت وكأنه لا مفر منه؛ صنع كمال الشيخ فيلما يستخدم البناء السردي للتشويق (suspense) كي يزيد الشعور لدى المشاهد بأن العالم محتوم عليه بنهاية مسبقة نترقبها منذ البداية ولا مفر منها.

في أكتوبر 1970 تولى محمد أنور السادات الحكم في مصر وانتهى الحلم الاشتراكي الذي آمن به الكثيرون خلال فترة عبد الناصر. وبدأ السادات في تغير النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. المجتمعة كله خضع إلى مفرمة التغيير، أعاد السادات تشكيل مراكز القوى وأخذت طبقة من أصحاب رأس المال مقاليد الحكم في ظل تراجع الدولة الاشتراكية وظهور رأسمالية الدولة. كانت الدولة المصرية في هذا الوقت تعاني من الفساد في الأجهزة الرسمية وكثرت فضائح الاختلاس. فعل الاضطهاد أصبح أساسيا في تكوين الميثولوجي التي أحاطت بالطبقة الجديدة من الأغنياء. سلطت من جاء بهم نظام السادات إلى قمة المجتمع قائمة على فعل القصاص، فبينما كانت مخابرات السادات تصفي كل رموز النظام السابق، كانت هذه الطبقة الجديدة تخنق أنفاس أي حلم بعدالة اقتصادية في المجتمع. فهي طبقة تضطهد من هم أضعف منها.

هل يتوق مصطفى إلى عذابه بشكل إيجابي أم تسوقه إليه قوة أكبر بشكل سلبي؟ هناك فرق لأن في الحالة الأولى هو شخص يدري بموقعة كفرد في "هيراركية" سلطة وبالتالي يمكن لنا أن نفكر في هذا الاشتياق المازوكي كونه سعى إلى التلاعب بعلاقات القوة في المجتمع وموقع الفرد داخله، نلعب الخضوع ثم نقوم ونلعب السيطرة. ولكن أتذكر هنا كلام بدرية عندما قال لها عادل "اش عرفك انها هي اللي ضحكت عليه مش يمكن هو اللي ضحك عليها" فقالت: "مصطفى، انتم ماتعرفوش مصطفى". بدرية تجد من المستحيل أن يكون مصطفى فاعلا فهو دائما مفعول به، منجرف في تيار أكبر منه. لذة عذابة لا تأتي عن قصد ورغبة في التلاعب بالسلطات الاجتماعية، هي فقط تأكد حتمية هذا البنيان الاجتماعي، فهي رغبة محافظة تسعى إلى بقاء الوضع الراهن كما هو.

نعلم من خلال الفلاش باك أن مصطفى حسين اعتقل في 1964 لمطالبته بمزيد من القوانين الاشتراكية وأفرج عنه بعد النكسة في محاولة من عبد الناصر لتهدئة المطالبين بمحاكمة المسئولين عن الهزيمة واعتقل مرة أخرى عندما شارك في كتابة منشورات "تطالب بتقديم المسئولين للمحاسبة وعودة جميع الأحزاب بما فيهم الحزب الشيوعي". بالإضافة، يعاني مصطفى من الاضطراب النفسي نتيجة تعذيب شديد تعرض له داخل السجن. مصطفى مضطرب نفسيا، عاجز عن التأقلم في المجتمع الجديد، يخرج من المعتقل ليجد صديق عمره مات مقتولا في السجن بسبب فساد الدولة ويزيد قهرة عندما يجد حبيبته تهاني قد تزوجت من رشدي، المثال الحي للطبقة الجديدة من الفاسدين. ونجد تهاني بعد موت خطيبها سامي قد تزوجت من مديرها، رجل عجوز، قايضت جمالها وشبابها في مقابل حياة أحسن توفرها لها ثروت رشدي. تعيش في ذكرى أبدية لسامي، كأنها قررت أن تكفر ثمن جريمة لم ترتكبها، فهي لم تدفع سامي إلى الاختلاس من أجل توفير الحياة التي طالما حلمت بها. لكن في عين مصطفى مذنبة ولذلك فلابد أن تعيش إلى الأبد تعيسة تكفر عن ذنب لم تقترفه. هذه هي ديناميات العلاقة؛ يجد مصطفى لذة في لحظات لقائه بتهاني لأنها كما يقول "أكتر واحدة فهماني" وهو "أكتر واحد فهمها" ولكن كلامه يعذبها. الشخصية المازوكية هي شخصية تحصل على متعة عند تلقي التعذيب النفسي أو الجسدي أو عند ممارسته على الآخرين، هي شخصية سادية في أشد الحالات، ولكن في مداعبات الغرام هي شخصية من يجد متعة في الألم.

