فتحي إمبابي يكتب: جماعة السينما الجديدة

فتحى امبابى 19 نوفمبر 2020 السينما البديلة صناع الجمال

الكاتب : فتحى امبابى


عقب هزيمة يونيو 1967 حدث تغير حاد في المزاج الشعبي تجاه
النظام السياسي، خاصة بسبب الأساليب غير الديمقراطية التي قادت
البلاد إلى كارثة أحدثت شرخا عميقا في الشخصية المصرية، وبدأت
تظهر في أوساط العمال والطلاب والمثقفين والفنانين تحركات
واسعة، انعكست في مظاهرات الطلاب والعمال في فبراير ونوفمبر
1968 ، وطوال عقد السبعينيات من القرن الماضي، عبرت عن السخط
تجاه الهزيمة، والاحتجاج على الأوضاع غير الديمقراطية، انعكست
في معارضة السلطة، والرغبة في تحرير سيناء وضرورة المشاركة في
صنع مصير البلاد التي دمرها الاستبداد.

وفي ظل هذه الظروف تكونت جماعة تحت اسم “جماعة السينما


الجديدة” ضمت عددا من خريجي المعهد العالي للسينما) 1( ، من
أولئك الذين كانوا يعتقدون أنهم مؤهلون ولديهم القدرة )بحكم
دراستهم واطلاعهم على التيارات الجديدة في السينما العالمية(، على
تقديم سينما غير تلك التي تسيطر على السوق، كانوا غاضبين على
تردي الأوضاع، ويبحثون عن فرص لصنع أفلام تعبر عن آمالهم
وطموحاتهم، لا يمنحهم إياها منتجو القطاع الخاص، أو المسئولون
في مؤسسة السينما الحكومية، وقد انضم لهم بعض العاملين في
التليفزيون، وعدد من نقاد مثقفين شباب، يمثلون تيارات نقدية
متباينة، يجمعهم إيمانهم بأن النقد السينمائي يجب أن يكون فنا
مؤسسا على أصول وجماليات الفن السابع، بعيدا عن الانطباعية
والثرثرة.
التأثر بتجارب السينمائية
العالمية الجديدة

كان الجميع متأثرا بالتجارب السينمائية العالمية الجديدة،
خاصة الموجة الجديدة في فرنسا، والسينما الحرة في بريطانيا، وسينما
ألأندرجروند في نيويورك الولايات المتحدة، والتجارب السينمائية التي
ظهرت في أوروبا الشرقية في ظل القبضة الحديدية للنظام الشمولي،
والجميع تحدوه الرغبة في صناعة سينما جديدة وأفلام جادة تعبر عن
هموم المجتمع المصري، وتسهم فى الكشف عن أزماته التي وصلت به إلى
واقع الهزيمة المرير.
وقد ضمت الجماعة فى عضويتها المخرجين الراحل رأفت
الميهي، ومحمد راضي، وعلي عبد الخالق، وداود عبد السيد، وأشرف
فهمي، والمصورين محمود عبد السميع، وسعيد شيمي، وسمير فرج،
والمونتيرين أحمد متولي، ورحمة منتصر، وعادل منير، والنقاد سامي
السلاموني، وسمير فريد، ويوسف شريف رزق الله، وخيرية البشلاوي،
والفريد ميخائيل، وسامي المعداوي، وعلي أبو شادي، وفتحي فرج،
وصبحي شفيق، ومخرجي الأفلام التسجيلية ابراهيم الموجي، وأحمد
راشد، وهاشم النحاس، ونبيهة لطفي، وفؤاد التهامي، وفؤاد فيظ الله،
وكتاب السيناريو مصطفى محرم، وفايز غالي، وصلاح مرعى،
وعادل منير - نهاد بهجت، ومصطفى محرم، ومجيد طوبيا.

1- البيان التأسيسي لجماعة السينما الجديدة

في مايو 1968 أُعلِن تكوين "جماعة السينما الجديدة" عن السينما
الجديدة، وأصدر أعضاؤها بيانا يحدد مفهوم الجماعة للسينما، عبروا
فيه عن أفكارهم التي عجزوا عن تحقيقها) 1(.
السينما فن يقوم على أسس علمية
أشار البيان )في نوع من التنبيه إلى انتمائهم إلي معهد السينما(،
إلى أن "السينما فن يقوم على أسس علمية ومعرفة بخصائص الضوء
وكيمياء الفيلم وحساسيته، وعلى الموقف الذي يتخذه السينمائي من
التيارات الفنية المعاصرة، فالسينما فن يجمع الفنون في عضوية يتم
تحقيقها على أسس علمية".
الإمكانيات التقنية
والخروج من الاستوديو
وأشار البيان إلى أن حجة السينمائيين بضعف الإمكانيات وتخلف
معدات التصوير هي حجة زائفة، وأن المشكلة الحقيقية هي في
الإنسان الذي يستخدم الآلة. وعن تبنيهم المفاهيم الجديدة للسينما
العالمية، دعا البيان إلى ضرورة الخروج للتصوير خارج الاستديو.
المفهوم التقليدي المتخلف
للإنتاج السينمائي
عارض البيان طرق الإنتاج المتخلفة التي تتبعها المؤسسات
الحكومية، وعلى المستوى الإنتاجي والاقتصادي، وأرجع البيان تخلف
نظام الإنتاج المصري السائد إلى سيادة نظام النجوم، وما يتبعه من بناء
سيناريوهات لا تقوم على تحليل الواقع الإنساني، وإنما تكتب لخلق
جو يحيط بالنجم، وأن الميزانيات توضع على أساس مجموع النجوم لا
على أساس دورة الفيلم الحقيقية في السوق.
البحث عن رواد
أوضح البيان أن تاريخ السينما )المصرية( يفتقد لسينمائيين
يهتمون بالتعبير عن أفكار وأشكال فنية جديدة، في قامة السينمائيين
العالميين أصحاب تيارات جديدة، أمثال؛ ايزنشتاين) Sergej )2
Mihajlovi Ejzenštejn وروسليني) ،Roberto Rossellini )
وجان لوك غودار) Jean-Luc Godard )4 ، وانجمار برغمان ) 5(
."Ingmar Bergman
طموحات وأهداف نبيلة
حدد البيان هدف الجماعة، وهو استعادة جمهور السينما المحلي
وتحقيق انتشار عالمي، وللتمكن من تحقيق ذلك ينبغي بناء سينما
جديدة، من أهم مواصفاتها:
• التعمق في حركة المجتمع المصري وتحليل علاقاته.
• الكشف عن معني حياة الفرد وسط العلاقات الاجتماعية.
• سينما معاصرة تكتسب خبرات السينما الجديدة على مستوى العالم.
وذكر غالب شعث في مذكراته ) 6(، "كان غالبيتنا من خريجي
معاهد السينما الباحثين عن ذواتهم، ا مُجلمعين على أن السينما التي
نريدها لا يمكن تحقيقها إلا من خلال أساليب جديدة في الإنتاج
والتوزيع، تتمتع بحرية في اختيار الموضوع المعاصر، واختيار الممثلين
المناسبين، بدون الوقوع في شباك "الشبّاك"، هذا بالإضافة الى اللغة
السينمائية السليمة، وحرية التعبير".
وفي المقابل أعلنوا أنهم امتداد أصيل للتيارات الجادة في السينما
المصرية، ولسينما كمال سليم، وكامل التلمساني، ويوسف شاهين،
وتوفيق صالح، وصلاح أبو سيف.
يروي غالب شعث )في مذكراته المشار إليها سابقا(، تفاصيل
قيامه بترجمة ونشر بيان حركة السينما الألمانية الجديدة، التي
قادها ألكسندر كلوج وادجار رايتز في أوائل الستينيات، والذى عرف
باسم "بيان أوبرهاوزن")(، ومما جاء فيه: "نحن هنا نجاهر بالتمسك
إلى حريات جديدة، حرية 7 من عبودية السينما التقليدية.. حرية من
سيطرة "الشبّاك" والربح.. حرية من كل وصاية".
ويستطرد غالب في مذكراته: "أما البيان الآخر الذي ظهرت
ترجمته في عدد لاحق في )مجلة الغاضبين( ) 8( عام 1968 و 1969 ،
التي أتاحها لهم الناقد المعروف الراحل رجاء النقاش، فكان هو بيان
حركة السينما الجديدة في أمريكا، الشاطئ الشرقي، الذي أعلنوا
فيه ثورتهم على سينما الشاطئ الغربي )هوليوود( التي اتسمت،
في نظر القائمين بحركة السينما الجديدة، بتزييف الواقع، وقد
جاء في البيان نداؤهم الشهير: نحن لا نريدها أفلاما وردية.. بل
نريدها حمراء مثل الدم، يقول شعث، إنه نتيجة لذلك أتُّهِمنا نحن
)جماعة السينما الجديدة(، بأننا شوية عيال شيوعيين".
النشاط
وفى سبتمبر 1969 نظمت جماعة السنيما الجديدة حلقات عن
السينما التشيكوسلوفاكية الجديدة، لكونها أهم حركات التجديد
السينمائية فى العالم فى الستينيات، وقامت بالاشتراك مع جمعية
الفيلم ونادى سينما القاهرة وجمعية النقاد بتنظيم عروض سينمائية
فى أواخر ديسمبر عام 1972 لدعم كفاح الشعب الفيتنامي في
مقاومته للعدوان الذي تشنه الولايات المتحدة الأمريكية.
الإنتاج المشترك
في ظل وجود دكتور ثروت عكاشة، وزيرا للثقافة، تم الاتفاق على
قيام "مؤسسة السينما المصرية التابعة للقطاع العام السينمائي" مع
مجموعة شباب السينمائيين في "جماعة السينما الجديدة" بإنتاج
مشترك، يتبني صيغة المشاركة، حيث تسهم الجماعة بأجور العاملين
في الفيلم، من الكاتب إلى المخرج إلى المصور إلى الممثلين، وغيرهم من
أعضاء الجماعة أو أنصارهم، بأجورهم، أي بنسبة ما يوازي 30 في
المائة من ميزانية الفيلم، على أن تسهم مؤسسة السينما بنسبة 70
في المائة الباقية، وتوفر بالتالي السيولة اللازمة للإنتاج نفسه، على
أساس أن يحصل العاملون بالفيلم على أجورهم ومستحقاتهم
كاملة من إيرادات التوزيع والعرض.
وقد تمكنت الجماعة من إنتاج فيلمين؛ الأول فيلم )أغنية على
الممر(، إنتاج مشترك بالتعاون مع المؤسسة المصرية العامة للسينما،
وإخراج على عبد الخالق، والثاني فيلم )الظلال على الجانب الآخر(،
إنتاج جماعة السينما الجديدة، وإخراج غالب هلسا.


1( الكسان جان- كتاب السينما في الوطن العربي = سلسلة عالم المعرفة- العدد ) 51 ( –
يناير 1978 . صفحات) 62 - 69 (
2( ( سيرجي أيزنشتاين( 1898 - 1948 ): أعظم وأهم السينمائيين في تاريخ
السينما ويعتبر فيلمه «المدرعة بوتمكين 1925( » ( نموذجا للكمال الفني
النادر، وهو لايزال يلهم آلاف السينمائيين في العالم بأسلوبه الخاص المميز في
التصوير والمونتاج، وقدرته على تكثيف الجماليات الجديدة التي ولدت مع
التغييرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها روسيا في مطلع القرن العشرين
3( روبرتو روسّلّيني 1906( R.Rossellini 1977 (: مخرج إيطالي ولد وتوفي في روما،
وهو أحد أهم مؤسسي الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية. اضطر للانقطاع عن
الدراسة بعد المرحلة الثانوية للعمل في هندسة الديكور والمونتاج السينمائي. ثم
تابع نشاطه الفني في كتابة السيناريو وإخراج الأفلام التسجيلية. وحقق عام 1941
أول فيلم روائي طويل «السفينة البيضاء » امتازت واقعية روسليني بجرأتها وأمانتها
في محاكاة الواقع بعيداً عن أحلام الفاشية وأوهامها. وقد تجلت بداية هذا الاتجاه
الواقعي الجديد في فيلمه الشهير «روما مدينة مفتوحة 1945( » ( الذي عدّه النقاد معبحقنا ودورنا في خلق سينما جديدة.. هذه السينما الجديدة تحتاج
ثاني أفلامه «باييزا Paisa« )1946( » من أشهر أفلام روثلين وأهمها، لعفويته الروائية
التي استطاع أن يعبر فيها عن واقع المقاومة السرية المناهضة للفاشية والنازية .
4( جان-لوك غودا 1930( Jean-Luc Godard ( : مخرج أفلام فرنسي وأحد أبرز
أعضاء حركة الموجة الجديدة السينمائية. ولد غودار في باريس، درس في جامعة
السوربون. انضم إلى مجموعة من هواة سينما ضمت فرنسوا تريفو، جاك ريفيت
وإريك رومير . كان من كتاب الأوائل لمجلة السينمائية »Cahiers du cinema»
)كراسات السينما( التي أسسها أندريه بازين . تخالف أفلام غودار الأعراف
السينمائية المتبعة في هوليوود أو في السينما الفرنسية التقليدية، وفي المقابل تقدم
أفلامه سحر الواقع والحياة المعاصرة. من خلال عالمً غامض وجديد إلى حد أن
وسائل إدراكه التقليدية تصبح عاجزة عن تفسيره. ولهذا يعتبره البعض أشد
صانعي أفلام الموجة الجديدة تطرفا. تعبر أفلامه عن آرائه السياسية ومعرفته
بتاريخ السينما وكثيرا ما يستعين بأفلامه بالفلسفتين الوجودية والماركسية.
5( انجمار برغمان) 1918 - Ingmar Bergman )2007 : يعتبر من أعظم المخرجين
والمصورين، وأهم رموز السينما الحديثة والأقدر على الغوص في أعماق النفس
البشرية. حكاء ونحات، ينحت المشاعر ويجسدها علي شاشة السينما. امتدت
حياته المهنية الحافلة على مدى 60 عاما لتضم أفلاماً مثل “الختم السابع The
Seventh Seal ، والفراولة البرية Wild Strawberries ، و “كرايز أند ويسبرز”
Cries and Whisper .. تكمن القيمة الحقيقية في أفلام بيرجمان في موضوعاتها
ولغتها السينمائية، وقد برز ذلك من خلال أفلامه “انتظار السيدات” 1954 و
“الفراولة البرية” تناول مواضيع الله والدين في أفلام مثل “من خلال المرآة”
و“المعمودية” و “الصمت” و “برسونا”، وكان مشهد المومياء التي تتنفس في القبو
في فيلمه “فاني والكسندر” من أشهر المشاهد الرمزية لتجسيد الأفكار الدينية.
6( غالب شعث: )سيرة ذاتية: من أوراق مهاجر( مأخوذ عن ) Blooger ( خاص
بالمخرج الفلسطيني على الشبكة العنكبوتية- الأحد، 16 مايو، 20
7( بيان أوبرهاوزن: وقع عليه 26 سينمائيا من الشباب، وعرف باسم المدينة
الشهيرة ومما جاء فيه:
8( مجلة الغاضبين: لسان حال «جماعة السينما الجديدة » تتكون من صفحتين
داخل مجلة «الكواكب » أتاحها رجاء النقاش، رئيس تحرير الكواكب في تلك الفترة.
وكان التنقد فتحي فرج رئيس تحرير «مجلة الغاضبين »

2- الإنتاج السينمائي لجماعة
السينما الجديدة .. ليس كله جديدا

فيلم أغنية على الممر – على عبد الخالق
عرض في نهاية عام 1972 فيلم “أغنية على الممر” وهو إنتاج
مشترك بين المؤسسة المصرية العامة للسينما وجماعة السينما
الجديدة، الفيلم سيناريو وحوار مصطفى محرم، وإخراج علي عبد
الخالق، عن مسرحية “أغنية على الممر” للكاتب علي سالم، بطولة
محمود مرسي، محمود ياسين، صلاح السعدني، صلاح قابيل، أحمد
مرعي، والفيلم يبدأ بتاريخ 7 يونيو 1967 ، وتدور أحداثه حول
خمسة جنود مشاة يتم حصارهم وهم يدافعون عن ممر )عرب لوز(،
الواقع فى صحراء سيناء.
يصور الفيلم دفاع الجنود الخمسة عن الممر، ويروي أثناء الحصار
)مستخدما تقنية “الفلاش باك”(، ذكرياتهم ومشاعرهم، ويتذكر
كل جندي فصولا من حياته ومعاناته الإنسانية وعثراته وفشله قبل
الحرب، وأمانيه إذا ما عاد من الحصار، يطالبهم العدو بالتسليم، لكن
أغلبهم يرفض، بينما يقتل الجندي الذي أمن بوعود العدو.
تكنيك بدائي
لم يتجاوز الفيلم السينمائي التشكيل والتكوين المسرحي للمسرحية
المأخوذ عنها، فالكادرات الداخلية لا تتجاوز ما يمكن لديكور مسرحي
فقير بدائي أن يبلغه، وربما هذا هو المقصود لدي المخرج بالواقعية،
والمشاهد الداخلية تكاد تدور في موقع تصوير واحد وحيد داخل كهف،
لم يُهتم بإثرائه، أو مده إلى مواقع النقاط الأمامية، أو المراقبة، لتقليل
الملل والرتابة، أما الإضاءة فثابتة لا تتغير، لا نهارا ولا ليلا، والكادرات
أغلبها كلوز صامتة.
الحرب في السينما المصرية
صيغت المشاهد الحربية ببدائية مفرطة، وقد انصبت المشاهد
المأخوذة خارج الكهف على معركة الحصار، بين ا اُحلمصِرين
وا اُحلمصَرِين، وهي قليلة نادرة، ساذجة فقيرة، تعبر عن عدم القدرة
على الخروج من صيغة المسرح، فلا يبدو من العدو سوى صوت المذيع
الذي يدعو المحاصرين للاستسلام، وأصوات تعبر عن طائرات العدو
الإسرائيلي أثناء هجومه على الموقع وتدميره، حتى ارتجاج الموقع جراء
القصف الجوي لم يبدو له وجود، بالإضافة إلى ثلاث دبابات ظهرت
واختفت تم تدمير اثنين بواسطة مدفع كاتيوشا من على بعد.
في المشهد الذي أعقب نداء العدو لهم بالاستسلام يقف الشاويش
محمد وخلفه جنوده، وكأنه يقف على باب دارهم، ينظر إلى أعلي في
منظاره العسكري، من موقعه على مدخل الكهف، متجاهلا أن مدخل
الموقع هو في قاع الموقع، وهو لن يرى سوي السماء، وربما كان يبحث
عن الطيور.
خطاب العدو إلى الفصيلة المحاصرة يجافي أساليب العدو
الإسرائيلي المبنية على التدمير المطلق للخصم، وبرغم ذلك فهو
يتحدث من عقلية عربية تتقوقع داخل شرنقة الأوهام التي غزلتها
حول نفسها، لذلك نستمع إلى العدو يتحدث عن بطولة لم تتم، ولم
نراها، وكأن اللغة الحوارية بديلا عن المشهد السينمائي.
لا يبدو أن للسينما المصرية القدرة على صناعة فيلم حربي يبلغ
من الاتقان والدقة الحدود المقبولة، ولذلك أسباب كثيرة، منها عجز
الخ􀁞ب􀁞رات الفنية على المستوي البشري عن امتلاك ناصية الفيلم
الحربي، وضعف التقنيات المتوافرة، وارتفاع تكلفة المشاهد الحربية.
الواقعية المباشرة
يتبني الفيلم مفاهيم الواقعية الاشتراكية، المواطن فلاح أو
صنايعي، أو طيب صاحب أحلام بسيطة في الحياة، وزواج مستقر،
أو هو شرير انتهازي أناني، أما الفنان والمثقف فهو ملتزم بالمسئولية
والفن الهادف تجاه المجتمع.
الشاويش محمد أكبرهم سنًّا فلاح يترك أرضه لتزرعها زوجته
وأولاده، كي ينضم متطوعا في الجيش المصري عقب تأميم القناة،
خوفا من عودة الإنجليز واحتلالهم القناة.
حمدي الفنان الموسيقي، غير قادر على التعامل مع الواقع الفني
المنحط، الذى يسيطر فيه النجم على موهبة الإبداع ويسخرها
لصالحه )راجع البيان(، يحلم بالارتقاء بالأغنية بعيدًا عن الابتذال،
يشعر بالتوافق والتحقق مع إيقاع وأغاني العمال والشغيلة الذين
يستعينون بإيقاعها على العمل الشاق، في إشارة إلى أن الفن وظيفة
وليس مجرد متعة هابطة، حمدي يموت بسبب عدم حرصه.
شوقي العاقل والوطني المستعد للتضحية من أجل الوطن
والآخرين، الفاشل في حياته اليومية، ينشد سلوك المثقف المثالي،
والذى يتصرف دائما كما ينبغي على المثقف الملتزم أن يفعل، لكنه
يرسب في دراسته بسبب موقفه الرافض لنظرية الفن للفن، ويصبح
غير قادر على التفاهم والتواءم مع طبيعة المجتمع الفاسدة، ويُطرد
من عمله، فيتهمه أبيه بأنه فاشل، ويطرده من المنزل، ويسخر منه
أستاذه الجامعي، وتتركه خطيبته، فكأن العالم يحاسبه على استقامته
والتزامه الاجتماعى، وبرغم فشله في الحياة المدنية فقد تمكن من
إصابة دبابتين من دبابات العدو، وهو ما يجعل اقرانه يحيطون به
ويحيونه بحرارة، ويرون فيه منقذهم البطل المعترف به.
الشخصية الرابعة هي مسعد، العامل البسيط الذي يحلم بامتلاك
ورشة نجارة، والاستقرار في بيت يضمه مع جارته التي يحبها، والتي
عقد قرانه عليها بعد أن انتهي من تجهيز أثاث عُرسه بيده، ليذهب
إلى الجبهة ولم يبق إلا الزواج، لكنه يموت وهو يحاول التخلص من
المذيع الذي يدعوهم إلى الاستسلام.
الجندي الخامس هو منير، شاب انتهازي فاشل يخشى على عكس
الجميع الموت، ويرغب في الاستسلام، يقدم نفسه لرفاقه على كونه
نموذج الشاب الناجح، ويروي عن نفسه سلسلة من الأكاذيب عن ثراء
أسرته وتفوقه، وهو في الحقيقة مجرد فقير فاشل محتال ونصاب تم
فصله من الكلية، يعمل جرسونا ويجمع البقشيش، ويعمل مدرس
رقص، ويعمل في القمار الاحتيال والنصب على السيدات العجائز،
ويتاجر في النساء.
مع نفاد الطعام والمياه، يدور الصراع بين أفراد الوحدة وتدور
أحداث الفيلم، بين التضحية من أجل الجماعة والأنانية والرغبة
في الاستئثار بالمياه، ويظهر السؤال المتواصل الذى يعبر عن الحصار،
وهو متي يصل التعيين والذخيرة مع إجابة الشاويش محمد الوحيدة:
“ستصل اليوم” .
الرمزية
في النهاية وبانتظار الموت، ينهي حمدي اللحن الذي استوحى الجزء
الأهم منه من بطولة شوقي المثقف الذى يتبني الفن الهادف والمسئولية
الاجتماعية، ويخشي حمدي الموت قبل أن يصل لحنه إلى الإذاعة، التي
سبق وتجاهلته، فيوصي شوقي أن يتحمل مسئولية وأمانة إيصال لحنه
إلى الإذاعة إذا مات كي لا يموت اللحن، وتضيع على الشعب الفرصة
الذهبية في المعرفة!
في أجمل مشاهد الفيلم رمزية وتقليدية معا، وربما المشهد الوحيد
السينمائي، يختفى شوقي على حافة الأفق حاملا معه لحن الشهيد
حمدي، في مهمة أسندت إليه وهي أمانة توصيل الأغنية إلى الإذاعة،
بينما يقف الفلاح )الشاويش محمد( وحيدا بعد موت الجميع على مدفعه
الرشاش بانتظار هجوم العدو والموت.
والمعني واضحا جليا، يكشف عن الجهل بالوقائع والسلوك الإنساني
تحت الخطر، أو يعرف بالسلوك اللا أخلاقي في هروب شوقي البطل
عن ساحة المعركة، وكأن هذا اختيار ممكن أو متاح، لكن للفن
هامشا واسعا من الحرية تبيح قلب الأشياء، وهو يختلق الرسالة التي
يحملها إلى الجمهور.
سوء صناعة الدلالات
رمزية الفيلم، يموت الجبان المستسلم، ويموت الفنان الموسيقي،
بسبب إهماله، ويموت الصنايعي وهو يحاول الهجوم على العدو،
ويموت الفلاح الذى يتمسك بموقعه تمسكه بأرضه وطينه، لينجو في
النهاية المثقف حامل النظرية الثورية ليعطي دلالاة، بقصد أو دون
قصد، عن كونه الأكثر أنانية وانتهازية واستعلاء، وأنه الوحيد الذى
لا يستحق البقاء والحياة تحت أي حجة، خاصة إذا كانت )أغنية(.
كاميلوت.. المشهد الأخير ) 1(
في المشهد الأخير يقف الملك آرثر حزينا، وهو يستعد لمعركة
فاصلة دُفع إليها دفعا، بينه وبين صديقه سير لانسلوت Lancelot
في حضور فرسان )المائدة(، وبينما تبدو أحلامه حول المستقبل الذى
يتمناه لإنجلترا توشك على التلاشي والضياع، وأن إنجلترا تقف على
حافة إلى عصر جديد من عصور الظلام، يتعثر الملك آرثر في الصبي
)توم(، الذى يتمني أن يكون من فرسان المائدة، والذى يؤكد له أن
)القوة لا تصنع حقا، بل إنه يجب أن تكون من أجل الحق(.
مشهد الملك آرثر يمنح الصبي لقب فارس، ثم يشهر سيفه إلى
الصبي )توم(، ويأمره بأن يغادر أرض المعركة إلى الخطوط الخلفية
حاملا معه رسالة )كاميلوت( بالديمقراطية والوحدة، ومبشرا بها
إلى ربوع إنجلترا، يتابع الملك آرثر الصبي توم وهو يعدو مسرعا إلى
ما وراء خطوط الجبهة، ولديه شعور جارف بالمهمة التي ألقيت على
عاتقه، ليستعيد آرثر أمله، بأن كاميلوت لن تموت، وإنما تعيش في
الصبي )توم(.


1( فيلم كاميلوت ) 1967: )Camelot بطولة ريتشار هاريس Richard
Harris وفينسيا ردجريف، Vanessa Redgrave ، وإخراج Joshua
Logan ،، والذى يطرح فيه الملك أرثر King Arthu أفكاره حول المائدة
المستديرة »Round Table« التي ستضم الفرسان من جميع انحاء إنجلترا،
تعبيرا عن الديمقراطية والوحدة بين فرسان مملكته التي تتنازعها الحروب.


3- الجدار الصلد
يحاصر غالب شعث

“الظلال في الجانب الأخر”) ( -
على عكس فيلم أغنية على الممر، كان فيلم غالب شعث) 1( ”الظلال في
الجانب الأخر” أكثر أمانة وإخلاصا للمانستفو الذى أقرت به “جماعة
السينما الجديدة، ربما تكون حياته في ألمانيا، ودراسته السينمائية في النمسا
مكنته من أن يكون قريبا من تنفيذ أفكاره حول السينما الجديدة في فليمه
الذى ضم مزيج من الشاعرية والحزن، وأنماط متعددة من الشخصيات،
وجاء معبرا عن موهبة فنية، ورؤية ثاقبة للدور الذى سيلعبه عدد واسع
من المثقفين؛ مصريون وعرب في المرحلة التي تلت عصر ما بعد هزيمة
67 ، والانفتاح الاقتصادي الذي تلي حرب 73
رواية على سور الأزبكية
الفيلم مأخوذ عن رواية تحمل الاسم، نشرت في عام 1963 للكاتب
المسرحي محمود دياب) 2( وتدور أحداثها في أجواء الفنانين التشكيليين
)طلبة كلية الفنون الجميلة(، )على حد قول غالب شعث نفسه عن
الرواية(، والشباب الباحث عن مصابيحه في عتمة الضياع، بين افتقاد
للإحساس بالاستقرار والأمان.. وأمل في مستقبل أفضل يلوح بريقه
ثم يخبو، حسب اتجاه رياح الصراعات الدولية التي تؤثر في أوضاع
المنطقة بكاملها.
حسنا يبدو أن الحظ صادف “شعث” في العثور على مبتغاه أثناء
تجواله على سور الأزبكية )على حد ما جاء في مذكراته(، حيث وجد
في رواية محمد دياب نصا روائيا يزيح عنه عبء ومسؤولية التفكير
في بناء درامي، وتتيح له التفرغ لتطبيق أفكاره عن السينما الجديدة
التي يحلمون بها جميعا.
مرة ثانية؛ فنانون في مهب الريح
وعلى عكس فيلم “أغنية على الممر” الذي مثل أبطاله )مكوتات
الشعب(، أكتفي غالب بشريحة اجتماعية تمثل المثقفين والفنانين
وجميعهم يقيم في عوامة على النيل؛ ترمز للواقع المصري بعد
الهزيمة، )تهتز دوما، ومقيدة إلى أرض الواقع بحبال قديمة واهية.
وجسر خشبي لا يكف عن الأنين تحت وطأة أقدام العابرين(.
وسط هذا العالم المتضارب بين الألوان والتكوينات الفنية والمذاهب
العقائدية، ومشاعر الحب والغيرة. يبدو البطل “محمود” ذلك المثقف
والذي يمكن اعتباره بصيغة ما الوجه الحقيقي لشخصية شوقي في
فيلم “أغنية على الممر”، الذى يضاجع الفتاة “روز”، ويخدعها بعد أن
يوهمها بالحب والاطمئنان، وتحمل منه وتنجب طفلة، وبعد أن ينال
ما يريده يتجاهلها.
“عمر” شخصية أضافها المخرج إلى الرواية، وهو طالب فلسطيني
في كلية الفنون الجميلة، واقع تحت تأثير هزيمة أتاحت لإسرائيل
تثبيت الواقع المفروض، وأطاحت بالكثير من حقوق الشعب الفلسطيني
ومنها حق العودة. ليطرح أفكار جديدة حول البحث عن مخرج
للقضية الفلسطينية في دولة ديمقراطية تضم الجميع مسلمون
ومسيحيون ويهود.
تتفاقم المشاكل اليومية، ومرض أبنة “روز” ولفظ “محمود”
للفتاة التي أحبته، يتخلى عن مسئولياته تجاه ابنته منها بوقاحة
وأنانية وعدم تحمل تبعة أفعاله، ويلقي بهما في عرض الشارع.
ويحاول عمر إصلاح ما أفسده صديقه. ويعلن رفضه سلوكيات
أصدقاءه، وللشعارات التي تستخدم لتبرير العجر، ويتخلى عن
أحلامه المؤجلة ليتبني الفعل المباشر، فيلنحق بالمقاومة الفلسطينية
التي قدمت مئات وآلاف الشهداء قي ذلك الوقت.
الجدار الصلب
سوف تقطر مذكرات غالب هلسا بالحزن والمرارة، وهو يروى عن
الجدار الصلب، والحجج والأساليب الذي حاصرته وحاصرت فيلمه،
ولم تجعله يري النور، وجميعها قصص وحكايات ستمثل الخصائص
والسمات التي ستطبع الحياة الثقافية المصرية طوال خمسة عقود
مضت، والتي حُورب الابداع وتم تدجينه، أو إسدال حجب الظلام
عليه.
اضمحلال جماعة لسينما الجديدة
بعد حرب أكتوبر 1973 شهدت مصر تغيرات واسعة على الصعيد
السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتم التخلي عن مؤسسات القطاع
العام، وتصفيتها في ظل سياسات تجاوز حدود الرشد الكافي أثناء إجراء
عمليات التحول من نظام سياسي موجه إلى نظام ليبرالي، لولم تهتم
بالحفاظ على الأصول المجتمعية، ومنها أصول السينما المصرية
ورأسمالها التاريخي والثقافي.
وقد شهدت هذه الفترة عمليات منع ومصادرة لعدد من الأفلام،
منها “العصفور” و”زائر الفجر”، انتاج شركة أفلام 656 )الخطيب-
الصبان(، اخراج ممدوح شكري أحد مؤسسيين جماعة السينما
الجديدة والذى توفي في مستشفيي الحميات عن عمر 34 عاما. وذلك
في نفس اليوم الذى عرض فيلمه فى مسرح السامر ليلة السبت 29
ديسمبر عام 1973 لكي يقوم مقص الرقيب بدوره، بالحذف قبل
العرض، وقد قررت جماعة السينما الجديدة تنظيم جنازة رمزية
للفقيد فى 1 يناير 1974 اشتركت فيها الجمعيات السينمائية،
وبادرت جمعية الفيلم بعمل بيان وقعت عليه الجمعيات والجماعات
السينمائية و عشرات السينمائيين والمثقفين من أجل موافقة الرقابة
على عرض فيلم “زائر الفجر”.
وفي ظل هذه الظروف فقدت “جماعة السينما الجديدة” معينها
الرئيسي ومدعهما وهو “المؤسسة المصرية العامة للسينما” التي
قامت بهدف تطويرها، وكأي موجة فنية تلاشت جماعة السينما
الجديدة في بحر الرمال، والتحق عدد كبير من مؤسسيها بهياكل
الإنتاج السينمائي التجاري والتقليدي، لتظهر بعد سنوات، وتتوالي
موجات سينمائية جديدة، تحاول هز جدران التخلف، وتقاوم ضعف
الإرادة المجتمعية لبناء صناعة سينما مصرية ، تستجيب لاحتياجات
السوق المحلي والإقليمي، وتقف جنبا إلى جنب مع مراكز صناعة
السينما العالمية. هذه التجارب تمكنت رغم الظروف المعاكسة من
حفر جماليات سينمائية رائعة، ولاقت استجابة واسعة من جمهور
السينما المتعطش للفن الجميل والرفيع.


1( غالب شعث )مواليد 1932 (: أحد الأعضاء المؤسسين في «جماعة السينما
الجديدة » كانت لديه أمال وطموحات مع أقرانه في تأسيس تيار سينمائي،
يعتمد من الأساليب الحديثة في السينما. والتخلص من الطابع التقليدي
السائد في السينما المصرية. وهو فلسطيني، أنهى دراسته للسينما في فيينا،
كشف مشروع تخرجه عن حس سينمائي مرهف. وجاء إلى مصر 1967 وعمل
مخرجا للتليفزيون أخرج عددا من أفلام السهرة التليفزيونية، التي ما لبثت
أن انقرضت لحساب المسلسلات الطويلة التي ستغرق ثلاثين حلقة، يتسم
أغلبها بالإطالة والمبالغات الميلودرامية، والثرثرة، والتكرار، والبطء الشديد في
الإيقاع، واعتماد الحوار وسيلة للشرح والتفسير، والتخلي عن جماليات السينما.

2( محمود دياب: كاتب مصرى من رواد المسرح والادب، مواليد 1932 ، عمل
في سلك القضاء. أهتم بالأدب والفكر و كانت بدايته مع المسرح فقدم مسرحية
البيت القديم عام 1963 و التي حازت على جائزة المصري. ومسرحية )الزوبعة(
عام 1966 وحاز عنها على جائزة منظمة اليونيسكو لأحسن كاتب مسرحى عربى.
و ترجمت إلى الإنجليزية و الفرنسية و الألمانية، قدم في بداية اعماله الادبية قصة
)الظلال في الجانب الآخر( التي انتجت فيلما سينمائيا وحازت على جائزة فيلم في
دول العالم النامى

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات