يحيى الموجي.. موسيقار شاهين المفضل في أفلامه الأخيرة

سارة سيد 01 يونيو 2018 يوسف شاهين "عدد تذكاري"

الكاتب : سارة سيد
أندرو محسن لم تكن الموسيقى بالنسبة ليوسف شاهين عنصرًا هامشيًا في الفيلم، بل مكونًا أساسيًا، يعني له الكثير ويتدخل في تفاصيله، ومثلما كان يتنقل بين الأفكار والموضوعات المختلفة في أفلامه، كان يختار الموسيقيين الذي يعملون على وضع موسيقى أفلامه بعناية شديدة، فحتى بعد أن ينجح موسيقارٌ بعينه في تقديم مقطوعاتٍ مميزة لأحد أفلامه، ينتقل إلى آخر ليعمل معه في الفيلم التالي ويجرب شيئًا جديدًا.


رغم هذا التنوع لكن بعض الموسيقيين نجحوا في أن يجدوا حلولًا موسيقية مميزة تناسب أفلام شاهين، والأهم تُرضي ذوقه الدقيق جدًا، الموسيقار يحيى الموجي كان أحد هؤلاء، يبدو أن المخرج وجد ضالته في هذا الموسيقار، فجعله يضع الموسيقى التصويرية لثلاثةٍ من أفلامه الخمسة الأخيرة، وهي بترتيب عرضها: ”المصير“ عام 1997، و“الآخر“ عام 1999، وأخيرًا ”إسكندرية نيويورك“ عام 2004.
عن الأفلام الثلاثة وذكريات العمل مع الراحل يوسف شاهين كان الحوار التالي مع الموسيقار يحيى الموجي.


أعتقد أن يوسف شاهين كان يبحث عن الموسيقار الذي يستطيع أن يعبّر عن الموسيقى في أفلامه حتى وجد أنني من سيمنحه الطابع الذي يحتاج إليه، ولهذا استمر العمل بيننا لفيلمين تاليين بعد ”المصير“.
عملت في تأليف الموسيقى لأكثر من فيلم، لكن العمل مع شاهين كان مختلفًا، هو أكثر المخرجين الذين قابلتهم فهمًا لتفاصيل الموسيقى التصويرية.
عملي كان يبدأ بعد انتهاء تصوير الفيلم، أشاهد النسخة مرة واثنتين وثلاث، وبعدها نبدأ في النقاش، ويبدأ شاهين في ذكر ملاحظاته: ”هذا المشهد يحتاج إلى موسيقى، وهذا لا يحتاج“، لكنه كان مستمعًا جيدًا، فأحيانًا أقترح ما يخالف وجهة نظره، بإضافة الموسيقى لمشهد لم يرَ هو أنه يحتاج إليها، فكان يقتنع، وفي مرات أخرى كان لا يوافق.
أذكر أننا طوال عملنا ألغى لي مقطوعة وحيدة بعد أن بذلت فيها مجهودًا كبيرًا، واستعنت فيها بآلات نفخ وأصوات كورال، كنت أراها جميلةً جدًا، لكنه بعد أن استمع إليها مع المشهد قال لي كلمة واحدة ”وِحشة“، فسألته ”وِحشة ليه؟ ده أنا باذل فيها مجهود خرافي“، فكرر ”وحشة“ ثم بدأ يفسر ”المزيكا دي جميلة جدًا، وعشان كده هي وحشة، الناس هتسمع الموسيقى الجميلة وهتنسى الحوار، والحوار بتاعي، مينفعش المزيكا تاكل الحوار“.
أعدت الاستماع للموسيقى مع المشهد مرة أخرى مع آخرين، واقتنعت برأيه، فالتعليقات كانت تأتي على الموسيقى، وتنسى الحوار، وبالتالي حذفنا المقطوعة.


الشرقي والفلامنجو في ”المصير“
”المصير“ كان أكثر الأفلام التي عملنا عليها اختلافًا نظرًا لطبيعته، فهو فيلم تاريخي، عن حقبة تواجد العرب في إسبانيا، ولهذا حرصت أن تمزج الموسيقى بين الشرقي والفلامنجو، وهو ما يتضح مثلًا في توزيع أغنية ”علي صوتك“.
من المعروف أن كمال الطويل كان قد اعتزل التلحين قبل فترة طويلة من فيلم ”المصير“، ولكن يوسف شاهين أقنعه بالعودة لتلحين أغاني الأفلام، وقد حاول تكرار التعاون معه لاحقًا، لكنه الطويل رحل قبل إكمال هذا التعاون، وعكس الشائع، فإن الطويل لم يؤلف الموسيقى التصويرية للفيلم، هو لحن الأغاني وقدم جملًا موسيقيةً، بينما وزعت الأغاني وألفت الموسيقى التصويرية بالكامل.
الأفضل أن يكون موزع الأغاني الموجودة في الفيلم هو نفسه واضع الموسيقى التصويرية، حتى يستطيع أن يأخذ من التوزيعات الخاصة بالأغاني ويستخدمها في الموسيقى، وهو من الأمور التي تعلمناها من أستاذنا علي إسماعيل، وهو ما فعلته في ”المصير“، فاستعنت بجملة موسيقية من ”علي صوتك“ في مشهد مقتل مروان قرب نهاية الفيلم، وأعدت توزيعها باستخدام الوتريات لتصبح أكثر حزنًا، وهو ما كررته في الأعمال التالية أيضًا.

إسكندرية نيويورك
واحدٌ من أشهر مشاهد ”إسكندرية نيويورك“ هو مشهد رقصة الباليه بين نيللي كريم وأحمد يحيى، استعنت في موسيقى هذه الرقصة بجملةٍ من إحدى مقطوعات فيلم ”المصير“، وفي الحقيقة كانت هذه فكرة شاهين، هو من رأى أن هذه المقطوعة ستكون مناسبةً لهذه الرقصة، وبالفعل أخذت جزءًا منها مع بعض الملامح من أوبرا كارمن العالمية، وألفت وصلاتٍ بينهما، وهكذا خرجت هذه المقطوعة.
انتهيت من هذه المقطوعة قبل تصوير المشهد لأن الرقصة كانت مبنيةً على الموسيقى، وهكذا كنت أكتب عدد موازير محددٍ يتماشى مع طول المشهد والرقصة، وهنا كانت الصعوبة، في أن أكتب 16 مازورة ثم 32 أخرى، ويجب أن أصنع وصلاتٍ مناسبةً دون أن يشعر المستمع بالملل خلال المشهد.
ضم الفيلم ثلاث أغنيات، هي ”إنت“ و“بنت وولد“ و“نيويورك“ والأغنيات من تلحين فاروق الشرنوبي وتوزيعي، وقد استخدمنا لكل أغنيةٍ آلاتٍ تليق بحالة الأغنية وفي الوقت نفسه حالة الفيلم.
في ”بنت وولد“ وهي أغنية رومانسية كان البطل هو البيانو، وكان أحد اختيارات شاهين أيضًا الاستعانة بالبيانو في الموسيقى، ”نيويورك“ اعتمدت فيها على آلات النفخ النحاسية وأعطيتها طابعًا أقرب لموسيقى البلوز المشهورة في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما مع ”إنت“ فضلت استخدام الوتريات.
كان من المفترض أن علي الحجار هو من سيغني الأغنيات الثلاثة، لكن يوسف شاهين قرر الاستعانة بصوت فاروق الشرنوبي، ليكون هو صاحب أغنية ”إنت“ التي صاحبت تترات البداية،
ما حدث هو أن الشرنوبي سجل بصوته Guide (تسجيلًا مبدئيًا للّحن) للأغنية، وهو ما استخدمه شاهين أثناء العمل قبل انتهائي من توزيع الأغنيات، وبالطبع قبل أن يسجل الحجار الأغنية، بعد الانتهاء من التوزيع سجل الحجار الأغنية، وبالطبع سجلها بشكلٍ مضبوطٍ وسليمٍ جدًا، لكن هذا السليم لم يعجب شاهين، فقال ”لا أنا عايز حاجه بعبلها كده، أنا عاجبني الإحساس بتاع فاروق أكتر“، فاهتم بالأداء التعبيري أو الطبيعي الذي قدمه الشرنوبي أكثر مما اهتم بالغناء السليم الذي قدمه الحجار.
من المواقف التي أذكرها أثناء استماع شاهين لموسيقى الفيلم، علق على تركيب الموسيقى على أحد المشاهد بأنه غير سليم، وكنت متأكدًا من سلامته، فقلت له ”لا، أنا مبغلطش“ فأجاب ”وأنا كمان مبغلطش“، فأعدنا الاستماع للموسيقى مع المشهد مرة أخرى، وكان سليمًا بالفعل فقال لي ”إنت صح، مينفعش يكون فيه ريسين (رئيسين)“.

يستحق العالمية
يوسف شاهين كان فنانًا شاملًا، مخرج وكاتب سيناريو ويرقص باليه وملحن أيضًا، المقدمة الموسيقية لأغنية ”آدم وحنان“ الخاصة بفيلم ”الآخر“، هو من ألفها، عزفها أمامي على البيانو وطلب مني أن تكون هي دخول الأغنية التي لحنها فاروق الشرنوبي.
كان يهتم جدًا بإبداء ملاحظاته على شكل الموسيقى المطلوبة للمَشاهد، كأن يطلب آلاتٍ خفيفةً في إحداها، أو أوركسترا كاملة في مشهدٍ آخر، وأحيانًا يقترح استخدام آلات بعينها، مثل الهارب، فهو من اقترح دخول مقطوعة ”سارة“ في ”المصير“ بآلة الهارب لأنه كان يفضل هذه الآلة.
عملية التأليف الموسيقي للأفلام كانت تستغرق شهرين تقريبًا، للمشاهدة والمناقشة ثم كتابة النوتات الموسيقية، بينما التسجيل كان يأخذ يومين، يومًا للوتريات وآلات النفخ ويومًا آخر للصولوهات.
سجلنا موسيقى الأفلام في مصر بعازفين مصريين، كما أعمل دائمًا، اقترح شاهين بالفعل أن نجرب الاستعانة بخبرات من الخارج ولكنني أصررت على رأيي ووعدته أن النتيجة ستكون عالمية وقد انبهر بالموسيقى بالفعل، عمل معنا مهندس الصوت سامح المازني، وقد كانت الدكتورة إيناس عبد الدايم هي من لعبت صولو الفلوت، بالإضافة لعدد من العازفين من الكونسرفتوار ومعهد الموسيقى العربية، الذين لديهم معرفة بالموسيقى الشرقية، وأنا بنفسي لعبت صولو الكمان في مقطوعة ”سارة“.
ما أتاحه لي العمل معه كان غير مسبوق من حجم الإمكانيات، فالمعتاد أن أعمل مع 10 أو 12 كمان بحد أقصى، بينما في المصير كان هناك 30 كمانًا، وهو ما جعلني أكثر استمتاعًا بالعمل، وحصلت الموسيقى التي قدمتها في ”الآخر“ و“المصير“ على جوائز.
من بين أعمال شاهين المختلفة ”الأرض“ هو العمل الأقرب إلى قلبي، بينما ”المهاجر“ هو الفيلم الذي كنت أود أن أضع له الموسيقى التصويرية، لأنني أحببت قصته وموضوعه، موسيقى الفيلم التي وضعها الراحل محمد نوح جميلة، ولكن أعتقد إني كنت سأقدم أجمل منها.
رغم المسافة الزمنية التي فصلت بين الأعمال الثلاثة، وتقدم سن شاهين في هذه المرحلة، لكني لم ألحظ أي اختلاف في تركيزه على الإطلاق، ظل ملمًا بكل التفاصيل كما هو، هو يستحق العالمية.

التعليقات :

قد تعجبك هذه المواضيع أيضاً

أحدث المقالات