هذه متعة مختلفة عن السائد من ممارسات، لها مدلولها عن الانحراف الاجتماعي/الجنسي، واستغلالها في الفيلم يؤدي بنا إلى السؤال عما تؤكد من سلطات وماذا يعكس لنا استمتاعنا عن أنفسنا؟ نحن نتشوق للنهاية، نتوق إليها بينما نعلم أنها في الأغلب موت مصطفى. متعة التشويق في هذا الفيلم مبنية على الخضوع وفي الوقت نفسه الميثولوجي الاجتماعي الذي يؤكد عليه موت مصطفى ونجاة رشدي من الموت وتعاسة تهاني وبدرية هو أنه من المستحيل تغيير الواقع في ظل الظروف الاجتماعية المحيطة في فترة السبعينيات، ما يطلبه الفيلم من المشاهد(ة) هو الاستمتاع بسلطة قدر لا مفر منه وخضوع لسلطة سياسية لا تأبى.

ينتهي الفيلم بلقطة بكاء تهاني بعد أن أبلغت عن رشدي ومات مصطفى وتعلم عادل درسا مهما، أن هناك بعض الأحيان التي تستدعي فيها "مصلحة البلد تحكيم السياسة أكثر من تطبيق القانون". يحبك الفيلم عالم في مركزة امرأة (تهاني) لأنها هي الأدرى بمعنى أن يجد المرء لذة في العذاب. تهاني لا يأتيها خلاص الموت ولا تستمر في التمتع بثروة رشدي، فهي تفقد كل شيء وبعد فقدان سامي تفقد مصطفى ويزيد داخلها الإحساس بأنها هي المذنبة وهنا نجد السياسات الجندرية التي يستغلها الفيلم والسلطات الاجتماعية التي يؤكد عليها. المرأة في المخيلة الأبوية هي علامة استفهام، إناء فارغ يمكن أن يتحمل إسقاطات "الدولة" عن كل ما تعتبره سبب اشمئزاز وانحراف دون إثارة التوتر الذي قد يفضي إلى إعادة تشكيل السلطات الاجتماعية. مصطفى يفتقد عنجهية وجرأة الرجال التي يتمتع بها رشدي وسامي في لحظات خلال الفيلم. مصطفى لم يستطع الانتظار بشهامة وشجاعة أصحاب القضية حتى تقبض الشرطة عليه. حاول الفرار. لا يشكل مصطفى خطرًا حقيقيًا على السلطة الاجتماعية السائدة وبالتالي يمكن لنا أن نجد متعة في أفعاله المتمردة بدلا من أن يضرب الرعب صدورنا.

تقول ميشيل أرون في الاقتباس أعلاه أن الفيلم نوار يداعب من خلال ديناميات العلاقة المركزية فيه مفاهيمنا عن الانحراف الاجتماعي وأنواع الاستمتاع التي تحيد عن المتعارف عليه في المجتمع ولكن لا تبدد هدوءه لأنها تثير فقط الاشمئزاز لا الرعب. نحن لا نعترف مثلا أنه ربما في الألم لذة وأنه ربما شخصيات تسعى إلى متعة الممارسات المازوكية وأن هذه المشاعر تُلاعب علاقات السلطة الأوسع في المجتمع وهي مساحة محتملة لإعادة تشكيلها. ما يدور في المساحات الخاصة لم يعد على بعد مما يحدث من صراعات في المحيط الاجتماعي والسياسي. يمكننا تحليل فيلم "على من نطلق الرصاص" من خلال النظر إلى نوع متعة المشاهدة التي يوفرها أن نربط ما بين اختيار كمال الشيخ للتشويق كبناء سردي والسبعينيات في مصر كسياق اجتماعي والسياسات الجندرية التي يعتمد الفيلم عليها ويستغلها. هذا التحليل يتحرك بنا من المساحة الحميمة بين المشاهد والشاشة إلى المساحة العامة بين المشاهدين كأفراد في مجتمع ليوضح تأثير العام على الخاص والخاص على العام.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات